أكتوبر 2012

ضربات «ديكارت» الفريدة!

 

ضربات «ديكارت» الفريدة!

فهد سليمان الشقيران

جريدة الحياة ٢٩ أكتوبر ٢٠١٢

 

دائماً ما يكون التساؤل ملحاً حول الفلسفات التي مرّت عليها القرون المتعاقبة لجهةِ الاستفسار عن وجوه الفرادة في إنتاجهم، وأخص بعض فرادات «ديكارت» بهذه المقالة. تتيح الفلسفة الديكارتية للقارئ مداخل متعددة، وذلك لخصائص كثيرة متنوعة، توفرت للمرة الأولى لدى ديكارت في فلسفته، فهو في فلسفته مارس «التجاوز الفلسفي»، إذ كانت الفلسفة قبل ديكارت تتجه إلى موقعٍ محدود من المعرفة، فإذا كان المشروع الديكارتي قائماً على محاولات تأسيسية لوضع إطار منهجي علمي لنظرية المعرفة، فإن الحركة الفلسفية قبل ديكارت كانت تبحث عن معارف وفق أسئلة يضعها الفيلسوف مبدئياً، لقد كان ديكارت وفق – هيغل – هو المحرر للفلسفة من طابعها المتعلق بالإشكال إلى فتح الإشكاليات، ومن السؤال المخصوص إلى الأسئلة تتجسد قيمة ديكارت في ممارسة «التجاوز»… انتقل ديكارت بالفلسفة من سؤال «معرفة» إلى سؤال «المعرفة». 

 

ديكارت شدد على أهمية الوعي بـ«الرهان الانثربولوجي» القائم في فلسفته، خصوصاً في «التأملات»، إذ يرى أن الواقع المعرفي، كما يشرحه ديكارت، ليس ذاك الواقع الذي تكتفي «الأنا» بمجرد تأمله على نحوٍ من انفعالية الموقع، بل على العكس، إذ المعرفة في صلب الإنسان، فهي المعرفة بالإنسان، ولهذا رأى فوكو: «أن لقاء الانثربولوجي بالمعرفي ليست إضافة مفاجئة من «كانط»، بل هي ديكارتية في الأصل، وهو ما عبّر عنه «هيغل» في معظم نصوصه عن ديكارت، على رغم أن الإنسان الديكارتي وفق المفهوم الهيغلي يبقى سجين ذاته وفرديته التي يعجز في الغالب عن مفارقتها». 

 

لقد تحولت الفلسفة الديكارتية إلى المحور التأويلي الذي اشتغلت عليه الفلسفة خلال القرنين الـ«18»، و«19»، ويوصف ديكارت بأنه «ملتقى الفلسفات الحديثة»، فهو من جهة سلم بتعاليم الكنيسة، وآراء فلاسفة العصور الوسطى، كالقديس أوغسطين والأكويني وسواهما في الروح والخلود والأخلاق، لذا انصب معه التيار الفكري الوسيط من جهة، والتيار الفكري الحديث، الذي أخذ عن ديكارت التفسير الآلي للعالم. أصبح العالم آلة ضخمة، لا تخضع إلا لقوانين المادة المتحركة، ولم تعد السموات سوى آلة أو دوامات هائلة ودقائق متحركة انفصلت عن مادة لا صورة لها ولا شكل، في الأصل، كما أصبح الدماغ البشري هو الآخر آلة تكيفت لاستلام الدم والإحساسات، فأصبح كل شيء باستثناء الروح مادة خاضعة لقوانين الحركة، وأصبح كل تغاير في المادة، وكل تنوع في صورها وكيفياتها، يُعزى إلى الحركة، للمرة الأولى في تاريخ الفكر يحتل التفسير الآلي للطبيعة محل التفسير الغائي مصطنعاً الامتداد والحركة متغيرات أساسية في التفسير. 

 

(رينيه ديكارت)

تجلى هذا الجهد في تأصيل «الكوغيتو»، إذ استعادت الفلسفة منزلتها حين تأسس ما يشبه «ايتيقا الكوغيتو» بما يفرضه هذا التأسيس من وعي بتجذير الفكرة القائلة بسلطان الإنسان على الطبيعة، يبدو أن المشروع المعرفي الديكارتي لا يقوم على الانتقال إلى واقع معرفي يكون نموذجاً متعالياً على الإنسان، يكتفي الإنسان معه بمجرد التأمل، بقدر ما يطمح إلى تأسيس معرفة محايثة للإنسان تكون معرفة إنسانية محضة.   هذا مع أن «الكوغيتو» أصبح موضع ارتكاز نقدي في الفلسفات اللاحقة لديكارت، لذا جاءت الفلسفات الحديثة اللاحقة لتنبجس أول ما تنبجس على هيئة «تعديل أو نقد للكوغيتو الديكارتي»، بل إن بداهة الكوغيتو «الأنا أفكر» كانت المبدأ الأساسي الذي يُقام عليه العلم الكوني أيضاً، إذ المطلب المعرفي ملزم بأن يقاس على «الأنا أفكر» بما هو إطار اختباري، وهو ما فضّل «هوسرل» تسميته بـ«التحليل الترانسندنتالي»، حينما اعتبر مسألة «الترانسندنتالي»، «هي سبق ديكارت لمفهوم أساسي حقق ولادة الفكر الفلسفي الحديث».   من هنا نرى أن الرهان الأنثربولوجي والتأويل والكوغيتو من أبرع الفرادات الديكارتية التي مكّنت فلسفته من أن تكون نقطة ارتكاز، بل وملتقى الفلسفات على مدى خمسة قرون.

 

 

 

 

 

أحزاب دينية باستراتيجيات شيطانية

أحزاب دينية باستراتيجيات شيطانية

فهد سليمان الشقيران

جريدة الحياة ٢٢ أكتوبر ٢٠١٢

 (سمير قصير)

تُعيد الحال اللبنانية نفسها إلى الواجهة، بوصف هذا البلد هو حمّال التغييرات العربية، كما يقول سمير قصير في تاريخه لبيروت… عاش لبنان منذ القرن الـ19 حياة الثقافة والأدب والسينما، ونثر على أرصفته وميادينه ومسارحه الجمال، وكان مليئاً بالخلايا الشعرية والفنية والفلسفية التي تغذي العرب بما أرادوا من كل لونٍ ومن كل صنف.

التفجير الأخير في لبنان، الذي استهدف «وسام الحسن»، يُعيد إلى الواجهة موقع سورية من جهةٍ في الواجهة اللبنانية، وهذا هو الذي تم تناوله في الصحف والقنوات، غير أنه يُعيد أيضاً موقع الأحزاب الأيديولوجية الأصولية، إذ يصعد نجم «الإخوان» من جهةٍ، ويرتعد «حزب الله» خوفاً من سقوط النظام السوري. ويمكننا لمعرفة موقع حزب الله في لبنان أن نعود إلى تاريخ هذا الحزب، الذي غيّب إرث لبنان التاريخي، وحوّل لبنان إلى محمية إيرانية، تجعل كل من أحب هذا البلد ينفر منه حالياً بسبب هذه القسوة الأصولية الكارثية.

عام 1982 كان نقطة البداية تاريخياً لهذا الحزب، الذي لم يخدم لبنان بشيء، بل مارس ضد لبنان أخطر الأدوار الضارة، فهو «عملياً» يقاتل كل من يختلف مع «إيران»، أو «سورية»، هذا ما تؤكده الوثائق، التي يجب على قارئها أن يضع باعتباره أكثر من ملاحظة وهو يطالعها، الملاحظة الأولى: أن «حزب الله» لم يؤمن بلبنان إلا في فترة متأخرة من عمره، وحتى إيمانه هذا لم يعد أن يكون صيغة لغوية لا تترجم واقعياً، والملاحظة الثانية: وهي الأخطر، أن أهداف حزب الله تتجلى في «ممارساته»، وتختفي في «خطاباته» على عكس التنظيمات والميليشيات المسلحة الأخرى، فهذا الحزب هو تنظيم شمولي يهدف إلى إنشاء الجمهورية الإسلامية في لبنان، وهذه الفكرة ليست زلة لسان من جندي في الحزب، وإنما لها شواهدها، وقد كتبت من قبل عن «مشروع الجمهورية الإسلامية في لبنان»، ذكرت فيها من كلام المرشد الروحي لحزب الله، الراحل محمد حسين فضل الله، ما يؤكد ما ذهبت إليه، ومن أراد الشواهد على هذه الاستراتيجية فليرجع أيضاً إلى كتاب وضاح شرارة «دولة حزب الله» من مطبوعات دار النهار.

جاء في «الرسالة المفتوحة» – كتبها حزب الله في عام 1985 – وهي الوثيقة التي يصفها الكاتب في الحركات الإسلامية عبدالغني عماد بـ«المنفيستو»، الذي يجسد بعض رؤية حزب الله التوسعية، وهي بمثابة خطة أولى إيرانية لاحتلال لبنان، جاء في تلك الرسالة ما يأتي: «إننا أبناء أمة حزب الله، التي نصر الله طليعتها في إيران، وأسست من جديد نواة دولة الإسلام المركزية في العالم، نلتزم بأوامر قيادة واحدة، حكيمة عادلة تتمثل في الولي الفقيه، الجامع للشرائط، وتتجسد حاضراً في الإمام المسدد آية الله العظمى روح الله الموسوي الخميني دام ظله». «انظر ص 160 من كتاب الحركات الإسلامية في لبنان».

اللافت في هذه الرسالة، التي تعتبر حتى الآن سارية المفعول، تأكيدها وفي مواضع متعددة منها، أنها على المدى البعيد ستحاول فرض الإسلام الأصولي الطائفي على كل الطوائف الدينية في لبنان.

تلك هي الكارثة، إن مآسي هذا البلد تأتي تحت غطاءات شديدة القدسية، فهذه الأحزاب والميليشيات والدول تمارس أخطر الأدوار، تتستر باسم أقدس الأسماء، تمارس أعتى استراتيجيات الأصولية والتطرف… وتظنّ أنها تحسن صنعاً!

أمن لبنان يؤثر على العرب في لبنان أخطر الشرارات الدينية، وأي كارثة طائفية تحدث فيها ستؤثر سلباً على الأمن في الخليج، واهتمام الخليجيين بلبنان من جهة الكتابة والتحليل يعني الاهتمام بالأمن الاجتماعي في الخليج عامة… المهم أن نعرف أن اللعبة الكبرى السياسية لها محركاتها الفكرية المختبئة، وهي محركات فكرية ذات طابع أيديولوجي بحت، مهما تستّرت تحت مسميات مقدسة فهي تريد أن تحتل البلد عن آخره، وحزب الله يوسّع الآن – وتزامناً مع الأحداث السورية – صفقاته مع الأحزاب من أجل توظيف المسيحيين والسنة في الحزب، وشرائهم لتحقيق المشروع الأعنف والأخطر «مشروع الجمهورية الإسلامية في لبنان»، وهو المشروع الذي يُرفض بالطبع، سواء من حزب الله، أو من أحزاب الإخوان المسلمين في دول العرب.

 

 

 

ديموقراطية الحياة … وديموقراطية الموت

ديموقراطية الحياة … وديموقراطية الموت

فهد سليمان الشقيران 

جريدة الحياة ١٥ أكتوبر ٢٠١٢

(ريتشارد رورتي)

مع كل انتخاباتٍ أميركية أو أوروبية تقدّم تلك الأمم للعالم دروساً عمليّة للقيم الديموقراطية. ثمة مفاهيم شائعة ساذجة عن الديموقراطية، إذ ينظر إليها بوصفها حلّالة المشكلات، والمُجهزة على كل صيغ التخلف والفساد، هذه الرؤية هي التي توهم الشعوب بالإمكانات التي يمكن أن تأتي مع مكينة الديموقراطية، التي تدور مروحتها لتحل كل شيء، من هنا قال «هوبزباوم» المؤرخ الذي رحل عن دنيانا في مطلع الشهر الجاري: «إن أخطر ما في نشر الديموقراطية هو تسريب الوهم إلى الشعوب التي لا تتمتع بالديموقراطية».  

 شعوب عديدة وبعد أن أسقطت أنظمتها ودخلت في «الديموقراطية الأداتية» أصبحت تعيش في سديمٍ من الوهم المطبق، هناك تطبيقات خطرة للديموقراطية بمعناها الشائع، هذه هي الجموع التي تهتف من دون ملل وتخرج إلى الشوارع من دون تعب لو كانت ديموقراطية فعلاً لعرفت معنى فتح الدكان والمؤسسة والشركة، بدلاً من حال «سُكنى الشوارع والميادين». معاني الديموقراطية وتشكيلاتها كثيرة، وهي بالفعل تتكوّن تلقائياً تبعاً للاجتراح الاجتماعي لها، غير أن توفر شروطها العمليّة والبيئية أساس نجاحها… بعد أكثر من عام على سقوط أنظمةٍ عربيةٍ تلت الاحتجاجات الشعبية لم نرَ من الديموقراطية إلا «كوميديا الأوامر» التي لم تمسّ حتى الآن رغيف الإنسان البسيط.  

الفيلسوف الإنكليزي كارل بوبر، ضمن نظرياته الحجاجية في دراسة المجتمع المفتوح والنظريات الشمولية، يحذّر من «الاستخدام الشائع لمفهوم الديموقراطية». 

حال التصويت ليست هي بداية الفعل الديموقراطي، بل يفترض أن تكون ضمن مراحل متقدمةٍ بعد التهيئة لها عبر المؤسسات وترسانة الإمكانات الاجتماعية، يضيف بوبر: «الديموقراطية هي الإطار المؤسساتي الوحيد الذي يخول التطور وكذا التجدد لنسقٍ اجتماعي من دون أن تُبرر ذلك باستمرار مراعاة لأي افتراض أيديولجي كيفما كان، اللهم النظر إلى حرية الفكر والنقد كافتراض قابل للنقاش والتفاوض»… الفعل الحواري والسجالات والمناظرات قبيل الانتخابات محاولة ملحّة للمرشح من أجل أن يقنع الفرد مدنياً.

المرشّح في البيئة الديموقراطية المدنية لا يهدد معارضيه بمصيرهم الأخروي، ولا يقلل من دينهم، ولا يزعم أنه قادم بناءً على رؤيا رآها بالمنام، بل يأتي للترشح وبيده ملف ضمنه برنامجه المدني، خطبه تكون موجهةً للفرد ضمن جماعة، لا للجموع الذين سحقت فردانيتهم وأجهضت، الفرق بين الديموقراطية الأداتية والديموقراطية المدنية أن الثانية نضجت ضمن مجتمعٍ له تاريخه مع معالجاته الثقافية والفكرية، بينما الديموقراطية الأداتية يمكن أن تطبّقها طالبان بكل أريحية وبساطة من دون أن يغيّر ذلك من واقع المجتمع شيئاً.  

 

 

 الانبهار الذي يعتري العربي، وهو يتابع إحدى المناظرات بين المرشّحين الأميركيين، انبهار مشروع، ذلك أنه يوضّح المسافة بين الديموقراطيات التي تصحّح نفسها باستمرار وبين الديموقراطيات الشكليّة التي لا تجرؤ على مجاراة الديموقراطية الأميركية، بدليل أن ديموقراطية تونس أو مصر لا تستطيع حتى الآن ترشيح رجلٍ أسود البشرة!

يكتب الفيلسوف الأميركي رورتي: «لقد استغرقت نحو 100 عام، وحرباً أهلية ضخمة ومكلفة، قبل أن يُعطى الأميركيون السود الحق في عدم استعبادهم، واستغرق الأمر 100 عام أخرى، قبل أن يبدأ التعامل مع الأميركيين السود كمواطنين كاملي العضوية، يتمتعون بالفرص نفسها التي يتمتع بها البيض… إن جيفرسون وكانط سيذهلان من التغييرات التي حدثت في الديموقراطيات الغربية في الـ200 عام الماضية، لأنهما لم يفكرا في التعامل المتساوي بين السود والبيض، أو في حق الاقتراع للنساء كشيء يمكن استنباطه من المبادئ الفلسفية التي أعلنا عنها».

 متطلبات كبيرة لم تستطع الديموقراطية الأداتية، أو «ديموقراطية الصناديق» أن تسهّلها، لم يستخدموا الديموقراطية إلا ضمن ثقافة تكرر نفسها، حتى مشوار الـ200 عام لم يبدأ، إنها الديموقراطية التي ينتخب عبرها الأحياء من يفسدون عليهم حياتهم ودنياهم ويجرّونهم إلى سجون المنع ويحرمونهم من طعم الحرية، إنها – ربما – ديموقراطية الموت.

 

 

«هوبزباوم» قبل رحيله: الأصولية ظاهرة جماهيرية

«هوبزباوم» قبل رحيله: الأصولية ظاهرة جماهيرية

فهد سليمان الشقيران

جريدة الحياة  ٨ أكتوبر ٢٠١٢

 

برهنت الأفكار في أوروبا على مركزيتها في التغييرات التي تجري في العالم أو تعصف به، وعلى رغم كثافة الأحداث الكبرى خارج قارة أوروبا غير أن التماسّ يكون موجوداً ومؤثراً على تحريك الحدث أو إنضاجه أو إشعاله، وعلى رغم دخول العالم – كما يقول هوبزباوم – إلى زمن الهيمنة الأميركية منذ انتهاء الحرب الباردة، وبدء الصراعات الإقليمية، وانفجار الثورة المعلوماتية، غير أن تاريخ الأفكار في أوروبا يبقى التاريخ الأكثر صلابةً وتأثيراً، وعلى رغم تمدد الأيديولوجيات وانفجار النظريات في أميركا والشرق بما فيها روسيا، بيد أن مركزية تاريخ الحدث الأوروبي يبقى كالطيف الذي يغطّي بظلاله على النظريات المنقوضة أو المهدّمة والمهشّمة، أو المبنيّة حديثاً على أنقاض نظرياتٍ تلاشت وبقيت مجرد أساطير في كتب التاريخ.

 

رحل أحد أبرز المؤرخين المعاصرين وهو «إريك هوبزباوم» صاحب «الرباعية» (عصر الثورة، عصر رأس المال، عصر الإمبراطورية، عصر التطرفات)، ترجمها إلى العربية عَالِم الاجتماع الأردني فايز الصايغ، بترجمةٍ فريدةٍ، يكفي أن نستعرض أفكاراً عامةً ومختصرةً عن الرباعية.

 

في تلك المدوّنات الكبيرة والضخمة يستعرض «هوبزباوم» موسوعياً تاريخ العالم المعاصر، بدأه بـ«عصر الثورة»، وبه يتحدث عن «الثورة المزدوجة»، التي خلقَت العالم الحديث، إذ ضارعت الثورة الفرنسية الثورة الصناعية، بعدها سرعان ما تغيّرت نواحي الحياة في أوروبا في مجالات الحرب والديبلوماسية، وفي المناطق الصناعية الجديدة وعلى الأرض ووسط طبقات الفلاحين والبرجوازية والارستقراطية، في أساليب الحكم والثورة، وفي مجالات العلوم والفلسفة والدين… في هذا الكتاب يُعيد المؤرخ معاني كثيرة ارتبطت بالثورة، ويمكن للقارئ أن يكتشف الثغرات المفهومية العربية التي استخدمت إزاء الاحتجاجات الحالية لجهة إطلاق أوصاف الثورة على أحداثٍ رمزية أو انقلاباتٍ عسكرية.

 

في كتابه «عصر رأس المال»، وهو الجزء الثاني من تاريخه الموسوعي، واصل هوبزباوم تحليله الموسوعي للأحداث والأفكار الكبرى في العالم، إذ ناقش صعود الرأسمالية الصناعية التي رسّخت الثقافة البرجوازية، وفيه يتحدث عن أن امتداد الاقتصاد الرأسمالي وتوسعه شمل كل بقاع الأرض، ثم يتعرّض للربط بين الاقتصاد والتطورات السياسية والفكرية ليسرد تاريخاً واقعياً عن الثورة وعن إخفاقاتها وتبخر رهاناتها.

 

في كتابه الثالث «عصر الامبراطورية» ينطلق هوبزباوم بمعاوله الماركسية لمناقشة موسوعية إزاء «الهيمنة الإمبريالية الغربية» وتمددها في أنحاء الأرض، جاءت صرخته مدوّية، حين كتب: «إن ما تجلى في العالم الغربي من مظاهر التوسع الاقتصادي والتقدم العلمي والتقني والارتقاء وشيوع السلام، إنما كان يخفي انهيار الحقائق الفكرية واليقينية القديمة التي بشّر بها وأكدها المفكرون والفنانون والعلماء والمبدعون بمغامراتهم الاستكشافية في أصقاع العقل البشري وأعماق النفس الإنسانية».

 

في الجزء الرابع «عصر التطرفات»، رأى فيه أن القرن الت20 «الوجيز»، كما يعبّر هو عن ذلك، قسّم العصور إلى أقسامٍ ثلاثةٍ، بدأها بعصر الكارثة، إذ عصر الحروب الشاملة، والثورة العالمية، والهوّة الاقتصادية، وسقوط الليبرالية، ثم في قسمٍ تلاه تحدث عن العصر الذهبي، إذ الحرب الباردة، والثورة الثقافية، والاشتراكية الحقّة، في القسم الأخير من الكتاب تحدث عن الانهيار، عن العالم الثالث والثورة، وفي آخر الكتاب حوار نفيس بعنوان: «عقدان حافلان بالأزمات ومواطن الخلل: العالم بين 1991 و2010». لا يمكن لمقالةٍ كهذه أن تفي بمضمون مشروعٍ تجاوز صفحاته 4000 صفحة، غير أن هذه خلاصات الفهرس ونتائج عابرة وتعريفاتٍ عامة. أظنّ أن هذه الأسفار تستحق أن تكون موضع دراسةٍ وتحليل، بل ومحط إمكانات واختبارات لوقائع العالم المتلاحقة والمُحرجة، وبالأخص عالمنا العربي الذي تنشط فيه حالات التشظّي والجموع، وتفتقد فيه حاسّة التحليل والتأمل.

 

في ظل كل تلك الحرائق نستعيد مع «هوبزباوم» مقولته: «إن الأصولية الإسلامية ظـاهرة جمــاهيرية».

 

 

 

أميركا… ونيران الخندق الأصولي

أميركا… ونيران الخندق الأصولي

فهد سليمان الشقيران

جريدة الحياة ١ أكتوبر ٢٠١٢

 

 

في نيسان (أبريل) من 2007 تحدث هنري كسينجر لشبكة «سي بي اس» عن أن الرئيس الأميركي السابق جورج بوش انكبّ على قراءة كتاب «تاريخ الحرب في الجزائر 1954-1962»؛ والكتاب من تأليف: أليستير هورن، نشر في 1977… كسينجر قال إنه هو من نصح بوش بالكتاب، كان يعوّل على أن قراءة بوش لهذا الكتاب يمكنها أن «تساعده» في فهم العرب، وتحديداً إبان الغرق الأميركي بالشباك الحربية العراقية. اختار تاريخ البلد الأكثر دلالةً وغنىً في أحداثه المؤثّرة في كل من عاصرها.

 المفكران الفرنسيان من أصلٍ جزائري جاك دريدا، ومحمد أركون، ذكرا أن ذاكرة الاستعمار ونيران التطرف والإرهاب في الجزائر كان لهما أكبر الأثر في البحث عن المكوّن الثقافي العربي بغية النجاة بالمجتمع من آلامه. نصيحة رئيسٍ أميركي بقراءة تاريخ الجزائر كان منطلقاً من فهم كسينجر الخاص لـ«الشرق» ورؤيته له لم تكن فردية فحسب وإنما أسهمت في خلق تصورات امتدت، فهو أحيا الرؤى الثنائية الضدية واستخدمها في رسم تصوراته الثقافية التي سيّر سياسته على أساسها.

رؤيته – كسينجر – عن الشرق اتضحت في مقالته «البنية الداخلية والسياسة الخارجية»، وهي المقالة التي خصّها «ادوارد سعيد» بفحص دقيق في كتابه: «الاستشراق»، فهو وتحت فصل: «التعرف على الشرق»، وبعد أن فحص محاضرة آرثر جيمس بلفور التي ألقاها في 1910، ومقالة كرومر المنشورة في مجلة «أدنبرة ريفيو» في 1908، وتطرق الأخير للتقسيم «الصلب» الذي يختزن تمييزاً للثقافة الإنسانية، بعد كل ما مضى دخل في مقالة كسينجر السالفة متحدثاً عنها بإسهاب. جاء إدوارد سعيد بكسينجر في ذلك السياق، كشريك لبلفور في نظرياته، على رغم أن الفاصل الزمني بينهما قارب 60 عاماً – أثناء كتابة سعيد للبحث – إلا أن كسينجر يؤيد بلفور في أهمية «أن يقوم الرجال الذين يتبوؤون مراكز عالية في السلطة بين حين وآخر بدراسةٍ ثقافيةٍ للعالم الذي يريدون التعامل معه»، وقد فعل كسينجر ذلك تقريباً في مقالته تلك، فهو ذكر أن: «الولايات المتحدة يمكنها أن تتعامل مع العالم الصناعي المتطور بصورة أقل إشكالية من تعاملها مع العالم النامي».

                                                                                      

 

ويستمر في إبداء تشخصيه لمشكلة أميركا المستقبلية مع العالم النامي، فهو يسهّل على نفسه المهمة فيقسّم العالم إلى قسمين اثنين «مكتملة التطور – ناقصة التطور»، وهو يجزّء العالم وفق «نظرة ثقافية»، بمعنى أنه مثلاً يرى في – العالم النامي – عالماً لم يعش بعد الثورة «النيوتنية»، فيقول: «لقد احتفظت الثقافات التي لم تتعرض للصدمة الباكرة للتفكير النيوتني بما هو أساساً نظرة قبل نيوتنية، وهي أن العالم الحقيقي هو بصورة كلية تقريباً داخلي بالنسبة للمراقب، إن الواقع التجريبي له دلالة مختلفة جداً عند عدد كبير من الدول الجديدة، عن دلالته عن الغرب، لأن تلك الدول بمعنى من المعاني لم تمرّ أبداً عبر عملية اكتشاف هذا العالم». 

وإذا كان «كرومر» واستناداً على «الفرد لايل» قال إن العربي «يعجز أن يكون دقيقاً»، ليكتب سعيد بآخر الأمر «إن الخطوط – في النهاية – ترسم بالطريقةنفسها التي رسمها بها بلفور وكرومر»، وإذا كان كسينجر قسّم السياسات الخارجية إلى «النبوئي- والسياسي» فهو وفق التقسيم الثاني المتعلق بعلاقة العالم الثالث بالثورة النيوتنية يريد أن يقول كسينجر «إن الأسلوب النبوئي» هو الأسلوب السابق على نيوتن، الذي يربط كسينجر بينه وبين البلدان النامية «فاقدة الدقة»، وتلك الرؤية التي سطرها كسينجر كأساس لنظرياته اللاحقة لم تأتِ من الهواء، وإنما من مصادر عميقة لها جذورها. تتكرر الأخطاء الأميركية في السلوك الذي تتبعه تجاه بعض القضايا العربية والإسلامية، تتضح تلك الكوارث في التعامل الأميركي مع الجماعات الأصولية. أوباما حتى آخر كلمة له يتحدث عن دعمٍ أميركي للثورات العربية، ثم ما إن سقطت الأنظمة حتى بزغ فجر تنظيم القاعدة من جديد، وكان أول الضحايا السفير الأميركي. الحديث الأميركي عن الديموقراطية أو الحريات حديث مشوّق وجميل، غير أن ما تفتقده رؤيتهم «الإدراك الثقافي» للمجتمعات العربية بكل عروقها.

ثمة كتب كثيرة يمكن أن يقترحها كسينجر وغيره على أوباما، كما فعل مع بوش من قبل، غير أن ما تحتاجه الاستراتيجية الأميركية الحالية تجاه الثورات العربية «الوعي بالكارثة الأصولية».