غير محدد

الديمقراطية والعلمانية بين الجابري وطرابيشي

الديمقراطية والعلمانية بين الجابري وطرابيشي
جريدة الشرق الأوسط 23 نوفمبر 2017
فهد سليمان الشقيران

بقي مفهوم العلمانية بكل التباسات تبيئته وترجمته إلى العربية مثار نقاشٍ طويل ليس على المستوى الآيديولوجي العقائدي المتعلق بضرورة ربط أي إجراء سياسي بـ«الحكم الإسلامي»، وإنما حتى بين التيارات الفكرية العربية المعاصرة، كان النقاش كبيراً بين عدد من المفكرين حول علاقات العلمانية بمفهوم الديمقراطية، سجال بدأ أواخر الثمانينات بين مفكريْن بارزين هما حسن حنفي ومحمد عابد الجابري على صفحات مجلة «اليوم السابع» امتد لعشرة أسابيع متواصلة في الفترات بين مارس (آذار) ونوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1989، وقد طبع في كتابٍ بعنوان: «حوار المشرق والمغرب». يرفض حنفي العلمانية لأننا: «لا نحتاج إليها وهي واردة من الغرب»، بينما الجابري يرفضها لأن «الإسلام ليس فيه كنيسة» حتى ندعو لفصل الدين عن الدولة، بل يقول كما الإخوان المسلمين: «الإسلام دين ودولة».

تم طرح الديمقراطية كبديلٍ للعلمانية، وذلك من قبل الجابري بسلسلة مقالاتٍ أعاد طبعها بكتابه «الدين والدولة وتطبيق الشريعة»، وتحت عنوان: «بدلاً من العلمانية، الديمقراطية والعقلانية» يكتب: «برأيي أنه من الواجب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر القومي العربي وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية… فمسألة العلمانية في العالم العربي مسألة مزيفة، بمعنى أنها تعبر عن حاجاتٍ بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات». ويحيل الجابري العلمانية بوصفها دعاية من «مسيحي الشام» الخاضعين للهيمنة العثمانية، ويدلل بأن العلمانية لم تطرح في بلدان المغرب ولا في بلدان الجزيرة، وبالتالي لا تحتاج الديمقراطية إلى الصيغة العلمانية، هذه الأسطر ستستفز طرابيشي الذي خبر الجابري وألف الرد على أطروحاته.

في الجزء الأول من كتابه «هرطقات – عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية» يعمل طرابيشي مجرحه الدقيق على طرح الجابري العشوائي حول مفهوم «العلمانية»، وهو نقد طويل جداً، ولكن يمكن الوقوف على صلب النقد وعصب الاعتراض، يقول: «الحال أن الجابري، عندما يعوزه المزيد من الأسلحة المنطقية لتدعيم مقولته عن عدم لزوم العلمانية، يستعين بمنطق الأصوليين، ولكنه لا يأخذ من استدلالهم سوى مقدمته الصغرى، أي تحديداً الضعيفة. هكذا يقول بالحرف الواحد: (أنا مقتنع تماماً بأن الإسلام هو دين ودولة في آن واحد) إن ما يسكت عنه الجابري ـ علماً بأنه من المختصين الرواد في الساحة الفكرية العربية بعلم المسكوت عنه ـ هو أن صاحب هذه المقولة هو مؤسس حركة الإخوان المسلمين حسن البنا».

يعترض طرابيشي على مقدمة الانطلاق عن الجابري: «أما من حيث المقدمة الكبرى، فلنقل بصراحة إنها مبنية على حيلة شكلية: فليس صحيحاً تعريف العلمانية بأنها (فصل الكنيسة عن الدولة). فالكنيسة هي حالة جزئية من حالات ذلك الكلي الذي هو الدين… فالعلمانية قد لا يكون فيها أذى للإسلام كدين، بقدر ما أنها تهيئ له جواً للانعتاق من أسر السلطة السياسية وللتفتّح والتقدّم كدين. وذلك ما حدث أصلاً للمسيحية التي اكتشفت، بعد طول مقاومة، أن العلمانية قد أفادتها في استعادة بعدها الروحي بعدما كانت جرت مصادرته، على مدى قرون عديدة، لحساب البعد الزمني. والعلمانية في نهاية المطاف لا تتطلع إلى تحرير المجتمع من الدين، بل إذ تكف يد الدولة عن المجال المجتمعي وعن المجال الديني معاً، تكفل أكبر قدر من الحرية الدينية للأفراد والجماعات معاً. ففي ظل العلمانية فحسب، يمكن أن تتفتح الحرية الدينية إلى أقصى مداها؛ وفي ظل العلمانية فحسب، يستعيد الدين مجال فاعليته في المجتمع».

لم يكن مفهوم العلمانية مثار احتجاج تقليدي في كهوف المتطرفين، وبعض المجاميع الدينية، بل حدثت اشتباكات كبرى، نتذكر معركة عبد الرحمن بدوي مع فؤاد زكريا، حين أخذ الأول على زكريا التأكيد على حيوية العلمانية في ضبط حركة الواقع، بل ويتخوّف بدوي من طرح زميله بالسوربون محمد أركون.

تأتي ممانعة الجابري ضد المفهوم باعتباره دخيلاً على المجتمع العربي، وهو من بين الآثار المسيحية التي لا يحتاج إليها الإسلام، يستخدم وغيره ذات المنطق التقليدي الحارس للهوية، وحين تقرأ كتاب الجابري آنف الذكر يعيدك إلى منطق عبد الوهاب المسيري في كتبه المناوئة للعلمانية وأساسها «العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة» وفيه ينطلق بعداوته للعلمانية من مفاهيم طرحت في مدرسة فرانكفورت مثل «الاستهلاكية – الشيئية – الأداتية»، و«التشيؤ» المتهمة به العلمانية الاستهلاكية كان قد طرحه من قبل جورج لوكاتش. يكتب المسيري مثلاً في كتابه «الهوية والحركة الإسلامية»: «لا بد أن أشير إلى أن عبارة (إصلاح الخطاب الديني) تستخدم أحياناً لتعني إعادة صياغته بطريقة ترضي الغرب، مما يعني تحويل الدين إلى تجربة ذاتية روحية فيفصل الدين عن السياسة وعن الحياة، وتصبح النزعة الجهادية والرغبة في إقامة العدل في الأرض نزعات ورغبات إرهابية، أي إن الإصلاح هنا يعني إلغاء ما أسميه بالإسلام المقاوم وسيادة رؤية لإسلام براغماتي عملي مسالم مساوم يعجب الأجانب، والذي أسميه ساخراً (الإسلام السياحي)».

باختصار؛ لا يمكن للديمقراطية أن تكون بديلاً عن العلمانية، فلكل مفهوم وظيفته، ومن دون بيئة على مستوى من العلمانية لا يمكن للعملية الديمقراطية أن تكون ذات فعالية مدنية. والديمقراطية أداة وفضاؤها العلمانية. وكل الجلبة التي قادها مفكرون يساريون ومقاتلون راديكاليون وأمشاج من الإسلاميين والمفكرين المتحولين مثل «المسيري وجارودي» كلهم لم يأخذوا بالاعتبار إمكان التعامل مع المفهوم بوصفه «منصفاً لحضور الدين بالواقع» بدلاً من استعماله كمنتجٍ غربي يثير الريبة والهلع.

إن الديمقراطية الأداتية حين تطرح بوصفها البديل عن العلمانية، فإن في هذا تدشين لمرحلة أصولية.

  

العدالة المنصفة… وشكل الدولة الحديث

العدالة المنصفة… وشكل الدولة الحديث
جريدة الشرق الأوسط 9 نوفمبر 2017
فهد سليمان الشقيران

لم تعد الديمقراطية هي الصيغة الوحيدة المحققة لأكبر احتمالٍ بالعدالة؛ بل شهد المفهوم تحديات كبرى، معظمها نشأ من التصعيد التحليلي لتاريخ العدالة وإمكانات تشكيلها لحدوثٍ من دون الرضوخ لصيغة الديمقراطية بوصفها الأداة الناظمة لكل إيقاعات العلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة. وأخطر ما يمكن طرحه تحويل الطرح الديمقراطي على أنه ضمن المعيار الأخلاقي، وبالتالي لا قيمة لأي نظام سياسي من دون طهر الديمقراطية، وهذا تنقضه التجربة التاريخية للمفهوم حتى في الدول التي خبرته ودرسته، بل قد يجر كوارث سياسية واجتماعية كبرى، إذاً الهدف من الديمقراطية تحقيق العدالة، وأينما وكيفما تحققت العدالة المنصفة فإن الدولة تقترب من تلبية حقوق مجموع الإرادات المتصارعة بالمجتمع.
تنصّ رؤية 2030 على مفهومين أساسيين هما من أهداف رؤية الدولة التي ستشكل النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي؛ أولهما: الحنفية السمحة، بما يجعل الدولة ضمن الإطار السمح للمفهوم الديني، ومن هنا يمكن اعتبار هذا المفهوم موازياً ونظيراً لـ«التسامح» الذي طرح بالفلسفات من قبل لنزع فتيل الفتنة بين المسيحيين أنفسهم بتصارعهم، وبين المسيحيين واليهود، كما في رسائل التسامح عند فولتير وجون لوك وآخرين، وصانع الرؤية الأمير محمد بن سلمان في مؤتمر إعلان «نيوم» اعتبر تحقيق التسامح والتفاهم والتعايش مع الحضارات من ضمن الأهداف الأساسية لئلا تضيع علينا العقود بملاحقة المتطرفين، ونرهق الميزانيات للحرب على الإرهاب. المفهوم الآخر الذي ذُكر في الرؤية: القيم السامية، وهذا يمكننا من الاطمئنان على النهج الذي ستتخذه الدولة باعتبارها قادرة على تحقيق القيم السامية وفق نظامها السياسي، ومؤسساتها، وقوانينها، وأثمر ذلك تحقيق قيمتين في أسبوعٍ واحدٍ تقريباً؛ الأولى: صدور نظام مكافحة الإرهاب وتمويله بمواد صارمة حاسمة لتجعل النظام من أمتن القوانين الملاحقة للإرهاب بالمنطقة، والثانية: البدء بترسيخ أسس العدالة عبر الأمر الملكي بتكليف ولي العهد لملاحقة المتورطين في قضايا فساد، وبعد صدور الأمر الملكي بساعات أعلنت وتسربت أسماء أمراء ووزراء ورجال أعمال وجهت ضدهم تهم معينة يتم على أثرها التحقيق معهم.
إن العدالة يمكن أن تكون ثمرة أنظمة سياسية تتخذ مناهج إدارية متعددة، وليس شرطاً أن تحيل الديمقراطية للعدالة، بل كل التطبيقات السياسية العربية للديمقراطية أسست لحراسة الفساد، والمحسوبيات، وشلت وعطلت حيوية وحركة المجتمعات والدول.
جون راولز الحافر بمفهوم العدالة مشروع عمرٍ تحدّث في أطروحته «العدالة كإنصاف» عن علاقات هذا المفهوم بتاريخ الإرث الديمقراطي، فهو يوضح أن «الفكر الديمقراطي أظهر ومنذ قرنين تقريباً، أنه لا يوجد أي إجماعٍ حول الكيفية التي ينبغي أن تنتظم حسبها المؤسسات الأساسية داخل نظامٍ ديمقراطي إذا كانت مطالبة بتحديد وتأمين الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين، وبالاستجابة لمقتضيات المساواة الديمقراطية. هناك اختلاف عميق حول الكيفية التي يمكننا أن نحقق من خلالها قيم الحرية والمساواة في إطار البنية الأساسية للمجتمع على أحسن وجه، لنقل لأجل تبسيط ذلك بأن هذا الصراع الداخلي بالنسبة لتراث الفكر الديمقراطي هو نفسه الذي أثير بين تقليد لوك الذي يولي أهمية أكبر لما يدعوه بنيامين كونستطان بحرية المحدثين، أي حرية التفكير والاعتقاد، وبين بعض الحقوق الأساسية المتعلقة بالشخص والملكية، وبين تقليد روسو الذي يركز على حرية القدامى، أقصد تساوي الحريات السياسية وقيم الحياة العمومية، من المؤكد أن هذا التقابل يفتقد للدقة والصحة التاريخية، غير أن بإمكانه أن يتخذ وسيلة لتثبيت الأفكار».
معيار راولز باختصار لتحقيق العدالة المنصفة، أن ينسجم الشخص ضمن حقه مع النظام العام مع حريته وتساويه مع الجميع والمتساوق مع نفس النظام بالنسبة للكل، وكذلك أن يتم إخضاع التفاوتات الاجتماعية لترتبط بوظائف ومواقع مفتوحة بوجه الجميع حسب الشروط المنصفة لتكافؤ الفرص، وكذلك وهنا مربط الفرس: «يجب أن تكون التفاوتات للصالح الأفضل للأعضاء الأكثر حرماناً في المجتمع». راولز يتفرّد بهذا المعيار الناصع الذي يتجاوز الأداتية الديمقراطية، ليضع معاني المساواة وترتيب التفاوتات مداخل تحقيق العدالة، لأن الديمقراطية بوجهيها الفكري والتاريخي، ليست ضامنة للعدالة، ولكن يمكن تحقيق العدالة ضمن نظام سياسي لا يتشدق بالديمقراطية، وهناك نموذج عربي حين نتحدث عن حقبة حكم الحبيب بورقيبة بتونس، وهذا مثال واضح وصريح.
وأخيراً؛ فإن التبجيل الأعمى لآلية «الديمقراطية» ليس له قيمة ضمن تطور المفاهيم السياسية، وضمن المزيج الذي تخلقه كل دولة لنفسها بما يتفق مع قيمها ومجتمعها، لكن مع عدم الاختلاف حول جوهرية «العدالة» بوصفها جوهر العمل السياسي، ولهذا تفصيل آخر.

 

تحرير المجتمع من اختطاف الصحوة

 

تحرير المجتمع من اختطاف الصحوة
جريدة الشرق الأوسط 2 نوفمبر 2017
فهد سليمان الشقيران

كانت العقود الثلاثة الماضية عصيبة على السعوديين؛ الموجة الراديكالية التي عمّت العالم الإسلامي بعد الثورة الخمينية ألقت بظلالها الكئيب على تفاصيل الحياة، إذ بات الواقع ميداناً للانتقام المتبادل، امتلأت النفوس بالحسرات، والرغبة بالتوبة من المباحات، قُصفت البيوت ليلاً ونهاراً بالأشرطة والمطويّات، تخلص الناس حتى من صور ذكرياتهم، وإن سمع المرء مقطعاً من أغنية عابرة بالراديو فإن الوساوس كفيلة بهدّ كاهله. لقد كانت المباحات تنقض ظهر الإنسان، كل شيء حُرّم تقريباً، باستثناء ما يبيحه دعاة تسيّدوا المشهد، واختطفوا المجتمع، واكتسحوا المنابر واحتلوا الواقع بأكمله، وغدا الصالح من يزينونه هم، والطالح من يعادونه. لقد قُضي على الحياة تماماً، وقد كان لقلةٍ غرباء من المثقفين والكتاب أدوارهم المتحدية لأولئك وذلك من خلال الكتب والروايات والصحف، قادوا مقاومةً نصرُها مستحيلٌ أمام جيوش الكراهية وسدنة الحرام، حتى نالهم من التكفير والتضييق ما نالهم فما وهنوا وما استكانوا، حتى جاء الأثر السياسي التاريخي.
أثر بليغ يُروى عن الخليفتين عمر وعثمان: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»، أثبت صدق معناه على مر التاريخ، إذ أقوى أساليب التغيير في تاريخ المجتمعات، أن يؤمن الحاكم بمشروعٍ لشعبه، ويبني نظماً وأسساً قانونية تحرس ذلك المشروع، وتجعله جزءاً من الواقع. قيّض الله الأمير محمد بن سلمان ولي العهد ليضع حداً لذلك الاختطاف التاريخي للمجتمع السعودي. العقود الثلاثة الماضية لن نعيد تكرارها في السنين المقبلة، قالها الأمير في حواراتٍ عديدة، وكانت واضحة صارمة في حوار «نيوم»، إذ تعهد الأمير محمد بتدمير التطرف على الفور، لقد طُويت الصفحة، والآن على الرموز الظلامية، ودعاة الكراهية، وحرّاس الوسواس، وقادة الكآبة، أن يعتزلوا المشهد، وأن يلزموا بيوتهم، فالمرحلة ليست لهم، إلا إذا استطاعوا صوغ أفكارٍ أخرى جديدة، وصناعة تحولاتٍ فكرية، والدخول ضمن مراجعات تجعلهم ضمن «المجتمع الطبيعي» أو «الحياة الطبيعية» كما وصفها الأمير. إنها سُنة الحياة، فالإنسان لا يمرّ بالنهر مرتين، كما يقول هيراقليطس، الحياة صيرورة مستمرة وأبدية.
كلمة أخرى مهمة قالها تركي آل الشيخ، المستشار بالديوان الملكي ورئيس هيئة الرياضة السعودية، في المؤتمر الصحافي الذي أعلن من خلاله عن تنظيم دخول العائلات إلى الملاعب الرياضية، إذ أوضح أن: «الملك وولي العهد مثلما هم شديدون بإيقاف المحرمات، هم أيضاً لديهم الشدة للحفاظ على المباحات، وهذا الموضوع بات واضحاً». إذاً، يعود النهر مجدداً إلى الجريان، وينهدّ سد تعيس مَنَع المباحات وشوَّهها، وجعل الحرام قرين الطُّهر، والمباحات مظنّة الغفلة، و«الغفلة» مصطلح صحوي امتلأت به الأشرطة، وهي حالة من عدم الخوف والرهبة والرعب، الغفلة لديهم تعني السعي في مناكب الأرض، والتمتع برزق الله، إنهم يريدون الناس مجرد قطيع يعيش بالوحشة من دون أي استمتاع بالحياة الدنيا.
من أبرز أسباب تسيّد الحالة الصحوية، حركة جهيمان في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 1979. صحيح أنها ضُربت على مستوى الخليّة والتنظيم، لكن لم يكن هناك «اجتثاث» مباشر على النحو الذي قام به الملك عبد العزيز بمعركة السبلة في 30 مارس (آذار) 1929. الفرق في الأولى أنها لم تُجتَث من أصلها ولم يتم سحق أفكارهم بشكلٍ قوي، ذلك أن الظاهرة الراديكالية تعيد صنع نفسها كل ثلاثين سنة، ومن دون استعدادٍ سياسي لسحق الظاهرة مع جذرها فإن بعض أفكارها قد تنتشر، وبعض أتباعها قد يتسيدون، كما أن الخطأ الخطير أن أُعطيت حرية لأولئك الدعاة، وباستثناء أحداث عام 1994 حين تم القبض على دعاة التطرف وإيداعهم السجن، لم يكن هناك جهد رسمي حقيقي لتحرير الواقع من قبضة الصحوة.
أبرز سلاح انتصرت به الصحوة كان التضييق على المباحات، مع أنه الأصل في الدنيويات، ولا يحرّم شيء إلا بدليلٍ قاطع ناصع، ومعظم المحرمات التي يساط بها ظهر المجتمع هي من المباحات، والآية القرآنية صريحة: «قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق». إن الحرب على المباح كانت منظّمة عبر الكاسيتات والمطويات والخطب والمواعظ، وذلك من أجل استهداف المجتمع بضميره الواخز، حتى تعزز الوسواس، وباتت النجاة من عقاب الله لا يمكن أن تكون إلا عبر ذلك الداعية، والانصياع لتعاليم «الشيخ». الآن نعيش حالة مختلفة، تعود الأمور إلى نصابها، وكل القرارات التي اتخذتها السعودية هي من قبيل إتاحة المباح وتنظيمه، وهذه بداية الطريق للخروج من السياجات الصحوية الكارثية التي حبست أنفاس المجتمع.
زمن السنين الثلاثين المدمّرة التي عاشها المجتمع علينا اعتباره من التاريخ، لقد بدأت الخطّة التنموية الشاملة التي يتغير من خلالها المجتمع عبر الاقتصاد والرياضة والإعلام ومنصات الترفيه المتنوعة، فالترفيه حقّ للإنسان وليس ترفاً كما يعتقد بعض المعاتيه، إنه ليس زمن الصحوة، ولا زمن الإخوان، بل زمن التنمية والانتصار لدنيا الإنسان.

  

مذكرات عمرو موسى… فرصة للنقاش

مذكرات عمرو موسى… فرصة للنقاش
جريدة الشرق الأوسط 26 أكتوبر 2017
فهد سليمان الشقيران

لا تزال أصداء صدور الجزء الأول من مذكرات الدبلوماسي المصري عمرو موسى تثير الكثير من الجدل والنقاش؛ المذكرات التي تضمّنت رواية ما وراء كواليس نصف قرنٍ من العمل السياسي لم تسلم من مبالغات في الوصف، وتبرئة لساحة الأنا، غير أنها بقيت محتفظة بالنفَس السردي الممتع، وبخاصة أن تبويب مذكراته التي عنونها بـ«كتابيه» كان متسلسلاً، وذلك وفق منهجٍ أشار إليه الراوي في مقدمة الكتاب. وقد تفاوت مستوى التشويق في الكتاب وبلغ مداه في حديثه عن السادات، ولقائه بعبد الناصر، وحرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 وأحداث حرب الخليج، وعملية السلام، وقد عرج على مواقفه في أحداث مؤتمر مدريد عام 1991، وهنا يورد قصة لقائه مع جيمس بيكر في منتصف الكتاب.
يورد عمرو موسى موقفه الخطابي حين التقى بيكر وربط بين أي عملية سلام بإيقاف الاستيطان الإسرائيلي، وتحدّث عن مركزية مصر في أي عملية سلام تجري بين الفلسطينيين والإسرائيليين. موقف كان قد أشار إليه الأمير بندر بن سلطان في سيرة «الأمير» التي كتبها عنه ويليام سيمبسون، وذلك في الفصل المخصص لعملية السلام بالشرق الأوسط، باختصار يروي الأمير بندر أن بيكر سأله: هل سيحاول عمرو موسى إلقاء محاضرة علينا بعد أن التقيت برئيسه؟! ردّ عليه الأمير بندر بتوقع ذلك، وحين فعل ذلك عمرو موسى بالفعل؛ حيث تشعب حديثه وأدلى بموقفه الذي يصفه الأمير بندر بـ«القومي»، ضرب بيكر بملفّ جلدي على الطاولة حتى عاد عمرو موسى بموقف رئيسه» (ص: 291).
وبعيداً عن البطولات اللفظية، وبخاصة تلك المرتبطة بقضية فلسطين، عرج على موضوعٍ مهم بهذه المرحلة، وهي طبيعة العلاقة بين مصر وقطر، وبين عمرو موسى وأمير قطر السابق ووزير خارجيته، حمد بن خليفة وحمد بن جاسم، تحدث عن توتر العلاقات بالطبع بعد تسلم حمد بن خليفة الحكم بسنة واحدة، ومن ثم يقول: «قام تعاون كبير بيني وبين حمد بن جاسم؛ والواقع أنه يجمعنا ودّ متبادل، فأنا أقدّره شخصياً، وأقدّر كفاءته ونشاطه وانفتاحه، وأداعبه دائماً بقولي: كفاك جمعاً للثروة، فيقول لي: أريد أن أكون أغنى رجل بالعالم العربي». يضيف: «علاقة الرئيس مبارك وحمد بن خليفة كانت طيبة للغاية، رغم كثرة المشكلات التي كانت تظهر على فترات. ومن ضمن القفشات التي كان الأمير يرددها على لسان مبارك ويضحك جداً عليها، حكاية طائرة حمد بن جاسم التي أمر أمير قطر بمنحها للرئيس اليمني علي عبد الله صالح، فبعد أن شاهد صالح هذه الطائرة خلال توديعه رسمياً في مطار الدوحة أبدى إعجابه بها، فمنحها له الأمير، وكان حمد بن جاسم واقفاً إلى جانبها لا يتوقع ذلك، وحزن وظل يشير إلى هذا المقلب آسفاً، بينما ظلّ الأمير يشير إلى هذا الحدث ضاحكاً، وكان كلما التقى مبارك مع حمد بن جاسم قال له: كيف تترك طائرتك لعلي عبد الله صالح؟ فيرد: لقد كانت جامبو يا سيادة الرئيس، فيرد عليه مبارك بالطريقة المصرية: جامبو على جامبو».
تلك المواقف توضح مستوى «الخفّة» في السياسة القطرية، وأحسب تلك القصص توضح مدى انعدام الحكمة لدى جل السياسيين القطريين، رغم «الكلام الإيجابي» لعمرو موسى عن قطر، على سبيل المثال حين تحدّث عن غضب الملك عبد الله من تهجّم قناة «الجزيرة» على مصر، يقول: «كانت السياسة القطرية تحاول إرضاءه بقدر إمكانها»، وهذا غير صحيح إطلاقاً، ورغم أن مذكرات موسى طبعت الآن، أي في عزّ الأزمة بين دول المقاطعة وبين قطر، فإنه لم يلتفت إلى التفريط اللفظي والموقف الهادئ من دولة حاولت انتهاك سيادة مصر، وليس صحيحاً أن قطر بذلت «إمكاناتها» من أجل إرضاء جيرانها وعلى رأسها السعودية، بل هناك أذى مستمر مدعوم من النظام القطري نفسه، الذي يستهدف بالصوت والصورة أمن دول المنطقة واستقرارها.
وحين أراد موسى وصف أمير قطر السابق قال: «أود أن أضيف هنا نبذة عن الأمير الشيخ حمد، فهو ناصري التوجه، وهابي المذهب، ويمارس الاثنين معاً، أو لا يمارسهما»، وهنا يجب أن نتداخل مع عمرو موسى مطالبين بالأسباب التي جعلته يخلع هذا الوصف على الأمير، لم يورد إلا سبباً واحداً، وهو أن الأمير قال له ذلك، ثم إن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لا تتضمن مذهباً، فهي دعوة إصلاحية ليس لديها مذهب فقهي، ومرجعها بالفقه لمذهب الإمام أحمد بن حنبل، إذن لا يوجد شيء اسمه «المذهب الوهابي»، بل ثمة دعوة تصحيحية ضمن المجال العقدي، ولم تؤسس لمذهب فقهي خاص.
مذكرات موسى طُرح الجزء الأول منها فقط بأكثر من ستمائة صفحة، ورغم الاختلاف الذي أوردته غير أن هذا لا ينفي التاريخ السياسي والدبلوماسي للوزير المصري المخضرم، غير أن أي مذكرات تطرح لا بد أن تخلق فرصة للنقاش والسجال حول المعلومات، والأوصاف والأشخاص والقصص التي تضمنتها الرواية.

 

الملَكيات والديمقراطية… ضد التعريف الإجرائي

 

الملَكيات والديمقراطية… ضد التعريف الإجرائي

جريدة الشرق الأوسط 19 أكتوبر 2017

فهد سليمان الشقيران

 

 
 

لم يكن الفهم التقني الأداتي للديمقراطية إلا ضمن الحيل الثورية، ذلك أن رسم خطط الخلاص لأي مجتمع يحتاج إلى شعارات برّاقة وجماهيرية وساحرة، وكان لمفهوم الديمقراطية دوره في إشعال جذوات الحماس لدى الحركات الراديكالية، والتحركات الجماهيرية الثورية. يؤرخ جورج طرابيشي لذلك في كتابه: «في ثقافة الديمقراطية»؛ وتحديداً للحظة نشوء التصوّر المتواضع للديمقراطية إذ يعتبر أن «القرن العشرين بقدر ما كان في نصفه الأول قرن الآمال الثورية العريضة، كان في نصفه الثاني قرن الكوابيس التوتاليتارية والبيروقراطيات السلطوية. وخيبة الأمل بالثورة هذه هي التي فرضت طوال حقبةٍ مديدة تصوراً متواضعاً وإجرائياً للديمقراطية بوصفها محض آلية للحد من سلطة الدولة وهيمنتها».

 

بمعنى آخر فإن الجلبة الثورية أضعفت المفهوم وتنوع مجالات اشتغاله، وتعدد وظائفه وتداخله مع مجالاتٍ ومفاهيم أخرى تعمل بنتائجها على أرض الواقع.

 

من ذلك جاءت المحاججة الثورية حول دول الخليج والمعنى الديمقراطي، وذلك بغية إفراغ المؤسسة السياسية الخليجية من أي بعد ديمقراطي وكأن الغاية الوحيدة للمفهوم تتلخص بالانتخاب البرلماني أو الرئاسي، بينما الغاية من تلك الآلية وصول الحاكم ضمن تجاوب بين الحاكم والمحكوم، وهذه آلياته موجودة في صيغ البيعة وأسس الشورى المعمول بها في دول الخليج.

 

إننا لو عدنا إلى فلاسفة العقد الاجتماعي الأساسيين الستة وهم: توماس هوبز، وجون لوك، وروسو، وكانط، وهابرماس، وراولز، لعثرنا على تعريفات متواطئة لمعاني القبول بالتفويض السياسي، هذا مع الاختلاف في توصيف شكل القبول، ومعايير العدل، وشروط اندماج المواطن في شروط الحكومة. لدى هوبز مثلاً فإن علامات التعاقد تكون صريحةً أو عن طريق الاستدلال، بينما يعرّف جون لوك القبول الضمني كما يلي: «إن كل إنسان يملك أو يتمتع بجزءٍ من المناطق التي لحكومة ما سيادة عليها يكون بذلك قد أعطى قبوله الضمني ويكون بذلك قد رتب على نفسه واجب إطاعة قوانين تلك الحكومة». وثمة شروحات أخرى وافية قدمها حيدر حاج إسماعيل في دراسته التقديمية لكتاب راولز «العدالة كإنصاف» فيها يتعرض لمعنى القبول الضمني أو «الأوتوماتيكي» ويقرأ كيف وسع فلاسفة العقد الاجتماعي معاني القبول والرضا والتفويض، حتى من خلال «الإقامة الدائمة» التي تعني وإنْ عبر «الصمت» بالانصياع للقوانين المتبعة بهذا البلد أو ذاك.

 

ثم إن الغاية من الديمقراطية تحقيق العدالة بكل ما تحمله من معنى، وهذه الغاية قد تتحقق من دون الدخول بالوسائل الديمقراطية الإجرائية السطحية التي بنيت على ما سميناه بالتعريف المتواضع للمفهوم، إذ تسعى الملكيات بدول الخليج إلى ثمرة العدالة، وهذا منصوص عليه بالدساتير وأنظمة الحكم، والغاية محل سعي حثيث من خلال مؤسسات ترسيخ العدالة والتحاكم العادل ضد المظالم حتى من ظلم مؤسسات الحكومة أو أشخاصها الاعتباريين، وهناك توجيهات أميرية وملكية تنص على سيادة القانون على الجميع بلا استثناء، وهناك نماذج لمحاكمات ربح فيها المواطنون كما في قصّة الملك عبد العزيز، إذ يروي الباحث إبراهيم العتيبي في شواهده حول القضاء في عهد الملك المؤسس أنه: «وبعد وفاة الإمام عبد الرحمن في عام 1927 ادعى شخص أنه له في ذمة الإمام مبلغ من المال وطالب الملك عبد العزيز بالوفاء عن والده، ولما طالبه الملك عبد العزيز بالبينة قال المدعي: «اذهب معي إلى الشيخ»، وذهب الملك معه بعد صلاة الفجر إلى منزل القاضي سعد بن عتيق، ولما عرف القاضي أن بينهما دعوى لم يدخلهما منزله، بل أجلسهما على الأرض أمام المنزل. وبعد أن انتهى الحكم لصالح المدعي، انصرف راضياً، وهنا أدخل القاضي الملك عبد العزيز إلى منزله وقال:… أنت الآن ضيفي».

 

لقد دمّرت النظرة الثورية مجالات علوم كثيرة، وكان اشتغالها على المفاهيم السياسية والفلسفية كارثياً؛ إذ فرّغتها من اشتعالها وحيويتها. وأبرز تلك المفاهيم المعنى الأشمل للديمقراطية، وقد رأينا نماذج كثيرة في العالم لنظم ديمقراطية ساهمت في إشعال نيران الحروب، ومسخت القيم الإنسانية، وأسست لأبشع صور الحكم بتاريخ البشرية، تلك هي الديمقراطية التي تكون بها الوسائل هي الغايات، أن يكون «الانتخاب» السطحي الإجرائي الذي هو وسيلة بالأساس يتحوّل إلى غايةٍ بحد ذاته، من دون التفكير في الثمار المجنية من ذلك التطبيق الساذج.

 

إن دول الخليج لديها نموذجها الخاص والذي يسعى ضمن الرؤى المطروحة لتحقيق العدالة، وصناعة إنسان معاصر وحديث يتمتع بحقوقه ويقوم بواجباته ولديه خيارات التمتع بدنياه وسني حياته ضمن قوانين مرعيّة، ليس شرطاً أي وسيلة تؤدي إلى هذا النعيم، الأهم أنها تحيل إلى ثمرة النظريات السياسية الليبرالية الطامحة لبناء واقعٍ ملائمٍ ورحب.

 

كتب جون راولز: «عندما تكون مبادئ الدستور الجوهرية، ومسائل العدالة في خطر، يجب أن تُمارس السلطة السياسية في ضوء العقل العام».

 

 

زمن “الروبوت” وتحول مركزية الإنسان

 

زمن “الروبوت” وتحول مركزية الإنسان

جريدة الشرق الأوسط 7 سبتمبر 2017

فهد سليمان الشقيران

 

 

تأخذ التقنية بكل تفجراتها حيزاً كبيراً من اهتمامات الباحثين حول مآلات التطور الصناعي المهول. مارتن هيدغر كتب معلقاً على القنبلة الذرية حينها بأن التقنية ستكون هي ميتافيزيقيا العصر، وبالفعل فإن الأخبار العلمية التقنية تعطينا الفكرة الأولى عن الطريقة التي سيتحوّل من خلالها العيش لدى الجيل القادم.

مثلاً: نشرت صحيفة «إيلاف» أخيراً نبأ إعلان وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) عن وظيفة شاغرة بعنوان «مدير حماية الكوكب» براتبٍ مغرٍ. وأطلق النبأ موجة من التصريحات المثيرة، على الرغم من أن مهمة هذا المسؤول هي في الأغلب منع انتقال متعضيات مجهرية من الأرض إلى كواكب أخرى، وبالعكس، لمنع التلوث البيولوجي خلال الرحلات الفضائية.

وهذا يعني أن الموظف الجديد سيركز على إبقاء المركبات الفضائية نظيفة، ليس عليها ذرة غبار. 

تقنية أخرى تتحدث عن تغيير جذري في مجال صنع القرار بتأثير تكنولوجيا المعلومات الكبرى والغوريثمات. فإن الكميات الهائلة من المعلومات التي تُجمع في قواعد بيانية، وما يُسمى «تقنيات تعليم الآلة»، تتيح أتمتة أعداد كبيرة من القرارات، ويمكن أن تكون الغوريثمات أو الذكاء الاصطناعي أعلى كفاءة وأرخص تكلفة وأدق من البشر، إذا أُحسن تصميمها. لذا ليس من المستغرَب أن نستعيض بصورة متزايدة عن صانعي القرارات البشر بالغوريثمات تصنع القرارات، في وقتٍ «تأمل فيه شركة (مون إكسبرس) الناشئة في فلوريدا (جنوب شرقي الولايات المتحدة) أن تكون أول مؤسسة خاصة ترسل مركبة صغيرة غير مأهولة إلى القمر قبل نهاية العام الحالي».

تلك الصرعات التقنية المدوّية توضح مستوى تلاشي الدور الذي سيقوم به الإنسان بهذا العالم، وذلك بفضل التقنية التي صنعها ذكاء الإنسان نفسه، ومن ثم يكون الإنسان خادماً في عالمها أكثر من كونها خادمةً له، وقد قرأت أخيراً دراسةً مهمة صدرت عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، وقد طُبِعت بكتيّب حمل عنوان: «تحديات عصر الروبوت وأخلاقياته»، من تأليف صفات أبو قورة، وفي الدراسة مستجدات صناعة الروبوت، والمناطق التي سيحتلها حضوره عوضاً عن حضور الإنسان.

خلاصة الدراسة المهمة تحدي الروبوت للعمالة ليس على مستوى الدول المتطورة صناعياً وتقنياً، بل حتى بالدول النامية، إذ سيعمل في قطاع الإلكترونيات، ولئن كانت الروبوتات باهظة الثمن، فإنها ستكون أكثر كفاءةً وفعاليةً بسبب تقليل التكلفة، والتوفير على الشركات، وهذا بحد ذاته سيشكل صدمة كبرى للبشرية، والأعمال التي يستطيع الروبوت القيام بها، منها: رائد فضاء، فقد أرسلت «ناسا» روبوت «روبونوت 2» عام 2011 لمهمة خارجية؛ أن يعمل صيدلياً، فالروبوت «آر إكس» هو نظام آليّ للدواء للقيام بمهمات التموين والتخزين والتوزيع، وهو يزيد من دقة تعبئة الأدوية بنسبة 99 في المائة. ويعمل الروبوت في خطوط التجميع مثل الروبوت «باكستر». ويعمل طاهياً للوجبات السريعة، وأمين مكتبة، كما في نظام مكتبة جامعة نورث كارولينا. ويعمل سائق سيارة، كما في ألمانيا، وسيارة «غوغل» الآلية. ومن الوظائف التي سيكتسحها الروبوت وظيفة «جليس الأطفال»، و«عامل للبريد».

كما أن مستقبل المهنة الصحافية في خطر إذ أعلنت «شركة نراتيف ساينس» عام 2012 عن تطوير برنامج كومبيوتري يقوم بكتابة الأخبار والمقالات.

تلك بعض المهام التي سيُطوَّر الروبوت لكي يكمل وظيفته بها على أكمل وجه، والفكرة الأساسية من ذلك أن التقنية بقدر تقدمها، والعالم بعظمة تطوّره، لن يجعلا الإنسان مركزاً على هذا الكوكب، فلن يحتكر التدبير بل سيكون جزءاً من المدبرين، وقد يتحوّل إلى أداة أو فردٍ يخدم التقنية ويأتمر بأمرها. كان هيدغر في أطروحاته حول التقنية منذ أول محاضرة له عنها عام 1953 بعنوان «مسألة التقنية» يحذّر من انفلات التقنية من يد الإنسان، لكنه في معرض حديثه يقول: «التقنية وسيلة اختُرِعَت من طرف الإنسان، التقنية الحديثة بما هي أداة هي التطبيق العملي لعلم الطبيعة الحديث، وأن التقنية الصناعية المؤسسة على العلم الحديث هي ميدان خاص داخل الحضارة الحديثة، وأن التقنية الحديثة هي الاستمرارية المتقدمة والمتقَنَة بالتدريج للتقنية الحرفية القديمة، حسب الإمكانات التي توفرها الحضارة الحديثة، تقتضي التقنية الحديثة – كأداة إنسانية – أن تكون خاضعة لمراقبة الإنسان، وأن يضمن الإنسان التحكم فيها كموضوع من اختراعه الخاص».

من الواضح أن التقنية لن تظلّ بتحكم الإنسان، بل ستنفلت أو انفلتت من يده، وبات أسيراً لها، بدليل الأجهزة الكثيرة التي بين يدي الإنسان، والتي يشعر بالفراغ والشتات والتيه والحرمان في حال تلفها أو منعه من استخدامها.

 

 

الديمقراطية وفخاخ التفاسير التقنية

الديمقراطية وفخاخ التفاسير التقنية

جريدة الشرق الأوسط 12 أكتوبر 2017

فهد سليمان الشقيران

يُربط اسم الخليج في اللجاج الإعلامي باعتباره مكوّناً من دول غير ديمقراطية؛ هذه المحاججة تأتي من مفكرين غربيين، ومن تيارات هي أمشاجٌ من اليساريين والثوريين العرب. وكل ذلك منطلق من توصيف أحادي سطحي للديمقراطية، إذ تؤخذ باعتبارها فصيلاً مستقلاً عن المؤثرات الأخرى في الدولة والمجتمع، ويتم تفسيرها بشكلٍ تقني يرتبط بالانتخاب بشكلٍ أساسي، بينما طرأت تحوّلات كبرى على مفهوم «الديمقراطية» بالمعنى الفلسفي، إذ تزحزح مراراً عن كونه مجرّد تقنية انتخابية، أو آلية إيصال مرشّح؛ وذلك مرده إلى تطور المفاهيم المرتبطة به، سواء «الدولة» أو «الحريّة» أو «العدالة» أو «الليبرالية» و«العلمانية»… كل تلك المفاهيم هي منابع يتغذّى منها مفهوم الديمقراطية ويعتاش عليها، ومن الصعب الوقوف عند كل التداخلات تلك، لكن يمكن المرور سريعاً على مستوى ذلك التداخل، وأثره على تمتين مفهوم الدولة؛ تطوّر شهده المفهوم من لوك إلى روسو وتوكفيل وصولاً إلى راولز وغوشيه وتشارلز تيللي.

جون راولز في أبحاثه المتعلّقة بمحاولة التأسيس لمفهوم جديد للعدالة كان يرسّخ نظرياً لفكرة حضرت من قبل لدى المنظّرين الأوائل لموضوعات العقد الاجتماعي (مثلاً كتاب «أصل التفاوت» بين الناس لروسو)، لكنه سعى لجعل دراسة مستويات الإجحاف في النظام غير الديمقراطي، ومن ثم ثلم ذلك الخلل من خلال العدالة بوصفها «الإنصاف». من ذلك ينطلق آلان تورين في كتابه «ما هي الديمقراطية – حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية» إلى اعتبار أن «الديمقراطية لم تكن تكتفي بطرح المساواة بالحقوق بصورة تجريدية، بل إنها كانت تدعو إلى المساواة على سبيل مكافحة التفاوتات والإجحافات القائمة»، لا سيما تلك التي تحول دون الوصول إلى مراكز القرار العام، ولو أن المبادئ الديمقراطية لا تفعل فعلها بما هي ملاذ ضد هذه التفاوتات، لكانت نفاقاً لا طائل تحته، ثم يشير إلى معنى مهم؛ إذ يعتبر «فكرة الديمقراطية لا يمكن أن تنفصل عن فكرة الحقوق، وبالتالي لا يمكن أن تختزل إلى مقولة حكم الأكثرية»؛ بالنسبة إليه الديمقراطية «لا تتحدد بفصل السلطات، بل بطبيعة الصلات القائمة بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي والدولة».

والديمقراطية بالنسبة لتورين يستحيل أن يروّج لها كتجربة واحدة، بل يستحيل التماهي بين التجارب، وبخاصة ذات الفوران المرتبط بنشأة الدول القومية، بل إنها تتقلّب بين عدة نماذج وصور قوامها بحسبه وضع صيغة للحياة تزوّد العدد الأكبر بأكبر قسطٍ من الحريّة، وهي الصيغة التي تحمي أوسع تنوّع ممكن وتعترف به… فهي تختلف عن تجربة إنجلترا في القرن السابع عشر، والولايات المتحدة وفرنسا أواخر القرن الثامن عشر، وفي بلدان أميركا اللاتينية التي غيّرتها أنظمة قومية شعبية كما في البلدان ما بعد الشيوعية، هكذا يشير تورين في كتابه المرجع.

بينما جون راولز يعتبر نقطة الانطلاق للتفكير بالحقوق «أن تقوم على أسسٍ سياسية لا فلسفية؛ فالعدالة بوصفها إنصافاً تفهم بمبدأين مستقلين هما الحرية والمساواة: مبدأ الحرية يقترن بالمساواة التي تؤمّن مستويين: تكافؤ الفرص، وأن تكون الحرية طريقاً لتقليص التفاوتات والإجحافات بين الناس». قد تشوب نصوص راولز بعض التشعب للقارئ العام، ولكنني أحيل إلى أطروحة أكاديمية ممتازة لمحمد هاشمي بعنوان: «جون راولز والتراث الليبرالي»، فهي غنية وواسعة. لكن لا بد من العودة هنا للمتن الرئيسي «العدالة كإنصاف – إعادة صياغة»، فهو في القسم الثاني من الكتاب وفي الصفحات ما بعد 301 يبرهن الفيلسوف على أن الفكرة تثمر ست أفكارٍ خيّرة وخلاصتها: «فكرة الخيري بمعنى العقلانية»: تكوين المواطنين لخطة حدسية عن الحياة. «فكرة الخيرات الأوّلية»: تعيّن حاجات المواطنين مقابل التفضيلات والرغبات والغايات النهائية طبقاً للمفهوم السياسي ولوضعيتهم كأحرارٍ متساوين. فكرة مفاهيم الخير: تقديم أفضلية الحق. فكرة الفضائل السياسية: الاتساق مع فكرة أولوية الحق. فكرة الخير السياسي لمجتمع حسن التنظيم بفضل مبادئ العدالة. وفكرة خير المجتمع كالذي يكون اتحاداً اجتماعياً لاتحادات اجتماعية.

كل تلك الجمل السريعة توضّح مستوى التطور الذي لحق بالمفهوم متجاوزاً التفريق التقني بين الديمقراطيات بأشكالها التمثيلية أو التشاركية، ليصل إلى تصعيد داخل بنية المفهوم بمعناه الفلسفي لجعله أكثر التصاقاً بالتحوّلات التي شهدها مفهوم الدولة. ولا يمكن وضع صيغة نهائية للديمقراطية باعتبارها «التجربة المركزية»؛ إذ تتبدى صور المفهوم تبعاً لتقلّبه في المجتمعات والدول، كما الفرق بين ديمقراطية اليابان، وألمانيا، كما أنه ليس مشروعاً يؤخذ كله، أو يترك كله، بل يمكن الإفادة من موضوعاته ومجالاته وأبوابه، وهذا ما فعلتْه دول الاعتدال بالخليج، إذ وضعت صروحاً استشارية، وقلّصت المسافات والتفاوتات، ولها قدرة فائقة على تحقيق أسس للعدالة ضمن النظام السياسي الذي يحرّكها، وهذا بحد ذاته يجعل التجربة الملكية والأميرية بالخليج ضمن نطاق مفهوم الديمقراطية بالمعنى الأعم والأحدث، هذا إذا تحررنا من صيغ التعريف المدرسية الجائرة؛ وأنصع دليل على كل ذلك مستوى الرفاه الساعية إليه، وتحقيق الأمن، والقدرة على احتكار القوة، وضبط التداخل بين الناس بعضهم البعض، وضمان الحرية والمساواة للأفراد.

كتَب عالم الاجتماع الأميركي ريتشارد تيللي في كتابه «الديمقراطية»: «لكي ندرس الديمقراطية بشكلٍ جدي، يجب أن نعرف عما نتكلم، ولكي نحدد تعريفاً لها علينا أن نصف ونفسّر التنوّع والتغير في مداها».

 

الدعوة الملَكية للنهضة المعرفية

الدعوة الملَكية للنهضة المعرفية

جريدة الشرق الأوسط 5 أكتوبر 2017

فهد سليمان الشقيران

لم يكن للإنسان أن يعيش حالة الرفاه التي يتمتع بها الآن لولا ثمار العلوم وتطورها وفورانها؛ إذ ساهم التطوّر المعرفي بتبديد كثير من مخاوف الإنسان في هذا العالم، ونزع السحر عن محيطه، ومكّنه من التحكم في مفاصل الحياة، وتغلّب بشكلٍ كامل على كل الأساطير والخرافات، مما جعله سيّداً لعالمه، ومسيطراً عليه، كل ذلك بسبب العلم.

وفي كلمة الملك سلمان التي ألقاها نيابة عنه وزير الطاقة والثروة المعدنية خالد الفالح، قال فيها: «إن العالم الإسلامي اليوم بحاجة إلى نهضة معرفية أكثر من أي وقتٍ مضى، في ظلّ التحديات الكبيرة التي يواجهها». والحقّ أن هذا التأكيد له ضرورته، ذلك أن الاهتمام العلمي والتطوّر المعرفي يسهمان في ترسيخ نسبية الحقيقة التي تؤدي إلى السلوك القويم مع الآخر، مما يخفف من غلواء الكراهية والعنصرية والطائفية والأحقاد الكارثية، وهذا المسار الذي سارت عليه الرحلة الأوروبية من التيه والاقتتال والدمار إلى حالٍ من التعايش والتفاهم.

والتطوّر العلمي بني متراكماً طبقاً لتجدد معايير وشروط تحقق المعرفة منذ العصر اليوناني وإلى اليوم، كما يشرح ذلك صاحب «حكمة الغرب» و«أثر العلم في المجتمع» الفيلسوف برتراند راسل، فهو يذكّر بأن «أرسطو يؤكد أن عدد أسنان المرأة أقل من عدد أسنان الرجل، ما يبيّن رغم أنه تزوج مرتين أنه لم يكلف نفسه عناء النظر في فم زوجتيه ليبرهن مقولته. كما يقول: إن الأطفال يكونون أكثر صحة إن كان بدء حمل المرأة وقت تكون الريح الشمالية، ما يدفع المرء إلى الاعتقاد بأن كلتا زوجتيه كان عليهما استطلاع اتجاه الريح كل مساء قبل أن تأويا إلى الفراش، كما يفيد بأن الشخص الذي يعضّه كلب مسعور لن يصاب بالسعار؛ لكن في الحقيقة أي حيوانٍ يعضه ذلك الكلب سيصاب بالسعار، كما أن عضة أحد أنواع الفئران آكلة الذباب خطرة للحصان، وبخاصة إذا كانت الفأرة حبلى، وأن الفيلة التي تعاني من الأرق يمكن شفاؤها بدلك أكتافها بالملح وزيت الزيتون والماء الدافئ».

بمعنى آخر، إن نزع السحر عن العالم أتى من خلال تطور العلوم والمعارف عبر العصور، ومن خلال التجارب والمعايير والاشتراطات المتطورة، وذلك انطلاقاً من تطوّر النظريات الموصلة إلى الحقائق.

وبالعودة لراسل مرة أخرى، فقد «تآكلت الخرافات مثل المعجزات، والأرواح الشريرة، ونذر الشؤم» إلا أن أهم ما تم التوصل إليه بعد جهود العلماء في القرن السابع عشر، تكوّن نظرة علمية ستسود المشهد في القرن الثامن عشر، وكان لها أهميتها في تكوين «النظرة العلمية» ويلخصها بالآتي:

1- إن بيانات الحقائق يجب أن تبنى على الملاحظة وليس على استشهادٍ غير مسند.

2- أن العالم المادي يتمتع بنظامٍ ذاتي الفعل وذاتي الديمومة، تخضع كافة التغيرات فيه إلى قوانين الطبيعة.

3- أن الأرض ليست مركز الكون، ومن المحتمل أن الإنسان ليس غاية الكون، وأن الغائية ذاتها موضوع غير ذي نفعٍ علمي، و: «تلك كانت (النظرة الميكانيكية) التي حاربها رجال الكنيسة».

المهمة الرئيسية للعلوم، إضافة إلى إسهامها في رفع مستوى تمتع الإنسان بدنياه، أن تطورها أعطى العالم قدرة على تكوين رؤى مختلفة بكل المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وآية ذلك أن نسبية الحق الذي يمتلكه الإنسان جاءت من خلال شرر العلم، كما أن العلم لم يكتفِ بجعل النسبية جزءاً من شكل الحقيقة؛ بل إن الأخطاء العلمية والمعرفية عبر التاريخ شريكة في صقل الحقيقة، كما هو تعبير باشلار: «إن تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء».

كل ذلك الاستيعاب لتناقضات حركة الحقيقة، والغليان الذي صاحب إنتاج معايير المعرفة وشروطها البرهانية أو الاستقرائية أو التجريبية أو حتى «التكذيبية»، كما هو المعيار العلمي لكارل بوبر، كل ذلك أسهم في إنضاج العلوم، وتعزيز أثرها الشامل في المجتمعات المحظوظة بعقول عباقرتها.

إن دعوة خادم الحرمين الشريفين لنهضة معرفية، جاءت في وقتٍ تعاني فيه الشعوب الإسلامية من ضعف في التعليم، ومن عنف في ممارسة نتائج الحقيقة، يثمر غالباً اقتتالاً وصراعاً عرقياً وإثنياً وطائفياً، وتلك النهضة تحتاج إلى تجاوب دول العرب والمسلمين المحتاجة دائماً وأبداً إلى نهضة معرفية دعا إليها رموز التنوير والإصلاح الديني منذ قرون، غير أن الحالة لا تزداد إلا سوءاً.

 

حول الفهم الحركي للعلمنة

حول الفهم الحركي للعلمنة

جريدة الشرق الأوسط 24 أغسطس 2017

فهد سليمان الشقيران

 

 

تعرّض مفهوم «العلمانية» لدى العرب والمسلمين إلى شحنٍ منظّم ومبرمج ضمن سياق صعود الصحوات الإسلامية، السنّية والشيعية، وقد كان لرموز حركة الإخوان المسلمين دورهم الكامل في تشويه المفهوم وفهمه، من خلال حركيّة بائسة لا تستطيع تداول المفاهيم العلميّة بطريقةٍ مرتبة، إذ سرعان ما تأخذ المفهوم بكل الشوَه الذي لقّنوا به من دون درسٍ أو تحليل، رموز كثر لهم أطروحات منقوصة حول العلمنة وبخاصة ثنائية محمد قطب وسفر الحوالي التي أثمرت عن كراريس تأخذ العلمانية بطريقةٍ سطحية، وسارت بنفس الطريق «موسوعة الأديان والمذاهب المعاصرة» الصادرة عن الندوة العالمية للشباب الإسلامي، وهي موسوعة مثقلة بالأخطاء العلمية والمفهومية بشكلٍ يصعب أن توصف به المجموعة تلك بـ«الموسوعة» وليست المشكلة هنا، بل أن يتحول ذلك الشرح إلى الفهم المطقّم الذي التزم به الشبان الحركيون. هذا مع عدم نسيان محاولاتٍ أخرى أكثر رصانةً لدى عبد الوهاب المسيري: «العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة» وقد ردّ عليه الصديق حمد الراشد بكتابٍ مهم بعنوان: «دفاع عن العلمانية ضد المسيري» وهو نقد فلسفي متقن.

 

ضمن مجال الفهم العاجل للعلمانية كتب الأستاذ جمال خاشقجي بجريدة الحياة بتاريخ 19 أغسطس (آب) مقالةً تحت عنوان: «دكان العلمانية» المضمون كله يجعل مفهوم العلمانية بحالةٍ تعارضٍ مع هويّة الدولة، إذ يعتبر العلمانية دكاناً يجب أن يشترى كله أو يترك كله، بينما العلمانية ليست كذلك، بل هي الفضاء الذي يضبط حركة الزائرين لدكاكين المدينة، فهي بتعريف يقاربه الآن تورين: «نظامٌ من التوسط الدائم بين الدولة والعناصر الناشطة اجتماعياً». – انظر كتابه «ما هي الديمقراطية – حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية»، إذن هو نظام متطوّر لكنه لا يتفّه عقائد الناس، ولا يتدخل بتفاسيرهم بل مهمته جعل الواقع أكثر براءةً من هيمنةٍ محددةٍ لأي كان، إذ يجعله فضاء واسعاً لحركة الفرد، والعلمانية ليست آيديولوجية كما يقول خاشقجي إلا إن فهمت بشكلٍ آيديولوجي، بل المفهوم يعبر عن نظام يحفظ أصالة الواقع من تعارض الفردانيات بين بعضها البعض، إن المفهوم يجعل المدينة أكثر ترتيباً، ويهذّب فرديات البشر، ويجعل المدينة أكثر انضباطاً من خلال القانون، والمجتمع أكثر رفاهية من خلال تعزيز النفعية بين الإنسان ومجاله العام، بغية رفع مستوى السعادة.

 

تعرّض خاشقجي لأحزاب البعث وتجاربها مع العلمانية، وهذا مثال ناقص، كان يمكنه الذهاب إلى مثالٍ أكثر وضوحاً وهو الذي لا تنقصه المعرفة بالأمم، وأعني التجربة التركية للعلمانية، وهي أول تجربة واضحة وحادة للعلمانية في تاريخ المسلمين، إنها تجربة لها أسسها النظرية، وهنا تجدر الإشارة لدراستين مهمتين لمحمد أركون عنونهما بـ«الوضعية والتراث أو التراثات ضمن منظور إسلامي: التجربة الكمالية» وهما منشورتان بمجلة ديوجين الصادرة عن منظمة اليونيسكو وقد لخّصهما في كتابه: «الفكر الإسلامي نقد واجتهاد» وفيه يعزو تجربة أتاتورك للعلمانية بأنها – وإن كانت تستحق الدراسة، ولها دورها في تطور المجتمع التركي – غير أنها كانت مشوبةٍ بـ«الوعي الساذج» للغرب، وهذا الوعي يصحّ على المنبهر بالغرب، وعلى الخائف منه، إذ بنهاية المطاف كان التفسير السائد للعلمانية مصحوباً بإدراك التفاوت الفظيع بين عالمين مختلفين. والتجربة الكمالية بقيت محفوظةً وموضع امتثالٍ حتى لدى الحزب الإسلامي «العدالة والتنمية» ولن يستطيع الحزب إطلاقاً تجاوز القيم العلمانية بـ«التفسير الأتاتوركي»، ولم يستطع الحزب الإسلامي نقض أسس أتاتورك، علماً أن التفسير الكمالي للعلمانية تفسير يخص أتاتورك نفسه، كما أن التفسير البورقيبي للعلمنة يعتبر تأويله الخاص، وكذا تأويل رفاعة الطهطاوي، إذن فهو ليس مفهوماً ذا تعريفٍ واحد بل يتقلّب ضمن الفضاءات التي يتحرّك بها، فالعلمانية حتى في الدول الأوروبية تتمايز وتختلف طبقاً للتأويل والممارسة الأمبريقية للمفهوم، بحسب تراتبية مؤسسات الدولة، ومزاج المجتمع العام الفارض رأيه في الشارع وصناديق الاقتراع.

 

يقول الأستاذ جمال: «باختصار، في الإسلام من السماحة والمرونة والعصرنة والقدرة على التجديد ما يغني عن البحث عن «آيديولوجيا» أخرى، هذه الفكرة تطرح العلمانية بوصفها نقيضاً للدين، وثانياً بأنها آيديولوجية تحشد وتبرمج وتؤسس، بينما الفضاء العلماني بقدر احترامه للأسس القائمة والهويات وتاريخيتها في المدينة، إلا أنه يقوم بمهمةٍ أساسية لن يستغني عنها حتى المجتمع المتدين ألا وهي ضبط إرادات الأفراد من التداخل، وإيجاد مسافة تحرس المجتمع من وجود حربٍ أهلية رمزية، فالنموذج العلماني الهندي هو الذي حمى المسلمين من الاضطهاد والإبادة والإلغاء، لقد قام بعملية ضبط لحركة الهويات إنقاذاً لها من التدافع ومن سيل الدم ومن جذوات الصراع، ولولا العلمانية في الهند بفضائها الحامي للأقليات والعرقيات من التدافع لحصلت كوارث للمسلمين هناك، قل مثل ذلك عن صراع الطائفتين السنية والشيعية في دول الإسلام المتصاعدة كراهيتها لبعضها بعضاً على امتداد رقعة الإسلام من إندونيسيا إلى المغرب.

 

وصف قريب وسديد من الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه، قاله في كتابه «الدين في الديمقراطية» حين عرّف الواقع الصحي بأنه القائم على «تنسيق الإرادات»، تلك هي المسألة باختصار.

 

من موت المثقف إلى “نهاية الداعية”

من موت المثقف إلى “نهاية الداعية”

العربية نت. 4 سبتمبر 2017

فهد سليمان الشقيران

 

 

 منذ منتصف القرن العشرين والنظريات الكليّة الشاملة ترزح تحت مطارق النقاد، وكان من ضمن ضحايا ذلك النقد والتفكيك جملة المبشرين من الدعاة والمثقفين ورجال الدين، وكان من أبرز طارحي تلك الانتقادات ميشيل فوكو الذي أعلن عن نهاية أو موت المثقف، وانتقد حتى مشروعه الضخم إذ قال: “لم أكتب قط شيئاً إلا أوهاماً”، وجيل دلوز الذي نزّه نفسه عن صفة “المثقف” معتبراً هذا الوصف يعني الثرثرة، والظهور الممل على التلفاز، بينما يفضل وصف الفيلسوف لأنه يبقى مشغولاً طوال الوقت بجزئيات صغيرة، ويعمل على تطوير مفهوم أو تشريح معنى، بينما رولان بارت قال: “إن المثقفين لا يصلحون لشيء”. تلك الموجة انعكست على الفكر العربي من خلال كتاباتٍ تنتقد المثقف من بينها كتاب “نهاية الداعية” لعبدالإله بلقزيز صدر عام 2000، وكتاب علي حرب :”أوهام النخبة أو نقد المثقف” عام 2004، وتلاها العديد من الكتب التي تصب بهذا المجال معلنةً نهاية الدور التبشيري بالمعني الجماهيري للمثقف.

الظاهرة السوشلية فضحت الكثير من الأيقونات الثقافية التي كانت لها هيبة صنعها صمتهم المطبق وحضورهم الموزون من خلال الملاحق الثقافية والمطبوعات الدورية والصحف اليومية، ولكن بعد أن دخلوا أن جهل بعضهم، وزيف آخرين منهم، وتملق عدد منهم للجماهير أو “الفلورز”، فيصبح الطرح ضمن الإلحاح لزيادة أرقام الأتباع، وهذا يكشف عن الزيف الذي يرتكبه الداعية عموماً سواء لبس ربطة العنق أو ارتدى العمة أو امتطى المشلح، كلهم دخلوا في ذات الجلبة الجماهيرية المؤذية التي تحطم القيمة الأساسية للعلم والمعرفة. ولذلك فإن المثقف الجماهيري مصاب بنفس المرض الذي لدى الداعية أو الفنان والنجم، كلهم يقتاتون من ظهور الأتباع، وينصب كل تفكيرهم على إرضاء تلك الجموع.

وظيفة العلم والمعرفة لم تنته إطلاقاً بل ثمة نسّاك معرفةٍ بمكتباتهم تسيل محابرهم عن علم وتوثيق رصين، ولكن المشكلة الأساسية بالمثقف والداعية أنهم أدعياء اكتمال، إذ سرعان ما يبينون للجمع قدرتهم على ابتدار أي سؤالٍ بإجابة، وعلى المنازلة والمناظرة لأي مخالف، فالمثقف الجماهيري مثل الداعية يدعي امتلك الحقيقية الشاملة، ولديه الطاقة على التشدق بإنجازاته، والافتخار بكل الجلبة التي يحدثها حضوره الخاوي على وسائل التواصل الاجتماعي. على ذات السياق أحدث الداعية عمرو خالد ضجةً كبرى، وذلك بعد ظهوره على الفيسبوك وهو يدعو لمتابعيه في صفحته ويخصهم بالإلحاح على الله أن يوفقهم ويستجيب لهم ويحقق لهم أمنياتهم، وأياً كان تكييف هذه الصورة شرعاً غير أن ردة الفعل تكشف عن رغبةٍ من قبل الداعية بإرضاء متابعيه الكثر، أما الأتباع فقد أفصحوا عن تأثرهم الشديد بدعاء الشيخ عمرو، لكن شريحة كبرى أخذت الموضوع بسخريةٍ وتندر.

بعض التحليلات أحالت كثافة النكات على “دعاء الصفحة” لدى عمرو خالد بأن المجتمعات نضجت، لكن الشيخ عمرو لديه ملايين المتابعين والمتّبعين له والمنضوين وراءه، وعليه فإن الإفراط بالحديث عن نضج المجتمعات الإسلامية بعد التعليقات المنددة بالدعاء ليست سليمة، بل إن الجهل الآن ينتشر ويتفشى بالعالم العربي والإسلامي، والاحترام للعلم والمعرفة بتناقص مخيف، والعزوف عن الاطلاع والقراءة لا يكاد يصدقه عقل، وذلك بسبب فشل المثقف، ونهاية الداعية، وظهور وسائل بديلة عن المعرفة، إن تلك الأدوات تحقق نصراً نفسياً للإنسان من خلال منحه قيمةً متوهمةً، حين يضع صورته، أو يكتب بيتاً ركيكاً من الشعر، أو يشطح بفكرةٍ يظنّها جديدة على هذا العالم، وحين تتم إعادة التدوير، أو تغرق الصفحة بأيقونات الإعجاب يشعر بالامتلاء السهل الذي لا يحتاج إلى جهدٍ، إنه امتلاء أجوف.

من الضروري إعلان نهاية وظيفة المثقف التبشيري أياً كان زيّه ومنطقه، واستبداله بصفاتٍ أخرى، ذلك أن الكثير ممن يسمون المثقفين الآن لديهم كوارث معرفية، ووقعوا بمآزق تملق الجماهير، وأحياناً إلى الخنوع الفاضح للأصوليين وجيوش العنف والإرهاب، ولهذا فإن صفة “المثقف-الداعية” استنفذت طاقتها وتجاوزها الزمن، فالإنسان عليه أن يتحرر من الرموز والأيقونات الضارة والمضللة، إنها مرحلة عودة الإنسان إلى ظلّه كما قال يوماً أحد كبار معلني نهاية دور المثقف وهو الفرنسي “جيل دلوز”.