نوفمبر 2012

الأصولية… والقوة الأميركية

 

 

الأصولية… والقوة الأميركية

فهد بن سليمان الشقيران

جريدة الحياة ٢٦ نوفمبر ٢٠١٢

 

(من فيلم «Argo»)

 

لا يمكن فصل الأحداث العربية الحالية عن صعود الأصولية الإسلامية، والتبنّي الإيراني للاحتجاجات على اعتبارها الامتداد التاريخي للثورة الإيرانية قوّى الأحزاب الأصولية على الأحزاب المدنية، إذ نحّاها الخطاب الأصولي الاصطفائي ليهيمن على الساحة، انطلاقاً من ربطٍ بين إرادة الناخب وإرادة الله، وهذه هي ذروة الاستغلال الأصولي للمعاني الدينية.

 

تشابكت العودة الإيرانية إلى النفوذ في دول الاحتجاجات مع استذكارٍ دولي للثورة الإيرانية بكل ارتداداتها الكارثية على الثقافة البشرية، إذ تجددت الأحزاب الشمولية وأعادت القوى الشيوعية والإسلامية ترتيب صفوفها، وغدت الثدي الإيرانية مرضعةً للتنظيمات السنّية والشيعية معاً، حين تغيب المعاني المدنية عن أي حدث تتخلق فطريات الأصولية، فالأصولية تنشأ في فراغ وإلا لا تستطيع أن تجتثّ الجذور المدنية في ما لو كانت قائمة.

 

في يوم ذكرى 11 أيلول (سبتمبر) سجّل تاريخ الديبلوماسية الأميركية أحد أبرز الأحداث الدامية، حين اغتيل السفير الأميركي في ليبيا كريستوفر ستيفنز، وجنديين من مشاة البحرية الأميركية، وموظف أميركي في السفارة، وهذا الحدث أعاد إلى بعض الأميركيين سؤال الجدوى من دعم هذه الاحتجاجات التي تأتي بالدمويين الأصوليين إلى العروش، بقيت أسئلة الجدوى من هذا الدعم الفارغ ماثلةً منذ ذلك الحدث، ذلك الاغتيال أسهم في تسريع إنتاج فيلم أميركي جميل اسمه: «Argo» الذي بدأ عرضه في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري من بطولة وإخراج: «بن أفليك» الذي بدا مطّلعاً على الأوضاع في «الشرق الأوسط» ولديه رؤيتان، الأولى: تجسّدت سينمائياً وسالت بصرياً في الفيلم، والثانية: عبّر عنها في ملاحظاته الصحافية ومواقفه النقدية لما سمّي بـ«الثورات العربية»، وهو درس وبعناية «الثورة الإيرانية» في الجامعة، ما جعل زوايا الحدث ودهاليزه وتفاصيله يبدو ذكياً.

 

الفيلم يجسّد القوة القصوى للاستخبارات الأميركية، التي تجسّدت برسم خطّة محكمة لإخراج الرهائن الأميركيين الستة الذين أخفاهم السفير الكندي بإيران – آنذاك – «كين تايلور» ببيته عام 1979 لتبدأ قصة فردٍ من المخابرات الأميركية هو: «تونى ميندز»، الذي يعيش حالياً في مزرعته في «ميريلاند»، وقد وصفه «كارتر» بعد تنفيذه للعملية بـ«الأميركي العظيم»، إذ وضع وبدهاء خطةً محبوكةً للذهاب إلى إيران وإخراج الرهائن الستة أحياءً، هذه القصة تعيد عبر ترسانة الصور التي سيّلت سينمائياً المستوى الأصولي الذي كانت عليه الثورة الإيرانية، وتعيد خطورة «الحشود»، وركض «الرعاع» بالشوارع، وهيجان العامة، وركض الحفاة الذين يرددون شعارات زعمائهم، وهم على مستوى خطر من الجهالة والحماقة.

 

من هنا نستعيد مع الفيلم مشهدياً قصة موقفين أميركيين من أحداثٍ أصوليةٍ واحدة، إذ كانت أميركا ضد الثورة الإيرانية، ومع «الثورات» العربية، الأولى جاءت بالعمائم، والثانية جاءت بالمشالح، بينما مشهد «استهداف السفارة الأميركية»، كما حدث في طهران سنة 1979، أعيد تكراره في القاهرة وبنغازي سنة 2012، وبينما نجا السفير في طهران، قُتِل وبشكلٍ دموي في بنغازي.

 

تعيد المشهدية السينمائية التدوير الساحر للإرادة الفردية للإنسان الأميركي، وبسببٍ من ولعٍ اجتماعي للقصص الغامضة، خصوصاً تلك التي تحكي قصص نجاح الاستخبارات القوية، وهذا يذكّرنا بنجاح فيلم ميونخ للمخرج ستيفن سبيلبرغ، أنتج عام 2005، وتجري أحداثه حول مطاردة «الموساد» لأعضاء منظمة «أيلول الأسود»، التي كانت وراء تنفيذ عملية ميونيخ 1972 في مدينة ميونيخ الألمانية.

 

لا ينفكّ مشاهد فيلم «Argo» من تذكّر «قوة القوى» وهي أميركا التي لا تعاني من نقص القوة وإنما من «فائضها»، إذ يعيد التدوير السينمائي للأذهان قصة صعود إمبراطوريةٍ تستطيع أن تؤثر على أي حدثٍ في هذا العالم. وبين حربها على «العمائم» في ثورة إيران، ودعمها للـ«مشالح» في ثورات العرب كانت المركزية الدلالية بـ«السفارة»، لهذا كان الفيلم راهناً وصادماً.

الفلسفة… ومحاولات الامتطاء الأصولي !

 

 

الفلسفة… ومحاولات الامتطاء الأصولي !

فهد بن سليمان الشقيران

جريدة الحياة ١٢ نوفمبر ٢٠١٢

 

 

 

تنمو حالياً وبشكلٍ متصاعد محاولات حثيثة لامتطاء الفلسفة أصولياً، وذلك عبر الضخ بالاستدلالات الفلسفية من أجل ترسيخ الرؤية الأصولية، غير أن محاولة امتطاء الفلسفة حركياً بغية تحويل الواقع على نمطٍ سياسي واجتماعي «ما قبل تاريخي» أمر ترفضه الفلسفة تلقائياً، فهي وإن استخدمت أيديولوجياً عبر الفلسفات الماركسية وسواها غير أن الفلسفة انتقمت من الأيديولوجية، وذلك عبر طرحها له بمختبراتها ليكون موضع فحصٍ وتحليل، من هنا كان الصراع بين كتابين هما «بؤس الفلسفة»، و«بؤس الأيديولوجيا» الأول لكارل ماركس، والثاني لكارل بوبر، الذي نزع المجتمع المفتوح من وصاية الرؤية الأحادية الأيديولوجية المعادية لليبرالية.

 

لا نعني بالأيديولوجيا المفهوم المرتبط بالصراعات التاريخية، بل أذكر بمقولةٍ مهمة حول علاقة الفلسفة بالأيديولوجيا يطرحها «ميشيل فاديه» في كتابه المهم «الأيديولوجيا – وثائق من الأصول الفلسفية»، كتب: «مفهوم الأيديولوجيا من أشيع المفاهيم حالياً، واللفظ من أكثر الألفاظ تداولاً، ولكن معناه من أكثر المعاني إثارةً للجدل، ومن ثم فهو من أقل المفاهيم ثباتاً، فهو عند البعض مفهوم، بل حتى مفهوم علمي، وعند آخرين معنى مبهم ومبتذل، بل يمكن حتى أن يكون سبّة».

 

من أبرز المثالب التي يطرحها مفهوم الأيديولوجيا حينما نقرنه بمفهوم «الفلسفة» – وهو مفهوم صلب آخر – أن المعنى الذي يكتسبه المفهوم يذهب بنا إلى حمولته التأويلية عبر التاريخ من جهة، وإلى تأويلاته المختلفة من جهة أخرى، يبدو بجلاء استعصاء حصر المفهوم «الأيديولوجيا» بمعنى واحد، والتعريفات التي ساقها – نقلاً – ميشيل فاديه في كتابه الوثائقي آنف الذكر تبرهن على ذلك، ربما أخذ المفهوم استقراره وانتشاره بعد التحوّل الذي شهده المفهوم مع الاستعمالات «الماركسية»، وهذا يقودنا إلى التفريق بين معاني هذا المفهوم عند كل مذهب فلسفي، وإزاء كل معالجة فلسفية، لهذا نحتاج أحياناً إلى شرح لمعنى الأيديولوجيا عند كل فيلسوف حينما نسوق تعريفه للأيديولوجيا لئلا نقع في فخ التسطيح، ويمكننا هنا الرجوع إلى استعمالات الأيديولوجيا فلسفياً، وقد سرد أبرزها «عبدالله العروي» في كتابه «مفهوم الأيديولوجيا»، ومن الممكن اختصار نص العروي عن الاستخدامات الفلسفية إلى الآتي:

 

1- استعمال القرن الـ«18»، إذ تعني الأدلوجة الأفكار المسبقة الموروثة عن عصور الجهل والاستعباد، إذ ينظر إلى الأدلوجة مقابل العقل الفردي.

 

2- استعمال الفلاسفة الألمان، هيغل والرومانسيون بوجه خاص، إذ تعني الأدلوجة منظومة فكرية تعبر عن الروح التي تحفز حقبة تاريخية إلى هدفٍ مرسوم في خطة التاريخ العام، فينظر إلى الأدلوجة انطلاقاً من التاريخ كخطة واعية بذاتها.

 

3- الاستعمال الماركسي، إذ الأدلوجة منظومة فكرية تعكس بنية النظام الاجتماعي، فينظر إلى الأدلوجة انطلاقاً من البنية الباطنة، للمجتمع الإنساني، الذي يتميز بإنتاج وسائل استمراره.

 

4- استعمال نيتشه، إذ الأدلوجة مجموعة من الأوهام والتعديلات، والحيل التي يعاكس بها الإنسان/ الضحية قانون الحياة، فينظر إلى الأدلوجة انطلاقاً من الحياة كظاهرة عامة تفصل عالم الجماد عن عالم الأحياء.

 

5- استعمال فرويد، إذ الألدلوجة مجموعة الأفكار الناتجة عن التعاقل الذي يبرز السلوك المعاكس لقانون اللذة والضروري لبناء الحضارة، فينظر إلى الأدلوجة انطلاقاً من اللذة وهي ميزة الحيوان وبالتالي ميزة الإنسان الأولى. من هنا فإن الأيديولوجيا التي نقصدها هنا ليست تلك التي ارتبطت تاريخياً بتلك الاستعمالات، على اعتبارها جزءاً من معارك نظرية واجتماعية بين تياراتٍ كثيرة، بل نعني بالأيديولوجيا هنا «مجموعة الأفكار المطلقة» بمعناها البسيط، لهذا فإن الفلسفة امتطيت حركياً لا تثبيت نظريةٍ أحاديةٍ شمولية كما فعلت الماركسية، بل امتطيت لتثبيت نموذج هو خارج الإطار الحداثي والفلسفي، بل وخارج نطاق حركة العصر والعالم وأعني به النموذج الأصولي.

 

 

الفلسفة… ونزع السحر عن العالم!

الفلسفة… ونزع السحر عن العالم!

فهد سليمان الشقيران

جريدة الحياة ١٩ نوفمبر ٢٠١٢

 

 

 

 

تتداول أحياناً في المجاميع الشعبية أسئلة تتعلق بأهمية الفلسفة على واقعنا، هذه الرؤية على سذاجةٍ تعتورها غير أن انتشارها يجعلنا أمام دفاعٍ عن الفلسفة، بوصفها النشاط العلمي الأكثر تماسّاً بالإنسان ووجوده. يمكن قراءة الحداثة كأثر من آثار الفلسفة، ذلك أن الفلسفة كانت هي محتوى الحداثة، فتلازم مسار الفلسفة بمسار الحداثة شديد الإلحاح، أو على حد وصف هيغل: «يستحيل التوصل إلى المفهوم الذي تدرك به الفلسفة ذاتها، خارج مفهوم الحداثة».

 

بمعنى أن الحداثة بمواضيعها لم تكن مجرد نقْلة ضيقة للحياة، فالحداثة لم تكن نقلة تقنية، بل غدت «التقنية» – ذاتها – موضوعاً للحداثة، وصعوبة رصد ثمار معدودة لأثر الفلسفة على الواقع، يأتي من كون كل نظرية فلسفية مهمة أنتجت دينامية مختلفة للحياة، إذ يمكن الرجوع إلى النظريات الحديثة، وربطها بنتائجها، ومن ثم اعتبارها ضمن الآثار التي رسختها الطروحات الفلسفية وجادت بها على العالم، ويمكنني هنا التذكير بإسهامات فلسفية أساسية.

 

من أبرز إسهامات الفلسفة أنها حوّلت الإنسان إلى موضوع للدراسة، وإذا كان «فوكو» كتب عن «كانط»: «ما كان يهم كانط هو الإصلاح الفكري والثقافي وتمكين جمهور المواطنين من قسط من الحرية يُسمح لهم بأن يفكروا بتلقائية»، فإن الفلسفة بالنسبة له لم تكن مجرد موضوع تأملي، خصوصاً إذا وافقنا «هيغل» بأن فلسفة كانط هي: «بؤرة العالم، ونوع من التأويل الذاتي له، وأن عصر الأنوار ينعكس في فلسفة كانط».

 

صحيح أن الوعي الفلسفي بالحداثة تجلى بوضوح لدى «هيغل»، لكن ما يميز فلسفة «كانط» – بحسب فوكو – أنه وضع الإنسان «موضوعاً للدراسة»، كما أنه – وفق فوكو أيضاً – «أول فيلسوف يتخذ من عصره وحاضره موضوعاً للتفكير».

 

أسهمت الفلسفة في ترسيخ مبدأ الذاتية، وهو مفهوم متعدد الدلالات، لكنه ارتبط فلسفياً بمفعولات النزعة الإنسانية، فهو بالمعنى العام يعني مركزية ومرجعية الذات الإنسانية، وحريتها وشفافيتها، ومبدأ الذاتية يضم وفق «هيغل» الحياة الدينية والدولة، والمجتمع، والعلم والأخلاق، والفن، كل تلك الفروع تبدو جميعها تجسيداً لمبدأ الذاتية.

 

من إسهامات الفلسفة الأساسية أيضاً تدشين الفضاء العلماني، إذ يرى «لوك فيري» أن «كانط» هو الذي دشن فضاء الفكر العلماني في الغرب، ويكتب «هابرماس»: «إن فلسفة كانط كانت ضمن مخاض الحداثة، باعتبارها عصراً كان في طور الانفلات النهائي من كل الإيحاءات المعيارية لنماذج الماضي، وبصدد إعداد مشروعيته الخاصة واستمداد معياريته وضماناته الخاصة من ذاته، فتلك الانفلاتات والانبثاقات ولدت تمايزات واستقلالات على مستوى المؤسسات والبنيات الاجتماعية، وعلى مستوى الثقافة «علم، أخلاق، فن»، ما جعلها منطلق دينامية حداثة فكرية لم تتوقف عن التجدد حول قضايا التناهي، والعلمانية، والذاتية والعقل والنقد».

 

 

(ماكس فيبر)

كما أن الفلسفة نجحت بمهمة «نزع السحر عن العالم»، وهذه هي عبارة «ماكس فيبر»، طرحت الفلسفة الرؤى القديمة التي اعتمدها البشر وراثياً لتصوراتهم للعالم على أنها مشكلات فلسفية، وفي نظر «هابرماس» فإن هيغل: «أول من طرح مسألة قطيعة الحداثة مع الإيحاءات والإلهامات المعيارية للماضي التي هي غريبة عنها في صيغة مشكل فلسفي».

 

إن مفعول الفلسفة يتطوّر تبعاً لتطوّر منابع الإشكاليات الفلسفية، وذلك بتغيّر العصر، كما أن «أثرها» لا يبدو واضحاً للعيان، وتحتاج إلى عبقرية تشبه عبقرية الفيلسوف الرياضي «فريجه»، الذي لم يحفل علماء عصره بما كتب، فكتب إلى ابنه يتوسله أن يحتفظ بهذه الوريقات، فسيأتي يوم ما من يرى فيها ما يفيد؛ وهو ما حصل فعلاً مع قراءة «براتراند رسل» لها، إن مفعولها يختلف عن المفاعيل الأخرى كالجهود السياسية، أو الأعمال الشعبية الأدبية من ناحية سرعة التأثير بل والتدمير.

مجتمعات تنتخب «القتلة»!

 

مجتمعات تنتخب”القتلة”!

فهد سليمان الشقيران

جريدة الحياة 5 نوفمبر 2012

بين كل جدران الاستبداد التي ظُنّ أنها هدّمت بديناميت «الثورة» تسكن ليالي الحاضر المحبط وجودياً في عالم العرب، أشباح التوتر التي تتراءى مطلّة في عمق الظلمة وراء جدران استبدادٍ أخرى لم يقدّر للحائرين السائرين في الميادين أن يهدّموها. دُمّرت جدران الاستبداد وبقيت أشباحه، بينما قدّست الحصون التي لم يروها، إذ ران على العيون غشاوةٌ من الوهم جعلتهم يقتلون الخراف، بينما تنهش ظهورهم السباع، هذا التيه والغرق في سديمٍ من الهذيان السياسي وإلفة الفخاخ الأصولية الكارثية، مكّنت المجتمعات من أن تهدم إمكانات السلم، مستحضرةً بدائل الصراع بكل أنواعها، حتى باتت المنطقة تمارس الانقراض الوجودي، فلا معنى لأي شيء تقوم به.

 

حطّمت كل أواصر السلم الاجتماعي، إذ سرعان ما انفجرت دمامل المجتمعات متخرّثةً عن أعتى الأمراض الثقافية والسفالات العرْقية، معيدةً بذلك نماذج الحروب الأهلية التي عاشتْها بعض مناطق العرب، حتى صحّ إمكان وصف حالتنا بأنها «هدنة طويلة لحربٍ أهليةٍ ممكنة». علّمتنا الأحداث أن العرش حين يزول تخرج من النفوس طواغيتها، وما الذي يجري في ليبيا أو مصر أو تونس إلا نماذج طغيانية مرعبة تتجاوز الطاغية الواحد، إلى تعدد الطغاة والسفّاحين، تتجاوز الحال العربية الحاضرة جميع أنماط الاضطراب الذي يحاول بعض الصحافيين استعادته باعتباره الدرس الذي يستلهم منه بعض التفاؤل بأن يعيد التاريخ نفسه، وأبرز أنماط الاضطراب العالمية نموذج فيتنام والتشيلي وجنوب أفريقيا، التي مرّت بأصنافٍ من التيه، وغرقت في محيطاتٍ من الحيرة واليأس.

 

في «السلم الاجتماعي» لا مناص من استعادةِ أطروحة الألماني: «جون بورنمان» المميزة، التي ضمّنها كتابه: «الجناية السياسية والسلم الاجتماعي»، الذي تحدث فيه بمشارط حيوية بالغة الإيلام عن الحال العربية، متسائلاً عن مفهوم «المحاسبة»، ومناقشاً مفاهيم «المسؤولية الفردية»، و«المسؤولية الجماعية»، مستفيداً من دوركهايم في حديثه وتساؤله عن العلاقةِ بين مختلف أنواع المحاسبة عند معالجة الأحداث، وآثارها الخاصة، وفي أنماط التساؤل عن الفروق بين المسؤولية الفردية والمسؤولية الجماعية. فهو يؤكد على أن من الضروري إدراك كون: «المجتمع يجب أن يميز بين المجالين المدني والجنائي، وأيضاً كيف يتم التمييز بين المسؤولية الفردية والمسؤولية الجماعية». في عالمنا، هنا يتداخل الجنائي بالمدني جراء فقدان المعنى الجنائي أصلاً بغياب كل مفاهيم المحاسبة القضائية، ولو على سبيل حماية المجتمعات من الصراعات بالقضاء، من هنا يُحمى الفضاء المدني من المجال الجنائي، لهذا: «فإن استعمال الجزاء القضائي في ألمانيا بعد سنة 1990 وفي بعض دول أوروبا الوسطى، يفسر في جزءٍ منه بسبب تجنب هذه الدول الدخول في دوامة الصراعات» – بحسب بورنمان.

 

لا يفتأ لبنان يفرض نفسه كبلدٍ مكبّل بالتناقضات الكبرى، لهذا كان موضع دراسةٍ ومقارنة في أطروحة بورنمان ضمن تحليله لمفهوم «المحاسبة» العميق في أي نسيج اجتماعي، فهو عنصر أساسي للسلم الاجتماعي، اختار لبنان لأنه يختلف عن أوروبا الوسطى، إذ الإفلات من المحاسبة «أمر طبيعي»، بل عقب الحرب الأهلية: “تم سجن شخصين لا أكثر بعد الإيقاع بما يقارب 100 ألف ضحية… سمح العفو العام بعد الحرب بانتخاب مجرمين في البرلمان اقترفوا جرائمهم وقاموا بتصفياتٍ عرقية وترحيل قسري وارتكاب مذابح! فكيف إذن للدولة أن تعمل كسلطةٍ معنوية لمصلحة المجتمع اللبناني؟”.

 

بقيت الأشباح تسكن الأحياء، ليس في لبنان وحده، بل وفي حالات «اللبننة»، التي تمخّضت وتخلّقت في رحم «الثورات»، لهذا فإن إعادة انتخاب القتلة تجعل المجتمعات العربية تستمرئ «المازوشية» تعذيباً للذّات وقرعاً لها، صار الاستبداد بيد المجتمع مثل صخرة «سيزيف» الذي يرقى بالصخرة ثم تتدحرج ثم يرفعها، وهكذا إلى الأبد… إنه رمز العذاب الأبدي.