برنارد لويس بحوث وحكايا وأساطير

برنارد لويس بحوث وحكايا وأساطير
جريدة الشرق الأوسط 24 مايو   2018
فهد سليمان الشقيران


 


حتى بعد رحيله، يثير برنارد لويس الجدل حوله؛ ضده ومعه، هكذا درج اسمه بين الباحثين طوال قرنٍ من الزمان، بين ممتنٍ لبحوثه ومنهاجه، أو مهاجم له لـ«صهينته» وكراهيته للعرب والمسلمين. بمجرد البحث في «يوتيوب» حول اسمه، ترى محاضرات عديدة تهوّل من دور الرجل في رسم خرائط العالم والنيل من المسلمين. الكثير مما يتداول حول أدواره في صناعة السياسة الأميركية لا يعدو كونه مبالغاتٍ فجة، وآية ذلك أن اللقاءات التي أجريت معه حول أقرب حدث كبير لعصرنا ممثلاً بإسقاط بغداد وحرب أميركا بالعراق توثق نفيه لأي تأييد لتلك الحرب، وأبدى استياءه من اتهامه بأدوارٍ لم يلعبها، بل كان رأيه مقتصراً على الرعاية السياسية الأميركية للديمقراطية بالعراق، بخاصة وقد غدا شماله قادراً على لعب أدوار يمكن لأميركا الدخول ضمن مسار دعمها.
في «تويتر» حدث نقاش مهم، فبعد أن كتب مرزوق بن تنباك: «برنارد لويس يرحل يوم الجمعة الماضي بعد أن وضع عام 1980 خرائط مشروع تقسيم الدول العربية، وظهرت ملامح مشروعه في العراق، والسودان، وسوريا، وإن لم يكتمل فهو بالطريق»، يعلّق يوسف الصمعان عليه مطالباً بالمصدر، ثم يضيف: «لم أمتدح برنارد لويس… فقط تمنيت إرشادي إلى خرائط الشرق الأوسط التي رسمها… أنا فقط أزعم أن هذا التصور الكرتوني للمؤسسة الأميركية الحاكمة على أنها حلقة من المريدين عند الإمام المرشد لويس يطيعونه 40 عاماً هو تصور ساذج». وعلى الضفّة الأخرى نقاش بين محمد العضاضي وعثمان العمير، حيث استاء العمير من وصف الأول للويس باليهودي، معتبراً ذلك من النبز، ولكن العضاضي يؤيد الصمعان بأن البعض «يرون الأشياء من خلال عدساتهم العربية المحلية، ولهذا يبالغون بخلع أدوارٍ على أكاديميين مثل لويس أو كيسنجر». هذا النقاش الأكاديمي السعودي يجعل الصورة أكثر وضوحاً بين المبالغات الشعبوية وبين الدور الأصلي من دون تهويل أو تضخيم.
لا جدال في أن لويس من أهم الباحثين في تاريخ المسلمين، ومن الطبيعي متابعة الرؤساء الأميركيين وقادة المفاصل الأساسية لمقالاته وكتاباته، (كما في حديثهم حول حمل كونداليزا رايس لمقالاته)، فهو حفر في أرشيف المسلمين بكل فضاءاته المختلفة، العربية والتركية والإيرانية، وعليه فإن الاحتفاء بكتاباته بعد كل حدثٍ مفصلي مثل أحداث 11 سبتمبر (أيلول) وغيرها يكون ضمن سياق الرغبة في الفهم، وللباحثين مكانة في الدول المتطورة، فاستشارة المسؤولين للويس أو لعجمي وغيرهما إنما هو استعانة ذكية بخبير بشأنه، ولعالم بمجاله.
تتعدد صورة لويس بين الباحثين المسلمين؛ عبد الرحمن بدوي يهاجم أبحاث لويس (برغم تقديره المتين لأستاذ لويس والمشرف على أطروحته ماسينيون)، وينعته بكل عبارات التآمر على الثقافة الإسلامية، بينما أركون ينتقد الاثنين، بدوي ولويس، باعتبارهما غير منخرطين بالعدة المعرفية المفاهيمية الجديدة، واصفاً إياهما بالباحثين «الفللوجيين»، ولذلك طالبهما بالدخول ضمن مفاهيم الثورة الانثربولوجية، والإفادة من الأركيولوجيا، وصرعات البنيوية وما بعدها، ونتائج ما بعد الحداثة «العقل المنبعث الصاعد». بينما جورج طرابيشي حاجج برنارد لويس الذي نفى وجود فصلٍ بين الدين والدولة في تاريخ الإسلام، وقد كتبتُ عن نقده هذا من قبل.
وأركون في واحدٍ من آخر كتبه «نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية» يأخذ على لويس أنه مثل بقية المحافظين الجدد يخلعون المشروعية الفلسفية على أعمال أميركا الحربية، قائلاً: «أرفض مواقف برنارد لويس التي عبر عنها بعد أحداث 11 سبتمبر عندما نشر كتابه (أين تكمن العلة؟!) بمعنى أين يكمن الخلل في الحضارة الإسلامية، الذي أدى إلى ارتكاب مثل هذه التفجيرات الهائلة، لا ريب أنه ينبغي طرح هذا السؤال لكن دون أن يكون جوابنا هو الجواب الذي أعطاه لويس. ينبغي أن نطرحه على النحو التالي، ما هو الخلل الذي طرأ على الحضارة العربية، والإيرانية، والتركية، والإسلامية إلى درجة أنه أدى إلى عنف تدميري لها وللبشرية ككل» (ص:271).
أغنى برنارد لويس الحقل البحثي بعناوين استثنائية وجادة. كتب حول الإسماعيلية، وفرقة الحشاشين، وإسطنبول وحضارة الخلافة الإسلامية، وكتب في «أزمة الإسلام» و«الشرق الأوسط… ملخص للألفي سنة الأخيرة». لم يكن راسم خرائط بالمعنى الحربي الذي يشبع الخيال البوليسي للبعض، بل يقول عن دوره: «إنه يجوز أن ينتظر من المؤرخ أن يتنبأ بالمستقبل بقدر من المعقولية، ولكن هناك أموراً معينة يستطيع المؤرخ فعلها، ويجب عليه أن يفعلها؛ فهو يستطيع إدراك الاتجاهات، وبمقدوره أن يرى ماذا كان يحدث وماذا يحدث الآن، وبذلك يلحظ التغيرات والتطور، ومن ذلك يتيّسر له أن (يصوغ)، ولا أقول يتنبأ بالسيناريوهات الممكن حدوثها والأشياء التي يمكن أن تمضي في هذا الاتجاه أو ذاك… بالطبع سيكون من السهل دائما التنبؤ بالمستقبل البعيد ولكن ليس المستقبل القريب»، ومن ذلك استنتاجه حول جماعات الإسلام السياسي والديمقراطية؛ «فالإسلام السياسي يتغير عبر الزمن، ولكن ليس بالضرورة إلى الأفضل. إن الاندفاع نحو الأسلوب الغربي في الانتخابات، بمعزل عن تقديم حلول لمشاكل المنطقة، يزيد من خطورة هذه المشاكل، ولذا أنا أخشى جاهزية جماعات الإسلام السياسي الراديكالي لاستغلال هذا المسار من دون هداية ورشد، في انتخابات حقيقية حرة ونزيهة من المرجح أن تفوز بها الأحزاب السياسية الراديكالية».
أما كاتبه المفضل، كما في حوارٍ معه فهو «رفاعة الطهطاوي، الذي درس في جامعات أوروبية وعاش في مصر في منتصف القرن التاسع عشر. لقد كتب أعمالاً مهمة عن مبادئ الإسلام وتوافقها مع الحداثة خلال فترة تغيير مهمة تداخل فيها العالم الإسلامي مع الغرب في القرن التاسع عشر. إن منظوره ومطارحاته زاد من ثرائها فهمه لأوروبا، وكيف أن مبادئ الإسلام والحداثة الأوروبية من الممكن أن يكمل أحدهما الآخر». نلاحظ هنا نفيه ضمنياً لتهمة الانطباعية الاستشراقية التي أُلصقت به حول استحالة توافق الإسلام مع الحداثة.
تحال إلى لويس نبوءة صراع الحضارات باعتباره طرحها قبل صمويل هنتنغتون، بينما الأطروحة ما صنعت الصراع ولا خططت له، وإنما تنبأت بحدوثه، كما يتنبأ المؤرخ ضمن معطياته بحدث كبير، أو بخطب جلل. رحل لويس وكان في موته كما في حياته يثير السجال، إنه شخصية فريدة وباحث استثنائي، نسب إليه ما لم يقله، وحمل أدواراً ملّ من التبرؤ منها، حيكت حول شخصيته أساطير الحروب، ونسبت إليه إدارة غرف رسم الخرائط ومؤامرات التقسيم، وجل ذلك لم يكن قط إلا وهماً.

إيران لابن لادن: افتح أبواب جهنم

إيران لابن لادن: افتح أبواب جهنم

جريدة الشرق الأوسط 26 يوليو  2018

فهد سليمان الشقيران

 

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ودخول الأفغان في حربٍ أهلية دموية، يمَّم أسامة بن لادن وجهه شطر السعودية، وبالتزامن كانت طبول الحرب تقرع؛ صدام حسين يعدّ جيشه لاحتلال الكويت، وبعد الاشتباك اعترض بن لادن، مثل أقرانه في المجاميع الأصولية، على تأسيس التحالف الدولي مع بريطانيا والولايات المتحدة لسحق جيش صدام وإخراجه من الكويت. بعد طول لأْيٍ قرر بن لادن المغادرة؛ الوجهة إلى السودان. الغطاء استثماري بحت. حطّت رحاله في عام 1990 بالعاصمة الخرطوم، وقد زارها قبلاً عام 1988 لغرض إغاثي بعد كارثة سيولٍ خلفت دماراً حينها. عوامل جذب كثيرة أخذته إليها؛ الأرضية الخصبة للزراعة والاستثمار، الصداقات القديمة، ضعف نفوذ الغرب هناك. «المجاهد الحالم» اختار السودان لاستراحةٍ لن تطول، والأفكار التي سيتداولها مع ضيوفه وأصدقائه وقيادات «الإخوان» والعائدين من الأفغان العرب ستكون نواة انبعاث تاريخي لتنظيم القاعدة.

يروي الصحافي السوداني عطاف عبد الوهاب أنه «وفي حي الرياض الراقي بالخرطوم شرق، كان أسامة بن لادن يسكن في منزل من ثلاثة طوابق… بمجرد وصوله إلى الخرطوم قام أسامة بإنشاء مشروعين رئيسيين في السودان؛ أحدهما مشروع زراعي بالنيل الأزرق، أطلق عليه اسم (وادي العقيق)، والآخر بشمال السودان، حيث أوكلت إليه (الإنقاذ) حينها تشييد طريق الخرطوم – عطبرة الاستراتيجي، أو ما يعرف الآن بـ(طريق التحدي)، وكانت (الإنقاذ) تهدف إلى أن يساعدها أسامة بن لادن في استخراج ثروات البلاد، وفي عمل مشاريع تعود على البلاد بنفع، خاصة أن (الإنقاذ) كانت في بداية عهدها بالحكم. ومعلوم أن زعيم (القاعدة) جاء إلى السودان، ودخل حينها بصفته مستثمراً… كل جهوده ونياته متجهة فقط إلى جانب الاستثمار في مجال التشييد والبناء، وهو المجال الذي تخصصت فيه أسرته… وأكد الترابي أن أسامة كان بعيداً عن السياسة وعن الأضواء والعمل العام طوال فترة إقامته في السودان».

ارتاح بن لادن للمساحة التي أخذها؛ الحريّة في التنقل ولقاء الأصدقاء والرفاق. شيء واحد يقلقه فقط، تقلّبات حسن الترابي… يروي لأحد زواره، وهو الصحافي الأميركي لورانس رايت، امتعاضه من شخصية الترابي، واصفاً إياه بـ«المكيافيللي». لم تكن علاقتهما على ما يرام؛ رسل النمائم بينهما كثر… يسخر الترابي من جهل بن لادن في الفقه والشريعة مثلاً.

استخدم الترابي بن لادن مادياً وابتزّ به سياسياً؛ وقد فعل. غير أن خطوةً نوعية سترسم نقطة تحوّل جذرية في استراتيجيات اللقاء والعداء بين التنظيمات الإرهابية السنيّة، وشبيهتها الشيعية، ولهذه قصّة رواها أيضاً الصحافي رايت في كتابه: «البروج المشيدة – الطريق إلى 11 سبتمبر».

بعد سنتين من الإقامة، عكف بن لادن على خطة شاملة؛ الهدف مواجهة «الصليبيين». بحث عن وسائل متعددة واستشاراتٍ نوعية تجعل اختتام القرن العشرين مثل حفلة مليئة بما تستحقه من القنابل النارية، ويمكن افتتاح الألفية بمشهد سينمائي على هيئة طائرات متجهة إلى برجين وهدفها الارتطام. كان بن لادن مصمماً على فتح أبواب جهنم. توفرت لديه الموارد البشرية والمال… بقيت الأفكار.

حضّ الترابي بن لادن على الاتجاه نحو أفكار أكثر تقدمية وعصريّة من الحرفية الفقهية الجامدة… «يمكن للتنظيمات إذا تشاركت واستفادت من بعضها أن تثخن بالعدو الجراح» قالها الترابي يشير إلى فكرة تحالف بن لادن مع «حزب الله». اقتنع بن لادن بالفكرة الساحرة التي قالها الزعيم السوداني متبوعةً بقهقهته الشهيرة، وابتسامته الماكرة. أوكل بن لادن مهمة التمهيد لها بصفوف التنظيم لممدوح سالم (أبو هاجر العراقي)، واختار آخرين من التيار الشيعي للقيام بمهمة الإقناع أيضاً. توجت تلك المبادرة بلقاءٍ مهم جمع عماد مغنية بأسامة بن لادن، لم يخفِ الأخير إعجابه الشديد بطريقة العمليات العسكرية لـ«حزب الله» منذ أوائل الثمانينات، وأساليب الاختطاف، وإدارة العمليات الانتحارية، ونسف السفارات. أراد لتلك الخبرات أن تحقن بكوادر تنظيم القاعدة. سافرت نخبة من أعضاء التنظيم إلى جنوب لبنان للتدريب، برعايةٍ وعلمٍ من إيران، صحيح أن التقارب بين التنظيمين كان من بنات أفكار الثعلب حسن الترابي، ولكن الرعاية جاءت من «الحرس الثوري» الإيراني؛ ولهذا دليل صارخ.

منذ أوائل الثمانينات والإسلام السياسي الشيعي، وتعاليم الخميني تتخذ مساراتها شرق السعودية، ضمن عدة تسميات ومطبوعات وتنظيمات بدأ أصلها العلمي في السبعينات، غير أن التحول كان، بحسب راصد مهم هو توبي ماثيسن في كتابه: «حزب الله – الحجاز»، بدأ في النصف الثاني من الثمانينات حيث تغول التعاليم الثورية… كرة الثلج ستكبر بعد عقد من ذلك التاريخ… في منتصف التسعينات كان التلاقي بين «القاعدة» وإيران و«حزب الله» على أشدّه. من المقربين لأسامة بن لادن شخص اسمه يوسف العييري المعروف بـ«البتار»، تدرّب بمعسكرات «الحرس الثوري» داخل إيران… هذا الرجل سيكون زعيم «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» قبل أن يُقتل شمال السعودية في حائل بعد مطاردة طويلة في 2 يونيو (حزيران) 2003، وقد تمتع بقدرة ميدانية فائقة… عاش التنظيم أنجح مراحله التكتيكية، وذلك بفضل الخبرات التي تلقاها بمعسكرات «الحرس الثوري» الإيراني، ليظهر اسمه ضمن عملية مدوّية خطط لها طويلاً.

في 25 يونيو عام 1996 انفجر صهريج مملوء بأطنان من مادة «تي إن تي» استهدف مجمعاً سكنياً للقوات الجوية الأميركية في الخُبر شرق السعودية، وقتل على أثره 19 أميركياً وأصيب المئات. العملية هذه تعبر عن نجاح الشراكة وتطور التنسيق بين كل من «حزب الله – الحجاز»، و«حزب الله» في لبنان، و«الحرس الثوري» الإيراني، وتنظيم «القاعدة». قبض على العشرات من تنظيم «حزب الله»، والعشرات من تنظيم «القاعدة». الشريكان أسامة بن لادن، وعماد مغنية، باركا هذه العملية التاريخية.

يروي لي صديق تائب، قبض عليه بعد تفجيرات الخبر، لانتمائه إلى «حزب الله – الحجاز»، أنه كان من الرفاق معه بالسجن القيادي بتنظيم «القاعدة» يوسف العييري. لم يكن لدى الأخير مشكلة في أي شراكة مع التنظيم الشيعي بميادين القتال، لكنه لم يرضَ يوماً مشاركتهم الأكل على سفرة واحدة… تلك قصة تحالف أسود شرير.

 

منذ أواخر التسعينات كان أسامة بن لادن يجري استشارات مستفيضة مع أعضاء مجلس التنظيم حول «العملية الحلم» التي ينوي القيام بها، يهمس في آذان مساعديه أن مخططه قادر على تغيير مجرى التاريخ… يروي الرجل الثالث بتنظيم «القاعدة» وكبير المستشارين الشرعيين محفوظ ولد الوالد (أبو حفص الموريتاني) أن سجالات حادة دارت بينه وبين أسامة. يرفض مفتي «القاعدة» القيام بمثل هذه العملية لاعتبارات شرعية بحتة، فالتأشيرة التي دخل بها أعضاء التنظيم للولايات المتحدة هي بمثابة «العهد» المحرّم نقضه مع أي كان حتى ولو كان عدواً. هذه المسألة الفقهية ستكون نقطة المفاصلة بين الاثنين. قبيل تنفيذ عملية أحداث 11 سبتمبر (أيلول) بأيام قدّم أبو حفص لابن لادن استقالته من كل مسؤولياته مع وعده له بأن يبقي هذه الاستقالة سراً حتى تتم العملية. قبل ابن لادن الاستقالة على مضض، ولكنه لم يلتفت لرأي مخالفيه في مجلس التنظيم.

«لقد علمنا بعد طول نقاش أن أسامة اتخذ القرار، وأعرفه جيداً حين يعزم على تنفيذ أمر لا يثنيه عنه أحد حتى لو اجتمع لذلك الثقلان» يقول أبو حفص.

بعد استقالته قام بكتابة مذكراته بما يزيد إلى الألف صفحة، وأجرى لقاءات وشهادات تلفزيونية مطولة كلها تدور حول ذكرياته مع التنظيم. والحقّ أن شهاداته تشكّل وثائق لا غنى عنها لأي باحث في تاريخ التنظيم وتحولاته وصراعاته، ومن بين تلك الشهادات حديثه عن علاقة «القاعدة» بإيران. أوكل بن لادن مساعده الموريتاني بتولي ملف تنسيق العلاقة بين التنظيم وإيران. في شهاداته ومذكراته لم يثبت فقط وجود علاقة متينة وقوية شملت صفقات تبادل أسرى وإنما يضيف أن إيران حاولت الذهاب بعيداً في ترسيخ العلاقة وتجذيرها معهم. يضيف أن تأسيس التحالف كان له أسبابه؛ من بينها الواقع الجغرافي الضاغط، إذ يحتاجون لمنطقة يعبرون بها من كهوف أفغانستان إلى أوروبا والولايات المتحدة، وقد وجد التنظيم في إيران الخيار الاستراتيجي المناسب. لم يشأ بن لادن إظهار التنسيق مع «الدولة الشيعية» إلى العلن لئلا يصاب أعضاء التنظيم في جزيرة العرب بالصدمة. يعترف الموريتاني بأن التنظيم على دراية كاملة بأن إيران تستخدم التنظيم كورقة ابتزاز مع أوروبا والولايات المتحدة، ولكنهم يعرفون كيف يتصرفون معها في حال تعرضوا لأي خذلان أو خيانة. لكن إيران أوفت بعهدها الوثيق الذي أبرمه الموريتاني الممثل الشخصي لأسامة بن لادن.

طوال تاريخ التنظيم لم تتعرض إيران أو مصالحها لأي هجوم أو أضرار مبرحة، باستثناء اختطاف دبلوماسيين إيرانيين لـ«أغراض محدودة». الطرفان حافظا على «تنظيم الخلاف». يقرّ أبو حفص الموريتاني بأن «وثائق أبوت آباد» التي أفرجت عنها الاستخبارات الأميركية والمتضمنة مراسلات بن لادن كلها «صحيحة، ومضمونها مؤكد». وعليه فإن حديث بن لادن عن إيران في رسائله يوضّح كيف حرس تنظيم «القاعدة» إيران من الاستهداف، وكيف حمت إيران قيادات التنظيم.

في رسائله يحذّر بن لادن من استهداف إيران، ويذكّر بأفراد عائلته المقيمين هناك، ويعتبر استهدافها غير مجدٍ لأنه سيفتح جبهة من دون طائل، وبخاصة أن إيران باتت «الملاذ للمجاهدين» بعد القصف الأميركي على أفغانستان.

إن علاقة «القاعدة» بإيران بدأت منذ أوائل الثمانينات، ولكنها بلغت نضجها قبيل أحداث 11 سبتمبر؛ وآية ذلك أن شهادة وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) – وكما عرضتها جريدة «الشرق الأوسط» في مارس (آذار) من عام 2016 – كلها تؤكد أن العديد من المنفذين لأحداث سبتمبر تلقوا دعماً من إيران، على مرحلتين؛ بدايةً الدعم المالي، وتالياً الدعم الاستراتيجي الميداني.

لقد عبروا جسر إيران قبل الانغماس في أميركا؛ الطريق إلى مانهاتن كان آمناً بفضل مساعدة سخية من إيران!

لا يزال التحالف بين تنظيم «القاعدة» وإيران يرقى لمستوى «التنسيق القوي»، إذ سكنها بطمأنينة عدد كبير من قيادات التنظيم، مثل سيف العدل، ومحمد الحكايمة، وسليمان أبو غيث، ومحمد الظواهري، ومصطفى حمزة، والوجه الجديد القادم بقوة لقيادة التنظيم حمزة بن أسامة بن لادن. سيف العدل – مثلاً – كتب في مذكراته «الانسياح في الأرض» عن إيران… كيف صارت أرض الانطلاق لتنفيذ العمليات الكبرى.

وأخيراً، وفي رسالة خطها بن لادن إلى الأخ كريم مكارم يقول وبعبارته غضب: «إن مسألة تهديدكم لإيران، لي عليها بعض الملاحظات، أرجو أن يتّسع صدرك وصدر إخوانك لها. إنكم لم تشاورونا في هذا الأمر الخطير، الذي يمسّ مصالح الجميع، وقد كنا نتوقع منكم المشورة في هذه المسائل الكبيرة. فأنت تعلم أن إيران هي الممر الرئيسي بالنسبة للأموال والأفراد والمراسلات وكذلك مسألة الأسرى».

 

تمكّنت الحركة الثورية الخمينية من إحياء الأصوليّات المتعددة. بعد وصول الخميني إلى طهران وصف بن لادن الخميني بـ«العظيم»، تمنّى أن يحقق مثل هذا الحلم في السعودية. منذ أوائل الثمانينات سيكون بن لادن متعلّماً من تجارب الحرس الثوري الإيراني و«حزب الله» وعماد مغنية، والذي سيتحوّل إلى حليفٍ يتخادم معه لتنفيذ تفجيرات عديدة ومنها عملية الخبر في منتصف عام 1996. والتعاون بين إيران وفروعها وأذرعتها وبين تنظيم «القاعدة» معروف لدى الأميركيين، وحين صممت السعودية على إكمال التحقيق في ملابسات التفجير حدثت قصّة طويلة رواها الأمير بندر بن سلطان.. قصّ بمرارة الصفقة المشبوهة بين فريق كلينتون وبين إيران لتحوير التحقيق ووأده بعد أن بينت الخيوط تورّط إيران الصريح في دعم المنفذين لتلك التفجيرات.

كلّف كلينتون مدير «إف بي آي» حينها لويس فريه للتعاون مع السعوديين لإكمال التحقيق، وأوصاه: «لا تترك حجراً من دون أن تقلِبه».

ويليام سيمبسون في كتابه: «الأمير» المتضمن سيرة وشهادات الأمير بندر يكشف التعقيدات التي حدثت، منها الخلاف بين إدارة كلينتون و«إف بي آي»، هذا فضلاً عن تردد مردّه إلى الصلاحية القانونية بعمل هذه المؤسسة خارج أميركا، مفرقاً بين تفجيرات الحرس الوطني وتفجير الخبر، يرى أن الأخير ضحاياه من الأميركيين وعليه فإنه بقدر ما يمسّ انتهاك سيادة السعودية وأمنها، فإن العائلات الأميركية تحتاج إلى نتيجة واضحة تطلع عليها بعد التحقيق. و«لاحظ فريه أن ثمة أمرين استثنائيين؛ اكتشاف تورّط إيراني على مستوى عالٍ جعل المملكة معرّضة للانتقام من أي إجراءٍ متخذ من إيران أكثر من الولايات المتحدة، وأن السعوديين وافقوا على إجراء قانوني يتمّ بموجبه تسجيل الإفادات والأدلة التي يدلي بها الشهود في السعودية، بحضور مدعين أميركيين، ومحامي المتهم وقاضٍ أميركي، وإعادتها إلى الولايات المتحدة واستخدامها في أي محاكمة أميركية». والصاعق في الموضوع أن فريه نفسه يعترف بأن «التفجير لم يكن هجوماً من (حزب الله الحجاز) فحسب، بل عمليّة كاملة موّلتها ونفّذتها القيادة العليا للحكومة الإيرانية من الخارج».

يعترف فريه بأن السعودية ذلّلت كل الصعاب من أجل إنجاز التحقيق على أكمل وجه، وذلك من خلال حلّ العقد بين النظامين الإجرائيين والقانونيين في البلدين. يقول فريه إن الأمير نايف بن عبد العزيز والأمير بندر بن سلطان كانا على ثقة بضلوع إيران وراء التفجير. خلاف حدث بين فريه وساندي بيرغر مستشار الأمن القومي الأسبق؛ الأخير حذّر من عواقب سياسية على أميركا في حال وصلت النتيجة لاتهام إيران، أجابه الأمير بندر: «لا نريد أن نتّهم بدفعكم نحو الحرب». كان عموم الإدارة الأميركية يتجه نحو موقف ساندي، وبعد تفاصيل طويلة ذكرها سيمبسون راوياً عن الأمير بندر اتضح عام 1997 أن الإدارة الأميركية كانت ليّنة تجاه التحقيق، اختارت البرود. يضيف: «تعمّدت الإدارة ترك التحقيق على غير هدى، فيما ركّزت جهودها على تحسين الروابط مع الحكومة المعتدلة في إيران»!

شعر السعوديون ببرود أميركي؛ الملفّات والتحقيقات تثبت تورّط إيران، وبالنسبة لسفير السعودية في واشنطن الأمير بندر: «فلو كان مكان كلينتون جورج دبليو بوش، أو ريغان، وقدّمت له الأدلّة التي تم تزويد الإدارة الأميركية بها لتم غزو إيران، إنني واثق من ذلك». كل ذلك التأجيل والوأد لنتائج التحقيق كان المسار الرئيسي لإصدار كلينتون في أبريل (نيسان) عام 1999 بيان مدّ اليد لإيران. قررت أميركا أن تعاملها بذلك الشكل مع التحقيق أمر راجع لها لأن الضحايا كلهم من الأميركيين، وبالتالي تم سحق ملف فريه، وعبّر الأمير بندر بالمرارة من هذه الصفقة المشؤومة، يقول: «لقد شعرتُ أنا وفريه بأسوأ استغلالٍ للسلطة، كان ساندي مندفعاً لإجهاض الاتهام، وشعر بالجذل أن أحداً لا يعلم إذن: (أبقِ فمك مغلقاً)».

يضيف سيمبسون: «إن إضعاف التحقيق في تفجير أبراج الخبر المثال الأوضح لانعدام الثقة الطويل والعداء المستحكم بين كلينتون وفريه. تحوّل العداء إلى صدعٍ عميق. البيت الأبيض كان فاتراً بشأن متابعة قضية الخبر».

تلك الرواية المختصرة، التي رويت بإسهابٍ في المرجع المذكور، تبيّن مستوى من الكرّ والفر بين المجتمع الدولي وإيران، لقد تمت مكافأتها على عملياتٍ إرهابية كارثية، وكما تململ كلينتون في التحقيق بتفجير الخبر، أدار أوباما ظهره لحلفائه الكبار، وأخذ يتملّق لإيران المعبر الرئيسي لجميع أشكال الإرهاب بالعالم، والأخطر تباهي حسن نصر الله بأن «حزب الله» عرضت عليه صفقة مليارية من إدارة أوباما عبر وسيطٍ أوروبي، ومن ثمّ يتساءل العالم عن مصدر الإرهاب وسبب انتشاره الدائم. لدى إيران اليوم ميليشيات في العراق واليمن وسوريا ولبنان وأفريقيا تموّله مباشرة من دون ردع. لو كان العالم جاداً في محاربة الإرهاب فإن محاربة ومحاصرة دول الشر هي الخطوة الأولى لتحقيق هذا الهدف. تلك المعلومات تبين مستوى الكارثة بتعامل القوى الكبرى بالعالم مع إيران.

يروي والي نصر المستشار ضمن إدارة أوباما أن الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز وفي سجالٍ صريح مع الرئيس قال له غاضباً: «اقطع رأس الأفعى».

 

حروب الإبادة… ما أدوار الدول الكبرى؟!

 

 

 

 

حروب الإبادة… ما أدوار الدول الكبرى؟!

جريدة الشرق الأوسط 7 يوليو  2018

فهد سليمان الشقيران

 

في فيلم In the Land of Blood and Honey يأتي الشريط البصري خاطاً مسار تجرع البوسنة والهرسك لسم الحرب العرقية التي أحرجت الإنسانية وأبقت الدول حائرةً طوال ثلاث سنوات، استخدمت وبعد طول تأمل الولايات المتحدة استراتيجية ريتشارد هولبروك: «القوة من أجل السلام» كما يروي مساعده والي نصر تفاصيل اتفاق دايتون: «تعمد هولبروك إيصال التهديد بالقوة الأميركية للزعيم الصربي المعاند ميلوسيفيتش؛ في أحد الاجتماعات المحبطة خرج هولبروك وانفرد بمستشاره العسكري وطلب منه إرسال قاذفات (بي 52) الثقيلة إلى إحدى القواعد الجوية في بريطانيا وأن يحرص على جعل محطة (سي إن إن) تنقل صور هبوط هذه القاذفات، كانت النتيجة أن حرب البوسنة قد توقفت بعد هذه الحادثة بوقتٍ قصير. وخلال محادثات دايتون للسلام طلب هولبروك من الرئيس كلينتون أن يجلس قبالة ميلوسيفيتش عبر الطاولة وأن يخبر على الفور الزعيم الصربي بأن السلام إن لم يتحقق فإنه سيرسل القاذفات على الفور».

الآن تسلّ أنجيلا ميركل سلاحها مدافعةً عن «المبادئ الإنسانية» التي تتبناها تجاه اللاجئين في ألمانيا وسط ضغطٍ شديد عليها، ومن قبل كشف بن رودس مستشار السياسة الخارجية السابق للرئيس الأميركى أوباما «The World as It Is» أن ميركل ذرفت الدموع بعد انتصار ترمب باعتباره يهدد «المنظومة الليبرالية الدولية»، غير أن الواقع الدموي وتشظّيات الواقع السوري وانفجاراته على القارة الأوروبية كان نتيجة سياسات فاشلة وانعزالية تشجّع الديكتاتوريات على ارتكاب المزيد من المجازر الدموية، انقلبت المعادلة بما يذكّرنا بمفارقة الدولة لدى ديفيد هيوم بحيث قام ترمب بقصف متكرر مع حلفائه ضد قوات الأسد وإيران في سوريا، وهذا ما عجزت عنه «المنظومة الليبرالية» المتحدث عنها الفاشلة في إدارة الأزمات الإنسانية أثناء حدوثها، وهي الآن تخفق في طرق معالجتها مهما كان نجاح المستويات النظرية في التعبير عنها، وليس للأثر الديمقراطي أو الثوري على الليبراليات الصاعدة أي أثرٍ عملي، إذ المشكلة في الأشخاص أيضاً وبطرق التعامل مع الأزمات المفاجئة وآليات اتخاذ القرارات المنقذة للعالم، على عكس الجمود والبرود أمام حرارة الدم كما فعلت إدارات أوروبية وأميركية من قبل وبهذا تهديد لـ«النظام العالمي كله» كما هو رأي فؤاد عجمي.

إن استخدام التعابير العاطفية في التعليق على موضوعات الهجرة وإحراجات الأزمات الإنسانية تجعل العجز السياسي أعمق من التوجهات النفعية والتي ربما تحال إليها بعض الانكفاءات أو الانعزاليات على طريقة ويليام جيمس المنطلق في براغماتيته من أن «الحقيقة ليست صفة ساكنة تكمن داخل أفكار ثابتة بل إن الأفكار تصير حقيقة نتيجةً للأحداث وبتأثيرها، وأن التغيير الدائم في هذه الأحداث يجعل الحقيقة دائمة التغير». ولكن الفرجة على النزاعات الأهلية والعرقية بالعالم يعيدنا إلى «حالة الطبيعة» المرعبة، حيث ما قبل الدولة، والقانون، وما قبل العقد الاجتماعي، والتآزر البشري، والتعاون الأممي، وتحديداً إلى أسطورة الوحش «اللفياثان» عنوان كتاب توماس هوبز في القرن السابع عشر وهو الشاهد على الحروب الأهلية الانجليزية، وإذا عاش الإنسان «حالة الطبيعة – مجتمع ما قبل الانتظام» فإنه يتحرّك باعتباراتٍ ذاتية أنانية تتعلق فقط بتوفير قوته والحفاظ على أمنه الشخصي ولا أهمية لأحدٍ من البشر إلا بقدر ما يرتبط بمصالحه هو، والإنسان هو «الذئب» على أخيه الإنسان، والحرب دائمة مستمرة في حالة الطبيعة بين الإنسان والآخر، وهي حرب الجميع ضد الجميع، وقد أعادت الكثير من سياسات «المنظومة الليبرالية» – التي يروّج لها بأنها حارسة القيم الإنسانية بالعالم مقابل الحالة «الترمبية» المعاكسة – مجتمعاتٍ كثيرة إلى حالة ما قبل الطبيعة، وهذا راجع لاستراتيجيات العجز والانسحاب والانعزال من دون الإقدام على تدخل عسكري وقصف ضروري وإنْ محدود ضد عدوان إيران بأذرعتها ونظام البعث السوري وغيره من كيانات الشر.

كل ذلك التخاذل والتواطؤ أسس لكياناتٍ هشّةٍ في المنطقة تؤثر في مستقبل أوروبا كما يحدث في ليبيا وسوريا، كان الانزواء باسم الحفاظ على المؤسسات بينما تنقرض وتتآكل الدولة، ومن دون كيان الدولة يتحول كل إنسانٍ إلى سبع يعتبر كل شيء أمامه فريسة له، تماماً كما في أساطير جيش «راغنار لوثبروك» المصوّرة بمسلسل «Vikings» الشهير.

من قبل كتب شبنهور في كتابه «العالم إرادةً وتمثلاً»: «ليست الدولة إلا كمامة الهدف منها هو جعل الإنسان هذا الحيوان الضاري، مسالماً، وتحويله إلى حيوانٍ عاشب».

 

  

 

«ما بعد الإسلاموية» بين آصف وعلي حرب

 

«ما بعد الإسلاموية» بين آصف وعلي حرب

جريدة الشرق الأوسط 13 سبتمبر 2018

فهد سليمان الشقيران

 

 

في حوارٍ تلفزيوني حديث أجرته قناة «فرانس 24» مع علي حرب تحدّث عن كتابه: «الجهاد وآخرته – ما بعد الأسلمة» منطلقاً من مطارقه النقدية المعروفة لقرائه، إذ ينهج سبل «المابعد» في التجاوز النقدي والتحليلي، وذلك منذ منتصف التسعينات حيث كتابه «التأويل والحقيقة»، وبلغ ذروة الإنتاج النقدي في أوائل الألفية حيث الكتابات والتعقيبات الجريئة والمتجاوزة لمشاريع الحداثة. ومنذ أحداث 11 سبتمبر (أيلول) وعلي حرب ينخرط في تحليل العنف والتطرف والحالة الأصولية، ولكنه دخول المتسائل والمتأمل أكثر منه إسهام العارف بدهاليز الشريعة وتفاصيل السجال الفقهي على طريقة زملاء له آخرين، ولذلك يأتي مضمون كتابه ليطرح ما بعد الأسلمة، كما طرح (ما بعد الحداثة – ما بعد الحقيقة – ما بعد التفكيك)، فالأسلمة بظواهرها وتياراتها تذروها رياح التغييرات والآفاق الفكرية الجديدة، والعدة المنهجية المتطورة؛ فقط حين يكون الإسلام رأسمالاً رمزياً لشبكة من القيم الجامعة.

وضمن منهجٍ آخر مختلف، أقرب ما يكون للتحليل التاريخي، والاستشراف لتحولات الحركات الإسلامية أشرف آصف بيات على كتابٍ مهم بعنوان «ما بعد الإسلاموية – الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي» وقد طرح بالمكتبات قبل سنتين، والكتاب بمضمونه اتجه نحو إثبات وجود تحوّلات وتغيرات بالحركات الإسلامية. يقول بيات وهو المشرف على الكتاب الذي شارك فيه عشرة باحثين إن تشخيص حالة «ما بعد الإسلاموية» بدأ يتشكل لديه منذ منتصف التسعينات حين «أثارت فترة ما بعد الإسلاموية منذ ظهورها نقاشاتٍ حية بين الباحثين والنشطاء في مجال الإسلام السياسي، ومن المدهش أن هذه النقاشات قد بدأت بأوروبا وتبعتها نقاشات في البلدان ذات الأغلبية المسلمة خاصة تركيا وإندونيسيا وماليزيا والمغرب وإيران»، ثم يشير إلى كتابه الآخر «صناعة الإسلام الديمقراطي – الحركات الاجتماعية والانعطافة ما بعد الإسلاموية».

في الكتاب تناول كل باحثٍ مجاله، فإحسان داغي كتب عن التحوّلات في الحركية التركية، وجيهان توغال عن إعادة تجذير المحافظة التركية، وسامي زمني عن ما بعد الإسلاموية المغربية ودعوى التصاعد بين الحقيقة والخرافة، بينما نور هادي حسن يتناول السياسة ما بعد الإسلاموية بإندونيسيا، وآصف بيات خص بحثاً عن مصر، وجوزيف الآغا عما سماه «انفتاح حزب الله»! وحميراء اقتدار عن الانشقاقات في الحركة الإسلامية بباكستان، وحول حدود ما بعد الإسلاموية في السعودية كتب ستيفان لاكروا، وعبد الوهاب الأفندي عن الإسلاموية بالسودان من قبل ومن بعد، وحول سوريا والإصلاحية الإسلامية كتب توماس بيريه. والكتاب رغم الاختلاف الشديد مع منهاجه ونتائجه غير أنه يستحق أكثر من وقفة؛ وذلك انطلاقاً من بداهات «الانفتاح» و«التحول» و«التغييرات» التي يفرضها الباحثون ضمن اعتسافٍ منهجي غير مبرر، وبخاصة في البحثين المخصصين حول تركيا، إذ بالغ الباحثون بالخلط بين التغييرات الفكرية الآيديولوجية وبين استراتيجيات التمدد وأنماط البراغماتية السياسية المتوغّلة في تاريخ الأحزاب الإسلامية عموماً وفي التجربة التركية على وجه الخصوص.

بالطبع فإن عنوان الكتاب الذي وضعه آصف بيات ينطلق من قناعة وفرضية متأصلة لدى المشرف والمساهم أن تكون الحركات الإسلاموية ضمن مخاضات تغير تتجاوب مع ضغط العالم، وتجبرها على الدخول ضمن العمل المدني المؤسسي، والانخراط بالعصر وبالحداثات وصرعاتها، لكنه في الوقت نفسه يفتح مجالاتٍ لتبرير الموجات الأصولية المحتملة حين يقول في بحثه: «على المرء ألا يستبعد على الأقل على المدى القصير إمكانية صعود ديني تقوده قوى اجتماعية تعرضت للقمع على مدار سنواتٍ طويلة على يد نظم علمانية غير ديمقراطية. وفي الحقيقة فتح إسقاط هذه النظم الديكتاتورية المجال الاجتماعي والسياسي لكل أنواع الأفكار والحركات» وهذا يتعارض مع فكرة ما بعد الإسلاموية التي يطرحها هو، ذلك إنه يتحدث الآن عن حراك مسلح ضد «الديكتاتوريات العلمانية» بينما يشرح هو معنى ما بعد الأسلمة بقوله: «إن ما بعد الإسلاموية تشير إلى عملية العلمنة بمعنى تأييدها لفصل الأمور الدينية عن شؤون الدولة، ولكني بالأحرى أتحدث عما بعد الأسلمة كعملية مركبة للانقطاع عن الأحزمة الآيديولوجية الإسلاموية من خلال الالتزام بمشروع ديني مغاير وأكثر استيعاباً يستمر فيه الإسلام كدين وكمكون للمجال العام».

هنا يخرج بيات من الحديث عن المشروعية النظرية للحراك المسلح بوجه النظم العلمانية الديكتاتورية، لشرح معنى الدولة الإسلامية الحديثة، وهذا أمر ملّ الباحثون من طرحه انطلاقاً من التجربة الماليزية أو حتى التركية باعتبارهما نموذجي افتخار لدى الحركات، لكن الأجدى ببيات ومعه جمع من الباحثين المهمين الدخول لمعنى الدولة الإسلامية نفسه، وأن يشرح محتوى الدولة الإسلامية من حيث القوانين والأنظمة وقبل ذلك الهويّة، إذ إن تجارب ما بعد الإسلاموية تعاني الآن من فشل اقتصادي ذريع، وأخرى تضطرب ضمن موجة أصولية شعبية داخلية وخارجية.

إن الاستعجال باستشراف واقعٍ تنقرض فيه الحالة الإسلاموية لا ينمّ عن تحليلٍ محكم، هذا مع الفرق المنهجي بين ما بعد الأسلمة لدى علي حرب المنطلق من تحليلات فلسفية مفهومية ويخط هذا التحليل ضمن خيطية منهجية بدأها منذ ثلاثين سنة حول «المابعديات» أو كما سماها «أحاديث النهايات»، ولكن آصف بيات يقدم أوراقاً استشرافية لقراءة تغير الآيديولوجيات والاستراتيجيات، وهذا ما أوقع العمل بإحراجات منهجية عديدة مثل «خصخصة الإسلام» ونفي «الإسلام الليبرالي» حيث يرد على كتاب تطرقت إليه من قبل «الإسلام الليبرالي» لتشارلز كورزمان (ص51).

الأوضح أن التيارات تعيد تشكيل نفسها وتتجه لصناعة موجاتٍ خطيرة، وما الحديث عن نهايات تلك المجاميع إلا أضغاث الأحلام.

  

أثر السجالات في تفجر الفلسفات

 

 

 

أثر السجالات في تفجر الفلسفات

جريدة الشرق الأوسط 18 سبتمبر 2018

فهد سليمان الشقيران

 

 

لم يكن التطوّر العلمي بكل مراحله ومنعطفاته إلا نتيجة صراعٍ مع أسئلة، ومقارعة وجودٍ، ومساءلة أزمة. اختلافات بين الرومان واليونان والجرمان، وسواهم. تنوّعت اهتمامات المجموعات البشرية بين السياسة والقانون والفلسفة والهندسة إلى إدمان الحرب، ونظم الشعر. كل ذلك الحراك يترك وراءه أحافير من التطوّر، فالعلم بمجمله تاريخ اختلافات أو أثر «أخطاء» كما هي عبارة باشلار، ولكن مع تحوّلات المعرفة بعد النهضات والثورات والصراعات، وحين نضجت المجالات، وأصبح لكل مجالٍ تأسيسه وفلسفته ونظامه بات السجال والنقاش أساس تفجّر المذاهب والتيارات.

استفادت العلوم الإنسانية من ورش الصراعات السياسية والحزبية، وأثرت الحروب والثورات وتشظّياتها بإنتاج مذاهب متفرّعة متجاوزة، وإذا خصصنا الحديث عن الفلسفة فإن الواقع له أثره في تثوير التيارات المتضاربة، وشهد تاريخها صراعاتٍ مريرة وصلت حد العته بالهجوم الشخصي المتبادل بين فلاسفة كبار؛ مثل خلاف شبنهور وهيغل، والأخير المسؤول عن لجنة الامتحان خلفاً لفيخته، واختلفا بشكلٍ عنيف حتى وصف شبنهور هيغل بـ«المشعوذ» وبأوصاف أخرى تنظر بمقدمة كتاب «نقد الفلسفة الكانطية» لشبنهور بمقدمة حميد لشهب.

ساحات النقاش بكل أشكالها تسهم حتى من دون ترتيب في إنتاجٍ مختلف، وحين تخاصم طويلاً دريدا وهابرماس لم يلتقيا إلا بعد لأي، وأثمر اللقاء عن كتابٍ مشترك حول «الفلسفة والإرهاب» بمبادرة من الباحثة جيوفانا بورادوري.

بوجهٍ آخر حدثت تعاونات مشتركة بكتابة نصٍ واحد، كالذي قام به جيل دلوز اشتراكاً مع فليكس غيتاري بـ«ما هي الفلسفة»، تقاسما المهمة؛ الأول لرسم مفهومٍ آخر عن الفلسفة وتعريفٍ جديد «إنها إبداع المفاهيم»، وغيتاري طبيب نفسي، أنتجا أحد أهم الكتب الفلسفية. لكن بين الخلافات الأبدية والتعاون المشترك، ثمة لون من السجال يندر تكراره، حين يتحوّل الخلاف، وبعد اشتعال الشيب، إلى لقاءٍ مع نصوصٍ لطالما كانت منبوذة.

لم يكن آلان باديو على وفاقٍ مع جيل دلوز، والسبب ألخصّه من روايته، لقد شهدت فترة الستينات انتشار «المراهقة السارترية» ولاكان والمنطق الرياضي، دلوز لم يكن متصلاً بمرجعيات تلك الموجة، انشغل بأفلاطون، هيوم، نيتشه، برغسون، بينما باديو لديه مراجعه أفلاطون، هيغل، هوسرل، بالنسبة لباديو فإن دلوز كان ذوقه أميل إلى حساب التفاضل، إلى فضاءات ريمانن، كان ينهل منها الاستعارات، ودلوز الملهم الفلسفي لظاهرة «الفوضويين» هو العدو اللدود، ثم يفصح عن تأسيسه لعصابة هجوم على درسه الأشهر في المنابر الجامعية آنذاك، قصّة خلاف منهجي طويلة، انتهت أوائل التسعينات من القرن العشرين، حين تواصل باديو مع دلوز، وذلك بعد وفاة زميله غيتاري، طالباً منه البدء بتراسلٍ مستمر، هدفه تسليط الضوء على «دقة الوضوح، أو تميّزه المبهم» لتدوين كتابٍ حول فلسفة دلوز التي عاد إليها باديو بعد مقاومة لها امتدت لثلاثة عقود، لقد جاء إليه متأخراً إذ داهمته حينها حالة مرضية، ومزاجه ليس على ما يرام، وبعد عددٍ من الرسائل بينهما مزّق الورق كله وبشكلٍ فظ وأرسل بغضب: «لا أريد نشر هذه الأوراق»… عاد باديو إلى مقرّه ليدوّن كتابه «دلوز صخب الكينونة»، وضمّن مقدمة الكتاب هذه القصة المختصرة.

لقد جاء الكتاب كما يروي باديو «نتيجة صداقة صراعيّة بقيت، بمعنى معين، من قبيل الممتنع أن يحدث».

والكتاب يشبه دلوز أكثر من باديو، متجاوزاً للمنهج التسلسلي؛ كل فصلٍ منه هو قصيدة أو لوحة أو رسمة لمفهوم يتخيّله، يتناول بشاعرية فلسفية «مفهوم الواحد، تواطؤ الكينونة، الجدلية المضادة، مسار الحدس، في أساسٍ يعاود تفكّره، العود الأبدي والاتفاق، الخارج والطيّة، ومفهوم الطيّة» المفهوم الذي سبب عودة باديو لفلسفة دلوز.

«دلوز هو ابن القرن على الإطلاق. التفكير فرقٌ وتعرّف إلى الفروق. الأنطولوجيا تتطابق مع تواطؤ الكينونة. الأثر الذي لا يقوم على تراتبية هو تكثّف تكيانات، وتآينُ أحداث. منهج دلوز يرفض الاستناد إلى التوسيطات، منهج مضاد للجدلية. الكينونة المتواطئة لا فاعلة ولا منفعلة بل محايدة. الحدس الدلوزي ليس ذرة ذهنية، بل كثرة مفتوحة. البنية ليست إلا «سيمولاكراً». المعنى ينتجه اللامعنى وهو انتقاله الدائم، ولا ينتمي إلى أي علوٍ، ولا يكمن في أي عمق، ولكنه مفعول سطح، لا يمكن أن ينفصل عن السطح بصفته بُعده الذي يختص به. لا توجد إلا كثرات فعلية ومتحيّنة، أما الأساس فخاوٍ».

تلك بعض المقتطفات من النص الذي كتبه باديو بشغفٍ متأخر عن فلسفة دلوز، وكتبها من دون هوامش أو فصولٍ منهجية، بل أخذ يتأمل بالعدة المفهومية التي أورثها دلوز، يعتبرها حدثاً تاريخياً، مستعيداً مقولة فوكو أن نفكر مثل أن نرمي قطعة النرد، ودلوز خطّ مساحة جديدة، واستكشف أرضاً بكراً، وجزء من فلسفته تلك الهوامات والشبه، أو الغموض المخاتل، إنها فلسفة جسّ وفحص وهي بين الهدم والتأسيس، أو ما عرّفه كمال الزغباني (وأطروحته للدكتوراه عن فلسفة دلوز الفرق والإبداع)، ناقلاً عنه المترجم ناجي العونلي، بـ«التهسيس» كلمة تجمع بين «التهديم والتأسيس».

تلك السجالات الأبدية أو الطارئة تحدث زخماً علمياً، ولكن الساحة العربية اليوم تفتقر لمناخات مماثلة من السجال الحيوي، وإن بعد مدى الاختلاف لكنه ينتج تفجرات متعددة لتحفر مساراتٍ جديدة، ولكن العطب الأساسي في مفهوم الأكاديمي المطقّم والخلل الآخر بالمؤسسات المعرفية التي تحتاج إلى غربلة كاملة.

العلم جذوته النقاش، ولا يمكن تعاهده إلا بإدمان النقد وتعزيز صيغ المساجلة والنقض.