يوليو 2016

الحرب السعودية على الأفكار الإرهابية

 

الحرب السعودية على الأفكار الإرهابية

فهد بن سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 10 يوليو 2016

 

لا يمكن تصوّر الإرهاب من دون وضع المراحل التي تسبقه في الحسبان. الإرهابي حصيلة مراحل مرّ عليها، هناك أغذية ومحتويات ومضامين يحملها العقل الإرهابي. يعتبر الخطاب المتطرّف المهمل والسائل في المجتمع، ومنابر الإعلام، ووسائط الاتصال الاجتماعي، أحد أبرز روافد الإرهاب ومنابعه. هذا مع اختلاف التجنيد بين تنظيم وآخر. المنضوي لتنظيم القاعدة يختلف عن المجنّد بـ«داعش»، وهي اختلافات تطال الأساليب والأشكال، وتنوّعها يأتي بسبب تمايز الغايات والأهداف.

لعل من قرأ وثائق أسامة بن لادن التي بلغت زهاء ثلاثمائة صفحة يعرف الفرق التكتيكي بين «القاعدة» و«داعش». ما كانت تنشده «القاعدة» وأذرعتها بسنوات أخذت «داعش» تحصل عليه بأيام. يصحّ ذلك على التنظيمات التربوية؛ إذ كانت تسيطر على المناشط غير الصفيّة، والمؤسسات الكشفية، والملتقيات الإنشادية؛ بغية الوصول إلى الهدف بعد سنوات من التنشئة والحثّ وإعادة التشكيل، وهذه رؤية محمد سرور زين العابدين، وقد فصّلها في حواره المطوّل بما يشبه الذكريات، سردها في سبع ساعات تلفزيونية، وقد استمدّها من النظرية الإخوانية التأسيسية «بطيء، ولكن أكيد المفعول» كررها محمد قطب في كتابه الأساسي «واقعنا المعاصر».

بعد أربعة عقودٍ من الحيرة الحكومية والشعبية بكرة النار الراديكالية بانت ثمرة تلك الشجرة، لم يكن الخطاب الديني المعلن سوى قشرة على الحلم السياسي، للحاكمية، والخلافة، والثورة الإسلامية على غرار الثورة الإسلامية الإيرانية، للحصول على النظام السياسي المنشود.

وعت السعودية هذا الخطر مبكّرًا، فأخذت على عاتقها محاربة رموز التطرف منذ عام 1994، حينها قامت بحملات تمشيط لحماية المجتمع من الخطاب الثوري، لمحاصرة «الحالة الكاسيتية»، بعض الرموز كانوا يريدونها «خمينية سنيّة»، ولعل لولي العهد السعودي الراحل الأمير نايف بن عبد العزيز مقولات مهمة في حواره مع صحيفة «السياسة» الكويتية؛ إذ بان غضبه على من أحسنت السعودية إليهم ثم قلب لها ظهر المجنّ. قادت السعودية الحرب على الفكر المتطرّف قبل أن يصل إلى ذراه الإرهابية.

النمط الإرهابي حصيلة عقود من التطرف، روافد كثيرة ساهمت في تشكيل «داعش»، منها المؤسسات التربوية، والخطاب الإخواني. مقولات سيد قطب أهم عناصر تأسيس «داعش»، ثم إن يوسف القرضاوي نفسه، مفتي الإخوان المسلمين قالها بوضوح: «أبو بكر البغدادي كان من الإخوان المسلمين»، أيمن الظواهري أرّخ لسيرة أسامة بن لادن، وأكد أن تكوينه الأساسي كان في محاضن الإخوان المسلمين، هذا هو المنبع الذي رويت منه التنظيمات الإرهابية، وليس سرا أن يافطات تتضمن مقولات لسيد قطب تملأ شوارع الرقة ومناطق سيطرة «داعش» في العراق وسوريا.

ثمة أفكار مكوّنة للعقل الإرهابي، يستمدها من رموزه، ومن مراجعه الذين تربوا هم أيضا على رموز أكبر منهم ومراجع تاريخية استمعوا إلى أحاديثها ومحاضراتها من عبد الله عزام، وصولا إلى أدبيات الانتحار، وتبرير التفجير في عصرنا الحاضر.

مع اشتداد وطأة الإرهاب تجدد السعودية التزامها التاريخي بالحرب على الإرهاب، وفي كلمة الملك سلمان الموجهة للسعوديين وللمسلمين بعيد الفطر، أكد أن: «المملكة عاقدة العزم ـ بإذن الله ـ على الضرب بيد من حديد على كل من يستهدف عقول وأفكار وتوجهات شبابنا الغالي، وعلى المجتمع أن يدرك أنه شريك مع الدولة في جهودها وسياساتها لمحاربة هذا الفكر الضال، ونحن في هذا نستهدي بتعاليم ديننا الإسلامي الذي يعصم الدماء والأموال».

هذا التأكيد يأتي استمرارا لمشوار من المواجهة الحاسمة على الأرض وفي الإعلام والسياسة ضد الإرهاب؛ إذ لاحقت المتطرفين والإرهابيين في أنحاء العالم، وتعقد اتفاقيات أمنية مع حكومات إقليمية ودولية للتعاون في مجالات مكافحة الإرهاب، ومتابعة المتورطين والمطلوبين.

محاربة الإرهابيين أساسية، وبموازاتها لا بد من متابعة الأفكار التي تشربوها. فتاوى وتعليمات وصيغ تلقين ساعدت على تشكيل العقل الإرهابي، على سبيل المثال تنقل جريدة «الوطن» السعودية، عن محمد العِمِر – الشقيق الأكبر لمنفذي العمليات الانتحارية بالقطيف الأخوين عبد الرحمن وإبراهيم العِمِر – أن أخويه لم يتلقيا أي تعليم نظامي، ولم يستخرجا بطاقات الهوية الوطنية لتحريمهما التصوير، لكنهما تعلما في حلقات تحفيظ القرآن منذ الصغر، ولم يلتحقا بالمدارس النظامية لتحريمهما لها!

بآخر المطاف، دللت العمليات الإرهابية الأخيرة على أمرين، أولهما: فشل التنظيم وعجزه عن تنفيذ الخطط كما أرادها. والآخر: انكشاف التنظيم إعلاميًا، فبعد التفجير بالحرم النبوي، وعدم احترام مقام النبوّة لم يعد للتنظيم أي مشروعية لدى بعض المتعاطفين الصامتين، وإن تغطّى بالأهداف السياسية والمقاومات الكاذبة.

من الآن، سيأخذ المحرّض حسابه وعقابه، وسيضرَب العابث بأفكار الناس بيدٍ من حديد، هكذا قالها الملك سلمان، المحارب الأول للفكر الإرهابي في المنطقة.

  

 

  

التقنية هل تحّدت القيم العربية؟!

 

 

التقنية هل تحّدت القيم العربية؟!

فهد بن سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 7 يوليو 2016

 

تمكّنت الثورة المعلوماتية المهولة من صنع مجالها التحليلي، بغية الوصول إلى مكنونها بوصفها إشكالية ذات أبعادٍ متعددة. في بداياتها كانت موضع استبشارٍ لأنها ستقرّب البعيد، وتفتت الحدود، وتهزم المثقف، وتنهي الأدوار، وتخيف السياسي، وتحشد للثورة، لكن سرعان ما تبددت تلك الأوهام. لم تعد موقع تواصل بقدر تشكّلها كمواقع اتصال. فللتواصل أسسه وأساليبه، إذ يشترط فيه المسؤولية، ووجود الذات مقابل الآخر بنفس مستوى الندّية، ليكون الحوار منفعلاً بصيغٍ متنوّعة، وبشكلٍ عمومي، يظهر فيه الإنسان محاورًا، والأطراف متساوية في فضاء النقاش العمومي. لكن الصيغ المطروحة بتلك التطبيقات تقوم على إحياء جميع الانهيارات في القيم الاجتماعية، إذ تتلاشى الحوارات، ويلغى فيه وجود الآخر. لم يتربّ الأفراد بشكلٍ مؤسس ليعترفوا بأن الإنسان المجاور لك هو شريك في إنتاج الحوار، وصقل الحقيقة، وتغذية المعنى.

 

شكّل وجود الغير بالنسبة للفرد موضوعًا في دراسات الفعل الإنساني، فالجمع أساسي في فعل الفرد، وأرسطو يعتبر «الذي يظهر للجميع هو ما نسميه الوجود». بينما هيراقليطس يعتبر «العالم واحدًا ومشتركًا بين أولئك الذين هم مستيقظون، بينما كل امرئ نائم يلتفت إلى عالم خاص به». أخذت حالة وجود الغير بالنسبة للشخص ضرورتها عند هيغل في «فينومولوجيا الروح» إذ وجود الغير: «ضروري فأنا ليست معرفة جاهزة فمعرفته لذاته لا تتحقق إلا من خلال الغير عبر الانفتاح، وتجاوز العزلة والانغلاق، فالأنا تغادر انغلاقها، وتتجاوز لتنفتح على الغير لتنتزع منه الاعتراف بها كذات واعية حرة. إلا أنها تصطدم برغبة الغير، الذي يرغب في نفس الرغبة مما يؤدي إلى أن يغامر كل منهما بحياته في عملية صراع تنتهي بتنازل أحد الطرفين عن حريته».

 

تلك الجدليّة بين الشخص والغير، بين الفرد والفرد، هي التي تتسبب في الظهور الجدلي للإنسان ضمن المدينة، وكل تجمّع يخلق مجتمعًا أو مدينة، والأنا لوحدها لا يمكنها أن تخلق الظهور، فالقيم نفسها ليست منتجًا أنانيًا، أو فرديًا، بل هي حصيلة الجدليّة بين مجموع الأفراد، والجدال والصراع بين الذوات على أرض الواقع ينتج القيم المعاشة والمتداولة. حنّة أرندت في كتابها الممتع: «الوضع البشري» تعتبر: «القيم خلافًا للأشياء أو الأفعال والأفكار، ليست ألبتّة منتوجات نشاطٍ بشري مخصوص، بل إنها تظهر إلى الوجود عندما تدخل هذه المنتوجات في النسبية غير المستقرّة للمبادلات بين أفراد المجتمع، ولا أحد مثلما أكد ماركس وهو على حقّ ينتج قيمًا وهو في عزلة، ولقد كان بإمكانه أن يضيف أنه في العزلة لا أحد يكترث بها، إن الأشياء والأفكار والمثل العليا تصبح قيمًا فقط في علاقاتها الاجتماعية». ص:186.

 

ذلك الوجود الضروري للغير ينعدم في الواقع الاجتماعي العربي الحقيقي والافتراضي معًا، إذ الأفراد في صراعٍ دائم مع بعضهم البعض، تزداد حالة التنافي تلك في مواقع الاتصال الاجتماعي التي أصرّ على نفي كونها مواقع تواصل بل هي أبعد ما تكون عن التواصل. إن الجدلية بين مجموع الأفراد بالمجتمع تخلق نقاشًا حيًّا وتفاهمًا وجوديًا كبيرًا، ولا يمكن للإنسان اختبار نفسه وعلمه وقيمه إلا من خلال الآخرين، لأنه ينوجد معهم، ويكون ظهوره أشدّ وضوحًا بحضورهم، تلك هي طبيعة وجود الإنسان نفسه.

 

لا يمكن للمدينة أن تتكوّن بشكلها المضيء إلا عبر التفعيل لموضوعات التواصل والنقاش العمومي بوصفها منتجة للمعاني العلمية والقيم الاجتماعية، يأخذ التواصل قيمته بوصفه انفعالا مدنيا مع الرأي، يتجاوز الإنسان القديم في تفاعله مع الآخر عبر الصراع والقتل حين كان في الغابة، وهنا يكون وجود الغير بالنسبة للإنسان جزءا من حياة المدينة، نتذكّر صلة ذلك حتى بتشكّل القوانين الذي يعرّفه مونتسكيو بـ: «الروابط بين الكائنات المختلفة» كما يهتمّ بالأهواء البشريّة التي تحرّك الفعل، وبالمبدأ المحرّض على إنجاز بدءٍ ما.

 

لم يكوّن هذا الالتئام بين ملايين المسلمين والعرب ضمن وسائل الاتصال الحديثة أي قيمة خلقية تذكر، ولم تعبّر عن تاريخهم المليء بالمناظرات الراقية، أو الحوارات الجادة، أو الصيغ المعرفية المضيئة، بقدر ما نبشت كل المنسي على المستويات العرقية والطائفية، وأخذت النزعات السياسية تتحكّم بالأساليب والمعارك، بينما تأخذ الصراعات بين التيارات الوليدة الخداج حيّزًا كبيرًا من مساحات تلك المواقع ومضامينها. كشفت الوسائل عن هشاشة في القيم، ونكران لوجود الإنسان المجاور، وإضراب بوجه الرأي المستحق للحوار، ومنازلة بدائية همجية ضد المحتوى الجديد المنجز لدى أمة أخرى قريبة منا، لقد فقدت الوسائل طابعها المدني، وإمكانها الإنساني، وسائل الاتصال أصبحت أدوات تفاصل وتنابز وتناحر.

 

يدلّ ما مضى على أن المجتمعات العربية غارقة بالأنا، لهذا تجد في كلّ عربي مشروع شاعر، أو ملهم، أو شيخ، بينما لا يستطيع أن يكون مشروع مناقش أو محاور أو مسوّقًا للمعرفة والفلسفة، أو السؤال والأثر الإنساني، هناك تنازع على الزعامة بين العرب، لهذا يتعذّر خلق مجال عام يمكّن الناس من التناول الحرّ الندّي للأفكار والرؤى.

 

كل ذلك مردّه إلى الجهل، أدوات عصرية تحملها اليدان، لكن الأقدام غارقة ملتصقة بوحل الانحطاط القديم.