أبريل 2012

خرافة الثورة… وأسطورة التقدم

خرافة الثورة… وأسطورة التقدم
جريدة الحياة 30  أبريل 2012
فهد سليمان الشقيران


(الثورات الأوروبية وأوهام المقارنة العربية)


من الطبيعي أن نعترف بأن كل حدثٍ له شظاياه الدامية، وحسناته التي تنضج بعد حين، هذا ما تشير إليه «حنة أرندت» في تاريخها الفكري للثورات الأوروبية، إذ ربطت بين أي ثورةٍ وبين عنفٍ يصحبها، هذه النقطة من البدهيات التي لا تحتاج إلى نقاشٍ طويل، ذلك أنها نتيجة من نتائج تجارب الأوروبيين مع الثورات.

جزء من مشكلة الثورات الأوروبية أنها سرّبت الأوهام الثورية إلى الشعوب التي لا تعرف بعد معنى مفهوم الثورة، إذ سرعان ما رغبت في تجريب خرابٍ لم يسرّع إلا بإيقاظ الأحقاد، وإشعال كل الأمراض المطمورة في باطن المجتمع. ذلك أن كل الأحداث التي تجري حالياً لم تضفِ لنا إيجابية واحدة، بمعنى آخر، فإن بدهية «حنة أرندت» التي بدأتُ بها المقالة لم تنطبق على كل الأحداث العربية، وبالتالي فيه مقولة جاءت في سياق الحدث الثوري الأوروبي الذي كان يحتفظ بدفعةٍ من المحفزات الفكرية، والمواقف من الاستبداد الديني، والطغيان السياسي، لم تكن ثورةً معزولة منتشيةً بصفحاتٍ انترنتية، أو بهياج الهتاف، بل أجّجتْها أمشاجٌ من المحفزات الطبيعية والاجتماعية وحضرت الدوافع الفكرية والثقافية في آليات التغيير والتثوير الأوروبية.

(نائب سلفي يؤدي شعيرة الآذان في البرلمان المصري)

أصوليون جاؤوا إلى عروش الحكم على أكتاف شبابٍ حدود إجادتهم – قاصرة فقط – على التحفيز الشعبي عبر أزرار الإنترنت، لم تكن لديهم حصانة ضد التدجين الأصولي. جاءت الحركات الأصولية لتكون في واجهة الحكم، حضر تنظيم القاعدة في التركيبة السياسية الليبية، وجاء الإخوان المسلمون بكل زعيقهم المثير للاشمئزاز، وحضرت بعض التيارات المدروشة بأرديتها وأغطيتها العتيقة، لتكون قائدةً سياسيةً لمصالح الشعوب المليونية، ثم نتحدث عن «الثورة» وعن «التغيير»! لكأن الزمن يسير ضدنا. بعض الدول المعروفة بالسبق التاريخي في مجال التنوير والفنون والمطابع والسينما في زمنٍ مضى، تتجه الآن نحو حقبةٍ سياسية «طالبانية» محضة! ثم يتحدثون عن «التغيير» وعن «التثوير». يخادعون أنفسهم بمصطلحاتٍ هي ليست لهم، من أجل اختراق المجتمع وتدجينه لصالحهم بغية امتطائه ليكون ساحةً لحربهم على العالم القريب والبعيد.

نحتاج ومن دون مواربة إلى جيشٍ كامل من المختصين يدأبون على ضرب الخداع اللغوي الذي يغطّي على الحدث العربي الحالي، على غرار الحروب الشعواء التي خاضها الفلاسفة ضد الخداع الثوري الذي ساد قبل قرونٍ ثلاثة. لنقرأ إدغار موران وهو ينتقد من أسماهم بـ«ثوريي القرن التاسع عشر». وبلغت ذروة فحص موران للثورة حين كتب: “من الواجب على كلمة «ثورة» أن تعني في مبدئها ذاته تحولاً متعدد الأبعاد، وتغييراً إذ إن كل تحوّلٍ محلي أو قطاعي سيكون ضرورياً للتحول العام … تتطلب الثورة تعدديةً من التحولات، والتغييرات، تكون في الوقت نفسه في استقلاليةٍ وفي تعالق في كل المجالات، بما فيها مجال الفكر”.


ثمة مفاهيم تحتاج إلى علاقاتٍ جديدة، مثل «الأزمة» و«الثورة» و«التغيير» و«التاريخ»، فالدورات التاريخية تجبرنا على إعادة صياغة العلاقات مع المفاهيم، فالمفهوم الذي يستخدم في قرنٍ مضى بعلاقاتٍ ما، يجب أن تعاد العلاقة معه في مرحلةٍ أخرى. هذه هي مشكلة خلو الرؤية من بعد الفكر في كل الذي يجري حالياً في دولٍ عربيةٍ عدة. وبعض المفاهيم تأخذ أسطوريتها وانقراضها، بل وتأخذ أوهامها، كما هو حال مفهوم «التقدم» الذي أصبح مثل سرابٍ بقيعة تحسبه الدول النامية ماءً. لنكتشف أدواءنا الأولى والبدهية والمسكوت عنها والمطمورة التي نخاف من كشفها وفتح ملفاتها، لنكتشف الحواجز الموجودة في «المخيال» الجماعي، سنكتشف أنها هي سبب تحول التقدم إلى مستحيل.

ما لم نكتشف أدواءنا بشجاعة، فستصدق علينا مقولة إدغار موران- ذلك الفيلسوف الكبير – وهو يصدح بنعيٍ شاعريّ: “تقدّمٌ كبير أن نكتشف في نهاية المطاف، أن التقدّم أسطورة”.

من «الديكتاتورية» إلى «الأصولية»

من «الديكتاتورية» إلى «الأصولية»
جريدة الحياة 23 أبريل 2012
فهد الشقيران

(الجحافل المليونية وموسم الحصاد الأصولي)

حالة التشكّل العربي الجديد على المستوى السياسي تردّنا دائماً إلى زلازل الأسئلة، وهي أسئلة محمّلة بالمقاربات التي توصل إلى إجاباتٍ متسائلةٍ وليست مغلقة. الهزّات السياسية تشعّبت التفاسير حول أسباب اشتعالها بين العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ارتفعت بآمال الناس ثم هبطت بهم في هاويةٍ من غموض المصير.بين «التقدم» و«الثورة» تعثّرت خطى الجحافل المليونية، التي لم تذق طعماً لأي جهدٍ قدمته في الشوارع، حتى لكأن المرحلة وأهلها مجرد “أحلام”.

 حضرت الشعارات والأحلام والأوهام كبدائل غير محسوسةٍ لواقعٍ غير موجود أصلاً، وهذا شبيهٌ بالتشخيص الثريّ الذي طرحه الفيلسوف الفرنسي جان بورديار في أطروحته حول «موت الواقع» التي يقول فيها: «انتقل الواقع من كونه خارجاً أنطولوجياً أو موضوعياً وتحوّل إلى فكرةٍ تنتج داخل الآلة الإعلامية. إن العالم الواقعي انهار لصالح عالمٍ ما فوق واقعي، تتبادل فيه الأصول والأسماء والمعاني المواقع داخل حركةٍ دائمةٍ ومريعةٍ غير قابلةٍ للتنبؤ والفهم. هذا هو عالمنا، وهذا هو مصير العصر الذي سيحكمنا في العشريات القليلة المقبلة». بالضبط لقد تحوّل الواقع من كونه مرتبطاً بمكانٍ موجود إلى محتوى يتكرر في «المكائن»الإعلامية، أو الشعارات الحزبية، أو الذبذبات الصوتية، لقد اختفى الواقع، بل لقد «مات»!

حال الجموع لم تكن أكثر من الاستجارة من رمضاء الديكتاتورية بنيران الأصولية، وهذه مشكلة تتعلق بمفهوم «التقدم» نفسه، الذي ناقشه بسخاء الفيلسوف الفرنسي إدغار موران في كتابه الممتع والصادم «إلى أين يسير العالم؟» وهو جزء مقتطف من كتابه «من أجل الخروج من القرن الـ20» الذي ألّفه سنة 1981 يطرح فيه مفردة «التقدم»لا بوصفها طريق خلاص، وإنما كإمكانٍ للانحطاط أيضاً. وهذا ما أشار إليه في فصلٍ عنونهُ بـ«تقهقر داخل التقدم، وتقدّم التقهقر» جاء فيه: «أن فكرة التقدم هذه كانت فكرة ميتافيزيقية بالمعنى الحرفي، في اللحظة التي كانت تجهل القانون، أو بالأحرى مضادة لقوانين الفيزياء الأساسية، إننا نعيش في كونٍ حيث إن مبدأ الارتجاج والتشتت والفوضى يلعب دوراً مهماً. إن كل تقدمٍ مهدد بالانحطاط ويحمل في ذاته العملية المزدوجة الدراماتيكية للتقدم/التقهقر. التقدم هو وجه متقلّب من وجوه الصيرورة».
(الفيلسوف الفرنسي إدغار موران)

لم تعد مفردة «الثورة» بحد ذاتها التي تتداول في الشارع والإعلام دالّة بحد ذاتها على جوهر الحدث العربي الحالي، ذلك أن الثورة كمفردة تحتاج إلى مراجعةٍ تتعلق بمعنى استعمالها في أحداث لا تمتّ إلى الثورة بصلةٍ. وفي سبيل تجديد المقولات الثقافية المتداولة أوروبياً، طرح إدغار موران فكرة «تثوير الثورة ذاتها ذلك أن الأمر:«لم يعد يتعلّق بتحقيق وعود التقدم، وإنما بتثوير هذه الثورة ذاتها، فالتغيير هو الذي ينبغي أن يتغيّر، وينبغي إعادة النظر بكلمة «ثورة» إعادة كاملة».

لم تعد إشكاليتنا مع المشكلات، بل انحصرت معضلاتنا بالحلول.آلية الحل تخلق مشكلاتٍ مضاعفة، هذا ما دأبنا على تجريبه عربياً، إنها حالة من «التناوب على تجريب الفشل». كلما مرّ طيفٌ ظاهره فيه الرحمة، بيّنت الأيام أن في باطنه العذاب.
وما أسهل تحويل الكوارث إلى إنجازات في لغتنا. كل الكوارث التي مررنا بها وكانت دموية تمّ تعديلها لغوياً. فاللغة العربية ساترة للأحداث التاريخية.والعورات التي تتبدى دائماً مع كل حدثٍ يُظنّ بنتائجه الفتح تسترها اللغة بمفرداتها الثريّة، تتحول الانقلابات العسكرية إلى «ثورات» والدولة «الأصولية» تصبح مدنية، والنكبة تلطّف لتكون «نكسة» وتبلغ ذروة الفخر اللغوي الفارغ حين تكون الحروب الأهلية «مخاضاتٍ»لولادةِ نورٍ طال انتظاره منذ قرون. وهكذا تستمر دورات الزمن المهلكة، والتي لا تسترها إلا التعابير اللغوية، وحقول تكرير التكاذب الاجتماعي «الجماعي».

السينما: هل خانت الرواية؟

السينما: هل خانت الرواية؟
18 أبريل 2012
فهد سليمان الشقيران
(امبرتو إيكو)


تصاعدت أهمية “الرواية” عالمياً مع تحوّل بعض الروايات إلى نقطة ارتكاز نصي يستخدم في “السينما”، وإذا كان النص الروائي قد دخل في مكائن التصوير منذ يفاعة الفن السينمائي فإن الفترة السينمائية الأخيرة تشهد على تسابق سينمائي ملفت نحو “النص الروائي” هذه الرؤية تثْبت حينما نستعرض الإنتاج السينمائي الأخير وكيف أن نسبة تحويل النص الروائي إلى نص بصري عبر آلات التصوير باتت “ظاهرة”.

يهمني هنا ليس السرد السينمائي الذي يحتاج إلى مختص في هذا الفنّ لكنني سأقف مع “شكل” ردة فعل الكاتب حينما يشاهد روايته وقد أحيلت إلى شريط من الصور المتناسلة، وسأنمذج على هذا الرصد بالوقوف على ردة فعل فيلسوف إيطالي هو امبرتو إيكو فهذا الكاتب النادر جرّب شعور الكاتب وهو يشاهد روايته الجماهيرية وهي تتحول إلى فيلم سينمائي وراح يتحدث عن تلك التجربة في حوارٍ مميز أجرتْه “جمانة حداد” ونشرتْه في كتابها (لصوص النار) الصادر عن دار النهار في 2006.

سألتْه جمانة حداد عن “شعور الخيانة للنص” هل راوده وهو يوافق على تحويل روايته الشهيرة “اسم الوردة” إلى فيلم سينمائي أنتج عام 1986؟ هذا السؤال الذي يهزّ الكاتب الغيور على حروفه غيرة الأب على أولاده، جعل أمبرتو إيكو يفجر جوابه الأنيق على طريقته حيث عرض نظريته في الترجمة الانترسيميوتيكية؛ أي انتقال الفكرة والتعبير من جسم كتاب إلى جسم فيلم، ورأى إيكو أن التغيرات التي ستطرأ محتومة، فما يكتمه الكاتب يجسده الفيلم ويصوره والعكس بالعكس، ويمضي متحدثاً عن تجربة تحويل الرواية إلى فيلم قائلاً: (ولأنني أدركت هذا الأمر، اتخذت إزاء الفيلم موقفاً هادئاً ومطمئناً. وقلت سيكون ذلك عمل شخصٍ آخر).
(الفيلم المأخوذ عن رواية إيكو 1986)

فهو أدرك مساحة الانزياح التي ستحدثها الصورة بحروف النص المُسيّل من الرواية، ذلك أن رواية من 500 صفحة لن تمرّ على كاتب النص الآخر المتزحزح من الرواية باتجاه آلة الصورة من دون أن تُمسّ بتحويل يرخي بمراكز الرواية فيحيي الأحداث الهامشية لتصبح هي عصَب الفيلم ويهمّش الأحداث التي أراد الروائي أن تكون هي الأساس في روايته، ومن شاهد فيلم “زوربا” وكيف تضاءل نيكوس كازانتزاكس كاتب الرواية أمام سطوة مكائن الإنتاج البصري، سيشاهد كيف أصبحت الأحداث العادية التي لم تكن محوراً في الرواية هي محور الفيلم، النص الفائح من الرواية والذي يُكتب من أجل إسقاطه على قوالب الصورة المتحركة هو ما يستفزّ الروائي، وقد وقع الكثير من الروائيين بمشاكل كبيرة مع المخرجين إبان صناعة الفيلم أو قبله، هذا ما عبّر عنه إيكو في اللقاء ذاته، حينما قال “لم أرد أن أكون على غرار أولئك الكتّاب الذين لا ينفكّون يتشاجرون مع المخرج”.
تعقيد تحول النص الروائي إلى أنبوبة فيض صوري من المستحيل حسمه، ذلك أن النص الروائي يشترك مع الصورة في “السيلان، والتدفق” في الصور المتعددة، ولا شيء يعدل قرض الروايات في سن مبكرة، لقد كنا نتخيل أننا أمام فيض صوري، أننا أمام أشرطة بصرية لا تنتهي، لكننا أمام سيل من الكلمات والعمل، فخ الصورة أنها لا يمكن أن تكرر الصورة لشرح المشهد، على عكس النص الروائي الذي يستمر في المقاربات إلى ما لا نهاية، من رحم النص الروائي ولدت عبقريات تصويرية. هل هذا هو ما أراده هذا الفيلسوف والروائي وعالم الرموز والسيمياء والدلالات أمبرتو إيكو في ضربته الرائعة التي تمثلت في “الموافقة” (بكل ما تعنيه هذه الكلمة) أن توافق على تسييل النص في مكائن تكرير النص الروائي أعني بها آلات التصوير الساحرة.

(فيلم زوربا المأخوذ من رواية كازانتزاكس 1964)

رأى إيكو أن قبوله تحويل نصه الروائي إلى شريط سينمائي يتشظى من بركان نصه الروائي رأى في “القبول” مغامرة مسلية، ولم يجد في هذا التصرف خيانة مباشرة، سأنقل نصه عن “الخيانة” كاملاً هنا، يقول هو رداً على سؤال جمانه: (كنتِ تتحدثين للتو عن مسألة خيانة الفيلم للكتاب، الخيانة متضمنة بالطبع في الفيلم، لكنها خصوصاً خيانةٌ للعهد القديم القائم بيني وبين قارئي، بأن أفسح له مكاناً ولو صغيراً في نصّي). ولم يخف إيكو غيرته من الفيلم على الرواية، لذا رفض تحويل روايات أخرى له إلى أفلام سينمائية، فهو طفق تهكّماً على قصة فتاة رقصت بعد أن رأت الرواية “اسم الوردة” في المكتبة وهتفت: “يا إلهي لقد حولوا الفيلم إلى كتاب”!

هذا ما يمكن أن يشعر به الكاتب الطبيعي حينما يشعر أن حروفه المتماسكة المتراصة كعقد ألماس لامع، ستصهر في مكينة تصوير تدار بعيداً عنه، يشعر أن مفرمة تقطع أصبعه، لكن إيكو استطاع التغلب على هذا الشعور وإن لم يكرر تجرية التحويل تلك مرةً أخرى، هذا مع أن جمانة حداد لفتت في سؤالها التالي إلى ظاهرة معاكسة، وهي تحويل الفيلم إلى رواية، وضربت على ذلك مثلاً بفيلم “لاراكروفت”.

أردت أن أستجلي هذه الظاهرة السعيدة التي أخصبت السينما ؛ أن أدقق في أثَرها على الروائي، لطالما راودني هذا السؤال منذ أن شاهدت روايات عادية نجحت على حساب الفيلم وبين أفلام نجحت على حساب الرواية، كما هو حال الفيلم “زوربا” مثلاً والذي جاء مملاً وتافهاً مقارنة برواية هي من أمتع الروايات التي تضرب في عصب جدوى الوجود، وبين رواية نجحت كرواية وكفيلم كما هو حال “العطر” و “اسم الوردة” التي ضربنا بها في هذه المقالة مثلاً ربما يستمرّ الحديث عن “النص الكتابي” و “النص البصري” في كتابات أخرى. 

الملثّمون والغضب من «العلمانية الفرنسية»

الملثّمون والغضب من «العلمانية الفرنسية»
جريدة الحياة 16 أبريل 2012
فهد سليمان الشقيران

(الحرب الدينية في فرنسا استمرت منذ 1562 وحتى 1598)

شكّل مفهوم العلمانية تطبيقه المختلف في فرنسا، فهو يحتفظ بخصائصه عبر التشكّل الدائم تبعاً للأحداث التي تستجدّ على أرض الواقع. العلمانية الفرنسية تأخذ دائماً صيغ حضورها من خلال تجدد المفاهيم الأخرى، أو زحف الثقافات المتعددة، أو تزاحم المختلفين في الدين على أرضٍ واحدة. ولا يمكن فهم تطبيقات العلمانية الفرنسية خارج سياق التاريخ الفرنسي، ذلك أن فرنسا تحتفظ بصيغةٍ علمانية تُعنى بضبط حركة الهويات في الواقع، فوضى الأشكال التي تراها في بعض الدول الأوروبية ضبطت في فرنسا اتكاءً على تجارب تاريخية وضعت الهوية في الذاكرة الفرنسية موضع المساءلة المستمرة، والضبط المستديم.

يكتب «مارسيل غوشيه» – الفيلسوف الفرنسي الذي شغلتْه الحال العلمانية الفرنسية وعلاقاتها بالدين: «إن العلمنة في فرنسا تعود إلى زمنٍ بعيدٍ جداً، ولا يمكن فهم مسيرتها، ورهاناتها، وأشكالها، فهماً واقعياً إلا عندما نعيد إليها عمقها التاريخي. العلمنة مصدر من مصادر القلق التي تشغل بال فرنسا القلقة»، ثم يفصّل كاتباً: «التنظيم السياسي لا يسبق إرادة المواطنين، ولا يعلو عليها، لأن قناعاتهم تعدّ شخصيةً بالجوهر. كذلك لا يخضع التنظيم السياسي لغاياتٍ دينية، فهو على العكس من ذلك يجب أن يفهم بطريقةٍ تسمح بتعايش غاياتٍ عدةٍ مشروعة».

(العلمانية والهويات الدينية في الواقع موضع جدل)

ينتقد البروفيسور محمد أركون في معظم مؤلفاته «العلمانويّة» الفرنسية، على اعتبارها علمانية أخذت تتطرّف في تحييد الدين وتمنع تدريس الدين، مسلّطةً الماديات على الروحانيات الضرورية للمجتمع، غير أن العلمانيّة الفرنسية نمت ضمن صيغة اجتماعية تكوّنت تاريخياً على مرحلتين، المرحلة الأولى منذ نهاية الحروب الدينية سنة 1598 إلى الثورة الفرنسية 1798، والمرحلة الثانية من إقرار الميثاق النابليوني إلى العصر الحديث 1975، ويطلق «غوشيه» على المرحلة الأولى «مرحلة الحكم المطلق»، وعلى الثانية «مرحلة التحرر والجمهورية». العلمانية الفرنسية نبعت من تاريخ مجتمع من أكثر المجتمعات الأوروبية التي ذاقت مرارة الحروب الدينية، ولنذكر مثلاً الحرب بين البروتستانت والكاثوليك التي استمرت منذ 1562 وحتى 1598.
العلمانية الفرنسية هي محتوى ديموقراطيتها، و«ساركوزي» في تنظيره لرؤيته السياسية يعتبر: «العلمانية، أحد مكوّنات الديموقراطية الفرنسية، والقبول بقواعدها هو شرط من شروط الاعتراف بإسلام فرنسا»، ترتبط العلمانية الفرنسية بالذاكرة الاجتماعية، ذلك أن عصر الاستقواء بالعقائد في الواقع يذكّر المجتمع الفرنسي بمآلات الفلتان في «الحروب الرمزية» التي تدار عبر الألبسة التي تمرر رسائل وشيفراتٍ هي على مستوى من الدلالة في القراءة الفرنسية الاجتماعية، من هناك كان للعلمانية الفرنسية تطبيقها الخاص والمرتبط بتنظيم حضور المختلفين ديناً بطقوسهم على أرض الواقع، حمايةً للمجتمع من مغبّة نشوب «مزايدات الحقائق» التي تكون هي الشرارة دائماً في أي اضطرابٍ أمني ينشأ من مشكلاتٍ بين المختلفين في أديانهم.

(مارسيل غوشيه)

 أستمع كثيراً إلى الذين يحاضرون على الفرنسيين بمعنى «العلمانية الحق» وهم في غاية التطرف والانتماء للتيارات الأصولية الاستئصالية، يريدون للعلمانية الفرنسية أن تثلمَ حتى يتمكنوا من التحايل عليها بغية تدبير أعمالهم وإنشاء مؤسسات تكرير الكراهية والتطرف والعنف، لا يعتبرون العلمانية نظاماً ممكناً، لكنهم يعطون الفرنسيين الدروس المتتالية حول «التطبيقات» التي يجب أن تمتثل إذا ما أراد الفرنسيّ «علمانيةً حقة»، وإذا كانت تلك العلمانية قد أخذت صيغتها الخاصة فإن هذا لا يعني أنها تستهدف هذا الدين أو ذاك.
 الصيغة العلمانية الفرنسية هي صنيعة شعبية واجتماعية، والقرارات البرلمانية التي تصدر هي من ممثلي الشعب، وعليه؛ فإن كل قرارٍ هو اختيار اجتماعي، ولعل أبرز ملامح العلمانية الفرنسية التي نراها ملمح «ضبط حركة الهويات في الواقع». تلك الحال من الضبط نبعت من المخيال الاجتماعي لإرثٍ تاريخي دمويّ بسبب الاختلاف بين الكاثوليك والبروتستانت. إنها علمانية ضبط وليست علمانية إلغاءٍ أو استئصالٍ أو تصفية.

الفيلسوف بودريار: لا أدري ماذا سيحل بالعالم!

الفيلسوف بودريار: لا أدري ماذا سيحل بالعالم !
12 أبريل 2012
فهد سليمان الشقيران
(جان بودريار)
“جان بودريار” فيلسوف فرنسي مشاكس ارتبط اسمه بالأحداث درْساً فلسفياً وتحليلاً، في ذكرى رحيله الخامسة نعود إلى نتاجه وإرثه، المتخم بالتحليلات الجديدة والنظريات الحديثة ، وبودريار فيلسوف فرنسي ، أحد أقطاب فلاسفة ما بعد الحداثة ، ولد في عام 1929 في فرنسا ، درس الألمانية في السوربون ثم درّسها في الثانوية ، عمل مترجماً وناقداً، ثم تابع دراسته للفلسفة وعلم الاجتماع.
وعمل على تأليف أكثر من خمسين كتاباً في الفلسفة وعلم الاجتماع ومنها: «مجتمع الاستهلاك» «الأساطير والبُنى»، «مرآة الإنتاج»، «التبديل الرمزي والموت»، «إنْسَ فوكو»، «إغراء» «سيمولكارا والمحاكاة»، «في ظلال الأغلبية الصامتة»، «استراتيجيات قاتلة»، «أميركا»، «ذكريات جميلة»، «نشوة الاتصال»، «شفافية الشر»، «وهم النهاية»، «الجريمة الكاملة»، «التبادل المستحيل»، «كلمات السر»، «العناصر المفردة للعمارة»، و “مؤامرة الفن”.
بودريار مثير في نظرياته ومواقفه معاً، وربما كانت نظريته حول “الواقع الفائق” Hyperreality من أبرز إسهاماته الفلسفية ، يقول عنها أحمد المغربي : “إنها من أبرز ما قدمه فلسفياً خصوصاً أنه نحت في ثمانينيات القرن العشرين فدل على مغامرة بودريار في تيار ما بعد الحداثة”. ويمكن فهم نظريته حينما نقرأ النص الذي بدأ به كتابته عن الواقع الفائق وهو منسوب إلى الملك سليمان:”إن النسخة الشبيهة لا تخفي الحقيقي أبداً بل إن الحقيقي هو الذي يخفي واقع عدم وجود شيء حقيقي ، إن النسخة الشبيهة هي حقيقية”. ويستمرّ بودريار “لم تعد النسخة الشبيهة صورة في المرآة عن أصلٍ ما، وبالتالي إشارة عنه ، وتعدى أمر النسخة الشبيهة أيضاً أنها استقلت وانفصلت عن أي أصل ، ولم تعد تشير إلى أصلٍ موجود وبذا صارت إشارة إلى انتفاء الوجود نفسه ووصل الأمر إلى أن الواقع نفسه صار يصنع كلياً من تناسل تلك النسخ الشبيهة التي تنفي وجود الواقع” تلك هي نواة فكرة الواقع الفائق .. ويمثّل على نظريته طويلاً مبرهناً على وجود « الواقع الفائق» بهيمنة الكمبيوتر والشبكات الرقمية ، وأجهزة التلفزة .. على ما يشرح أحمد المغربي أيضاً.
كما اشتهر بودريار في موقفه من تبعات ونتائج تغلغل المركزية الغربية ، نجد هذا مشروحاً على صفحات من مشروع الأستاذ مطاع صفدي في الجزء الثاني من كتابه “نقد الشر المحض – بحثاً عن شخصية مفهومية للعالم” حيث يصف بعض حديث بودريار حول المأزق الذي ينوء به العالم من فعل توزع شظايا المركزية الأمريكية بـ “الفكر الإبداعي الذي يصف المناحة الحضارية وهو في صميمها” حين يتحدث بودريار قائلاً :”ليست تصرفاتنا الحماسية التذكارية بكل وضوح إلا جزءاً من هذا الجلْد الجماعي ونحن في فرنسا خاصةً ، أناس تالفون ، إذ يخيم طقس حقيقي وتعزيات على حياتنا العامة ، جميع نصبنا هي أضرحة ، الهرم، القوس، ومتحف أورسي، وغرفة المدفن الكبير، هذه المكتبة الكبرى، انها النصب التذكاري للثقافة ودون أن نعدّ الثورة فقد كان لها وحدها النصب التذكاري الذي شيّد له احتفال ذكرى المائتي عام ، أجمل صورة حديثة مصطنعة لنهاية القرن”.
يستمرّ- بودريار- في رسم الصورة التي تتضح من خلال نقده لفكرة نهاية التاريخ ، المستندة على تأويلات “كوجيف” لـ “هيغل” والتي رسمها وبناها “فرانسيس فوكوياما” في مقالته في مجلة “المركز”ومن ثم في كتابه “نهاية التاريخ” فيسمي بودريار “نهاية التاريخ” بـ “إضراب الحادثات” فهو على عكس ما يتصوره فوكوياما تماماً ، فأبرز ما يصل إليه «التاريخ الراهن» هو «رفض الدلالة» لأي شيء كان!
تلك هي النهاية الحقيقية للتاريخ .. إنها “نهاية العقل التاريخي” وأكثر من ذلك فقد يكون الأمر مستحباًَ ” لو أننا ننتهي مع التاريخ” ذلك أنه من الممكن ألا يكون التاريخ قد انتهى فحسب فلا فعالية للسلبي ولا وجود للعقل السياسي بعد، ولا لامتياز الحدث ولكننا أصبحنا ملزمين بتغذية نهايته”.  يساهم – إذاً – بودريار في تنشيط الجلد الذاتي الجماعي الذي يتحدث عنه ، فليست “نهاية التاريخ” نقصاً في الكمال أو نقيضاً له ولكنها تحسس عقيم بعصر الانقضاء .. ثم يقول بنبرةٍ صارخة :”أصبحت المعضلات محلولة بالاختراع ما بعد الحداثوي عن طريق الاستقلاب وأجهزة الترميد فمن مُرمّدات التاريخ الكبرى ، يُبعث (فينق الحداثة البعدية) ، إذ ينبغي التسليم بحقيقة أن كل ما ليس قابلاً للزوال يغدو اليوم قابلاً للتدوير، إذن ليس ثمة حل نهائي لن ننجو من الأسوأ ، وهو أن التاريخ ليس له نهاية.المدهش في ذلك هو أنه لا شيء مما اعتقدنا أن التاريخ تجاوزه قد اختفى حقاً، فكل شيءٍ لا يزال هنا  فلا يكاد التاريخ ينفصل عن زمن الدورة حتى يسقط في نظام إعادة التدوير!”.
بودريار ليس نيتشوياً إلا في صفحة الإدانة والندامة / فالعدمية المعاصرة – وفق صفدي – تتجاوز حتى عدمية نيتشه، وما كتبه بودريار كأنه رثاء جنائزي ، يتضح هذا عبر كلامه العريض في كثير من لقاءاته، ولعلّ كلمته في جريدة اللوموند الفرنسية في 3- نوفمبر2001 حينما قال : (لا فكرة لدي عما ينتظر العالم) أحد أكثر كلماته تحذيراً وإنذاراً! لكأنه يكرر مفهوم “إضراب الحادثات”الذي يعني: دخول واقع تاريخي لم يعد يأتي بالخوارق القديمة.
هذه مجرد إضاءة على فلسفة بودريار العريضة ، نويت بكتابتي هذه إبراز اسمه وسيرته وابراز شيء من عباراته وخطوط عريضة من نظريته الأبز (الواقع الفائق) وفاءً لحركته المستمرة لإثراء الثقافة الإنسانية وتحليل مآزق التعنتر البشري ، لنقرأه وهو المؤثر والمنخرط في دراسة الأحداث الكونية ، والالتواءات السياسية والبشرية ، عبر منظوره الفلسفي العتيد.

“ملثّمون” عصيّون على الاندماج

“ملثّمون”  عصيّون على الاندماج
جريدة الحياة 9 أبريل 2012
فهد سليمان الشقيران
 
 
ربما من النادر أن نجد رئيساً أوروبياً أخذ على عاتقه معالجة وجود خمسة ملايين مسلم في الدولة التي يحكمها على المستويين الفكري والتنظيمي، كما نجده لدى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، فمنذ أن كان وزيراً للداخلية كانت مهامّه متصلةً، بمعنى أو بآخر، بمشكلاتٍ تتماسّ مع بعض المسلمين، لهذا كان كتابه «الجمهورية، الأديان، الرجاء» مليئاً بالآراء حول المسلمين بفرنسا، هذا على رغم انتقاداتٍ حادّة يوجهها خصومه الاشتراكيون على خلفيةٍ اعتقالاتٍ واسعةٍ لشخصيات إسلامية متطرفة، وصل ببعضها الدعوة لحمل السلاح بوجه الحكومة الفرنسية دفاعاً عن المنقبات، وقد أسهم ساركوزي بمؤسسة العمل الإسلامي في فرنسا، وضبطه بدلاً من سيولته التي تحوّله إلى محل استغلالٍ من بعض المتطرفين. إذ أسهم بتأسيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية وفق نص قانون الجمعيات الصادر عام 1901. يصر «ساركوزي» في تنظيره للآلية العلمانية، التي تضبط حضور العمل الإسلامي في الواقع، على أن: «مفهوم العلمانية الذي أتمنى أن يتم تطويره، والاعتقاد بأن الدولة قد تبقى غير مباليةٍ تماماً بالحال الدينية يكذبه واقع الأمور باستمرار، طبعاً لا يتعيّن على الدولة التدخل في شؤون العقيدة، ولكن لا يسعها التغاضي عن الشؤون الدينية».
جزء من مشكلة بعض المهاجرين المسلمين إلى فرنسا أن هناك عمليّة ابتزاز مفاهيمية يقوم بها بعض المتشددين، إذ سرعان ما يبتزّ المجتمعات بمفاهيمها، فهو ينطلق حراً في فرنسا، بكامل حقّه الاعتقادي، غير أنه وحين يواجه بالنظام القانوني يتساءل ساخراً: «أهذه هي الحريّة»، وهذه مشكلة عقل مصمتْ حاول بعض المفكرين والفلاسفة المعاصرين تشخيصها، وعلى رأس هؤلاء «محمد أركون»، الذي كان يشير كثيراً إلى مشكلات المهاجرين في فرنسا، واستعصائهم على الاندماج والاندغام مع المجتمعات التي يأوون إليها.
إذا قرأنا ما كتبه «أركون» بكتابيْه: «تحرير الوعي الإسلامي»، و«الهوامل والشوامل – حول الإسلام المعاصر»، نعثر على تحليلٍ مباشر لمشكلات المسلمين في فرنسا وغيرها ممن لم يخرجوا من «السياجات الدوغمائية المغلقة»، يحاول بعض المهاجرين استحضار الهوية في المجال العام الذي يعيشه، وذلك عبر الإلحاح على الآخرين بتميّزه عنهم أخلاقاً أو انتماءً من خلال الرموز والشيفرات التي تبثّها الألبسة المتداولة، التي يمنعها القانون الفرنسي. يشير «مارسيل غوشيه» في كتابه المهم: «الدين في الديموقراطية»، الذي تناول فيه علاقات مفهوم العلمانية وتطبيقاته في فرنسا مع شتى المجالات إلى أن: «الطوائف الدينية تسعى إلى الانصهار الاجتماعي، وإلى تأكيد هويتها، وترغب في أن يتم الاعتراف بها بصفتها مكوّناً لا جدال فيه من مكونات المجتمع»، وهذا ما أثبتتْه شيفرات الألبسة التي نراها في لندن مثلاً في الأماكن العامة، إذ يتبادر إلى ذهنك أثناء مشاهدة تلك الألبسة أنك أمام «صراع هويات»، أو «مهرجان مزايدة على الهويات»، وهذا ما تجاوزته فرنسا.
من بين من حلل ظاهرة الاندماج بالمقارنة بين القوانين الأوروبية «إنزو باتشي» عالم الاجتماع الإيطالي في كتابه: «الإسلام في أوروبا – أنماط الاندماج»، وفيه يؤكد على أن: «الحال الفرنسية، وعلى خلاف ما تابعناه سابقاً، فإن الفلسفة الاجتماعية توجه سياسات استقبال المهاجرين يمكن تلخيصها في مقولة: «دمج خالٍ من الاعتراف»، فتلك الاختلافات أو التمايزات ليس معترفاً بها في المجال العمومي، لتبقى دائماً شأناً خاصاً للمواطن، وأمام الدولة، إذ يعامل المواطنين كافة بشكلٍ متساوٍ»، وفي هذا إيضاح للفرق بين فرنسا وبقية الدول الأوروبية بما يخصّ المهاجرين.
مشكلات كبيرة يقوم بها بعض المسلمين في مهاجرهم، وحين تطبّق عليهم القوانين يزعقون بأعلى صوتهم متسائلين: «أين ذهبت الحرية»؟! إنها المتناقضات التي سببها التيه الفكري، ذلك أن المهاجر المتطرف يرثى له، فلا هو بالذي وجد في مجاهل البلدان شرقاً ما يحميه من ورطةٍ أمنية ارتكبها، ولا هو بالذي وجد في مهاجر أوروبا ملاذاً جبليّاً ينجيه من «دنس العصر»، فيعيش عالةً على الأمن ويحرج بقية المسلمين المعتدلين.

أسئلةٌ يخاف منها الجبناء

أسئلةٌ يخاف منها الجبناء
جريدة الحياة 2 أبريل 2012
فهد سليمان الشقيران
(ابن رشد)
يأخذ الحدث ثراءه بقدر ما يزلزل علاقاتنا التقليدية بالمعاني؛ جزء كبير من الأفكار التي وُرثت هي حصيلةٍ أحداثٍ تاريخية مضت، وبقدر ما تتجدد الأحداث تتغير العلاقات بين الذات ومعانيها، بين الإنسان وبقية الشبكات التي ارتبط بها وارتبطت به، الحدث حين يكون زلزالاً على المستوى البصري فإنه يحرّك من خلال التدوير الإعلامي المجتمعات لتضع يدها على أدوائها، أو لتبحث عن ثغراتها. وحين قرأ «جاك دريدا» حدث 11 أيلول (سبتمبر) في كتاب: «ما الذي حدث في 11 سبتمبر»، ربط بين الحدث الواقعي والتدوير الإعلامي، صورة ذلك الحدث كانت زلزالاً تاريخياً، وذلك بدعمٍ من فعل تدوير الصورة، وحين تصحب الصورة المؤثرات الصوتية، أو التلاعب البصري بالمشهد يكون وشماً على ذاكرة الإنسان. فالحدث له علاقة بالرؤية البصرية، وبالرؤية الثقافية أيضاً.
بقراءةٍ تاريخيةٍ للأحداث التي عصفتْ بنا منذ القرن الثامن الميلادي، حين نشأ القلق الاجتماعي بحثاً عن نظريةٍ سياسية، وإلى الأحداث العربية الحالية، نعثر على أحداثٍ كبرى كان يمكن أن تكون خاضّةّ لكل السياجات الموروثةِ والمحروسة، بقيتْ الإشكالية السياسية هي المحرّك الرئيس للقلق الاجتماعي، وحين تم تحريك الخلافات السياسية عبر التأويلات الدينية أثمر الصراع عن نسخٍ تأويليةٍ كثيرة، فشكّلت مذاهب وتياراتٍ، ومن ثم أثمر فراغ الرؤية السياسية الإسلامية والعربية عن ترسانةٍ من الجماعات التي تزعم أنها تمتلك نظريةً تسدّ بها ثغرة النظرية السياسية التي لم تكن واضحةً بسببٍ من تحوّل الفضاء الديني إلى مساحة للصراع والحرب بين القبائل، فحوّلت التأويلات الدينية إلى أسلحة لضرب المخالفين، ونبشت الخلافات التاريخية لتكون مبررات للتصفية والاغتيال.
كل تلك الأحداث لم تمنحنا الفرصة لصناعة صيغٍ جديدة لإعادة علاقاتنا بذواتنا، وبالمعاني التي نحملها، وبالعلاقات التي لم نفكّر بها بعد. بقي سؤال السياسة حاضراً لدى الفلاسفة المسلمين آنذاك. طرحت مقاربات لتصحيح الإدارة السياسية التي ورثت تاريخياً، يطرح التوحيدي: «الإصلاح العام يجب أن ينطلق من إصلاح الأصل الفاسد»، والفارابي رأى أن: «الإصلاح الاجتماعي المدني يبدأ بإصلاح العقائد والآراء السائدة في المدينة»، ويحذّر ابن مسكويه من أن: «يسلّط على الناس جهّالهم فإن الجهالة قائد الضلالة، والضلالة البأساء والفتنة، وفي الفتنة الدمار والهلكة»، ورأى إخوان الصفا: «أن المدينة الفاضلة ذات موقعٍ مخصوص؛ لأنها مدينة روحانية تخصّ النفوس المتخلّصة من مطالب الجسد»، بينما يصرّ «ابن عربي» على أن الإصلاح الحقيقي يبدأ من تهذيب «قوى النفس». أما «ابن رشد» فكتب: «لا يمكن أن تقوم دولة العدالة، إلا باعتدال الشخص وسيادة القوة العاقلة».
تلك مقاربات الفلاسفة العظماء الذين كانوا يعالجون عصب الرؤى مخترقين السياجات، وذلك بعد أن حرّضتهم زلازل الأحداث. طوال القرنين الماضيْين أصيبت محاولات فتح أضابير الأسئلة المغلقة بالإخفاق، وذلك بعد أن ضربتْ قوى التطرف المفكّرين بعد أن استبسلوا ثم هزموا؛ ولنتذكّر الذي جرى لهم منذ تراجع طه حسين عن بعض مضمون «الشعر الجاهلي» وإلى اليوم. كانوا يفكّرون وسط وجيب الرعب، ومن لطيف ما يحكى قصة ذكرها «هاشم صالح» في مقدمته لكتاب محمد أركون: «تحرير الوعي الإسلامي»، وكان «أركون» قد ألّف كتاباً يتناول العقل الإسلامي: “ففي ذلك الوقت – قبل ربع قرن – ما كنا نجرؤ على وضع العنوان الحقيقي على غلاف الكتاب، وبعد نقاش طويل مع أركون بحضور «مطاع صفدي» وربما باقتراحٍ منه تم اختيار عنوان: «تاريخية الفكر العربي الإسلامي»، بدلاً من: «نقد العقل الإسلامي»، كان ذلك قبل أكثر من ربع قرن، ولكننا أخيراً تجرأنا على وضع العنوان العريض”
منذ الأحداث التاريخية وإلى الحروب الأهلية، وصولاً إلى ديناميت الإرهاب، إلى الاحتجاجات الحاليّة، لم نفتح بعد الملفات المغلقة التي تستوجب المراجعة والنقاش، ولم يبدأ الحوار حول حدود الحرية، أو مفهوم الدولة، أو حدود النقد والفحص والتشريح؛ لقدّ ملّ منا التاريخ من كثرة ما نتسمّر حيارى جبناء أمام سيولة أحداثه.