يوليو 2013

«الماغوط»… نصوص الجوع والخوف

الماغوط… نصوص الجوع والخوف

فهد بن سليمان الشقيران

جريدة الحياة ٢٩ يوليو ٢٠١٣

 

كتبتُ قبل أيامٍ في موقعي تدوينة مطوّلة حول التشعّب الشعري لنصوص محمد الماغوط، بين الفلسفة والفنون وألوان السخرية وطيف هو وسط بين المعنى واللامعنى، خصصتُها للتعريف العام بشعره وبنصوصه، إذ صنع الماغوط نصاً مختلفاً ومستقلاً لم ينحَ نحو مجايليه مثل أدونيس أو الخال أو أنسي الحاج، بل كتب نصاً ملأه بالجوع والخوف، على حد تعبير أخيه عيسى الماغوط. من هنا فإنني أستمر بالحديث عن نص الماغوط الساخر الذي اشتهر به، والكثير من الكلمات واللذعات السياسية التي يطلقها تتداول هذه الأيام في شبكات التواصل الاجتماعية. ومن قرأ «سياف الزهور، أو سأخون وطني»، أو مسرحياته الكثيرة التي كتبها وأسست للمسرحية السورية المعاصرة يدرك أن الماغوط يتقلّب بين شعر موجوع، أو سخرية موجعة، فهو متشائم وسوداوي ولا يتحمل لحظات الفرح أو البهجة، هكذا كان الراحل.

 

شكّلت السخرية موضوعاً لدرس الماغوط، وهذا ما جعل «جان دايه»، في كتابه: «محمد الماغوط وصوبيا الحزب القومي»، يخصص ملفاً لقراءة حضور السخرية في مقالات الماغوط المتعلقة بالشأن الاجتماعي أو السياسي وفي المسرحيات والأفلام التي كتبها أيضاً. يكتب دايه: «يمكنني القول إن الماغوط أبدع منهجاً جديداً في السخرية وهو دون سنّ الثلاثين، لأنني لم أجد شبيهاً لمنهجه من بين جميع الساخرين المبدعين في لبنان، وفي بلاد الشام… يظهر الماغوط مبدعاً لمدرسة جديدة في السخرية، كما هي حاله مع إبداعه في الشعر، والغريب أن صاحبنا قد أبدع باكراً ومن غير أن يتسنى له الدرس والاقتباس الكافيين كما هي حال سائر الساخرين الذين يتأثرون في البداية ثم يشقّون طريقهم في ما بعد». ثم يشير في دراسته إلى أن سخرية الماغوط تميّزت باستحضار المقارنات والتوصيفات المفاجئة والطريفة والمستوحاة من الواقع السياسي والاجتماعي الآني. الماغوط في كتاباته الساخرة يفتح مجالاً لروحه المرحة على عكس الشعر الذي قال إنه سيكتبه بشكلٍ حاد مثل أسنان مصابة بالكزاز، وأقسم أن يجعل حروفه طويلة كقرون الوعل. بقيت سخرية الماغوط ضمن الرؤية العميقة للوجود التي انتهجها وخلاصتها أن هذا العالم مصاب بعطب أصلي لا يمكن إصلاحه وبالتالي تكون السخرية من المشاهد اليومية هي الحل الوحيد.

 

ارتبطت علاقاته بأسماء كوميدية عربية شهيرة مثل عادل إمام ودريد لحام الذي سخط الماغوط منه بعد أن جار عليه مادياً، كان يصنع الضحكة في نصّه الساخر كما يكتب النص المؤلم في شعره الحزين. كتب سخريته للمجهول والعدم، وهكذا كان يقذف الحمم من دون هدف، لم يكن يشعر بالحرّية بسبب الجوع والخوف، كتب بأسماء مستعارة مثل «سومر» و«شيبوب». يهتف الماغوط وهو يشعر بالتعب:

 

«يا أرصفة أوروبا الرائعة

أيتها الحجارة الممدّدة منذ آلاف السنين

تحت المعاطف ورؤوس المظلات

أما من وكرٍ صغير لبدويّ من الشرق

يحمل تاريخه على ظهره كالحطّاب؟»

 

في حواراته يصرّ الماغوط على عشقه لـ«كاف» التشبيه، التي لا يكاد يخلو منها نصه الشعري، انتقلت الصور أو الألوان أو الأشكال التي تبدعها «كاف التشبيه» الشعرية لتصل إلى ساحة النص المسرحي والنص الساخر الصحافي، الذي يتحدث فيها ساخراً حتى من نفسه ومن يومياته وأحداثه، كان حليفاً للقارئ وليس مضاداً أو مناوئاً له. يسهل على قارئ سخرية الماغوط أن يشعر بالألفة مع النص.

 

بقيت سخرية الماغوط ضمن رؤيته الوجودية العامة، والفرق بين شعره ونصوصه الأخرى فرق جزئي ضمن اختلاف المجالات، تحضر الصورة الساخرة حتى في الشعر أحياناً، مثلاً حين كتب:

 

«لقد اشتقتُ للظلم للإرهاب

للتعلق بالأغصان بالشاحنات

للتمسك بأي شيء ولو بقضبان السجون

إنني لستُ ضائعاً فحسب

حتى لو هويتُ عن أريكتي في المقهى.

لن أصل إلى سطح الأرض بآلاف السنين».

 

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*هنا التدوينة الماضية عن شعر الماغوط:

http://www.shoqiran.net/archives/505 

 

يبجّلون ابن خلدون ولا ينتقدونه

 

يبجّلون ابن خلدون ولا ينتقدونه

فهد سليمان الشقيران

جريدة الحياة ٢٢ يوليو ٢٠١٣

 

إذا تصفّحنا المؤلفات العربية الفكرية التي ازدهرت منذ ستينات القرن الماضي سنعثر على عناوين عدة خصصت لدراسة مقدمة ابن خلدون، وإذا أخذنا الأسماء الفكرية العربية الكبرى فإن معظمها خصصّت مؤلّفاً عن ابن خلدون بوصفه منظّراً للعمران وفاحصاً للمجتمعات وعالماً بمفاصل التاريخ وتقلباته ونكباته.

 

أسماء كثيرة خصّصت مؤلفاتٍ وصلت إلى حد التبجيل لابن خلدون، مثل علي أومليل ومحمد الجابري ومحمد جابر الأنصاري وعلي الوردي وغيرهم عشرات من المفكّرين الذين أخذوا على عاتقهم بثّ النظرية الخلدونية وحقّ لهم ذلك، بسبب كون هذا العبقري كان سابقاً لعصره في المقدّمة، لقد أسهم بشكلٍ كبير لإثراء البشرية، غير أن أنماط التبجيل عجزت عن نقد فكر ابن خلدون وذلك بغية الإفادة المضاعفة من فكره. وممارسة النقد ضد فكر ابن خلدون هو امتداد للمدرسة الخلدونية نفسها وإلا كنا ضمن الأعطال التي حذّر هو منها. نقد ابن خلدون شرط لممارسة الأدوات الخلدونية النقدية التي تحثّ على التجاوز باستمرار.

 

طوال العقود الماضية بقي فكر ابن خلدون مقدّساً وكأنه لم يخطئ ببعض مواقفه وأفكاره، غير أن المفكّر الراحل محمد أركون كان سبّاقاً لأن يشرّح ابن خلدون تفصيلياً في كتابه الضخم «نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية» الذي طبع بعد رحيله، كان ابن خلدون هذه المرة موضع تشريحٍ وذلك ضمن رؤية «نقد النقد» التي استعملها أركون مستمداً إياها من فلسفات «العقل المنبثق الصاعد»، أو فلسفات ما بعد الحداثة، بحيث يصبح النقد موضعاً للنقد، والأداة تضرب الأداة، وهكذا تعود الأدوات ضد أطرافها إلى ما لا نهاية. سأقف سريعاً مع نقد أركون لابن خلدون وهو نقد يحتاج إلى بحث مستقل.

 

 

ثمة نص لابن خلدون أرّق أركون كثيراً لنقرأه: «والملة الإسلامية لمّا كان الجهاد فيها مشروعاً لعموم الدعوة وحمل الكافة على دين الإسلام طوعاً أو كرهاً اتخذت فيها الخلافة والملك لتوجه الشوكة من القائمين بها إليهما معاً، وأما ما سوى الملة الإسلامية فلم تكن دعوتهم عامةً ولا الجهاد عندهم مشروعاً إلا في المدافعة فقط».

 

يتعجّب أركون من الحال التبجيلية لمقدمة ابن خلدون ويتعجّب أكثر ممن وصل به الحد إلى اعتبار ابن خلدون عالم أنثربولوجيا، أو بأنه «مؤسس علم الاجتماع»، أو أن تتم مقارنته بميكافيللي، ذلك أن هذه العبارات مجرد مبالغات وإسقاطات، وابن خلدون في مقدمته بدا ضمن السياق الديني القروسطي معتمداً الحدود المشتركة للموقف اللاهوتي التقليدي. يكتب أركون: «لا ينبغي أن نبالغ بحداثته كثيراً، أو أن نسقط عليه مواقف الحداثة الفكرية، أي ما ليس فيه»، ويضيف في ختام نقده له بأن ابن خلدون ضمن السياق الأصولي التكفيري.

 

في الفصل الـ24 من المقدمة يكتب ابن خلدون: «في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها»، ثم يبدأ الفصل: «هذه العلوم عارضة في العمران، كثيرة في المدن، وضررها في الدين كثير فواجب أن يصدع بشأنها ويُكشف عن المعتقد الحق بشأنها»، ثم راح يتفّه من هذا العلم ويحذّر ويشترط على قارئ الفلسفة شروطاً لا تختلف عن الشرط الأصولي الحالي للاطلاع على علوم «الكافرين».

 

حين تنتقد هذه الشخصيات الكبرى يشعر البعض بحالٍ من انتهاك المشروعية الوجدانية، ذلك أن انتماء هذا العالم معنا ضمن الهوية المشتركة والدين المشترك يشعرنا بنوعٍ من الزهوّ بالسبق، غير أن نقد أي شخصية طرحت مشروعاً جزءاً من الهدف العلمي ومن التطور النقدي، وابن خلدون ليس منزّهاً عن النقد وليس بمعزلٍ عنه.

 

من الضروري تأسيس ورش نقدية لمنتج ابن خلدون ضمن المستجدات العلمية والفلسفية والفكرية التي نعيشها في القرن الـ21، وهذا ليس تنقيصاً ولا تبخيساً وإنما لإثراء فكره وللاستجابة لمشروعه العمراني، لعل هياج التبجيل المستديم الذي غرقنا به يخف، ونبدأ بشجاعة لمواجهة مفكرينا ونوابغنا لترسيخ امتدادهم المعرفي، النقد شرط القراءة، والتبجيل موضوع وجداني لا قيمة له علمياً.

 

الماغوط… والحزن في ضوء القمر

الماغوط… والحزن في ضوء القمر

فهد سليمان الشقيران

المدونة 18 يوليو 2013

1-

يلفت النظر هذه الأيام عودة العبارات الشهيرة للشاعر والمسرحي محمد الماغوط (1934- 3 أبريل 2006) والذي جمع مقالاته السياسية بكتبٍ هي غاية في التسلية والمتعة مثل:”سيّاف الزهور” و “سأخون وطني”. كانت كتاباته السياسية الساخرة تتضمن عباراتٍ انتقلت وتم تداولها على نطاقٍ عريض. الماغوط لم يكن يعلم أنه شاعر، في السجن كانت زوجته تجلب إليه مئات الأوراق ليقرأها، غرق بالشعر الفرنسي الحداثي وقرأ لرامبو وبودلير، لكن حين نسي كل ما قرأه تشكل الماغوط شعرياً وفكرياً. ينكر الماغوط أن يكون محباً للفلسفة لكنه قرأها بالسجن وهي تحضر في بعض المفاهيم التي يستعيرها في شعره. كذلك فعل محمود درويش الذي تغذّى نصه الشعري على اطلاعه الفلسفي كما في كتابة اللبناني علي حرب عنه بعد رحيله.

 

2-

عندما اقتنيت لأول مرة نصوص الشاعر محمد الماغوط أكثر ما شدّ انتباهي عناوين دواوينه “حزنٌ في ضوء القمر، غرفة بملايين الجدران، الفرح ليس مهنتي”، عناوين تتفق ومزاجه وطريقة رؤيته للأشياء. وربما تتفق والبؤس الذي يختبئ داخل جسده الضخم لا يعرف كيف يفسره ولا كيف يقرأه، وشبّه الحزن الذي يعيشه في إحدى قصائده بأنه مثل “نيران الأعراس”.

  كانت المقدّمة التي كتبتْها زوجته عن شعره “سنية صالح” بمثابة نص شعري آخر، كما أن مسرحياته كانت تقطر شعراً، أما بطل رواية “الأرجوحة” وأعني به “الفهد” -الذي جعله الماغوط شخصية الرواية الرئيسية التي تعبّر عن خلجاته وآلامه- فهي الشخصية الأشدّ تأثيراً والأكثر لصوقاً بالذاكرة، منذ أن أنهيت قراءة الدواوين مراراً بدأت أفكر بمعاني العزل بين النص الشعري والنص الفلسفي، فربّ نص شعري فاض فلسفة ورؤية أشدّ من نصوص فلسفية هزيلة كثيرة، لطالما ذكّرني نصّ الماغوط بقول هيدغر: “إن الشعر هو خيال خالص، إن الصورة الشعرية ترينا العالم اليومي، ولكنها تريه لنا غريباً عنا، إنها ترينا اللا مرئي أي الغرابة، ولغز الحضور في قلب المرئي الأشدّ بساطة والأكثر وضوحاًّ”.

3-

قبل فترة وأثناء تجوالي في مكتبة ظفرت بكتاب لطالما تمنّيت أن يقوم بتأليفه محمد الماغوط نفسه، وهو كتاب عبارة عن “مذكرات للماغوط” كتبها عيسى الماغوط الأخ الشقيق لمحمد تحت عنوان “محمد الماغوط- رسائل الجوع والخوف”(دار المدى )2009 قسّم عيسى الكتاب إلى قسمين قسم لذكرياته مع أخيه محمد وتضمن 87 صفحة وهو الجزء الأمتع من الكتاب، أما القسم الآخر فتضمن مراسلات الماغوط لعيسى، كان الكتاب ممتعاً وضمّ معلومات عن الماغوط كانت شبه مفقودة، خاصةً لجهة انتماءات الماغوط السياسية التي سجن بسببها، والتي كان الماغوط يعتبرها انتماءات لأسباب مادية وليست فكرية، وهو ما أنكره عيسى نفسه في الكتاب.

لم يكن نصّ الماغوط نصاً وصفياً لليوميات بالمعنى الحرفي للكلمة، لكنه كان نصاً رؤيوياً يقارب “الوجود اليومي” لا “العيش اليومي”، كان شعراً مليئاً بالرؤى العميقة لكوامن الإنسان، فهو كان منكبّاً على القراءات الفلسفية والفكرية، ولا غرابة أن يبدو نصّه الشعري بمثابة تدفّق فلسفي استطاع أن يعاشر اللغة بعلائقها المتعددة، الشعرية، والفكرية، والفلسفية، لم يكن أسير قوالب جامدة، لهذا كتبت زوجته سنية صالح: “عندما قدّمه أدونيس في أحد اجتماعات مجلة شعر المكتظة بالوافدين، وقرأ له بعض نتاجه الجديد الغريب بصوت رخيم دون أن يعلن اسمه، وترك المستمعين يتخبّطون، بودلير؟ رامبو؟ لكن أدونيس لم يلبث أن أشار إلى شاب مجهول غير أنيق أشعث الشعر وقال “هو الشاعر” لا شك أن تلك المفاجأة قد أدهشتهم وانقلب فضولهم إلى تمتمات خفيضة”.

 

4-

إذا كانت زوجته الشاعرة والناقدة أيضاً ترى أن “فترات الخصب عند الماغوط تتوقت بالأزمات” وأن الماغوط “أراد أن يدخل كون الشعر حيث لا سلطة إلا للمتفوقين” فإن النص الذي نسجه الماغوط كان نصاً مرتبكاً كما هي حالة الماغوط نفسه، كان نصاً لا يتضمن تعابير جاهزة، أو أوصافاً سريعة بل قدّم الماغوط نصاً رؤيوياً تملأه صور الجوع والخوف والرعب والكآبة والوحدة والبرد. الماغوط كتب نصاً مدمّراً، كتب النص الذي انتظرناه طويلاً، وعلى حد وصف ميشيل هار فإن: “الشاعر لا يأتي بالخلاص غير أنه يحتفظ بشدّة كاملة، هي شدّة عصرة، وليست شدّة حياته الخاصة، وانفعاله ناجع وليس هروباً من ذلك، أن حزنه ومنفاه وتمرده وعذابه أو فرحه بالمعنى العميق للكلمة تنزل كلها إلى أعماق عصره وتتغذى من ينابيعه، وهي التدفق الجديد للتاريخ”.

 

5-

المالنخوليا أصيب بأعراضها الكثير من الفلاسفة، فانتحر بعضهم مثل جيل دلوز، أو حاول الانتحار مثل كارل ماركس، وبعضهم تعاطى المخدرات مثل رولان بارت والبعض الآخر وصل به القلق والأسى إلى الجنون الأليم مثل نيتشه وبعضهم أصيب بداء الكلب مثل كانط وبعضهم مرض بهلوسات نفسية مثل أوغست كونت، إنه الشعور العميق الداخلي بفراغ، أن تصل إلى حالةٍ من إدراك العالم، أن تنظر إلى العالم بزاويا تختلف عن الزوايا التي توارثها الناس، أن تنظر إلى العالم من نقطة الضعف، وتضربه بأسئلتك من نقطة الارتكاز، ثم لا تجد أي جواب. المالنخوليا –كحالة- تبرز بوضوح في “الألم” بلا سبب، وتبدّل المزاج بشكلٍ مرعب.

 

 

 أظن أن بعض المثقفين والفلاسفة والشعراء العرب أصيبوا بهذا، ومن بينهم الشاعر محمد الماغوط ونصوصه مثل: “منْ أقابله في الصباح، أشتهي قتْله في المساء” “مستقبلي الوحيد هو قبري، وجمهوري الوحيد هو ظلي” ،”إنني مثل السجين الذي ظل يحفر عشرين عاماً ثم اكتشف أن الحفرة التي حفرها تقوده إلى زنزانةٍ أخرى” “سأظل مع القضايا الخاسرة حتى الموت”، “إن كل صراخ أدباء العالم ومفكريه عن الحزن والألم والعذاب، لا تساويه أغنية حزينة تؤديها بغيّ وحيدة في الشارع”، “إذا متّ شخوا على قبري” أو النص الذي يقول فيه: “أقسى مافي الوجود، أن لا يكون هناك ما تنتظره، أو تتذكره، أو تحلم به” وكتب عن الحزن “أيها الحزن، ياسيفي الطويل المجعّد.. الرصيف الحاملُ طفله الأشقر، يسأل عن وردةٍ أو أسير، عن سفينة وغيمة من الوطن.. والكلمات الحرة تكتسحني كالطاعون.. لا امرأة لي ولا عقيدة”، “من أين ينبع هذا الألم؟ هذه الطعنات المشتعلة كنيران الأعراس”.

 

ديموقراطيون… ومشروعهم الموت

ديموقراطيون… ومشروعهم الموت

فهد سليمان الشقيران

جريدة الحياة ١٥ يوليو ٢٠١٣

(الصادق النيهوم)

يبرهن مفهوم الديموقراطية على تشعّبه دوماً، فهو يتلوّن ويتشكّل بالمجتمع وثقافته، بأعطاله وأمراضه، بظلمته وإشعاعه. استخدم المفهوم الإجرائي هذا بغية الوصول إلى نمط حكمٍ مبنيّ على غالبية الصوت لإيقاظ الجموع إحساساً وتعبيراً، غير أنه لم يكن يوماً مفهوماً جامداً أو جاهزاً، إذ تتمدد الديموقراطية تبعاً لقوالب المجتمع الذي تنزرع فيه، والديموقراطية لا تُركّب وإنما تنبت بالثقافة والصياغة والنقاش والحوار، فهي نتيجة وليست مقدمة.

لو أن الديموقراطيات الكبرى لم تذق بأطراف لسانها اللاهث مرارة الحروب الأهلية ولعائن حروب المئين لما اكتشفت لبرهةٍ أن ثمة خطأً يمكن للديموقراطية أن تزيله، من هنا فقّس مفهوم الديموقراطية عن تشكيلاتٍ لها. تشكّلت ديموقراطيات عدة في أوروبا تحديداً، إذ تتخالف النماذج وتتنوع الأساليب وتتعدد الطرق، غير أن السبل المقصودة من كل ذلك إيصال «صوت الناس».

شكّل مفهوم الديموقراطية في منتصف القرن الـ20 قلقاً عربياً، إذ سرعان ما تمت محاولة تبيئة المفهوم ضمن سياق «الشورى» التي استخدم في الأدبيات السياسية بالإسلام، حينها وفي تلك الفترة وما تلاها تصاعدت السجالات حول مستويات التقاطع بين الديموقراطية والشورى، وهي نقاشات يمكن إدراك شررها بكتب المفكر الليبي الراحل الصادق النيهوم، الذي كتب مقالاتٍ عدة جمعت بكتبٍ منها: «محنة ثقافة مزورة – صوت الناس أم صوت الفقهاء»، و«إسلام ضد الإسلام»، و«فرسان بلا معركة»، و«كلمات الحق القوية».

مشاريع تبيئة المفهوم أخفقت ذلك أن الشورى غير الديموقراطية بمعنىً جذري، كما يوضّح علي حرب في سياق ردوده الكثيرة على أطروحة النيهوم حول الشورى والديموقراطية.

غير أن القلق العربي ليس فريداً من نوعه، إذ سرعان ما ارتدّ مفهوم الديموقراطية منتجاً أسئلته وتشكيلاته الجديدة، فهو مفهوم سيّال لا يفتأ يفجر تعقيداته وشبكاته. الفيلسوف كارل بوبر ألقى عام 1981 محاضرةً بعنوان: «التسامح والمسؤولية الثقافية» تحدث فيها عن تعقيدات الديموقراطية وقلب أولوياتها وأعاد رسم مخططاتها، ومما قاله:

«إذا كنتُ أحلم بيوتيوبيا ديموقراطية، فإنني أحلم بيوتيوبيا يمكن فيها للمرشح لبرلمانٍ أن يأمل الحصول على أصوات الناخبين عبر إعلانه بفخر عن كيف أنه اكتشف خلال العام المنصرم 31 خطأ ارتكبها هو بنفسه، وسعى لتصحيح 13 من بينها، هذا بينما اكتشف منافسه 27 خطأ فحسب، حتى لو كان قد صرّح بأنه قد صحح بدوره 13 خطأ منها».

تأخذ الديموقراطية صيغاً جديدة حين تلبس حلّة «المباهاة بالخطأ» في زمنٍ تضخّمت معه الديموقراطية ومنذ القرن الـ19 بالمباهاة بالصواب، والتبجّح بالإنجاز، فلربما حملت الديموقراطية المرشّح على أكتاف مناصريه بفضل اعترافه بأخطائه، تطوّرات كبرى يشهدها مفهوم الديموقراطية منذ العصر اليوناني وإلى اليوم، ذلك أنه لا يفتأ متشكّلاً عبر صيغٍ متعددة. الديموقراطية طيف يتلوّن تبعاً للبيئة التي يسكنها. غير أن الديموقراطية أيضاً بهذه الصيغ المتجددة تجدد ممانعتها لأن تكون مطيةً للقتلة والمجرمين، إذ سرعان ما تصحح أخطاءها؛ حين تكون ديموقراطية صنعت من بيئة المجتمع ومن غليانه، لا أن تكون مركبةً على مجموعةٍ من الحفاة ثم تتحول إلى مجالٍ للضرب والإلغاء أو الحرب والشغب. خلال الأعوام الثلاثة الماضية مرّ مفهوم الديموقراطية لدى العرب ضمن سياق الاضطرابات التي حدثت، حينها فضّل أهل الركض والصراخ أن تكون الديموقراطية – أيّ ديموقراطية – هي الحل، ثم جاءت بأعداء للحياة والعالم على سدة العرش، جاءت بأناسٍ لفظتهم الدنيوية الضرورية وأصبحوا أسرى لتنظيماتهم المشبوهة وزعقات مناصريهم الحفاة الجهلة، حينها تبدّى الوجه الأصولي للاستخدام الديموقراطي، ولا ننسى أن كبار القتلة بالتاريخ وصلوا عبر أصوات الناس وآخرهم هتلر.

ديموقراطيات القتلة تذكرنا بمقولة «بوبر» أيضاً الذي قالها وبوضوح: «يجب حماية الديموقراطية من غير الديموقراطيين».

 

 

ليبراليون أيّدوا الأصوليات!

ليبراليون أيّدوا الأصوليات!

فهد بن سليمان الشقيران

جريدة الحياة ٨ يوليو ٢٠١٣

 

على رغم التنادي العام الذي حايث الظرف الأصولي الذي بدأت أعراسه منذ ثلاثة أعوام تقريباً، غير أن الآراء التي صحبت تلك الأحداث ربما تستحق التحقيب. كان التأييد للثورة التونسية طاغياً حتى أن عدو الربيع العربي اللدود «أدونيس» وقع في الفخ ذلك أنها سحرتْه، كما يقول، غير أن الحدث المصري كان هو الشرارة التي أثبتت أن المقبل في الأفق ليس إلا الربيع الأصولي الكارثي… كاتب هذه السطور دوّن في هذه الصحيفة منذ الثلث الأول من عام 2011 مقالاتٍ حملت عناوين مثل: «عن أي ربيع عربي نتحدث، النكبة الأصولية الكارثية، ربيع تنظيم القاعدة» وغيرها، غير أنني سأعيد التذكير بمقالةٍ كتبتها أعاتب فيها الكُتّاب الليبراليين الذين هللوا لفوز مرسي آنذاك وكانوا يدافعون عن الديموقراطية «الصندوقية»، وعنوانه «الأصولية ورايات الليبراليين البيضاء»، وذلك في 29 تموز (يوليو) 2012.

 

كتبتُ في المقالة تلك: «رايات الحرب المعرفية على الأصولية اختفى بعضها، ربما تكيّفاً مع المرحلة الجديدة، وربما هرباً من جرحٍ شعُر به البعض وأراد ألا يشعر بالغربة، إذ يحيا في زمنٍ تتسلّق فيه الشخصيات الأصولية قمم العروش، كما أن الإلحاح من بعض الليبراليين على ضرورة عدم نقد وصول الأصوليين للحكم إنما ينطلق من وهم خلاص الديموقراطية الذي يهيمنُ عليهم، إذ يتعاملون معها غائياً بوصفها المأوى الذي ينجي من كلّ الويلات، علماً بأن التنمية نجحت معادلتها عربياً في أكثر من مكان بينما لم تنجح ديموقراطية عربية ألبتة، أصيب بعض الليبراليين بالصدمة بصعود الأصوليين بسببٍ من تفاؤلٍ مفرط، وهم حتى الآن يفقدون الاتزان في الحكم على الحالة! إنهم بكل أسف يخافون من نقد الأصوليّة لئلا يشعروا بالغربة، لأنهم لم يستوعبوا الفردانية «مصل الشمولية»… بالضبط كما قال البردّوني: «فظيعٌ جهل ما يجري، وأفظع منه أن تدري».

 

ليست المشكلة في تلك الهبّة العاطفية التي شملت حتى الليبراليين، مع الأسف، إذ اهتبلوا بفوز مرسي واعتبروه فوزاً للديموقراطية العربية، غير أن ذاكرة القطط تهيمن عليهم، إذ سرعان ما يكتبون ضد ما كتبوه من قبل. ينسى بعض اللبيراليين أن الأصولية هي الخطر المحدق، ذلك أنها تحوّل الفرد إلى ترس ضمن مشروع جماعي، فتزهق فردانيته ويحتل عقله. الأصولية هي تشويه للتعددية الدنيوية وتكريس للسياق الشمولي العام الذي يقضي على ألوان الحياة وأطيافها. حسناً فعل بعض الليبراليين الذين انساقوا وراء مدح فوز مرسي ليعودوا إلى رشدهم معبّرين عن ضرورة الوقوف ضد الأصولية التي توشك أن تزحف لتصل إلى بلدانٍ صافية من أدوائها وأدرانها.

 

 

مشكلة الهبّات الجماعية والسياقات العاطفية أنها تجرف حتى الكتّاب وعليه فإنهم يغطّون في التنويم الاجتماعي العام ويغرقون بالأحلام والأوهام، لكنهم يستيقظون خلسةً ثم ينسون ويظنّون أن الجميع قد نسي غير أن الأحداث تعيد تشكيل المواقف، والمواقف الجديدة تذكّرنا بالمواقف السابقة التي انخذوها، ثمة فرق بين أن يكون الكاتب متناقضاً وبين أن يكون متغيّراً، التغيّر أسلوب حيوي وهو الأساس والأصل، إذ تتطور القناعات وتتغير لكن ضمن رؤية لا ضمن عاطفةٍ أو سياقٍ حدثي مختلف، المشكلة أن يأتي التناقض الغريب بين الرأي ونقيضه. الاطّراد بالرأي لا يعني التجمّد وإنما يعني تطوير الرؤية وفق النظام المعرفي والتحليلي الذي اتخذه الكاتب لرؤية الوجود والأحداث والعوالم.

 

الأصولية الكارثية تعرضت لضربة كبرى أساسية وضرورية لإحلال المدنية مكان الغاب، والإنسانية مكان التوحش، ولئن تورّطت بعض الأقلام الليبرالية بالوقوف مع الأصولية حيناً غير أن هذا الحدث ربما يجدد من العدة التحليلية التي ينتهجونها في مقبل الأحداث… ربما.

  

عن الموسيقى وتحولات التاريخ

 

عن الموسيقى وتحولات التاريخ

فهد الشقيران

جريدة الحياة الإثنين ١ يوليو٢٠١٣

 

 

لم تكن الفنون منعزلةً عن حلقات النقاش أو صرعات النظرية أو غليان التأويل، كانت حاضرةً ومحايثةً بل وسابقةً في كثير من الأحايين، وآية ذلك أن الموسيقى ارتبطت بالتحولات البشرية، فهي تتفاعل مع المحيط وتأخذ منه وتعطيه، ذلك أن الفنون إجمالاً، والموسيقى تحديداً، لا تلبث أن تخاتل النظرية. ولو تأملنا في سير الحضارات وشرر النظريات لوجدنا أن الموسيقى إما أن تسبق التحول، وإما أن تحايثه وإما أن تتبعه، فهي منفعلة بالتحول وفاعلة له، والأمم التي تأسست تحولاتها ضمن فضاء الموسيقى استطاعت أن تفتتح مشروعاً أبدياً لتأميم الموسيقى وجعلها لغة سائدةً بين المجتمعات، من هنا يكون العالم عبثاً من دون موسيقى أو غلطة كما يكتب «نيتشه».

يشكو الراحل الكبير فؤاد زكريا من عدم وجود موسيقى عربية بينما غرقنا بـ«الأغنية» العربية، والأغنية لا ترتبط بالفضاء الموسيقى بالمعنى الرحب بل تتحول الأصوات إلى جيشٍ من الخدم للكلمات من هنا صارت حتى موسيقانا شعرية، طغت الأغنية على الموسيقى في الحال العربية، والموسيقيون العرب هم بمعنىً ما جزء من حال «الشعرنة»، إذ يرتبطون بالألحان والكلمات غير أن نماذج التكوين الموسيقي على الطراز الأوروبي أو الروسي لم يكن سائداً عربياً، ذلك أن الفضاء الموسيقي فضاء شعري وكلاميّ، من هنا يأتي النقص في القدرة الموسيقية العربية على مستوى التأليف الرحب، ليطغى التكوين الشعري أو تحويل صرعات الموسيقى لتكون خادمةً للأشعار ومن ثمّ تخلق الأغنية.

الموسيقى شريكة في النظرية وفي التحول وشريكة بالتاريخ، ولنضرب مثلاً بالأوبرا الإيطالية التي كتب عنها ويل ديورانت: «أياً كانت الأوبرا الإيطالية، هازلةً أو جادة، فإنها كانت قوة في التاريخ، وكما غزت روما غربي أوروبا بجيوشها، وكما غزتها كنيسة روما مرة ثانية بعقيدتها كذلك غزتها إيطاليا مرةً ثالثة بالأوبرا، فأزاحت أوبراتها الإنتاج الوطني في المانيا والدانمارك وإنكلترا والبرتغال وإسبانيا بل وروسيا، وكان مغنوها معبودي كل عاصمة أوروبية تقريباً، واتخذ المغنون الوطنيون أسماء إيطالية لكي يحظوا بالقبول في وطنهم، وسيمضي هذا الغزو الساحر ما بقي للحروف اللينة التفوق في الغناء على الحروف الساكنة».

كانت الأوبرا الإيطالية قوة تحول ومؤثراً تاريخياً على المحيط الذي وصلت إليه.

رأى أدورنو أن: «لا إنسانية الفن يجب أن تنتصر على لا إنسانية العالم من أجل الإنساني، إن الأعمال الفنية تسعى إلى حل الألغاز التي يصنعها العالم لابتلاع الإنسان. تقف الفنون كلها ضد الميثولوجيا». وانتقد الفلاسفة تحولات الموسيقي أدورنو في عصره حصرت الموسيقى بالجسد ووصف هذا بأنه قبح ولا تقدم مثل هذه الموسيقى أيّ معنىً، بينما الفلاسفة الألمان ارتبطت مشاريعهم الفلسفية بالأنماط الموسيقية مثل التأثير الذي سببته موسيقى فاغنر على معاصريه نقداً أو إلهاماً أو تحويلاً، كذلك الموسيقى الأوروبية أثرت على مجمل الفلسفة الأوروبية، كما هي حال الفرنسي باسكال الذي تأثر كثيراً بالموسيقى الكلاسيكية كما يعبر في «الخواطر».

 

بمعنى آخر، فإن الموسيقى شريكةً لأي حضارة، حتى الأمم التي شقّت طرق التقدم من دون إرثٍ موسيقي إنما استمدت تجارب التقدم من أمم لديها موسيقى، وعلى حد تعبير جون باررو في عبارته الشهيرة: «لقد وجدت حضارات بلا رياضيات، حضارات بلا رسم، حضارات حرمت من العجلة أو الكتابة، لكن لم توجد حضارة بلا موسيقى».

غير أن بعض العباقرة من رياضيين وفلاسفة وفيزيائيين لم يكونوا من عشاق الموسيقى، هيدغر لم يكن مهووساً بالموسيقى لقد استبدل موسيقى الصوت واستعاض عنها بموسيقى الصمت، من هنا يكون العالم كله مركّباً من النوتات، وكل شبرٍ فيه إنما يحكي إيقاعه، وهذا سرّ ارتباط النوتات بكل محيطنا الذي نعيشه.

كتب نيتشه: «الموسيقيّ المفضّل عندي هو من يعرف آلام السعادة الحقة فقط وليس غيرها من آلام، ولم يوجد موسيقيّ كهذا حتى الآن».