مارس 2017

عالم «الروبوت»… قرب نهاية مركزية الإنسان

عالم «الروبوت»… قرب نهاية مركزية الإنسان

جريدة الشرق الأوسط 16 مارس 2017

فهد سليمان الشقيران

 

في زمنٍ آتٍ، قد تنجز جميع مهامك اليومية من دون أن تتعامل مع أي إنسان، على مستوى الخدمات المنزلية، والتبضع الاعتيادي، وإجراء المعاملات الخدميّة، وسواها، هذا هو زمن الثورة التقنية الباهرة والآسرة والموحشة، لقد أخذتْ مدى لم تبلغه من قبل على الإطلاق.

قبل قرن من الزمانٍ كان حكماء البشرية يتلصصون على المستقبل، محاولين التنبؤ بمصائر التقنية وآثارها على بني الإنسان. في آخر القرن العشرين طرح نيتشه انتقاداته لـ«عصر الآلات»، التي تجعل: «الحشود آلة نمطية واحدة، يذوب فيها دوارها الفرد، وتحوّله إلى أداة استعمال لتحقيق بغية واحدة».

هيدغر جاء من بعده ليدرس علاقة «التقنية بالعالم» وليخصص جزءاً من بحوثه المتعددة لهذا الغرض، حتى في كتابه الأساسي «الوجود والزمن» 1927 نراه يطرح ومضات عن استفهامه، مما جعل «لوك فيري» – في مقالة له – يجعل من مناقشة هيدغر لماهية التقنية «الخيط الناظم لمناقشة هيدغر للحداثة»، إذ اعتبر التقنية كتمظهر هي أساس الحداثة وعصبه الرئيسي.

بينما لوك فيري يرى أن تفكير هيدغر تعمق بالتدريج في هذه المسألة، وخاصة من خلال تحديد طبيعة علاقة التقنية بالعالم من حيث هي علاقة استفسار ومساءلة، ففي دراسة هيدغر عام 1937 حول نيتشه و«العود الأبدي» نراه يشير إلى «الأسلوب التقني للعلوم الحديثة» وإلى «العقل الحسابي» الذي يحكم التقنية. كما جمع هيدغر في محاضرته سنة 1938 تحت عنوان «عصر تصورات العالم» كل العناصر لما سيعتبره فيما بعد «تأويلاً أو فهماً تكنولوجياً لعصرنا» فهو يصف في محاضرته هذه «التقنية الممكْننة» بأنها (الظاهرة الأساسية للأزمنة الحديثة). أما في كتابه «الوجود والزمن» فقد تطرق إلى هذه المسألة حينما تحدث عن التحلل والانحطاط من حيث هو عالم الانشغال، فهو يقول «بأن الطبيعة بالنسبة للذات المنفتحة (الدازاين) هي مخزن من الخشب وبأن الهضاب هي مستودع من الصخور، وبأن النهر قوة محركة مائية وبأن الهواء نافخ ودافع الزوارق الشراعية».

أما اليوم فإن جبال التقنيّة قد تفجّرت براكين بحمم، والنبوءات المستقبلية حول تطوّراتها يكاد لا يصدقها عقل، إذ ستصبح هي سيّدة الإنسان، وربما ليست صدفة أن يحذّر هيدغر آنذاك من تفوّق التقنية على الإنسان.

إن هذا ما بدأ يحدث تدريجياً.. «الروبوت» بدأ يأخذ من وظائف الإنسان الخدماتية الوظيفية، والمتخصصون يتحدثون عن أدوار إبداعية مستقبلية لهذا الغول القادم، وهو الآن مشترك جزئياً بإجراء عمليات جراحية، ومن الممكن أن يدخل بخطوط الإبداع والخلق، مثل كتابة نص أدبي، أو تجهيز مادة صحافية، أو القدرة على التحرير والتصحيح ضمن مساراتٍ تقنية مهولة. التقنية يمكنها أن تحلّ محل الإنسان المغتبط بذاته وبقدراته، وهي ستضرب بكل اتجاه وبلا هوادة؛ ستكتسح أدوار الإنسان بهذا العالم… بدول خليجية حلّ الروبوت مكانة جيدة نسبة إلى محدودية تطوره؛ إذ قام بمهام الإنسان في السوبر ماركت، ويمكنه أن يقوم بذلك في المطارات، وفي أماكن أخرى، مما يجعل وظيفة الإنسان وقيمة عمله محدودة بالمستقبل، وقد يكون عاملاً مع الروبوت أو عنده بدلاً من أن يحدث العكس، هذه هي التقنية تخالها مثل كيميائي يخلط بمختبره ما يحرقه.

في 12 مارس (آذار) تحدّث العالم الفيزيائي الأشهر ستيفن هوكينغ عن مآلات علاقات الإنسان بما لديه على هذا الكوكب، وكانت صيحته مدوّية إن «التكنولوجيا يمكن أن تدمر البشرية، إذا لم يتمكن الإنسان من السيطرة عليها. إن العدوانية كانت منذ فجر الحضارة مفيدة بالقدر الذي تمنح معه أفضلية للبقاء. وذلك مبرمج في جيناتنا وفق النشوء والارتقاء الداروني. ولكن التكنولوجيا تطورت الآن بوتيرة بحيث إن هذه العدوانية يمكن أن تدمرنا جميعاً بحرب نووية أو بيولوجية. ومن الضروري أن نسيطر على هذه الغريزة الموروثة ولكنها هي ذاتها تخلق مشاكل. وقد يصبح ذلك طغياناً؛ إن الإنسان أوجد تكنولوجيا يمكن أن تدمر الكرة الأرضية، وعلينا أن نعد أنفسنا لعالم جديد حلت فيه الروبوتات محل كثير من الوظائف اليومية الاعتيادية. إن الروبوتات يمكن أن تمحق البشرية وإن الرحيل عن الكرة الأرضية هو أملنا الوحيد، لأن أيامنا فيها معدودة… أعتقد أن الحياة على الكرة الأرضية في خطر متزايد يبدأ من محوها بكارثة مثل اندلاع حرب نووية مفاجئة، أو فيروس معدَّل وراثياً، أو أخطار أخرى، وأعتقد أن الجنس البشري لا مستقبل له إذا لم يرحل إلى الفضاء».

هذا النذير الخطير، يوضّح مستوى تحوّل دور التقنية خلال القرن الآفل، لن تبقى التقنية تحت هيمنة الإنسان، ستنزلق من يده مهما تحكّم بأزرارها، ستبتلع الأجهزة الذكية العقول وتذيبها ليسير الناس مهووسين مضطربين حائرين شاردين، فاقدين معاني كبرى من ذواتهم، لأن التقنية قد دمّرت ذاكرتهم، ونابت عن حركة عقولهم، وكسرت جدوى علاقاتهم. على المستوى الكوني فإن تقنيات الفتك البيولوجية لن تستمر طيّعة بيد الإنسان، وقل مثل ذلك عن «الروبوت» الذي سينهي مركزية الإنسان بهذا العالم، والتي تسيّدها منذ عصور الأنوار حيث «الكوجيتو» الديكارتي (أنا أفكر إذن أنا موجود) والذي اعتبره ميشال فوكو لاغياً إذ «مات الإنسان» بالصيغة المركزية الديكارتية، وستكون التقنية سيدة الإنسان ومركز العالم، وسيتبع الإنسان ظلّه خائباً خاسراً معركته مع ما أبدعه هو: «منجزات التقنية المتصاعدة».

من المفجع ألا يدرك الإنسان مستوى معركته مع التقنية، باستثناء حكماء البشرية وعلمائها، نرى جلّ البشر، كل يوم، يغرقون، يذوبون، ينهزمون، تجرفهم التقنية بموجها، وتسلكهم بسلاسلها، وتخرجهم من جنّة الطبيعة إلى زمنٍ تقني افتراضي، وليس ذلك الزمن المفصلي ببعيد، إذ يغدو الإنسان ضيفاً على منتجات التقنية بهذا الكوكب.

هوكينغ قالها في حديثه: «يجب أن نكون حذرين جداً في هذه الفترة».

  

التفجّر الموسيقي… وتحولات التاريخ

التفجّر الموسيقي… وتحولات التاريخ

جريدة الشرق الأوسط  9 مارس 2017

فهد بن سليمان الشقيران

 

«أي متعة عميقة وقوية لا توصف، يشعر بها القائد حين يقف على رأس أوركسترا جيدة» بهذه الجملة يفتتح الموسيقي الروسي تشايكوفسكي الجزء التاسع عشر من مذكراته، تضمنت قراءة نقدية لطبيعة استقبال الروس والعالم أعماله الموسيقية والأوبرالية، وفيها ينتقد السيمفونية الأولى لبرامز، التي وصفها النقاد بأنها امتداد لبيتهوفن، بل واعتبروها هي «عاشرة بيتهوفن»، بدأ يصب عليها جام الغضب، ويشكو: «إنهم في ألمانيا يمتدحون برامز عالياً، وأنا لا أرى جاذبية فيه»، ويعتبر موسيقاه تلك مليئة بالادعاء؛ لأنها عميقة من دون أن تكون كذلك، ومن ثم امتدح تقدم الموسيقيين الفرنسيين في عصره، محملاً تدهور الموسيقى الألمانية لريتشارد فاغنر، ليدخل إلى علاقات الموسيقى ووشائجها مع السياسة والفنون، والفلسفات والأفكار.

تشايكوفسكي يؤرخ للأوبرا والسيمفونيات تبعاً لتطور الطبيعة، وانغماس الموسيقى بمناجاة الأرض والماء، وللأوهام والأحلام، وذلك في ذروة تألقه حينها، واستطاع فتح كوى نقدية على الأعمال الموسيقية متشعباً بموسيقى العصر الباروكي بالقرن السادس عشر، وصولاً إلى الموسيقى الرومانتيكية، وصرعات الأوبرا بكل فنونها وسحرها.

 

تلك اللمحة تبيّن مستوى المأساوية في الفرق بين التناول العربي للتاريخ الموسيقي وسواه، تؤخذ غالباً باعتبارها ذات انفصال عن المعاني السياسية والمؤثرات الدينية؛ إذ يتم التأريخ للموسيقى من خلال الأفراد وعلاقاتهم، كما فعل جورج الخوري بكتابه عن محمد عبد الوهاب، وأطروحة عدنان خوج عن طلال مداح، وكتاب حازم صاغية عن أم كلثوم، وعشرات الكتب غيرها، الأهم الدخول في عصب التطور الموسيقي ضمن حركة الموسيقى بعلاقاتها السياسية والاجتماعية، وقد أجاد بذلك علي الشوك بدراسته «أسرار الموسيقى»، وكذلك سليم سحاب في بحث نشره حول: «مدرسة الموسيقى والغناء المصرية في القرن التاسع عشر» وفيه بدأ بالتأريخ للموسيقى بمدرسة «الصهبجة» البدائية، ودور أحمد القباني في تأسيسها ونقلها من الأميّة، كما يعرج على الشيخ «المتعلم بالأزهر» محمد عبد الرحيم المسلوب (1786 – 1962)، وهو مؤسس ورائد بالموسيقى المصرية.

 

سحاب يتحدث عن دور شيخ آخر في تطوّر الموسيقى المصرية، وهو محمد الشلشلاموني، وهو مكتشف سلامة حجازي، عبقري مسرح الغناء العربي، ويوسف المنيلاوي.

 

القصد، أن التاريخ للموسيقى ضمن ذرواتها الدينية وتجلياتها الاقتصادية والعلمية والسياسية يفتح الآفاق نحو هذا المجال ويخرجه من حصاره بمجرد احتفاليات معينة، الموسيقى عالم يدخل في كل المجالات حتى الفيزيائي منها، وقد استفاد علماء الفيزياء من مصطلحات موسيقية كما في النظرية الكبرى «الأوتار الفائقة» وكان أينشتاين يعتبر الموسيقى شريكة في تسهيل حل ما يستغلق على عالم الفيزياء في دراساته وأبحاثه.

 

أما شاهر عبيد، فقد قام بعرض وتلخيص بحث «بيتر كروسلي» المتعلق بتاريخ الموسيقى العربية، به يذكّر بدور الموسيقى وعلاقاتها بالطقوس الدينية بين نهري دجلة والفرات قبل ستة آلاف سنة، ويضرب مثلاً بالإنشاد الديني، الذي كان متضمناً الترجيع والجواب لدى السومريين، ولقيت الموسيقى تقدمها لدى البابليين وفي آشور، وربطت تلك الشعوب بين إيقاع الموسيقى وبين تناغم الكون، كما يرصد الموسيقى بالحجاز، في العهود الأولى من الإسلام، وصولاً إلى العصر الأموي، حيث الإمبراطورية الإسلامية أسست للاهتمام الموسيقي، وليس انتهاءً بالعصرين العباسي والأندلسي، وهناك تفجرت الفنون وأخذت كل مساحاتها من الاهتمام، راصداً تطور صناعة «العود العربي» منذ أن كان بطنه جلداً إلى أن اكتسب اسمه من المادة الخشبية التي يصنع منها.

 

ترتبط كل آلة موسيقية بتاريخٍ من الصراع والتمازج والتشابك، ينقل علي الشوك عن لكورت زاكس في محاضرة له حول تاريخ البيانو: «إن جميع آلاتنا الموسيقية مصدرها الشرق، وقد انتقلت منه إلى أوروبا، بأكثر من طريق، والآلة الوحيدة التي كانت تعتز أوروبا بأنها من مبتكراتها هي آلة البيانو، ولكن ثبت أن هذه الآلة مصدرها أندلسي»!

 

غير أن الرجوع لكتاب ضخم مهم لماكس فيبر بعنوان: «الأسس العقلانية والسوسيولوجية» نراه في الصفحات منذ 450 وما تلاها يؤرخ للبيانو باعتباره من اختراعات «الرهبان» في بدايات العصر الوسيط؛ إذ يقوم: «الموقع الراسخ الحالي لآلة البيانو على عالمية إمكانية استخدامها بالنسبة إلى الامتلاك المنزلي تقريباً لكل كنوز المراجع المتعلقة بالموسيقى وعلى الوفرة اللا محدودة لمراجعها، وفي النهاية على ما تختص به بوصفها آلة مصاحبة، وآلة تعليم في الوقت ذاته».

 

ارتبط تاريخ الموسيقى بتحولات الأمم الكبرى، وكذلك بالتغيّرات الفردية بالمجالات الفلسفية، يشير الشوك إلى أن: «نيتشه الذي بدا منبهراً بأوبرا ريتشارد فاغنر انتهى به المطاف مزدرياً لها، مفضّلاً موسيقى البحر المتوسط على الموسيقى الجرمانية الشمالية، ليصبح أكثر التصاقاً بالجانب (الداينوسي) العاطفي، في الموسيقى من جانبها (الأبولي) الذهني، وبآخر حياته فضّل أوبرا (كارمن) لجورج بيزيه، على جميع أوبرات فاغنر»، تلك هي حركة الموسيقى.

 

الموقع الموسيقي بالمجتمع أكبر من قاعة يحشد إليها البشر، إنها جزء من التكوين الفكري والوجداني والعاطفي والعقلي للإنسان منذ أزمانه الغابرة، ولعل الزاعقين الآن حول التصالح مع الموسيقى يقرأون التاريخ العريق الضارب بجذوره في أدور الموسيقى على التراثات البشرية.

في شبابه كتب عبد الرحمن بدوي رسائل إلى أنثى غامضة أحبها، ومن منازل ريلكه في باريس دوّن لها رسالة كانت خاتمتها: «إن بالفن الخلاص، حتى من جزع المدن الكبرى».

 

الترفيه شريك الجيش بهذه الحرب

الترفيه شريك الجيش بهذه الحرب

فهد سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 2 مارس 2017

 

 

 

 

على هذه الأرض؛ بسبخها وجبالها وهضابها، ما يستحق الحياة… بها نبضت الفنون حين كانت النفوس بريئة، تطرب للربابة، وترقص «السامري»، وتزف الأفراح بالطبول… والأغنية بمفهومها الأعمّ تعاش من شروق الشمس إلى مغيبها، مع الطبيعة والطين، والخضرة النضرة، والمشي الراقص على الجبال الوعرة.

 

كان الفن أصيلاً في النفوس، وجزءاً من الحق، ولم يكن يوماً ترفاً، وفي ذروة الجوع، حيث الرحّل من رجال «العقيلات»، كان للحدو حضوره، حتى والأرض رمضاء لاهبة، والنعال ممزقة.

 

مرّت عاصفة غير معقولة على المجتمع البريء، وساطه ذوو الألسنة الحداد بوعظ مسيس، ليخرجوه من نعيم البراءة وأصالة الحب والفن والمرح، إلى جحيم الشك والوسوسة والهزال تجاه الدنيا. وحين دخلنا الحرب، كانت طبول العرضة السعودية ضمن إعلانها، فلا تناقض بين التقوّي بالفن، وإغاظة الأعداء بقصائد الحرب، وارتبطت العرضة بحروب التوحيد على يد الملك عبد العزيز، فالطبل مع قصيد العرضة يثير الهلع، ويفتّ من عضد العدو، فلا تناقض أبداً ومطلقاً بين الحرب والفن.

 

وهتلر إبان حروبه، كان مغرماً بموسيقى ريتشارد فاغنر، وبالأخص معزوفة «ذا فالكيري»، وأطلق اسمها على قوّة ضاربة في جيشه، وتجسّد دور هذه الموسيقى في حرب النازية بشكل واضح في فيلم توم كروز «فالكيري»، (2008)؛ إذ يصوّر مؤامرة العشرين من يوليو (تموز) إبان الحرب العالمية الثانية من ضباط الجيش الألماني لاغتيال هتلر، وتعزف الموسيقى بمفاصل محددة بالفيلم. المقطوعة يندر أن يسمعها طفل إلا ويبكي، لشدة إيقاعها العسكري، ونبرتها الانتقامية الشرسة. لقد وظف السياسي الفن كما يجب ضمن وظائف الحرب، ولهذا شواهد لا تحصى.

 

ثم إن الحرب والفن يشتركان في «إرادة البقاء»؛ فالفنّ حرب، والرقص مثل الحرب؛ مقاومة للسكون، وخروج عن الثبات والجمود، كما أنه يتضمن صورة القوة، ولنتذكّر الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي كان يجيد العرضة السعودية بشكل نادر، ويا لها من رقصة فنيّة وحربية في آنٍ معاً، وعلى حد تعبير كانغيلام، فإن الحرب «صراع، وخلق ومخاطرة، ومعاناة»، وكذلك الفن. والعجب أن جل الممانعين ضد الفن بحجة الحرب يعتبرون هوليوود تقوم «بغزو» فكري؛ إذن لماذا تعتبرونه هناك غزواً وحرباً، وهنا تفسخاً واستهتاراً؟!

 

وبالعودة إلى تاريخ اليونان، نرى انتعاش الفنون بالحروب، ذلك أنها غذاء المجتمع للقوة، وبها يستعرض استرخاءه، وعدم تأزمه في إدارة الحرب، وبها يمكن أن يكون الفن رسالة إغاظة للأعداء، فالحرب يقودها الشجعان الأشاوس، ويخوضونها باقتدار لدرجة أن المجتمع في مدنه وقراه يستمع إلى الفنون؛ رسالة حرب: «هنا الفن والغناء، نحن في ذروة الاسترخاء»، بدلاً من إشاعة روح التثبيط وكأن العدو قد كسب جولة!

يؤرخ بيرتراند راسل في الجزء الأول من كتابه «حكمة الغرب» لنمو الفن باليونان، قائلاً: «في فترة قصيرة، لا تزيد على قرنين، فاضت العبقرية اليونانية في ميادين الفن والآداب والفلسفة، سيلاً لا ينقطع من الروائع التي كانت منذ ذلك الحين مقياساً عاماً للحضارة الغربية»، هذا مع حروب طاحنة دائمة.

 

لنأخذ اليونان وحروبها وفنونها نموذجاً؛ في كتاب «تاريخ الفلسفة السياسية من ثيوكيديديس حتى أسبينوزا»، نشر ديفيد بولوتن بحثاً عن ثيوكيديديس (400 قبل الميلاد)، (مؤلف كتاب «حرب البيلوبونيز والأثينيين»)، وفيه يقول: «ما قاله الأثينيون في إسبرطة قد أسهب فيه بيركليس فيما بعد بخطبة تحدث فيها عن الشعب الأثيني، بوصفه محباً للجمال والحكمة، وفضلاً عن ذلك، فإنه يمدح الأثينيين لرغبتهم في أن يكونوا شجعاناً في المعركة دون حاجتهم إلى الاعتماد على تدريب طويل وشاق»، ثم يشير إلى أن المدينة بكل تفاصيلها، بما فيها الفن، جزء من القوة الحربية، لأنها تصبح آنذاك مدينة مكتملة، يضيف: «القول بأن الأثينيين قد اختاروا بحرية أن يستخدموا ذكاءهم ومواهبهم الأخرى لصالح المدينة، كما أنهم على استعداد لأن يخاطروا بحياتهم من أجلها، جانب حاسم من وجهة نظرهم عن أنفسهم من حيث أنهم نبلاء»، ولهذا تفصيل أطال فيه، خلاصته أن الحرب ترفد برسائل مدنية أيضاً، حيث الفن يبدي الاستقرار بذروته، بينما الظلمة والشعور بالهلع يعارضان هدف الحرب وهو ترسيخ الاستقرار «وإرادة البقاء»، وإثارة الهلع والخوف والرعب الكاسر لظهور الأعداء، وذلك بالسلاح، والصورة، والصوت… بالقصيدة والكلمة، بالموسيقى والاستعراض الشامل.

تلك هي المسألة: الترفيه ليس ترفاً، بل حق أصيل يرتبط بالفرد، وجزء من كينونة الإنسان بهذا العالم… لسارتر مقولة متداولة في كتابه «ما الأدب»: «ليست المسألة أن نختار العصر الذي نعيش فيه، بل أن نختار كيف نكون ضمن هذا العصر».