يناير 2014

بوبر: الديمقراطية يجب أن تحفظ ولو بالقوة

بوبر: الديمقراطية يجب أن تحفظ ولو بالقوة

عد الاشتراكية مجرد حلم وأن الحرية أهم من المساواة

فهد سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 18 يناير 2014

 

 

في بيئة منهمكة بالقانون والموسيقى، ولد الفيلسوف كارل بوبر (28 يوليو «تموز» 1902 – 17 سبتمبر «أيلول» 1994). كان والده ريموند دكتورا وأستاذا للقانون في جامعة فيينا، وأمه جيني عاشقة وعازفة للموسيقى.

 البيت المريح الذي ترعرع فيه الفيلسوف أثر فيه؛ مسكن مرصع بجواهر الموسيقى، وعيون الكتب. ولد في فيينا، عاصمة الذوق الموسيقي، أجاد عزف البيانو، كما أجاد الرياضيات والفلسفة والفيزياء، لهذا كان تشذيبه لنظريته فيه حس العازف، إذ سرعان ما يتنقل بين سلالم العلوم باحثا وفاحصا ومعلما وناقدا. ولا يهدئ شخصيته الحادة وأسلوبه النقدي الجاف إلا ما تشربه من فنون على يد أمه وأسرته عموما، إضافة إلى ما استمده من حكمة والده والتدرب على الصبر في المجالات الوعرة التي بحث فيها ونقب طوال حياته التي قاربت القرن.

 

لا تزال الدراسات حول أعماله تصدر، رغم الحديث المستمر عن انتهاء فعالية الكثير من نظرياته، غير أن الفيلسوف المنتج لا يمكن أن يرحل مشروعه أو ينسى، فقد يكون محركا لتشغيل النقد على المستوى السلبي على النحو الذي أحدثه هيغل، إذ لا تزال وظيفة الفلسفة حتى الآن محاولة الإفلات من قبضة هيغل القوية، كما تحدث عن ذلك ميشيل فوكو من قبل. بدأ بوبر مشروعه منطلقا من توضيح وتبسيط بعض التطورات العلمية. وفي دراسة مهمة لـ«روني بوفريس» عن «العقلانية النقدية لدى بوبر»، يقارن وبذكاء بين المشروعين المطروحين من قبل بوبر من جهة وغستون باشلار من جهة أخرى، وفي مقارنته الكثير من الإيضاح لعصب فلسفة بوبر.

 

فبينما يطرح بوبر «مبدأ التكذيب»، يطرح باشلار «فلسفة النفي»، وهما عبر هاتين الآليتين أحدثا رجة في ميادين العلم، وأسهمت أطروحاتهما في تغيير مجالات الانطلاق العلمي وتحدت البداهات المألوفة. لقد اشتركا في الحاسة الارتيابية والشكية والتعبير عن آفاق الاحتمال التي وصل إليها العلم. لقد وجه ضربات وامتحانات للنظريات التي تحمل «قوة تفسيرية»، وخص بالدحض سيغموند فرويد وكارل ماركس وإدلر. ودحضه جماعها «مبدأ التكذيب» الذي ناطح به حتى أينشتاين في «النسبية». خلاصة «مبدأ التكذيب»: «يمكن أن نحصل على تأييدات لأي نظرية، التأييدات لا تعتمد إلا إذا كانت نتاج تنبؤات مخاطرة. كل نظرية علمية هي نوع من المنع، فهي تمنع أشياء معينة أن تحدث، وكلما زاد ما تمنعه النظرية زاد نصيبها من الأصالة. النظرية التي لا تقبل الدحض بأي حدث يمكن تصوره هي نظرية غير علمية، عدم القابلية للدحض ليست مزية لأي نظرية». ببساطة: «محك المنزلة العلمية لأي نظرية من النظريات هو (قابليتها للتكذيب falsifiability)، أو (قابليتها للتنفيذ refutability)، أو(قابليتها للاختبار testability)». من هنا، انتقد نظريات في الاجتماع والتحليل النفسي والفيزياء.

 

في عمله «المجتمع المفتوح وأعدائه»، أعاد النظر في مفاهيم كثيرة أخذت على «شيوعها»؛ مثل الديمقراطية والليبرالية والحرية والمساواة. فهو يعد الاشتراكية مجرد حلم جميل، ذلك أن «الحرية أهم من المساواة، ذلك أن محاولة تحقيق المساواة من شأنها أن تهدد الحرية، وإن الحرية إذا فقدت فلن يتمتع فاقدوها حتى بالمساواة».

 

كان من دعاة «الديمقراطية الليبرالية»، لكنه في نفس الوقت ينتقد الشيوع المبتذل لمفهوم الديمقراطية، يسأل بوبر: «ماذا لو أن الديمقراطية جاءت عبر التصويت والأغلبية بحزب مثل الحزب النازي أو الشيوعي، أو غيرها من الأحزاب التي لا تؤمن بالنظم الحرة وربما أطاح بالديمقراطية بعد أن يقبض على الحكم». ويطرح: «إذا كانت هناك محاولة للإطاحة بالنظم الحرة بالقوة المسلحة، فإن بوسعه دون أي تناقض ذاتي أن يدافع عنها بالقوة المسلحة، فالحق أن هناك مبررا أخلاقيا لاستخدام القوة ما دام هناك نظام قائم يفرض بقاءه بالقوة ما دام الهدف تأسيس النظم الحرة وحين تكون الغاية استبدال الحكم المسلح بحكم العقل والتسامح». ويشير إلى ضرورة حماية الديمقراطية من غير الديمقراطيين، وذلك عبر التمسك بالمؤسسات الحرة والدفاع عنها ضد الأخطار.

 

لم يغادر بوبر الليبرالية في أرضية تحليله رغم ميوله إلى الماركسية لبضعة أشهر، غير أنه ساهم في وضع بصمته الخاصة على هذا المفهوم، فالليبرالية التي تترجم من اللاتينية بـ«الكريم» هي أساس التسامح مع الآخر والاحترام للآخرين، ويرفض أن تكون وظيفة الليبرالية تحقيق السعادة المجردة أو تحقيق السعادة بالوسائل السياسية، بل على الليبراليين العمل على «أن تصبح الحياة أقل خطرا وجورا».

 

من أهم إسهامات بوبر، تأسيسه استقلال عالم أشياء الفكر عن الذات الإنسانية التي أبدعتْها، إذ يخلق الإنسان نظريات وأفكارا لا يمكنها أن تظهر من دونه، لكن ما إن يخلقها حتى يفقد السيطرة عليها، يلاقيها في كثافتها ويصطدم معها، مما يعني قبل كل شيء أنه لا يفهمها، في الواقع يتسامى محتوى فكر جذريا بالفهم الذي لدينا عنه، ما دام له نتائج كثيرة بشكل لا نهائي. هكذا رأى بوبر.

 

رحل بوبر بعد مشوار حافل بالسجال والصدام والإبداع، وهو الذي كتب: «مع بزوغ العقل، وظهور النظريات، تغير أسلوب الانتخاب الطبيعي، وتبدلت عدة الصراع من أجل البقاء، صار بوسعنا أن نترك نظرياتنا تتصارع نيابة عنا».

  

يحرسون القبلية.. ويطالبون بالديمقراطية!

 

يحرسون القبلية.. ويطالبون بالديمقراطية!

فهد بن سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 12 يناير 2014

 

ربما كان الحديث عن الحالة «القبلية» في الخليج أمرا مهما في ظل تنامي وتناسل الفضائيات والمواقع والحسابات والمقاطع والمهرجانات التي تغذي هذه الحالة، وهي حالة تدل على حالة غير سوية في حال تجاوزت العلاقة بالقبيلة حدود الانتماء، وصولا إلى نزع الانتماء المركزي للبلد هوية وللإنسانية حضاريا وللتساوي البشري أخلاقيا. حينها تكون مشكلة القبلية كارثية وترتد على النسيج الاجتماعي بمجمله مصدعة ومفرقة وزارعة للأحقاد والضغائن.

 

تدل حالات الهوس بالانتماء القبلي على عطب في الانتماء الكلي للكيان الوطني، ذلك أن القبيلة أو العائلة هي ضمن نسيج المجتمع وألوانه وأطيافه، فالوطن هو المركز والقبائل والانتماءات تدور في فلكه، وتضع انتماءها البيولوجي جزءا من الانتماء الأساسي لمعنى «الوطن» بمفهومه المدني الصارم.

 

خلال السنوات الأخيرة، تصاعد الحديث عن القبليّة. ثمة ظواهر اجتماعية كبرى تدل على أن التنقيب عن أخبار القبيلة وأمجادها، وتميّزها وحروبها وثاراتها تهيمن على كثيرين. مع الأزمات تشتعل حاسة الرغبة بالانتماءات، ذلك أن ضعف الوعي بالمعاني الوطنية إنما تعزز من مستوى اللجوء إلى كتب القبيلة وأخبارها وإلى مهرجانات التنافس، التي تصل إلى التنابز أحيانا. والعجب أن الكيانات الإعلامية التي تغذي هذا الشعور لها جماهير غفيرة؛ إن على القنوات الفضائية أو بوسائل التواصل الاجتماعي على الإنترنت. وكلما اشتدت التحديات التي ترى في الأخبار اليومية، اشتدت الحاجة إلى اللجوء نحو القبيلة بأي شكل كان.

 

وظيفة الدول أساسا أن توحِّد الكيانات والولاءات ضمن «العقد الاجتماعي»، ذلك أن تعدد الولاءات والتحالفات والتجمعات تتحدى السلطة المركزية للدولة، التي يجب أن تكون هي الكيان الذي يُنتمى إليه، والمجال الذي يحال إليه الولاء والجهة التي تكون دائما موضع التحالف حدّ الذوبان فيها، فهي الضمانة التي تؤسس للتنمية والحماية. الدولة تحتكر العنف من أجل حماية الكل، ويجب أن تحتكر الولاء أيضا خارج سياق الانتماءات القبلية أو سواها. كل انتماء جزئي أو تحالف جزئي هو تحدّ صارخ لكيان الدولة ولمعاني المواطَنة.

 

ومن هنا، أجدني أختلف مع الدكتور عبد الله الغذامي الذي عدّ الأنشطة المغذية للقبلية ذوقا، يجب أن يحترم مثله مثل الانتماءات الرياضية، غير أن هذا الرأي فيه خلط وتهوين، فأما الخلط فإن الأندية الرياضية إن لم تعزز الانتماء فإنها لا تسهم في تفتيته. وأما التهوين فإن مظاهر الانتماءات القبلية تؤسس لحالات انفصالية عن الانتماء الكلي للدولة بكل تفاصيلها. الانفصال في الانتماء ليس ذوقا، وإنما هو عرض مرض اجتماعي خطير.

 

الأمر الأهم أن من يدعو إلى الديمقراطية من الصعب أن يؤيد القبلية، بدليل أن القبليّة حضرت في الانتخابات بالخليج، سواء في الانتخابات البلدية والجزئية، أو في الانتخابات البرلمانية، على النحو الذي يحدث في الكويت، والملاسنات باسم القبيلة تحضر في أنشطة «ديمقراطية»، وبما أن الديمقراطية «تحرس ما هو قائم»، فإن تطبيقها في بيئة قبلية، إنما يحولها إلى ماكينة تكرر الأمراض القبلية وتنعشها وتجعل الأجواء الديمقراطية كلها مسممة، لدرجة تجعل من الديمقراطية ذاتها عبارة عن سياج يحرس أمراض القبائلية. فكيف لمن يدعو إلى الديمقراطية أن يطبّع مع حالة القبائلية؟!

 

لم تكن القبلية حليفة للديمقراطية، ولئن كانت جزءا من النسيج الذي تأسس عليه المجتمع، ولئن كانت في البدء أساسا في التحالف مع مؤسسي البلدان بغية تأسيس الدولة، فإن تجاوز تلك الحالة الانتمائية حد الانفصال بات ضرورة. والوعي بضرورة تأسيس هذا التحول لا يمكن أن يأتي في ظلّ تأييد نخب لمثل تلك الأمراض، وهو تأييد يحتاج نقده والتوسع في حججه وفي ارتباطاته النظرية إلى بحوث ودراسات كاملة. بآخر المطاف، الدولة تحتاج إلى فرد مستقل، له كينونته الوجودية الذاتية، بتعليمه وقوته وأخلاقه، ولا تحتاج إلى جموع ضاغطة تمحو الفرد ضمن نسيجها وتطمسه، ليكون ترسا في آلة يُحرّك من قبل شيخ القبيلة وينتظم بنظامه، من دون أن يعي حريته ومساحته التي تمنحها له الدولة، ومن دون أن يعي استقلاليته الذاتية بوجه القانون والنظام، هذا ما يؤسس للدولة المدنية الحديثة في الخليج.

  

نيتشه.. الرقص «معرفة مرحة»!

نيتشه.. الرقص «معرفة مرحة»

اعتبر الحياة نضالا من أجل الأذواق والألوان

فهد سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 4 يناير 2014

 

 

 

يعتبر فريدريك نيتشه «15 أكتوبر (تشرين الأول) 1844 – 25 أغسطس (آب) 1900» المنعطف الأساسي للفلسفة في العصر الحديث، ذلك أن المفاهيم التي نحتها، والصيغ التي طرحها، والأرض التي حرثها بمطرقة (الجينالوجيا) كانت مدوّية. ورغم التجاهل الذي عانى منه في حياته، غير أن ما فعله فلسفيا لا يزال فعّالا في مدارس الفلسفة ومناهجها حتى الآن. منذ (التقويض) الهيدغري، ومن ثم فلسفات (الاختلاف) والمفاهيم المرتبطة بفلسفات الحداثة البعدية، ومن التفكيك إلى الأركيولوجيا، وصولا إلى دقائق التفصيل ونضج مفهوم «التجاوز» في القرن العشرين.

 

تشعّبت تداخلات نصوص نيتشه، بين علم النفس، والشعر، والموسيقى، والجمال، والأخلاق، والفلسفة اليونانية، وفلسفات عصره، وفقه اللغة (الفيللوجيا) الذي اعتنى به مبكّرا، حتى تدخّلت النص النيتشوي في التأثير على الرياضة والفنون والسينما، والموسيقى.

 

في هذه المساحة سأتناول – فقط – جزئية من الرؤية الفنيّة النيتشوية، وتحديدا فلسفة (الرقص) التي تناولها بمؤلفاته، وأهمها كتابه الأساسي (هكذا تكلم زرادشت).

 

تقوم فلسفة نيتشه على تغليب الجسد ليكون مركزا في تفاعل الإنسان مع وجوده، وهو يعتبر معاني الجسد يجب أن تعبّر عن القوة والصحة والسلامة. ارتبطت فلسفته بالجسد وإنصافه، وكان أن طرح مفهوم الرقص ليعبر عن «الإنسان القوي» وعن «معرفة الوجود المرحة» والتي نادى بها زرادشت. ولأن «زرادشت» هو (الإنسان الأعلى) والمعبر عنها في فلسفة نيتشه – كما يقول هيدغر في دراسته التي تصنّف على أنها الأهم حول فلسفة نيتشه، تليها دراسة جيل دلوز عن نيتشه – ولأن زرادشت كذلك فقد نادى من الأعالي من الجبال: «إن الجسد السليم، يتكلم بكل إخلاصٍ وبكل صفاء، فهو كالدعامة المربعة من الرأس حتى القدم، وليس بيانه إلا إفصاحا عن معنى الأرض. ما الجسد إلا مجموعة آلات مؤتلفة للعقل. إن ما يجب أن أومن به يجب أن يكون راقصا».

 

الرقص لديه هو عنفوان الإنسان، والتحدي لرتابة إيقاع الوجود. الرقص تنويع على إيقاع الوجود وتجاوز له، ذلك أن الإنسان يجب أن يهيمن على الغابات وعلى الجبال وأن يصطاد فرائسه بالنسور، وأن يلعب الأفعى بيده، وأن يبحث عن الخطر ليلجه. الرقص منذر بالخطر، ذلك أن الأقدام الرشيقة التي ترقص، هي الأقدام التي تجرّ الجيش، وتقرع طبول الحرب.

 

 

يمر زرادشت بالغابة، ومعه صحبه، وهو يفتش عن ينبوعٍ بين الأشجار والأدغال، وكان هناك رهط من الصبايا يرقصن بعيدا عن أعين الرقباء، وإذا لمحْن القادم توقفن عن الرقص، ولكن زرادشت اقترب منهن قائلا: «داومن على رقصكنّ، أيتها الآنسات الجميلات، فما القادم بمزعجٍ للفرحين، وما هو بعدو الصبايا. فهل يسعني أن أكون عدوا، لما فيكنّ من بهاءٍ ورشاقة وخفة روح. وهل لي أن أكون عدوا للرقص الذي ترسمه هذه الأقدام الضوامر الرشيقات؟».

 

الرقص التعبير الناصع عن قوة الإرادة، وعن «العود الأبدي» المفهوم النيتشوي العتيد. يهتف: «ما أنا بالمعبر عن أسمى المعاني بالرموز، إلا عندما أدور راقصا، لذلك عجزت أعضائي عن رسم أروع الرموز بحركاتها. وطمحت يوما إلى الرقص متعاليا بفنّي إلى ما وراء السبع الطباق». ينطلق نيتشه في فلسفة الرقص إلى مفهوم الإرادة الرئيسي لديه الذي يؤكد على أن: «لا إرادة إلا حيث تتجلى الحياة».

 

الحياة شرط للإرادة، وهو بهذا يتجاوز «تشاؤمية» شبنهور التي تضرب عن الوجود وتعتبره خطأ وتنظر إليه بالرؤية «الآسيانية» وهي رؤية تأثر بها نيتشه في شبابه غير أنه سرعان ما تجاوزها بنظرية «إرادة القوة» والإرادة لا توجد من دون حياة، والمعرفة شرطها أن تكون «فرحة».

 

في مجمل تحليلات نيتشه في الفنون والموسيقى الكلاسيكية وللرقص يربطها بالجسدانية، وبالإرادة، ذلك أن: «الحياة بأسرها هي نضال من أجل الأذواق والألوان، فويلٌ لكل حي يريد أن يعيش دون نضالٍ من أجل الموزونات والموازين والوازنين». الذوق والألوان والمسائل الفنية جزء من إرادة الإنسان الحي، وهي التي تميّز الإنسان الأعلى عن الإنسان الأدنى.

 

بالتعبير الجسدي الراقص تتجلى الأنانيّة الواضحة بوصفها «الفضيلة» في الرؤية النيتشوية. يكتب عن هذا: «ما الجسم المرن الذي ينطوي على قوة الإقناع إلا كالراقص الذي يرمز بحركاته عن مسرة نفسه، وهل المرح الأناني في مثل هذه الأرواح والأجساد إلا الفضيلة بعينها». تتجاوز رمزية الرقص وتعابيرها موضوع الإرادة لتصل إلى الأنانية الذاتية، والرقص في الظلمة تضيء الحكمة، إذ تبدو وامضة كأشباح الليل. ما يريده نيتشه من الإنسان: «من الرجل والمرأة أن يكونا أهلا للكفاح، وأن تكون المرأة أهلا للولادة، وأن يكونا أهلا للرقص». ثم يهتف: «لنعدّ كل يومٍ يمر بنا من دون أن نرقص فيه ولو مرة واحدة يوما مفقودا، ولنعتبر كل حقيقة لا تستدعي ولو قهقهة ضحكٍ بيانا باطلا».

 

لم تنفصل رؤية نيتشه في الرقص عن الخيوط الأساسية التي تنتظم فلسفته المتشعّبة على طريقة «الدروب المتعددة»، فلسفة نيتشه تنتظم من خلال فوضاها، جامعها «المطرقة» التي يحرث بها الأرض اليباب. كتب عن نفسه: «أعرف قدري، ذات يومٍ سيقترن اسمي بذكرى شيءٍ هائل، رهيب، بأزمة لم يعرف لها مثيل على وجه الأرض، أعمق رجة في الوعي، فأنا لستُ إنسانا بل عبوة ديناميت».