فبراير 2012

رمزية «الهزائم» الرياضية

رمزية «الهزائم» الرياضية
جريدة الحياة الإثنين, 12 سبتمبر 2011
فهد سليمان الشقيران
للتقنية وظائفها التي تمس علاقة الإنسان بالوجود والأشياء. من بين التحولات التي قادتْها التقنية تحويل الوسائل إلى غايات. الرياضة كانت مجرد وسيلةً للتريّض وتطهير الجسد من سموم الركود، وجد الإنسان منذ البدء في السباحة والركض والعمل الجسدي؛ الراحة الذاتية والشعور بالتأنق. لكن الرياضة اليوم صارت غاية بحد ذاتها، وتحديداً بعد أن صارت الأندية مؤسسات قائمةً بذاتها. في أوروبا يعبر النادي عن ذاته بصفته مؤسسة مستقلة له تجاراته وأعماله وامبراطوريته التجارية، وله أعماله الخيرية ومواقفه الإنسانية. والصورة النمطية عن الرياضة التي كانت سائدة تغيرت اليوم مع تحول الحركة الرياضية إلى سوق ذات تفرعاتٍ لا تحصى. صارت الرياضة وسيلة بالنسبة للفرد حين يتريّض، لكن المباريات الجميلة باتت غاية بحد ذاتها.
حين يحدد الإنسان وقتاً لمتابعة مباراةٍ رياضية، ويتسمّر أمام الشاشة متابعاً فريقه المفضّل فإنه يشعر بالمتعة. الرياضة بالنسبة للمتفرج غايتها تنتهي بانتهاء المباراة. أن يجد صوراً ممتعة، وأن يعثر على أشكالٍ فنيّة يقدمها اللاعب. الصورة الرياضية هي الغاية. وضعت المؤسسات الإعلامية قنوات رياضية، تقدم ثمناً مادياً لمشاهدة المباراة، والفرد يقوم بإجراء من خلال شراء بطاقة تمكنك من متابعة المباراة.
إن اطلاع المجتمعات العربية على الرياضة الأوروبية كان يمكن أن يشكّل نقلةً اجتماعية شاملة لتغيير الرؤية النمطية عن الرياضة المحلية، ذلك أن الفرق بين المتعة البصرية بين مشاهدة مباراةٍ أوروبية مليئة بالصور الفنية والجماليات العبقرية وبين مباراةٍ محليةٍ فقيرة جمالياً مثل المسافة بين فيلم أميركي حائز على أوسكار وبين فيلمٍ محلي لا يتوافر على أبجديات العمل الفني والإبداعي والجمالي.
الاحتكاك بالرياضة غيّر فكرة زرعت خطأً من خلال المؤسسات التعليمية والخطابات الجامدة عن التميّز المحلي المطلق في كل شيء، ولا تزال الصدمات التي تسببها حالات الاطلاع على التطور النوعي الموجود لدى الغرب يضيف إلى الصدمة صدمات، وإلى الكدمة كدمات. الرياضة تعبير أمين عن البيئة التي نشأ فيها النادي كمؤسسة رياضية وعن المستوى الذهني وعن مستوى نشاط أدوات القدرة على الخلْق الجمالي بالنسبة للرياضي. الرياضة مجال خصب من مجالات نثر الجمال حين تكون البيئة التي نشأت بها الرياضة صالحة ومشجعة على المستويات الإدارية والثقافية والذوقية والجمالية، أما أن يريد أحدهم التغلب على النمط الجمالي الأوروبي في الرياضة من دون نبش في العوائق التي تشكلها البيئة الاجتماعية بكل حمولتها الثقافية والدينية والأدبية فإن تلك الإرادة ليست سوى حلم بائس مستحيل التحقق.
(رولان بارت)
الرياضة لم تكن خارج نطاق البحث الفلسفي؛ يشير عبدالسلام بنعبدالعالي إلى إسهام «رولان بارت» في البحث عن «سيميولوجيا الحياة اليومية»؛ يقول: «بيّن بارت الذي كتب ذات مرة «أن للامعنى هو مكان الدلالة الحق» أن توليد المعاني في المجتمعات يمكن رصده من خلال تحليل آليات الإشهار ومباريات الرياضة وخطاب الموضة ودليل السياحة، ولعب الأطفال، ومواد الغسيل ومائدة الطعام، وبكلمةٍ واحدة من خلال سيميولوجيا الحياة اليومية… الرياضة والملبس والمطبخ والأدب واللعب والجنازة والأغنية، هذه كلها مجالات إنتاج المعاني، وفيها يعمل الاجتماعي والسياسي».
إن المجال الرياضي ليس مجالاً خارج التأثّر بالأزمات الاجتماعية والثقافية التي يعاني منها أي مجتمع؛ لهذا فإن السؤال الدائم عن سبب الهزائم مع وفرة المال لدى هذا النادي أو ذلك المنتخب لا يمكن أن يجاب عنه بسهولة؛ هناك إرث ثقيل في عروق المؤسسات الرياضية وفي ذهن اللاعب وفي مخياله، وفي فحوى الفهم للمعنى الرياضي الذي يؤديه، لا يمكن لأيّ مجالٍ أن ينثر الجمال في بيئة ترفض الجمال وتقصيه، حين تكون الرياضة فائقة الجمال في ثرائها البصري فإنها تكون الغاية الجمالية التي يبحث عنها من يهوى الفنون والجمال والجُمل الحيوية التي تؤدى بإتقان فني حتى وإن كان المجال رياضياً.

زلازل الغضب … وأوهام السياق العالمي

زلازل الغضب … وأوهام السياق العالمي
جريدة الحياة 30 يناير 2012
فهد سليمان الشقيران
مستوى الزلزلة التي طرحته الأحداث العربية الحالية وزّعت التحليلات، بين من يربط الاحتجاجات الحاليّة بالاقتصاد، وآخر بالعولمة، وثالث بالتغييرات الدولية و”الشرق الأوسط الجديد” إلا ما لانهاية. لكن إذا أردنا أن نأخذ الأحداث بصيغها الفكرية، أو أن نحاسبها طبقاً للنماذج المفهومية التي تطرح، فإننا سنضطر للرجوع إلى المفاهيم الفلسفية والمعنى الجوهري للشعارات المطروحة المأخوذة من سياقات فكرية واجتماعية نمت براعمها على أرض الفلسفة الخصبة.
إنها حالة احتجاجية لكنها ليست ضمن سياق الثورات الأوروبية بالمعنيين العملي أو العلمي، لايكفي-كما تشير حنة أرندت- أن ندوّر الشعارات التي استخدمت في ثورةٍ سابقةٍ لتتطابق مع حدثٍ جاء بعدها. الغريب أن السيد يسين في مقالته المعنونة بـ:”ثورات الشباب في السياق العالمي” يربط بين احتجاجات الشباب في العالم العربي وبين “ما بعد الحداثة والعولمة” حيث يقول:” يمكننا أن نقرر أن ثورة 25 يناير على رغم سماتها الفارقة إذا ما قورنت بالحركات الاحتجاجية والمظاهرات الشبابية في الستينيات وما بعدها، تعد في الواقع امتداداً لظاهرة التمرد الشبابي على السلطة بكل أنواعها، وعلى الجمود البيروقراطي، وعلى القهر السياسي، وعلى رؤى العالم التقليدية.إنها في حقيقة الأمر تعبير عن روح “ما بعد الحداثة”، وهي جوهر عملية العولمة التي غيرت أنساق القيم التقليدية، وقلبت موازين المجتمعات المعاصرة”.
(حنة أرندت)
السيد يسين رغم اطلاعه وسعة علمه، غير أنه يستخدم “وهم التطابق” المرفوض في فلسفات مابعد الحداثة أو “فلسفات الاختلاف” للبرهنة على التطابق بين ثورتين، لينطلق من بعدها إلى عزو “الثورات العربية” إلى “روح ما بعد الحداثة” التي لم تبلغ “الذروة” إلا في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، كما في تحليل “أليكس كالينيكوس”. ثم يتحدث عن “روح ما بعد الحداثة” ساحباً المصطلح الفيبري “روح الرأسمالية” ولم يوضّح يسين معنى الروح التي يقصدها في “ما بعد الحداثة” التي قامت أساساً على تفكيك النماذج المغلقة، وتفتيت المفاهيم الواحدية، ومقاومة سلطة المراجع، وإعادة الاعتبار لظلّ العقل في البحث والتحليل والتركيب.
ثم إن فلسفات مابعد الحداثة-والتي تجمعها مشتركات قليلة بطبيعة الحال- ليست ذات بعدٍ ثوري، بل هي أمصال ضد الأيديولوجيات الثورية، فإحالة ثوراتٍ أو احتجاجات واسعةٍ على فلسفاتٍ ليس من ضمن فضائها الحركة لتغيير الواقع أو العالم يعدّ تهوراً معرفياً، بل هو تسرّع تحليلي دافعه العاطفة، أو ربما الخلط الذي يبدو واضحاً في بعض سطور المقالة بين:”العولمة” و “ما بعد الحداثة” كما يخلط البعض بين “الليبرالية الجديدة” و “ما بعد الحداثة“.
ثم إن الصدمات التي سببتْها فلسفات الحداثة البعدية بسبب تشظّيها واستعصائها على القبض والنمذجة والتعريف جعلت من الظواهر السريعة أو المفاجئة، أو السلوكيات الغرائبية ضمن تلك الفلسفات من دون وجود أي مبرر معرفي، كما كانت الوجودية من قبل بصرعاتها التي زحفت وأثّرت على السلوك تسطّح أحياناً بأن يحال عليها أي سلوكٍ شاذ أو أي صرعةٍ جديدة غريبة.
ثإن مقولة يسين المقتبسة من مقالته فيها “تقرير” كما يستخدم عبارة “امتداد” ولم يشر هل هو امتداد سوسيولوجي؟ وبطبيعة الحال هذا ممتنع بدافع الفارق الجغرافي والثقافي، إلى أن يستخدم جملة:”جوهر العولمة” بعد أن وضع لـ”مابعد الحداثة” روحاً هي “الاحتجاج” وهذا ما لم يشرحه أو يوضحه خاصةً وأنه يتعاطى مع مفاهيم علمية!
نموذج مقالة السيد يسين جزء من فضاء تحليلي يعيش الخضّة حتى الآن، بين التخبّط المفهومي في التحليل، وبين زلزال الأحداث … ضاعت الرؤية المتماسكة لتثمر عن تحليلاتٍ تحيل أي فوضى إلى “مابعد الحداثة” على اعتبار وجود التشظّي النقدي، لكنها بالمحصلة الفلسفية أبعد ما تكون عن الأيديولوجيات والنزعات الثورية، وهذا يحتاج إلى كتابات أخرى موسعة.

سحر السينما ودهشة الفلسفة

سحر السينما ودهشة الفلسفة
جريدة الحياة 23 يناير 2012
فهد سليمان الشقيران
العلاقة بين الفلسفة وبين السينما علاقة بين مجالين، أولهما نخبويّ، والآخر موغل بشعبيته. لم تكن الفنون بمنأى عن مشارط الفلسفة التي تختبر الفنون عبر استفزازها للمفاهيم المستخدمة داخل المجال الفني، سواء كان الفن تشكيلياً أو موسيقياً أو سينمائياً. الفلسفة لا تتدخل بتوجيه السينما وإنما تحاول أن تختبر مفاهيمها عبرها. يشكل البطل أحياناً مفهوماً فلسفياً، كما جسّده نيكوس كازانتزاكس  بروايته “زوربا” الحيوية التي أرادها أستاذه برغسون، ومن ثمّ لتتحول الرواية إلى فيلمٍ يمثّل دور زوربا فيه “أنطوني كوين” سنة 1964.
الفلسفة تختبر أفكارها عبر التجسيد البصري أحياناً للظاهرة أو المفهوم. بعض الأفلام غارقة بمفاهيم فلسفية وجودية، وأحياناً عدمية، وصولاً إلى مناقشتها لمفاهيم السعادة، أو الاقتصاد، بل وفحصها لمسائل اقتصادية وسياسية، لكن بطريقةٍ غير مباشرة وغير علمية، إذ السينما ليست مجالاً معرفياً بل مجرد فضاء فني قد تأتي الرسالة عرضيةً من دون تخطيط أو تدبير. والعلاقة بين السينما والفلسفة هي جزء من علاقة السينما بالإنسان، لأن الفلسفة مع كانط-كما يؤرخ فوكو- دخلت إلى مناقشة الإنسان وعلاقاته بالأشياء وصلته بالواقع وكل ما يدور في فلكه. لم تعد الفلسفات المعنيّة بـ”الميتافيزيقيا” هي المهيمنة الأساسية على الموضوعات الفلسفية، بل جاء الإنسان بحمولته الذاتية ليكون موضوعاً لها. الشخصيات السينمائية تحمل في جوفها المضامين الفلسفية، وهذا هو جوهر الارتباط والتأثير المتبادل بين الفلسفة والسينما.
نشرت وسائل الإعلام قبل أيام جدلاً في المغرب، بسبب تولي المفكر والفيلسوف الفرنسي الشهير إدغار موران رئاسة لجنة تحكيم الفيلم الطويل في الدورة 13 من المهرجان الوطني للفيلم، البعض عارض هذا التداخل، أن يحكّم أحد أهم الفلاسفة المعاصرين الأفلام السينمائية ضمن لجنة تحكيم. لكن إذا أخذنا المجال الذي تتحرك فيه أبحاث موران والمرتبطة بـ:” بحث العلاقة بين نتائج علم البيولوجيا وانعكاساتها على تصور الإنسان لذاته ومجتمعه وموقعه داخل هذا الكون” تتبدد وجوه الغرابة، ثم إن التحكيم لن يكون سينمائياً بمعنى أن يحكّم موران مستويات الإخراج على سبيل المثال، فحضوره كما يقول أحد القائمين على المهرجان مجرد حضور فكري، فتقييمه نابع من اختصاصه ومجاله.
سحرت السينما الفلاسفة بمختلف منطلقاتهم، اهتموا بسحرها وبالعلامات التي تنثرها. “فاتيمو” و “جاك دريدا” أحبّا هذا الفنّ وسعيا إليه بحثاً وتنقيباً، كما أن برغسون وميشيل فوكو كذلك اهتمّا بشكلٍ أوضح بشرائط السينما البصرية الآسرة، لكن أولئك لم يصلوا إلى الاهتمام المعرفي المفهومي بالسينما كموضوع للدرس الفلسفي ضمن الآليات خارقة على النحو الذي فعله الفيلسوف الفرنسي جيل دلوز في كتابيه:”الصورة حركة-الصورة زمناً” و”سينما1 سينما2″ وقد قام “فليب مانغ” بدراسة على دراسات دلوز، يكتب مانغ:”دلوز هو الفيلسوف الأقدر على إيجاد فلسفة لجمالية الفن السينمائي فجميع كتبه تهجس بهذا الانشغال، وعلامة السينما ظلت حاضرة بشكل أو بآخر في تآليفه الفلسفية”.
يعتبر دلوز في رؤيته الفلسفية عن السينما أن “العلامة” التي ترمش بها الصورة السينمائية ليست بالضروة أن تكون دالةً، وذلك لسبب أساسي مفاده أن العلامة السينمائية تختلف عن العلامة اللسانية. وإذا كان أفلاطون قد اعتبر الصور “مستعصية على الإمساك بها من قبل الأفكار” فإن جيل دلوز رأى في السطوح مجالاً للبحث وميداناً لاستقصاء الأفكار، ودلوز يتفق دوماً مع جملة لبول فاليري يقول فيها: “إن سطح الجلد هو العمق الغائر الذي لا يضاهيه عمق آخر”.
جدل موران ولجنة التحكيم أعادتنا لإشعال شرارةٍ عن العلاقة الغامضة والمتداخلة بين المجالين، فالأفلام العظيمة تنبض بالمفاهيم، وعلى حد تعبير دلوز فإن:”المفاهيم التي تلحق بخصوصية السينما هي من أمر الفلسفة”. أتمنى أن يتداخل موران مع نقاده مجيباً على سؤالٍ حيوي: هل يمكن للفيلسوف أن يكون “حكَماً” متجاوزاً وظيفة الأساسية المتمثلة بالقراءة والنقد؟!

خيال الإنسان … وحصار الصحراء

خيال الإنسان … وحصار الصحراء
جريدة الحياة 5 ديسمبر 2011
فهد سليمان الشقيران
يعيش الإنسان حياته وهو يكشف عن الرموز، فالإنسان يرمز في حركته لتفاصيل تسكنه، من خيالٍ وثقافةٍ وأحلام. للمكان مضمونه الذاتي الذي نرسمه عليه نحنُ. الفيلسوف الفرنسي:”غستون باشلار” أعادنا إلى رمزية المكان وشاعريته، في كتابه:”جماليات المكان” ذلك أن للمكان طاقته الرمزية المؤثرة على صيغ الرؤية وعلى الحلم، كما يؤثر على ممارسة الوجود وعيش الحياة على النحو الذي نعيشه.يكتب باشلار:”المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكاناً لا مبالياً، ذا أبعادٍ هندسيةٍ وحسب، فهو مكانٌ قد عاش فيه بشرٌ ليس بشكلٍ موضوعي فقط، بل بكل ما في اللخيال من تحيّز، إننا ننجذب نحوه لأنه يكثّف الوجود في حدودٍ تتسم بالحماية”. 
أخذت المجتمعات أخلاقيات المكان والتضاريس. للمكان تدخلاته الرمزية في الصراعات والتحريض عليها، فالأرض هي الذات بوجهٍ آخر. المكان حيث الموارد، والموروث التاريخي، والقبور، والأماكن التي ورّثت للناس، يضغط المكان على الناس، ويحضر بمضمونه مؤثراً على أشعارهم وأدبهم وعلى خيالهم، ليرسم أطر القيم التي تحركهم. وفي هذا يكتب باشلار:”إن مكان الكراهية والصراع، لا يمكن دراسته إلا في سياق الموضوعات الملتهبة انفعالياً والصور الكابوسية”. المكان يعيش بالناس، كما أن الناس يعيشون فيه، والحركة الاجتماعية لا تتعامل مع المكان بشكلٍ آلي، بل يطبع المكان بصماته على أفعال الناس ويؤثر على المعنى الوجودي الذي يتخيلونه، لأن الرموز الكبرى كلها يحملها المكان.
في فيلم:” Black Gold” والذي يعرض حالياً في السينما طرُحت قصةٌ متخيّلة، حول صراع بين مملكتين خياليتين، في صحراءٍ عربية، تندلع بينهما حرب شديدة بسبب البترول، ضغط الشريط البصري على المشاهد ليعرض رمزية مأساوية لذلك المجتمع الذي يصارع الصحراء.الشقاء الذي أثّر على التعاطي الاجتماعي كان متصلاً بالمكان الشحيح، حيث يحلبون الأرض طولاً وعرضاً بحثاً عن قطرة ماء. الفيلم، من بطولة: “أنطونيو بانديراس” والممثل الجزائري “طاهر رحيم، و الممثلة الهندية “فريدا بنتو” يمكن قراءته برموزه الكثيفة العميقة، ويمكن التلذذ بالقفشات الحاضرة في كثيرٍ من المشاهد. لكن بطولة الفيلم الحقيقية كانت للصحراء المهيبة التي كان لتصوير صراع الإنسان معها دلالة بليغة ومؤلمة.
وإذا كان الروائي والباحث إبراهيم الكوني يرى في الصحراء:”قطباً قيمياً يجذب كل قيم الخير، وأنها وليست مجرد حيز جغرافي ممتد، ومهمل، وخال، وإنما مكتنز بالمثل و القيم الرسالية”. فإن في الصحراء مضامين تشبه سكانها، تغرقهم بالقيم التي ينتجها المكان المتصحّر الذي يبخّر الخيال، ويقهر الأحلام. في الفيلم يدخل “عودة” على زوجته، وحين تراه تشير إلى النافذة في بيت “الحريم” وتصفها بأنها:”الثقب الذي نطلّ من خلاله إلى عالمٍ لا يتغيّر”. إن المكان الذي لا يثري الحلم، ولا يحمل إلا مضامين المرور السريع على الحياة يضع قاطنيه كلهم على شفا قبرٍ كئيب.
في الفيلم حضرتْ مضامين كثيرة لتلك المملكتين الصحراويتين من بينها:”الدين، القبيلة، الكافر، الحجاب، العبودية، عزل المرأة، المهدي”، والفضاء الذي يمكن للصحراء أن تجود به على الخيال بوصفه طاقة إثراء الحياة لا يمكن أن يحمل الناس على إثراء المكان. الأمكنة فضاء كينونتا نحنُ، وهي التاريخ المفتوح يومياً أمامنا، وهي ترسمنا كما نرسمها، والمجتمعات التي لا تجدد في مخيلتها لن تجدد أمكنتها، والصحراء تحصر الخيال بتحدياتها اليومية.
للشريط السينمائي بوحه الذي يشبه الأنين، إذ يذهب بك من خلال مشهدٍ باذخ، أو موسيقى مفاجئة، إلى قراءتك الذاتية للمعنى الذي يرمز إليه، أن نقرأ مضمونه الذي نراه فيه، حتى وإن لم يقصد الفيلم إفهامنا المعنى على النحو الذي فهمناه، ذلك أن الفيلم “الفيلم لا يفكّر به بل يُدرك” كما يعبر “ميرلوبونتي”.

المقاهي … والحياة الثقافية

المقاهي … والحياة الثقافية
جريدة الحياة 16 مايو 2011
فهد بن سليمان الشقيران
ارتبط المقهى تاريخياً بإنتاج العلوم الإنسانية، كما ارتبط ببث روح الجمال وبإنتاج الفنون بمختلف ألوانها. يؤرخ الدكتور عبد الرحمن بدوي لبدايته بالقرن السادس عشر، حيث كان الأدباء والفنانون في فرنسا يجتمعون بها للحوار والنقاش، يتحدثون مرةً في الشؤون العامة وأخرى في الأدب والفن والفلسفة والعلوم، ويجدون في المقهى الملاذ الآمن والمُبهج لشرح آرائهم واختبار نظرياتهم وعرض إبداعاتهم، فهو فرصة لتوطيد العلاقة بالمعرفة. كما أنه فرصة لمخالطة الناس وذلك لغرض استيحاء موضوعات كتابية أو أشكال إبداعية أو إجراء اختبارات للنظريات والفلسفات، وربما كان من أشهر المقاهي الفرنسية المرتبطة بالأدب والفن، -حسب عبد الرحمن بدوي- هما مقهى “بروكوب” ومقهى “الوصاية“.
 ومقهى الوصاية هذا اشتهر لما أن أخذ منه (ديدرو) إطاراً لأقصوصةٍ تهكمية ألفها بعنوان (ابن أخي رامو) وذلك في سنة 1774 والتي هي عبارة عن حوار لاذع بين الفيلسوف (ديدرو) وبين بوهيمي ساخر هو جان فرانسو رامو، والحوار جرى داخل مقهى (الوصاية) وكان ممن يغشاه شامفور، وروسو، وفولتير، وجرم.وبعد أن حلّت “الندوات الأدبية” محل المقاهي الأدبية، في عهد الدومينيك الفرنسيين، عادت إلى المقاهي الأدبية الحركة والازدهار على يد الشعراء الرمزيين، واتخذوا من مقهى”فولتير” مقراً لهم ثم جاء بول فور فاتخذ من مقهىً بجادة (مونبرناس) منتدى أدبياً يعقد جلساته الدورية والمستمرة فيه.
أما مقهى (بروكوب) الذي أنشيء حوالي سنة 1700 أصبح في الثلث الثاني من القرن الثامن عشر أشهر مقهى أدبي وسياسي على الإطلاق، وكان كان يتردد عليه فولتير واختص بمنضدة صار المقهى يحتفظ بها حتى بعد وفاة فولتير سنة 1778. كما كان يتردد على المقهى: ديدرو، ودالمبير، وبوفون، وجان جاك روسو، أما قبيل قيام الثورة الفرنسية في سنة 1789 فقد انتقلت ملكيته إلى شخص آخر، وراح يتردد عليه كبار رجال الثورة الفرنسية، ويقال أن “الطاقية الحمراء”رمز الثوريين الفرنسيين إنما ظهرت في هذا المقهى لأول مرة.

ومثله مقهى “فاشت” وكان يسمى قبلاً مقهى العظماء فقد كان يغصّ بالأدباء في أواخر القرن التاسع عشر. يقول بدوي (الكثير من هؤلاء الأدباء كانوا يؤلفون كتبهم وقصصهم ومقالاتهم النقدية والأدبية في هذه المقاهي حتى الحركات الأدبية والمجلات الأدبية قد تأسست في هذه المقاهي) ومثل تلك المقاهي ظهرت في أنحاء أوربا عامة.
أما على مستوى علاقة المقاهي بالحركة الفكرية الفلسفية فقد وضحت وبجلاء في ألمانيا، خاصةً لدى “الهيجليين الشبان” أو(اليسار الهيجلي) فقد كانوا الظاهرة الأكثر أهميةً في ألمانيا، يقول أنور مغيث في بحث له عن “الهيجليين الشبان” (نتساءل من هم؟ ويتفق الجميع على أن منهم دافيد شتراوس وبرونو باور وآنسلم وفيورباخ وتيودور فيشر وأرنولد روج وماكس شترنر، وما يهمنا هنا أن ظاهرةً جديدة على ألمانيا بدأت معهم فهم ابتكروا عقد الندوات والحوارات في المقاهي وكان الحديث يعلو أحياناً ويسود الشجار في أحايين، حتى شبههم (لوفيت) بـ السوفسطائيين في أثينا.
يرى علي حرب في مقالة له بعنوان (المقاهي رئة المدينة) أن المقهى جزء لا يتجزّأ من حياة المدن، ونشاطها الحيوي، وهو يرى أن المقهى أحد (الأنشطة المدنية) يلتقي فيه أصحاب الاختصاصات والمهن المختلفة، ويصف المقهى بأنه (يلبي حاجة أساسية بقدر ما يشكل فسحة لا غنى عنها خارج المنازل وأماكن العمل وهذا ما تفيدنا به الأنباء الواردة من أسبانيا التي تقول بأن الأسبان يصرفون على المقاهي أكثر مما يصرفون على الحاجات الضرورية كالتعليم والطبابة).
هدفي من سرد تاريخ تلك المقاهي الوقوف على تاريخ رافد مدني وعفوي من روافد التنوير ونرى كيف أن الفعل المدني الشعبي يؤثّر أكثر بكثير من المؤسسات الثقافية الرسمية التي يلفها الغبار والنوم. ربما أثر الإعلام المرئي ووسائل الحوار الالكتروني على دور المقاهي في العصر الحديث إلا أن للمقهى نكهته الحرة فهو خارج التصنيف الروتيني فأنت حينما تزوره لست في مكان منظّم أو محصور أو مقنن كالمنزل والمؤسسة بل في مكان لطيف ومكان حرّ تمارس فيه أنشطتك الذهنية والتأملية بل والعلمية والكتابية!

ماذا بعد الغضب… أين هي الأسئلة؟

ماذا بعد الغضب… أين هي الأسئلة؟
جريدة الحياة- 19 ديسمبر 2011
فهد سليمان الشقيران
بين الحلم والواقع فكرة؛ هذه الفكرة قد تكون شاطحةً في الطموح، تأتي على الناس أحلامهم الكبرى لينحتوا منها مصطلحاتهم الأثيرة، «الثورة، الحرية، الإصلاح، التغيير» وسواها. كل تلك المصطلحات عجنت بالتاريخ، فأخذت مساحتها من الموسوعات وكتب المفاهيم صنعت الأحداث مواقف الفلاسفة منها. أحداث واحتجاجات تتالت بين كانون الأول (ديسمبر) 2010، المليء بالأحلام الكبرى، وبين كانون الأول (ديسمبر) 2011، إذ التحديات قائمة تثير الهلع على مستقبل المجتمعات التي اختارت الاندفاع نحو مصائر أخرى غير التي كانت تعيشها. 
القارئ للتاريخ لا يركز إلا على النتائج التي جاءت بها الأحداث، فالدماء التي تسيل قد تنتج واقعاً جيداً، ولكن الاحتمال الأكثر تحدياً أن يكون الواقع الجديد متردياً بكل صوره، فالمجتمعات التي تعيش ظروفاً ثقافيةً هشة يصعب عليها إعادة الاستقرار لأن المؤسسات تُبنى بالثقافة لا بالأحلام. لم يتشكل في العالم العربي المفهوم الكامل للدولة، بقدر ما تشكلت حكومات لها ظروفها المعينة، لأن الرؤية السياسية العربية لشكل الحكم لم تحسم، بل تتالت عبر خلافاتٍ أخذت صيغاً ونماذج مختلفة، تلك الحكومة تُسمى شعبياً «الأنظمة» حين يسقط النظام فإن المصير سيكون بيد الناس الذين لم يحددوا نماذج للشكل الذي يريدونه بالحكم.
 في 29 آب (أغسطس) الماضي حذّر رئيس الوزراء الفرنسي السابق دومينيك فليبان في حديثه لقناة: «بلوس» الفرنسية من حربٍ أهلية في ليبيا قد تستمر أعواماً! وإلى اليوم نيران الحريق الليبية تشتعل أهلياً، ليست المسألة أن يبقى النظام أو يرحل، وإنما المناقشة التي أطرحها عن النماذج والأحلام التي تنتاب الجماهير التي تضع في مخيلتها الصور الشاعرية عن الثورات الأوروبية التي كانت هي الأخرى مليئة بالدماء، غير أن الإرث الممتد من العصر اليوناني والمؤثر على المؤسسات الأوروبية جعلها تصمد في نهاية المطاف بوجه الأحداث الدموية، ومن ثم لتؤسس تلك التجارب مفاهيم مختلفة، بينما نحيي النعرات الطائفية على أحداثٍ مضى عليها أكثر من 14 قرناً تطمس أوروبا حربان عالميتان خسرت بها أكثر من 60 مليون إنسان، لتؤسس بعدها شراكة وجودية اقتصادياً وسياسياً عبر الاتحاد الأوروبي. الحماقات الأوروبية الكارثية تختم بنتائج مثيرة للاهتمام أحياناً، على عكس حماقات بعض المجتمعات التي لا تنتج إلا الخراب التام والمطبق والشامل.
عدتُ هذه الأيام للقراءة في فلسفة «توماس هوبز»، وشدني كتاب صدر في آذار (مارس) 2011 من تأليف صالح مصباح، اسمه «فلسفة الحداثة الليبرالية الكلاسيكية من هوبز إلى كانط»، من خلاله نقرأ ظروف الفلسفة الهوبزية التي قرنت العلمنة بسيادة الدولة، وأسست للاهوتية السياسية، إذ تأسست الحداثة الليبرالية بنسخة هوبز على الموروث اللاهوتي المسيحي والنزاع مع التقليد الجمهوري. سلطة الدولة التي أسس لها هوبز بالطاعة للحاكم الموازية للإيمان الديني تأسست بالظرف الاجتماعي الذي عاشه، لقد أتم تأليف كتابه «عناصر القانون الطبيعي» عشية اندلاع الحرب الأهلية الإنكليزية «1640 – 1648»، أما كتاب «المواطن» فقد ألفه في ذروتها، مغلّباً سيادة الدولة على الحريات، أو الهوامش الاجتماعية، قائلاً: «الضامن الوحيد لاحترام القانون الطبيعي، الخوف من السلطان، فهذا مصدر القانون المدني الذي هو شرط صلاحة القانون الطبيعي ذاته”.  
 السلطة المطلقة للدولة لدى هوبز أمر لا جدال فيه، وأقام عليه فلسفته، وأعطاها السلطة المطلقة من أجل ترسيخ السيادة، بل ومنحها حق «اجتثاث» الفكر الذي لا توافق عليه الدولة واعتباره «هرطقة». هذه الرؤية الهوبزية نشأت من رحمٍ صعب، حتى أن كتابه الذي ترجم أخيراً في حزيران (يونيو) 2011 عن دار «كلمة» للنشر، وأعني به «اللفياثان»، الذي ترجمته كل من: ديانا حرب وبشرى صعب، صاغه على صدى صراخ ضحايا الحرب الأهلية الإنكليزية، وهذا لم يمنعه من تدشين أسئلةٍ تتعلق بالفلسفة السياسية والقانونية ستكون مجرد «تعديلات» على فلسفة هوبز في ما بعد، كما يشير مصباح أيضاً. تلك الحرب الإنكليزية أشعلت أسئلة محورية هي إلى اليوم موضع تداول لتتبلور على إثر تلك الأسئلة مفاهيم الحقوق والحريات في القرن الـ «19».
لم تكن جاذبية السلطة المطلقة للدولة، التي طرحها هوبز آسرة، لكنها العنوان الأول للظرفية التاريخية التي تحتم على المنظّر وضع رؤيةٍ يمكنها أن تحسم الشتات. لا يمكن أن تكون سيادة الدولة المطلقة للدولة حلاً، فهي فلسفة طرحت في القرن الـ «17»، ونحن في القرن الـ «21»، غير أن الحروب الأهلية التي بدأت في العالم العربي بعد الاحتجاجات الغاضبة لابد أن تفتح لنا أسئلة، والمسؤولية على المثقفين الذين ينتشي بعضهم بالحدث من دون إنتاج أسئلةٍ منه. المثقف والمفكر يجب أن يكون متسائلاً تجاه أي حدث، يمكن للشعراء أن يشذبوا القصائد والمدائح. 
المعضلات الكبرى التي طرحتها الأحداث الأخيرة لابد لها أن تكون موضع درس. لقد طرح بالأحرى هذا السؤال منذ غزو العراق. هل يمكن للاستقرار أن يكون بديلاً عن الحرية؟ هل التنمية هي البديل العصري للديموقراطية؟ هل يمكن أن تغلب أسس العيش على بعض شروط الحياة؟ هل الاحتجاجات العربية ثورات؟… هذه أسئلة مصيرية ومحورية لابد أن تشغل الحافرين بالفكر والمتسائلين.
يسطّح البعض بمقارنته للمآزق العربية بالمآزق الغربية، إذ شهدنا كثافة الطرح: «الكورنولوجي» التسلسلي للأحداث خلال العقدين الماضيين في حدثين اثنين، الأول: طرح مسألة التنوير على أنها مرحلة قصوى تأتي بعد عصور الظلام، وأن الذي يجري في العالم العربي شبيه بالذي جرى في القرون الوسطى، محذرين من فلسفة «ما بعد الحداثة»، كما يفعل كثيراً الدكتور: هاشم صالح، معتبرين الحداثة مرحلة أولى قبل مرحلة ما بعد الحداثة. الثانية: مع هذه الاحتجاجات التي شبّهت بالثورات الأميركية 1776 والفرنسية 1789 وتأتي الشعارات المبنية على التسلسل التاريخي الوهمي، الذي يجعل من الحدث سببياً ضمن الظروف المتشابعة بين أوروبا والعرب.
حين تغيب السلطة يحضر الشر، هكذا رأى هوبز الذي قال كلمته المدوّية: «لقد أصبح الإنسان ذئباً على أخيه الإنسان»، وكتب: «فالحرب الأهلية ليست إلا تجسيماً للحال الطبيعية، ولذلك فالناس جميعهم، بمن فيهم القائمون على الدين، يخضعون لرغبة الاقتدار نفسها، التي تدفعهم إلى طلب أسباب الاقتدار بالبحث عن التسلط على أجساد الناس وعلى أرواحهم». هكذا يكتب هوبز مقارباً الحل الأساسي المرتبط بالقانون والسياسة والمؤسسات والمفاهيم. إن الأحلام الكبرى التي تداعب خيال الجموع لها مبرراتها الموضوعية، إذ نشدان الآفاق الأخرى، غير أن بوابة الخروج من تلك المآزق ليست في التطبيق الحرفي لنماذج التغيير الحادة، بل في طرح أسئلة مصيرية تتعلق بمعاني تشكل الاستبداد، حين يأتي التغيير الثقافي ينصع التغيير الكلي تلقائياً، إذ تدبّ دماء التغيير المتدرج في عروق المؤسسات لتنتج واقعاً مختلفاً، لم تطرح بعد أسئلة مصيرية من أجل الخروج من المآزق، أسئلة الدين والتاريخ والموروث والقبيلة والإرهاب وعلاقتها بالانحطاط، هذا هو المدخل لأي تغيير ألا يكون تغييراً شكلياً، أن يذهب طاغية ليأتي الطغاة، بل أن يكون المجتمع متحفزاً توّاقاً عبر إرث ثقافي سجالي حواري للحريات والتغيير وتجديد دماء المؤسسات. أفعالنا ليست منفكة عنا دائماً، إنها تشبهنا، وقديماً قال شكسبير:”إننا مصنوعون مثل أحلامنا، من الخشب نفسه”.

هل الليبرالية عصيّة على التعريف؟!

هل الليبرالية عصيّة على التعريف؟!
جريدة الحياة 30 ديسيمبر 2010
فهد الشقيران
يعيش مفهوم الليبرالية في السعودية جدلاً كبيراً في هذه الأيام، بعد إلقاء الناقد الأدبي السعودي الدكتور عبدالله الغذامي محاضرته بعنوان «الليبرالية الموشومة». تعيدنا هذه المحاضرة إلى الليبرالية بوصفها مفهوماً له تجارب وتاريخ.
المفاهيم علمتنا أنها تعيش ظروف الناس، فهي تتخلّق كما يعبر جيل دلوز بفعل نحت الفلسفة، والفيلسوف في آخر المطاف «صانع مفاهيم». «الليبرالية» مفهوم حرّك الناس، دفعهم إلى الحديث عنه سلباً أو إيجاباً. الكلمات تحيا بحركتها في معارض الناحتين. والمفهوم لا يتحمّل خطل أتباعه، وأتباع المفهوم لا يُمتدحون بإيجابياته، فكل اتباع هو ممارسة تأويلية سلوكية لنمط فهم محدد حول ذلك المفهوم.
تجيء الليبرالية دائماً محمّلةً بذاكرة شعبية تحاصر انتشارها، وبسبب من استجابات بعض الأكاديميين الشعبيين تتحول الليبرالية كمفهوم إلى «شتيمة» ولا يمكن تبرئة أتباعها من سوء فهمٍ طالها، غير أن سلوك الأتباع لا يؤثر على إيجابية حركة المفهوم وتأثيره النوعي في سيرورة أي مجتمع يحتضنه.
وفي سبيل رصد نموّ مفهوم الليبرالية عربياً، نذهب إلى الفصل الثالث من كتاب «مفهوم الحرية» لعبدالله العروي، والذي عنونه بـ «الحرية الليبرالية». يربط في فاتحة الفصل بين الحرية والليبرالية، فـ «كلما تكلمنا عن الحرية اضطررنا إلى اتخاذ موقف من المنظومة الفكرية التي تحمل في عنوانها كلمة حرية؛ أي الليبرالية». يضيف العروي: «المفكرون العرب في العصر الحديث قد تلقوا مفهوم الحرية من خلال تعرفهم على الليبرالية».
وبهذا نكتشف أن إحراج مفهوم الليبرالية يكمن في وجوده داخل مفهوم الحرية العام، فحيثما وجدت الحرية نعثر على شبح مفهوم الليبرالية ساكناً في زوايا قصر الحرية، مع أن الليبرالية ترتبط بالذات المبادرة أكثر من ارتباطها بشكل الفعل.
مفهوم الحرية بقي ثابتاً واضحاً، أما الليبرالية فمفهوم يترحّل تبعاً لتداخلاته مع مفاهيم ودوافع اجتماعيةٍ أخرى، لهذا ثمة فروقات كثيرة لتقبل المفهوم بين الغرب والعرب والآسيويين، يتشكل مفهوم الحرية تبعاً لقالب الثقافة الذي يحطّ رحاله بها، إنه لا يتوانى عن التشكل المختلف، لكنه يحافظ على تكوين فضاء متاح يمارس من خلاله الأفراد حرياتهم وفردانيتهم، وهي المبادئ التي كانت موضع تحذير من عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي اليساري بيار بورديو في حوار جرى بينه وبين الروائي الألماني غونتر غراس. الليبرالية لا تقدم مفهوماً ثابتاً بقدر ما تؤسس لفضاء يتيح الاختلاف، إنها الترياق ضد التشاكل والثبات، والمصل ضد التطابق، إنها بمفهومها العام؛ تأسيس مختلف لإتاحة الفرصة لمن رام أن يختلف.
المتحدثون عن الليبرالية كثر، ما بين قادحٍ ومادح، على اختلاف التناولات التي تجترح المجالين بشكلٍ سطحي. أستعيد هنا مضطراً نصاً مطولاً لعبدالله العروي مستنجداً به ضد معارضات ارتكاسية ضد المفهوم، يقول: «يجب على المتحدث أن يوضح منذ البداية أي نوع من أنواع الليبرالية يعني عندما يقول: لقد تأثر المفكرون العرب بالفكر الليبرالي. هل يعني: ليبرالية بعض فلاسفة عصر النهضة التي لم تكن سوى وجه من أوجه الإنسية الأوروبية، أم ليبرالية القرن الـ18 التي كانت سلاحاً موجهاً ضد الإقطاع والحكم المطلق والتي جمعت في ذاتها بين ديموقراطية روسو ونخبوية فولتير واستبدادية هوبز، أم ليبرالية بيرك وتوكفيل في بداية القرن الـ19 التي نقدت الدولة العصرية المهيمنة على الأفراد والجماعات، الدولة التي ورثتها أوروبا عن الثورة الفرنسية، أم ليبرالية نهاية القرن الماضي؟».
تنقّل العرب استقبالاً لمفهوم الليبرالية تبعاً للثقافات التي تنتظّمه، كانت مجمل أدوات الاستقبال تصب في خانة محاولاتٍ حثيثة لإثبات وجود ثقافة عربية وإسلامية لا ترفض المفهوم ذاته، وإنما تسعى لصهر المفهوم في خانة الاستيعاب. جون ستيورات ميل في كتابه «في الحرية» كتب: «إن المجتمع الإسلامي غير ليبرالي ليس فقط في نظام الحكم الذي كان فردياً واستبدادياً، بل في النظام الاجتماعي العام المؤسس على الإجماع في الرأي وعلى تحريم النقد والنقاش المفتوح». ويمدد ميل نقده هذا على المجتمعات السابقة للعهد الحديث في أوروبا. ويعتبر بكل وضوح – كما يقول العروي – أن «تلك المجتمعات – بإهمالها – ما زال الجنس الإنساني فيها دون سن الرشد».
لقد تأثر جيلٌ كبير من المفكرين العرب بالمنظومة الليبرالية على ما نشاهده في كتابات محمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي وخير الدين التونسي ولطفي السيد وطه حسين وحسين باشا هيكل والطاهر حداد. لم تكن الليبرالية يوماً مجرد «تعريفٍ» فقير على طريقة الفقهاء باللغة والاصطلاح، وإنما جاء المفهوم بوصفه فضاءً يحمل معه جملةً من خصائص الإنسان ذاته، حركةً وواقعاً، وجلّ النقاد الذين يعتبرون الليبرالية «موشومة» ليسوا سوى وعاظ يريدون ممارسة «رد القطيعة» بين المجتمع ومستقبله، بين بغاث الماضي ومتطلبات وشروط الحاضر. لهذا جاءت محاضراتهم متوترة، ولولا مسرحة الإلقاء وحمولة الضغائن التي تكتنز ألفاظهم ومعاركهم التي خبرناها لما سمعنا لهم من أثرٍ ولما أثار هجومهم أثراً علمياً مهماً.
إنهم بشعبويتهم المعهودة وبإرثهم السجالي المحاط بحظوظ النفس لم يغادروا حدود «الاتهام». لهذا آثرت أن آتي بنصوصٍ مطولة من مؤرخين لهم اليد الطولى في رصد تشكل المفاهيم، على ما نجده لدى العروي في رصد تشكل مفاهيم مثل «العقل، الحرية، الدولة، التاريخ». لنقرأ العروي وهو يقول: «إن الليبرالية العربية لم تكن أبداً وفيةً لأصولها الحقة، لكن العرب عاشوا عهداً ليبرالياً حقيقياً طويلاً».
لم تكن الليبرالية مفهوماً يتحرك بالتعريف، ولا بدعاوى الاصطلاح، بل بالمحاولات والتجارب، مرت كل محاولات الحضارات مع مستجدات العصر بمراحل التجارب ولم يكن مفهوم الليبرالية وحده الذي واجه الخصومات المزدوجة من مختلف الخصوم، إنها معضلة الفهم المخيّة. أستدل هنا بمعارضة المفكر عبدالرحمن بدوي لـ «العلمانية» وهو الذي عاش العلمانية فلسفةً وتأليفاً ورفضها بسبب خصومة صغيرة مع مفكرٍ آخر هو فؤاد زكريا. ويذكر الأخير أن هجوم بدوي على العلمانية يرجع إلى ربطه بينها وبين «الهجوم على الإسلام»!
إننا أمام مشكلة لغوية وصفها نيتشه يوماً بمشكلة «التسمية»، وهي مشكلة عرضها بكل سخاء مطاع صفدي في كتابه الخلاب «استراتيجية التسمية».
هل وعينا مشكلة اللغة في كل مناخات هذا الاستقطاب والادعاء والاختلاف؟!

الإنسان وتأسيس شهوة الدم

الإنسان وتأسيس شهوة الدم
18 أبريل 2009
فهد الشقيران


ساهمت فلسفة هيجل المثالية الواحدية للنزعة الحربية، حيث مدد تحكّم الفرد الطاغية بغية تثبيت المفهوم مهما كان موقف الشعب، وأعلن أن الحرب حالة قومية، وهو تنظير سأعود إلى تأكيده مستشهداً بموقف كارل بوبر من فلسفة هيغل وبالذات دور هيغل وفلسفته المثالية في تأجيج الحروب آخرها الحرب العالمية الثانية، ويكفي أن نعرف أن شظايا فلسفة هيغل هي المكون الرئيسي للفلسفات الرئيسية التي تحكم العالم اليوم وآخرها قراءة “كوجيف” لهيجل التي عززت أطروحة فوكوياما حول “نهاية التاريخ” وهو شرح ربما لن يستوعبة بعض الأدعياء المتزيدين قرّاء القصاصات الفلسفية السريعة، الذين يئنون من التهميش فيذهبون نحو التخبيط يميناً وشمالاً –على السواء- بحثاً عن مكان، أو بحثاً عن دور، وهذه معضلة نفسية لا مكان لها في سياقاتنا الفلسفية على الإطلاق.
 إن الإنسان إذا كان قد ابتكر الآلات المطقّمة والمجهّزة لغرض القتل والإبادة الجماعية، وفق أشد الطرق وحشية في التاريخ البشري، عبر القنابل الذرية، ثم النووية والعنقودية، فإنه لم يبتكر بعد طريقة لسد أفواه الجياع، أفضل مبتكرات الإنسان جاءت في سنّ الرماح، وحديثاً صناعة “السلاح” لم يبتكر بعد آلية للإغاثة الجماعية، بنفس الحماس والاندفاع والذي ابتكر به أحدث آلات السحق والتقطيع والسلخ، هل من الصدفة أن تكون أشد ابتكارات الإنسان تقانةً ورصانة هي الإبتكارات التي تتسبب بالقتل الجماعي؟ حتى انعكست شهوة القتل على التخصصات العلمية، أصبحت أشد المعلومات الدولية سرية هي تلك المعلومات المرتبطة بالتقنية المتصلة بالقتل والسفك، أما الذين يدخل اختصاصهم في الصحة والتغذية والتوعية، أو أجهزة الاتصال والحواسيب فتأتي قيمتهم بعد التخصصات المرتبطة بتحديث السلاح بمراحل. لماذا استطاع الإنسان بناء أقوى أسلحة التخويف ولم يستطع أو لم يجرب ابتكار أفضل أساليب التغذية والعلاج والطبابة؟
 إنه استفهام بحجم المأساة التي يعيشها الإنسان، في ظل حملة تجويع مطبّقة لم تكن أبداً مؤامرةً من أي كوكبٍ آخر، إنما هي من صنع الإنسان ذاته، ها هو الإنسان يكرّس الانتحار الجماعي حتى في ممارساته اليومية؛ لقد تحوّلت المساحات الخضراء إلى مساحات جرداء، وتحوّلت السماء الزرقاء إلى أفق قاتم جراء تغييرات مناخية تجيء على الأرجح بسبب سوء تعامل الإنسان الوحشي مع الطبيعة وهو السوء الذي تسبّب بمرض “الاحتباس الحراري” وهو أخطر مرض مناخي معاصر، أثمر عن تسمم في الأجواء واختفاء المساحات الخضراء وضمور الينابيع، وتشوّه الوجوه، والهزال الخلْقي الذي صبغ الجيل الجديد خصوصاً في مناطق الجوع من العالم.
بين يدي أغنية انجليزية لطفلٍ صغير تُرجمَتْ بالآتي: “في حلمي، يغني الأطفال، أغنية الحب لكل ولد وبنت، السماء زرقاء، والحقول خضراء، والضحكة هي لغة العالم، وعندما استيقظت كل الذي وجدتُ، عالم مليء بأناس محتاجين، قل لي لماذا، هل علينا أن نكون هكذا، هل هناك شيء فاتني، لأنني لا أستطيع أن أفهم”. كلمات ينطق بها طفل بصوتٍ مؤثر للغاية. فبعد قرون مليئة بالعلم الطبيعي، والرياضيات، والفيزياء والفلسفة، والعلوم الإنسانية، التقنية الحديثة، والكيمياء، لم يجدد الإنسان مسار اهتمامه، لا زالت أولوية “السلاح” هي التي تهيمن على تفكيره وتشغل باله، هي التي ترضّ ماله ووقته وحياته، من أجل إيجاد وتنمية لغة السلاح وأدوات السلاح وتقنيات السلخ والتخلص.
 الطفل في أغنيته الصغيرة تلك والتي أرسلها لي صديق، ورافقتْها صور المجاعات والإنهيارات البشرية الجسدية شرح المأساة بشكل واضح، وختمها بسؤال رئيسي: لماذا؟ لماذا استطاعت البشرية التقدم ولكن في الاتجاه المعاكس، رغم كل التقدم الذي ننعم به على جهة التمتع بأحدث أساليب التقنية والأجهزة والتقدم الألكتروني غير أن المآسي التي عانى منها الإنسان منذ البداية لم تجد بعد الحماس الموازي لحماسة إنتاج وتكرير الأسلحة، لقد جاء الانترنت من أروقة مؤسسات الحرب والدفاع، بينما لم تخلق الدول والمؤسسات حلولاً لأي مشاريع يمكن أن تحد من الثغرات التاريخية في الحياة البشرية، وخاصة منها الجوع والمرض.
لقد خفّت نرجسية الإنسان بفضل العلم الحديث الذي أخبر الإنسان عن مساحات عجزه، عجز اكتشفته ابتكارات علم النفس، والحروف الجينومية، والتقدم التقني، والتلوث المرضي اليومي البشري، اقتصر دور الإنسان في الأعم الأغلب على التترّس بجثث أخيه الإنسان، بغية الظفر بحيزٍ أكبر من الخيرات والأموال والمقتنيات. لهذا جاءت الأديان والفلسفات والأخلاقيات، والمواعظ والحكم بهدف الحدّ من تمدد الطغيان الذي لم يحده أي موعظة ولم يوقفه أي تقنين إلى اليوم، ها هي الحروب الطاحنة تتجدد، وقد أحسن الإنسان صنعاً ليعبّر عن مكنوناته الخاوية حينما افتتح الألفية الجديدة بحروب طاحنةل ليعبر عن أعنف استراتيجية حربية وسياسية إنها استراتيجية “الحرب الاستباقية” التي تمخضت عن فلسفة توماس هوبز، ومن اسمها فقط نعرف حجم الخوف والذعر والتيه والانحطاط والاستهتار الذي شاب قيمة الإنسان لدى الإنسان نفسه.

«نهاية التاريخ» في “نقد الشر المحض”

«نهاية التاريخ» في “نقد الشر المحض”
فهد الشقيران
21 مارس 2007
سُمع إعلان “نهاية التاريخ” المتسرّب من فلسفة “هيغل” على نطاق واسع، وشغّلت الفكرة المختصين في العالم لدراستها، بين الدحض والإلغاء، والإبداء والإعادة، كعادة الأفكار المؤثرة والمفاهيم الجديدة التي تخلخل الراكد، وتشعل النقاش، وتغني المجال الفلسفي بعدة نقدية جديدة. التناولات الصحافية لفكرة “نهاية التاريخ” جاءت بمجملها بعيدةً عن المعنى المفهومي لها، وأحسب أن تناول مطاع صفدي لها كان ثرياً، حيث راح يبحث في جذور الفكرة وكيف نبتت وعلى أيّ أرضٍ ترعرعت. لقد بذل  جهداً في صفحات من كتابه “نقد الشر المحض” المطبوع عام2001 حاول أن يتجاوز القراءات العاجلة والناجزة لمفهوم “النهاية” المتصل بالتاريخ، خاصةً وأن تلك النهاية تكونت على فترات متقطعة منذ أكثر من قرن، والتي كان آخر من بلورها كنظرية مستقلة فرانسيس فوكوياما، والتي تم تناولها في الكتابات العربية بشكلٍ سطحي وصحافي لم يتدخل إلى تخوم المعنى الذي أراده فوكوياما من ذلك الإعلان الشهير.
يتساءل مطاع صفدي ماذا تعني “نهاية التاريخ” وأي تاريخ ذلك الذي يواجه نهايته: “فإذا كان المقصود بالنهاية الحسّ العام فورياً فإن التاريخ هو مايمضي، إنه قائم على حس الانتهاء كل مافيه مكرّس للانقضاء فليس التاريخ سوى مسرح لزوال ذلك التاريخ الذي يضم كل أحداث الإنسان لكنه عالم الأحداث الزائلة بامتياز، فمايزول هو التاريخي” وصفدي أثناء استغراقه في تفسير التاريخ يلفت إلى فعل الانتهاء “إذ هناك حقاً فعل الانتهاء، إن ما مايجري هو تجديد فاعل الانتهاء عبر كل توثيق أو تدوين أو تسجيل، والتأريخ بذلك المعنى هو اصطلاح في اتجاه تغيير النهاية” ويمضي في الشرح مبيناً مفهوم النهاية في “نهاية التاريخ” فالنهاية-بحسبه- “لا تفهم كالخاتمة والحدث الأخير، بل هي انغلاق التشكيل هنا يتم الانقطاع بين مفهوم النهاية الزماني إلى مفهوم النهاية الخطابي”.
ومطاع يمضي في بلورة الفرق بين النهاية كخاتمة وبين النهاية بوصفها أحد النهايات المتصلة بانغلاق التشكيل فيشرح كيف أن “المشروع الغربي المنشغل بفكر النهائية منذ حوالي قرن أو أكثر لايزال مصراً على التفكير في النهاية كخاتمة للتاريخ بشكل مطلق … والخاتمة عبارة حيادية جرداء إلى حد والنهاية مشبعة بميتافيزيقا مايتجاوز اللسانيات، إنها ترجعنا إلى مملكة الصمت. عبارة النهاية تتمتع برنين وشغف اللامتناهي نفسه وهي في خطاب التشكيل الغربي، تريد أن تجيء لامتناهية بمايعادل الذاتية اللامتناهية التي شرعت، هي نفسها في تلفظ نفحة النهاية. هناك إذا خطاب لامتناه يتصيد هو كذلك فكر النهاية” ويصل مطاع صفدي الخطاب اللامتناهي حول نهائية التاريخ بجدلية هيغل.
وتعيد الليبرالية احتضان الجدلية الهيجلية-بحسب صفدي- مستندةً إلى مايعتبر انتصارها النهائي على تجارب الأيديولوجيات من فاشية وشيوعية من حيث إنهما محاولتان فاشلتان للخروج على مثال “الدولة الشمولية المتجانسة” فهي -الليبرالية- ترى أنها هي “كفلسفة وكنظام اجتماعي هي نهاية التاريخ وخاتمته السعيدة، ومن الغريب أن الرأسمالية في أمريكا لاتجد ثمة أيديولوجيا تتوج ظفرها الساحق على القطب الشيوعي إلا بإعادة الاعتبار إلى جدلية هيغل فنجد تعبئة فكروية جديدة يقودها مفكرون موزعون بين دوائر الدولة العليا في أمريكا ومراكز البحث تتوسل بموضوعية إلى نهاية التاريخ حسب المثال الهيغلي” ويضرب مثلاً على تلك الدراسات بدراسة المنظّر الأبرز فرانسيس فوكوياما والذي يفرض في صياغته لنهاية التاريخ “الخاتمة بالحرف الكبير وليس مجرد أية خاتمة”.
ويشرح مطاع صفدي سيطرة هاجس النهاية منذ نيتشه إلى أحوال العدمية الأسيانية المتفجعة إلى فزع هايدغر من التقنية ونعتها لها بميتافيزيقيا العصر إلى العودة نحو عقلنة التاريخ في إطار الدورات الموسمية مع اشبنغلر فيصف الرحلة في جو النهايات بـالمتشعبة ويتلبسها الغموض غالباً وتتراوح نفسياً بين البشير والنذير وإلى الأول أكثر من الثاني، غير أن المنعطف تحقق بعد اكتشاف الحداثة البعدية وفي هذا المنعطف أيضاً لم يحصل الخلاص من تيه النذير ولم يسقط الفكر الكارثي نهائياً.
يضيف:”الخيار النووي -وهو الحتمي كحل وحيد للاستقطاب- يغدو في ملعب الحداثة البعدية إحدى الكرات الملعونة والجهنمية؛ ولكنه بذلك يفقد مصيره الحتمي وقد برهنت التحولات السياسية البنيوية الأخيرة على إمكانية تقويض الاستقطاب من داخل جدليته العمياء ذاتها دون حتمية الكارثة الكونية الشاملة. وهكذا فإن الحداثة البعدية تغادر هامشية التاريخ لأول مرة” ويعلّق بصيغة نقدية لافتاً إلى أن “فكر النذير الذي طبع الأعمال الأخيرة لهايدغر لم يكن مبالغاً في توحيده بين تطور التقنية والمصير الكارثي الآتي من خلال رؤية الدمار المطلق النووي. لكن الخطوة النوعية التي تقدمت بها الحداثة البعدية عن فكر النذير ذاك، هو أنها جعلت النهاية النووية واحدة من ممكنات كثيرة لشكل النهاية”.ويلفت أيضاً إلى أن “الحداثة شبّت وترعرعت في جوّ الحتمية الكارثية، لكنها انزاحت عنها مسافات كثيرة” وهي بحسبه “لم تتخل عن أيقونة النهاية شرط أن تكون نهاية لذلك التاريخ”. والمقصود به ذلك التشكيل الانغلاقي.
مطاع صفدي يرد بتحليله الضروري لموضوع نهاية التاريخ الأفكار إلى منابعها شرح بشكل واضح ظروف وأساس نشأة فكر “النهايات”، ووضع القارئ على حدّ تلك الحقبة المنشغلة باستقبال التقنية ورسم صورة الإنسان الأعلى والجديد، ونحت الميتافيزيقيا الجديدة والنفخ في “جدلية هيغل” رغبةً في تسطير شكل الانغلاق او إعلانه إن وجد، وإنّ عرضاً مختصراً لتحليل صفدي الثمين لنظرية فوكوياما لن يفي بعرض كامل لعروق تلك النظرية وملابساتها والتي أخذت حقّها من الطرح وهي النظرية التي ينبض عبرها جسد بعض الانتاج الحديث في مجالات مختلفة لذا لا أملك سوى الاعتراف بأن هدفي هو اكتشاف موقعنا من تناهي المنظّرين الذاتي للوصول إلى سيناريو «النهاية».

إنهم يحرسون الشر

إنهم يحرسون الشر
جريدة الحياة الإثنين, 13 فبراير 2012
فهد سليمان الشقيران
(توماس هوبز)
لم تخلُ الأرض من التدافع الحيوي الطبيعي بحثاً عن المصالح، على اعتبار أصالة «الوحشية» في الإنسان، أو «الذئبية»، كما هو تعبير توماس هوبز، النزعة التملكية وإرادة الدفع ومرض الاستئثار صفات مشتركة بين الإنسان وبقية الكائنات على الأرض؛ غير أن «الوعي» الذي يمتلكه الإنسان، وهو ثمرة العقل حول التجارب الوحشية إلى أساسٍ للدرس عن المآلات التي يمكن أن ينتجها، كما أن «الضمير الأخلاقي» – كما هو تعبير روسو – بكل وخزاته التي تصاعدتْ حدتها، منحت الإنسان فرصة التفكير بالمعنى لكل هذا الخراب، من هنا جاءت كل النظريات المؤسسة للقيم والأخلاق لتخلق وعياً مختلفاً للعلاقات بين بني البشر.
لم يكن الفيلسوف الألماني كانط صاحب نظرية سياسيةٍ، وفي كتبه الأساسية مثل: «نقد العقل المحض – نقد العقل العملي – نقد ملكة الحكم»، يبدي – فقط – آراءه في السياسة، كما في فقرةٍ من كتابه «نقد ملكة الحكم»، لكنه في استطراداته السياسية لا يأتي إلا على ما يتماس مع نظرية القانون، أو فلسفة التاريخ، يطرح اقتراحاتٍ، كما فعل في كتابه «نحو سلام دائم»، الصادر سنة 1775. هذه الفكرة «السلام الدائم»، على رغم أن «كانط» هو الذي اقترحها وضخّها في العالم لتتحول من بعد إلى مسار عملي، غير أنه استفادها من مشاريع الأب «دي سانت بير»، وتعرف على اقتراحات الأب من خلال تعليقات روسو عليها، غير أنه طوّر الاقتراح وربطه بالفلسفة والقانون، كما يقول «بير هانسر» في بحثه عن رؤية «كانط» السياسية.
دخل «كانط» بتأثيرٍ من «روسو» إلى البحث عن الأزمة الأخلاقية في السياسة، وفي كتابه «نحو سلامٍ دائم» يحاول مقاربة الأزمة، بل يشير إلى صراعٍ بين السياسة والأخلاق، والصراع بينهما هو في حقيقته صراع بين قاعدتين، قاعدة سياسية تقول: «كن حكيماً كالثعابين»، وقاعدة أخلاقية تقول: «كن بريئاً مثل الحمام»، لكنه يؤكد على أن السياسة هي تطبيق للمذهب القانوني الذي تكوّن في نظرية الأخلاق، ويطالب بإجبار السياسة للخضوع إلى منطق الأخلاق الخالص، يقول: «القاعدة الأخلاقية تقوم على معرفة الإنسان، وعندما تتصارع السياسة والأخلاق فإن الأخلاق تحل الصراع بطريقةٍ تميّز ماهيتها الخاصة، أي أنها تحط من قدر المبدأ المادي أو نتائج الفعل، ومن ثم تركز على المبدأ الصوري». وفي موضعٍ آخر من الكتاب يرى أن أساس السلام الدائم يقوم على الانسجام بين السياسة والأخلاق على أساس المعنى الذي يفوق ما هو تجريبي للقانون العام، أو الحق العام، ذلك أن الحق العام يتطلب «العلانية» ويضع من «إمكان النشر» قاعدة أخلاقية للفعل السياسي، ويربط بين الظلم والإخفاء والكتمان.
اقتراح كانط الذي قدمه للبشرية داعياً إياهم للبدء بمشروع سلامٍ دائم، هي محاولة حثيثة للإفلات من قبضة الرؤى المطبّعة مع الحرب، ولئن وصف «هيراقليطس» الحرب في المئة الخامسة قبل الميلاد الحرب بأنها: «أساس الأشياء»، فإن كانط أراد كسر بنيةٍ صلدة من فلسفات ترفع «السيادة المطلقة» للقوة والاستيلاء، كما لدى فرانسيس بيكون وهوبز من قبل، أراد أن يفلت باقتراح قانوني أخلاقي أسسه ضمن نظريته في الأخلاق وفلسفته للقانون ورؤاه وتحليلاته لفلسفة التاريخ. يتذكر العالم اقتراح كانط هذا مع عودة «الذئبية»، التي صرخ بها «هوبز» من قبل! روسيا والصين، وعبر ذلك الفيتو الشرير الطغياني أعادتا سؤال الأخلاق في السياسة، وسؤال الذئبية مقابل الانتماء الآمن لبني الإنسان، أصبح الإنسان ثمناً يتداول على الورق، ولا قيمة لكل هذه الدماء والهلاك الذي يمارس ضد الإنسان السوري، بين السلام الدائم والدعوة إلى الانسجام بين الأخلاق والسياسة ضاعت القيم الأساسية التي على أساسها يعمر الإنسان الأرض، حينها يكون حتى «التدافع» يضبطه القانون وتسيّره الأخلاق، وبين سلام كانط الدائم وتيه الإنسان الدائم ضاعت القيم التي يجب أن تحرك العالم وتحميه من كل «التوحش السياسي».