مارس 2012

إسلام سراييفو

إسلام” سراييفو
31 مارس 2012
فهد سليمان الشقيران

(مسجد علي باشا-سراييفو-البوسنة)


من أكثر الأسئلة التي تزداد راهنيتها مع مرور الوقت هو سؤال “الإرهاب”، ذلك أن العالم اليوم يعيش مشكلات بعض المسلمين والتي تأسست بفعل التفاسير الدينية التي شكّلت الثقافة، والدين، كما يعبّر مالوري ناي، هو «وجه أساسي من أوجه الثقافة»، وآية ذلك أننا نجد «تأويلاتٍ إسلامية» متعددة وفقاً لتفاسير ينفي أحياناً بعضها بعضاً. كان دوركهايم يفترض أن الأستراليين الأصليين عبارة عن حفريات يجب فحصها تحت الميكروسكوب من أجل شرح تأثر قوانين الطبيعة في السلوك الشخصي. فرؤى الإنسان للأشياء والوجود والدين تنعكس على سلوكه، وكلما كان التفسير متمرّناً على حركة الواقع المعقّدة، استطاع الإنسان ممارسة سلوكه بفردانية لا تمسّ دوائر عيش الآخرين.

لفتت نظري مقالة كتبها إيف شارل زرقا في مجلة «فلسفات معاصرة 2009» عنوانها «الإسلام وعصر الأنوار» تحدث فيها عن الإسلام في ساراييفو. يرسم الكاتب صورةً حيوية للإسلام البوسني، إذ رسمت سراييفو شكلاً متفرداً من أشكال التفسير للأحكام الدينية، يلحّ الكاتب على أن سراييفو: «لا يمكننا تكوين فكرة عنها قبل أن نراها، هذه المدينة المسلمة بغالبيتها مع وجود أقليتين غير متساويتين عددياً واحدة كرواتية والأخرى صربية لكنها لا تشبه في شيء بقية المدن الإسلامية خصوصاً مدن محيطها على البحر المتوسط». هذا فرق أسست له بيئة تتضاغط نحو التكامل البشري الوجودي بعيداً من الصراع على الحق الذي يدمّر بنية الثقافة ويهدد أمن الدولة ويعيق حركة الحياة.

في سراييفو هذه المدينة التي شهدت بعد الحرب حال استقطاب دعوي من منظّمات عدة بعضها متشدد يحاول فرض تفسير واحد تحت ذرائع الدعوة والتصحيح، لتنفر غريزياً بفعل الجوار الأوروبي الضاغط من كثير من التفسيرات الجاثمة على مدنٍ لم تتجرأ بعد على تجاوز مرحلة الغيبوبة، الصورة الأساسية التي لفت النظر إليها في سراييفو هي: «الحرية التي تسيطر عليها، ففي وسط المدينة توجد المؤسسات التجارية، والمقاهي، حيث ينشط الشبّان والشابات، يثرثرون ويتجولون … ولا نلاحظ شيئاً من التشدد الإسلامي الذي يحتوي الأجساد والتعاملات والتصرفات وطرائق ارتداء الملابس فيتحوّل هذا التشدد إلى شرطة عادات».


خذ الخريطة، تصفّح عواصم البلدان الإسلامية، حاول أن تعثر على مدينة تسير إلى الأمام، في ظلّ نمو وتناسل لأفكار لا تثق بالحياة نتفاءل بهذه المدينة، ولا أدري هل أفرط زرقا في تفاؤله حينما بدأ يحلم: «ولنستسلم للحلم، إنها مدينة ذات تقليد إسلامي في وسط أوروبا التي لم تعد كذلك، ألا يجب أن نرى فيها إسلام أوروبا الذي بحثنا عنه سدى في كل مكان، إن ما صنع أوروبا الحديثة هو إرث من عصر الأنوار، هل نحن أمام إسلام عصر الأنوار؟».

(الراحل محمد أركون)

إن الصورة التي شاهدها الكاتب في زيارته إلى سراييفو إيجابية إذا ما قورنت بإسلام «طالبان»، لكنها ليست النموذجية، هناك الفوران الأوروبي يحرس قيم الاختلاف والتبادل الشعبي للثقافات. فكل بيئة تصوغ سلوكها وطريقة تغذيتها ولبسها، فالثقافة ليست طرفاً ثانوياً في مسألة التأويل الديني بل هي القاعدة التي تبنى عليها التصورات. والإسلام في أوروبا يفتقر إلى أصوات مفكّرة بشكل جدي يستمع إليها المسلمون وتفتح آفاقهم على قيم الفرد، وحرية التفكير والتأويل. ولعل محمد أركون من أكثر المتحمسين لهذا الرأي في كتابه الأخير «الأنسنة والإسلام».

طال الحديث خلال العقد المنصرم عن الإسلام والمسلمين، الإشكاليات التي تؤرّق أوروبا والولايات المتحدة صار المسلمون شركاء في تحريكها والتأثير عليها. ساعد على هذا الفوران حال الوفرة الإعلامية الفضائية التي أسست لمرحلة «الحرب السبرانية»، ثم دشّنت مواقع التواصل مثل «فايسبوك» و «تويتر»، أو موقع «يوتيوب» التي ساهمت في تعزيز الضغط الغامض أو التحالفات الإلكترونية ضد أمرٍ ما أو معه.


الكارثة أن بعض المسلمين هم أكثر الناس غفلةً عن الإشكالات التي يعيشونها، لهذا نضطر إلى قراءة مشاكلنا من خلال دراسات الباحثين الغربيين. وإذا التفتنا إلى بعض من يُسمّون بـ «النخب» نجد أنهم «شغّيلة» على التوافه، يتصارعون سياسياً أو فكرياً أو ثقافياً على قشور، بدليل أننا لم نفلح بعد في كتابة دراسة ثقافية علمية عن مشكلة الإرهاب، أو الأصولية، أو التطرف. لقد وقع كثيرون في فخ «الثرثرة الأيديولوجية» عبر الانضواء. هذه هي مشكلة استمرار أزمة فهم وتأويل الإسلام اللذين حوّلا المسلمين في أوروبا وأميركا أدوات احتجاج أو رفض أو قوى تتظاهر بمناسبة أو من دون مناسبة.

العلمانية والدين… «أدونيس» والثورة السورية

العلمانية والدين… «أدونيس» والثورة السورية
جريدة الحياة 26 مارس 2012
فهد سليمان الشقيران
(عودة الخميني 1979)
ليست مهمة الناقد الاحتفال بالحدث؛ بل مهمته أن يتناوله بالنقد والفحص والتشريح، وكل عمليّة نقدية تتطلب مسافةً من البعد عن الرأي الجماهيري السائد، ذلك أن للجمهور سطوته، فهو يشوّش على الدقة النقدية، والناقد والرافض لا جماهير له، وعلى حد قول الشاعر الماغوط: «جمهوري الوحيد هو ظلّي»، ثم إن السجالات الدائرة بين المثقفين حول الاحتجاجات في مجملها صحّية، مع أن بعضها وصل إلى الذروة من التوتر، اتهم أدونيس – مثلاً – صادق جلال العظم بأنه «أكبر منتفع من النظام السوري»، ولعل موقف أدونيس الذي تراوح بين المجاملة والوضوح أخذ شكله النهائي في لقائه التلفزيوني على قناة “دبي”.

 
في كتابه «الثابت والمتحوّل» احتفى أدونيس بالثورة الإيرانية 1979، أخذه سحر الجماهير الهادرة، كان حينها يفكّر بأن تنتشر العدوى للعرب لتتخلص من الاستبداد والكبت، مع أنه انتقد في الكتاب ذاته بعض أشكال الممارسات الإيرانية السياسية، وهي واضحة في فصلٍ عنونه بـ «الفقيه العسكري»، أما موقفه من الثورات العربية فقد كان حاسماً منذ البداية، مع أنه احتفى قليلاً بالثورة التونسية، ولكن، حين لاحت بوادر وصول الإسلاميين إلى السلطة اعترض على ثورات «تخرج من الجامع»، كما يقول في حوارٍ سابق، بل وقف ضد أي نظامٍ سياسي يُبنى على الدين، ويعتبر العلمانية أحد الشروط الرئيسة لأي بناء سياسي يمكن أن تنتجه الثورة في سورية أو غيرها.
الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو وقع في الفخّ ذاته بتأييد الثورة الإيرانية آنذاك، إذ زارها مرتين بوصفه صحافياً، الأولى من 16 إلى 24 أيلول (سبتمبر) عام 1987، والثانية من 9 إلى 15 تشرين الثاني (نوفمبر) من العام نفسه، وقد استقبل في «قم» من آية الله شريعتمداري. كانت إيران نافذةً لفوكو للحديث عن الإسلام، ظنّ حينها «فوكو» أن الذي يطفو على السطح هو الإسلام ذاته، غير عابئ بالفصل بين الإسلام السياسي وبين الإسلام ذاته. كان إعجابه بالثورة الإيرانية إحدى نتائج إعجابه بالخميني.

 

في كتابٍ صدر حديثاً بعنوان: «فوكو صحافياً… أقوال وكتابات» جُمعت مقالات «فوكو» عن الثورة الإيرانية وتقاريره، بلغت ذروة إعجاب فوكو بالخميني بمقالةٍ نشرها في «أخبار المساء» الإيرانية، في 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 1978، وقال فيها: “الخميني في الأخير ليس رجلاً سياسياً، فليس هناك حزب للخميني، وليس هناك حكومة للخميني، فالخميني هو نقطة تحديدٍ لإرادة مشتركة، فما الذي يبحث عنه ذلك العناد الذي لا شيء يزحزحه»، وعن الثورة الإيرانية كتب في المقالة ذاتها: «كان السؤال الذي طرح عليّ من دون انقطاعٍ عندما غادرتُ إيران هو بالطبع: «هل هي الثورة؟» فلم أجب! لكنني وددت القول: إنها ليست ثورة بالمعنى الحرفي للكلمة، إنها طريقة للنهوض والإنقاذ، إنها ثورة رجال عزّل يريدون أن يرفعوا العبء العجيب الذي يجثم على صدر كلٍ منا”.
من الغريب أن يكتب «فوكو» الفيلسوف الأبرز في القرن الـ 20 هذا الكلام العاطفي عن الثورة الإيرانية، وهو المناوئ لكل أشكال «تديين السياسة»، أو «تديين السلوك»، أو «تديين الجسد» من خلال مشاريعه في نقد السلطة!
(الشاعر السوري أدونيس)
كان «أدونيس» يشترك مع «فوكو» بهذه العاطفة الجيّاشة، وربما أن ندم أدونيس على تلك الحماسة هو الذي جعله أكثر المثقفين خوفاً من تأييد هذه الثورات التي جاءت بالإسلاميين. ثم إن أدونيس لم يكن مثقفاً جماهيرياً، بل كان مشروعه مكتوباً لأشخاصٍ محدودين لا يراهم، كان يبحث عن الشهرة من خلال النفرة منها، ويصل إلى الجماهير من خلال هجرهم. وبعيداً ممن يتّهم أدونيس بالطائفية، غير أن الرأي الذي طرحه أدونيس من «أسلمة الثورات» ينسجم مع مشروعه العلماني الذي شيّده منذ نصف قرن.
أدونيس يهرب من اللوم على تأييده للثورة الإيرانية بالتذرّع بأن ثمة من أيدها من الفلاسفة والمفكرين، ملمّحاً بالدرجة الأولى إلى الفيلسوف الفرنسي فوكو، فالثورة الإيرانية ثورة “دينية” لا لبس فيها، تحرّكها العمائم والمشالح. يعيد أدونيس حذره من تأييد الأحداث العربية الحالية منطلقاً من خبرة اندفاعه للثورة الإيرانية، منطلقاً من نخبويةٍ اختارها هو في وسائل تعبيره المختلفة. ومواقف أدونيس تشبه شعْره كثيراً، لغموضها، ونخبويتها. يأبى أدونيس أن يشاهد الأصوليون وقد تسنّموا الحكم في الدول التي تعيش حالة احتجاجات، فالموقف الفكري الذي اتخذه يأتي في سياق مواقفه الأخرى من الأصوليين، وهذا طبيعي في عالم الأفكار، ومن البدهي والطبيعي أن لا يتفق أدونيس في احتجاجاتٍ يحرّك بعضها رموز الدين مثل يوسف القرضاوي.
تلك محاولة لمقاربة ذرائع أدونيس ومواقفه، منذ زلّة تأييد الثورة الإيرانية، وإلى جلبة رأيه وموققه من الحدث السوري، وبقية الاحتجاجات العربية الأخرى.

غاية الربح … هل تعيد تأويل الإنسان؟!

غاية الربح … هل تعيد تأويل الإنسان؟!
جريدة الحياة 4 يوليو 2011
فهد سليمان الشقيران
(برنامج لحظة الحقيقة)
لكأن كل شيءٍ أعيد تأويله من جديد؛ كنتُ أتابع باهتمامٍ غامض برنامج: (لحظة الحقيقة The Moment of Truth) كان حينها مُترجماً بنسخته الأصلية على القناة الجميلة mbc4، نسيتُ ذلك البرنامج بكل سحره الغامض، إلى أن شاهدتُ البرنامج مُعرّباً على القناة نفسها من تقديم ممثل سوري، كانت الضيفة ملكة جمال سابقة اسمها: نادين نجيم، تأملتُ في هذا البرنامج الذي فتح أمامي مجموعةً من التأملاتً في معنى الإنسان ذاته، وكيف أن طريقة تعبيره تكون محاصرة بين الآلة التي تكشف صدقه من كذبه، وبين إرادة الفوز التي تغريه على كشف “تابوهاتٍ” من حياته وعاطفته. 
التقنية التي رأى هيدغر أنها أعادت تأويل العالم، استطاعت من خلال المنجزات البصرية المستمرة أن تعيد تأويل الإنسان ذاته، صورة الإنسان تبدو متشعّبة، كانت الضيفة تنصت بخشوع لأسئلة المذيع الذي يضع لكل سؤال ثمنه، وكلما كان السؤال كاشفاً لمنطقةٍ أراد الضيف تغطيتها من خلال كل اللقاءات الماضية كلما كان إغراء المال أقوى وأكثر جاذبيةً له من الخصوصية نفسها.
إن إعادة التأويل التي مرّ بها الإنسان من خلال التطقيم الأداتي وسحر الصورة، ومكائن الإعلام، وتغلغل المال في الإرادة الذاتية ليكون غايةً لا وسيلة، هو الذي جعل من مفهوم “الخصوصية” الملازم لكينونة الإنسان يرحل في مهبّ رياح التشظي وزمن انتهاء المراجع، وسيادة الظل على الجسد، وتفوق الصورة على صاحب الصورة! صرّحت الضيفة بأنها لا تريد زوجاً مثل أبيها، وأنها لن تترك أعمالها لتساعد أمها في حال احتاجت إلى ذلك، بالتأكيد أنها فسّرت إجابتها بعد كلمة “لا” لكن الجهاز الذي يحيط بأقوالها لا يعترف بلغة الشعر، وإنما بالـ”نعم” والـ”لا”.
(ماكس فيبر)
تأخذ التقنية حركة التأويل الدائم، إنها لا تقف بمنجزها على شكلّ واحد، كل يومٍ تتبدل الصورة بطريقةٍ أو بأخرى وهذا جوهر تفوّقها وسحرها؛ إن طفرة التقنية بمنجزاتها المتنوعة والخلابة أنتجت تأويلاتٍ غير محدودة لتأويل وقراءة العالم. كانت الضيفة في اللقاء الذي أجري معها في برنامج “لحظة الحقيقة” كان الذي يتحدث العمق الذي يختار الإنسان إخفاءه عن الإعلام، لهذا فإنها حين تجيب تحمرّ وتصفرّ لأنها تفرط بجزء من كينونتها الوجودية باختيارها الحر من أجل الوصول إلى مراحل متقدمة من مسابقةٍ تنهل من بئر الخصوصية من دون حواجز أو حدود.
إن البعد الذي نراه في الإنسان في هذا البرنامج، غير ذلك البعد الخافت الذي نراه في برامج أخرى لا تنزع عن الإنسان خيار إخفاء خصوصيته، حين سألها –المذيع- إن كانت “كذبت” من أجل الاعتذار من حفلٍ خيري أجابت بـ”نعم” وهي التي عرفت إعلامياً بأنشطتها الخيرية، لكن الإنسان في مثل هذا الطحن التقني يعاد تأويله من جديد إنه يظهر لنا ما لم “نتوقعه منه” ويبرز لنا من اعترافاته ما لم “نفكر فيه” إنه يأتي بالهامش مكان المتن، وبالظلّ مكان الجسد، وبالحقيقة الصادمة مكان الإنشاء الذي يحجب عمق الذات.
لم يشهد ماكس فيبر هذه الظاهرة بسحرها وغموضها لكنه وضع هذا السلوك ضمن “الروح الرأسمالية” والتي تعني بحسبه:”أن نربح المال دوماً، أكثر فأكثر مع الحذر على وجه الخصوص من المتع التلقائية في الحياة، فالمال ينظر إليه إلى هذا الحد على أنه غاية في ذاته، بحيث يبدو متعالياً تماماً ولا عقلانياً من زاوية “سعادة” الفرد، أو “المزايا” التي يمكن أن يشعر بها الفرد في تملكه”، لقد أصبح الربح هو الغاية التي يصبو إليها الإنسان”.
إن هذه الموجة بكل فورانها تعيد تشكيل رؤية الإنسان باستمرار، إن الرؤى ليست ثابتة، كل سيلان التقنية هذا يمنحنا صوراً جديدة عن “الوجود” إنها تعطينا التجدد الضروري لقراءة العالم، إنها الصيرورة الدائمة لكل رؤيةٍ أو نظريةٍ أو معنىً أو تأويل.

حمّى الرواية… وهزائم سدنة الثقافة

حمّى الرواية… وهزائم سدنة الثقافة
جريدة الحياة 19 مارس 2012
فهد سليمان الشقيران



(معرض الرياض للكتاب 2012)

أثبت معرض الرياض للكتاب استمرار التسيّد الروائي، إذ لا تزال الرواية تهيمن على المشهد الأدبي. صارت الرواية مثل الديوان الذي يضم كل أسرار المجتمع، من خلال الأبطال يمكن للروائي أن يتحدث بحرية عبر إنابة البطل. والرواية بعلاقتها مع المجتمع متبعثرة، فهي ترصد لكن بلا تاريخ، وتفضح ولكن من دون أن تقذف، ذلك أن الرواية تلتئم بتبعثرها، بكل ما تحمله كلمة تبعثر من معنى. موريس بلانشو يشير إلى أن: «تبعثر الأدب أمر ضروري، والتشتيت الذي هو بصدده يعبر عن المرحلة التي يقترب الأدب فيها من نفسه»، هكذا كتب في مقالة عنونها بـ «التبعثر»، فهو يرى في الأدب مساحة للخطأ، مفتوحة لكل الاحتمالات ومشرعة لكل أنواع الاضطرابات.
يتحدث «بلانشو» عن هيمنة الرواية على الأدب في هذا العصر، ويرد هيمنتها إلى: “ما تسمح به من حريات، مع جرأتها التي لا خطر لها على هذا النوع مع ثبوت متروٍّ لأعرافها وغنى محتواها الإنساني، هذه الهيمنة هي كما كان الشأن قديماً بالنسبة للشعر المضبوط، التعبير عن رغبتنا في الحماية ما يجعل الأدب خطراً”.


إنه وعبر النص السالف يربط بين المساحة الحرة التي تمنحها الرواية لكاتبها، فهي تمنحه الحرية من جهة، والحماية من جهة أخرى، فالكاتب – وعبر الشخوص الروائية التي يخلقها – يستطيع استنطاقها بما شاء، فيحوّل الفكرة داخل الرواية إلى شحنات جدالية من الممكن أن تؤسس لرؤية عن الوجود، أو الذات، بطرق ذكية، وهذا هو الخبث الذكي الذي تمنحه اللغة للكاتب أنها تتحدث بأساليب مختلفة، كما تمكّن «الاستعارة» الكاتب من الإفلات من قبضة القانون أو الاستجواب الذي ارتبط بالكتابة العادية منذ فجر التاريخ.


موريس بلانشو، في مقالته الضافية، يشرح ضرورة «التبعثر»، فهو يكتب: «إن تبعثر الأدب ضروري وإن التشتيت الذي هو بصدده يعبر عن المرحلة التي يقترب الأدب فيها من نفسه، ليست فردانية الكاتب هي التي تفسر أن فعل الكتابة يتموقع خارج أفق ثابت في منطقة غاية في التفكك، وإنما جهد البحث الذي يُعيد النظر في كل شيء ليغدو أكثر عمقاً»، وبطريقة تعبير أخرى: فإن الأدب ينظّف نفسه، ومرحلة التشتت ضرورية من أجل صقل التجربة الأدبية وترسيخها في مقبل الأيام، فالتبعثر الذي يمكن أن يعاني منه أي مشهد أدبي ليس عيباً على الدوام.
التبعثر مرحلة أولى لأي رحلة تصحيح، والحرية دائماً تقوم على الأشلاء، وأساس كل جبل من النور صخور صماء من الظلام، لذا يغدو «التبعثر» المرحلة الأهم في سبيل ترسيخ تجارب أدبية غنية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن تاريخ الأدب نفسه «تُرك لاعتباطية تجارب الكتاب»، كما يكتب «بلانشو» أيضاً. فهو ليس تاريخ امبراطوريات وإنما تاريخ تجارب كتّاب في الغالب.
إن تصديع قانون الأدب التاريخي وتحريره من مزاجية الحجّاب والحراس هو الفعل الإيجابي الذي تقوم به الرواية السعودية المبعثرة، إنه التعبثر الحاد الذي يرسم أخطاره الفكرية والاجتماعية يوماً بعد يوم، إنها الشرارة الأولى التي يطلقها الشباب عبر رواياتهم لقصف أسوار مؤسسات الثقافة البائسة وديناصورات الثقافة الذين تحنطوا وذهب زمنهم، وآن لنا أن نتجاوزهم وأن نهاجمهم هم وأفكارهم التي يحرسونها إذا اقتضى الأمر.
صحيح أن المضامين التي تضمنتها روايات الشباب والفتيات في السعودية مضامين تتضمن تفاهات وبؤساً، ولكنها تفاهة ضرورية من أجل مسح تاريخ ثقافي راكد، هيمنت عليه قوى ثقافية ادّعت الحداثة، وادّعت الفهم والإدراك ثم تحنّطت وبقيت مسيطرة على المشهدين الثقافي والأدبي، لا يمكن لنا أن نخضع في مؤلفاتنا وكتاباتنا لقانونهم البطيء كالسلحفاة، وهذا ما يجعلني أبارك أي خطوة معرفية أو أدبية يقدم عليها أي شاب، مهما زعق المسنون، اكتبوا رواياتكم ربما نتجاوز بها مرحلة التعبثر في مقبل الأيام.

الفلسفة ليست من طفرات التاريخ

الفلسفة ليست من طفرات التاريخ
14 مارس 2012
فهد الشقيران
من الطبيعي أن كل منجز حقيقي حضاري أو علمي أو تقني يقوم على تأسيس، وجذور كل تأسيس تشرح شكل الفلسفة، ووتوضح تجليها الحقيقي، لذا لم تكن الفلسفة يوماً ترفاً أو مجرد عمل فكري هامشي، ففي جوف كل بحر نعمةٍ قدمتها المنجزات الحديثة للإنسان مكونات فلسفية متغلغلة في الأعماق كالآلئ الثمينة، وكل التحولات الرئيسية التي مر بها التاريخ البشري بني على فلسفات، حتى على مستوى الخطابة والفن والمسرح والفنون بأشكالها وأصنافها، ولم يكن للفلسفة من أعداء سوى الذين لا يفهمونها أو الذين يخافون منها بدافع بقايا دروشة مبخّرة بروائح الشعوذة، أولئك الذين يخافون من مطارق الأسئلة، ومن الهويّ في فوهات الغموض، ولهذا تزعق باستمرار الأصوات النشاز، التي تحاول تغطية أزماتها النفسية والذاتية ومشكلاتها العلمية وقضاياها العملية، عبر تشويه مصير قارئ الفلسفة، والربط بين الاطلاع الفلسفي وبين الإلحاد والزندقة وهو هجوم لا قيمة له على الإطلاق، خاصةً حينما يأتي ذلك الزعق -ليس من رموز لها قيمتها العلمية والدينية كما هو الحال مع عداء الغزالي أو ابن تيمية- وإنما من “لافظي حروف” تجسّدت فيهم وعبرهم علامات التفاهة.
وفي معرض إيضاح جدوى الفلسفة نكتفي بذكر حجاج أرسطو على من لا يرى قيمة حقيقية للفلسفة حينما كتب:”إما أن التفلسف ضروري فلا بد من التفلسف، وإما أنه غير ضروري فلا بد أيضاً من التفلسف لإثبات عدم ضرورته“.
كما أن الفلسفة ليست مجرد قرار اعتباطي، ولا مجرد ثرثرة ولا تنظير مجاني، وإنما هو نتاج قلق عميق يحدث بين الإنسان ومحيطه يبدأ من الطفولة فتنمو الأسئلة مع نمو العقل وربما تموت كما هو حال عقول أغلبية المجتمعات التي تتغذى على موائد القطعيات الرخيصة التي لا تحتاج إلى طول عناء، إذ الفلسفة حسب مارتن هيدغر:”ليست من قرار المتفلسفة ولا من طفرات التاريخ وإنما هي من فعل الوجود“.
إن الحس الفلسفي يتجلى عبر مظاهر عديدة، تبدو آثاره في طفرات الفرح، ومطارق الألم، ويتجلى ذلك الحس كثيراً في معاني “الإرادة” حينما لا يستطيع الإنسان أن يعود بالزمن إلى الوراء ليعدّل على أخطائه الماضية، لهذا كان الزمن من المفاهيم الرئيسية في الفلسفة حيث دخل الزمن في المعالجات الفلسفية عبر المدى، والتتالي، والأمد، والأبد، وأفكار النهايات، ومفهوم الزمن وجد حتى لدى فيلسوف يوناني مغمور وهو “ديودورو” حيث ربط الممكن بالمستقبل قائلاً: “ليس ثمة ممكن إلا في المستقبل”. إن الرجّة التي تحدث مع مخاضات الأسئلة، يمكن رعايتها بالتفكير لتصبح قلقاً، ورعايتها بالعلم لتتحول إلى أسئلة فلسفية حيوية ربما تثمر عن إجابات تخدم مستقبل التصرفات البشرية، إن تلك الرجّة بكل مخاضاتها هي بداية الوعي بالذات والعالم فهي حسب نيتشه:”أهم حدث في حياة الإنسان فهي اللحظة التي يبدأ فيها بإدراك ذاته وجوهره، ونتائج ذلك الحدث قد تكون جليلة خصبة، وقد تكون مدمرة ومريعة“.
لم ترتبط الفلسفة بمفهوم كما ارتبطت بمفهوم الحياة، إذ الحياة هي محتوى التصرفات البشرية، سيئها وقبيحها، ولم يخطئ من وصف الحياة بـ”المسرح العفوي” الذي يمارس فوقه الناس كافة تشكيلاتهم الذهنية والفكرية والنفسية، فتعبّر الأفعال عن الذوات، فـ”الحي” يعاصر كتلة من الظروف، فيما يختزن “الإرادة” التي تدفعه نحو الفعل، فيجر على ظهره كل حياته، ومحايثة “الإنسان” للحياة تملأ لحظاته الزمنية البعد التاريخي وفي كل “حياة” خيط تاريخي، والتاريخ بوجهٍ ما هو المجال الزمني الذي يتم فيه التوصل إلى مجالات رؤيوية تتخطى الحدود.
كما تحضر الحقيقة والبحث عنها، أو الصواب واستجلاء أثره في كثير من مناشط الإنسان العاقل في حياته، فالإنسان يفتقر إلى تلك اللؤلؤة الضائعة والتي بوجودها تكون قيمته في تحقيقها والحفاظ عليها سواء كانت تلك الجوهرة فلسفة محددة أو قيمة أو مبدأ أو فكرة، وهذا هو مجال الاحتكاك بالزمن، وهذا هو مجال الحضور، “فحقيقة كوننا موجودين تنطوي في صميمها على سرّ معتم غامض، هذا السر يعطي الحياة وزناًَ لانهائياً ففي هذه الحياة يتقرر شيء ما” هكذا يقول كارل ياسبرز، فالمسألة الوجودية مرتبطة بالبحث عن الصواب وافتتاح مجالات البحث عن الحقائق واستلهام تجارب الحياة بكافة أنماطها.
إن خبرة الإخفاق هي أهم خبرة وجودية تدفع نحو النجاح، وكما يقول ياسبرز أيضاً فإن:”حقيقة الإخفاق هي التي تؤسس حقيقة الإنسان”، وكل التجارب التي يقطعها الإنسان في حياته، سواء كانت تخدم الحقيقة والبحث عنها، أو الخرافة والتحلّق حولها، كل تلك التجارب حينما تنصهر في آلة السؤال والبحث والمراجعة والتأمل تتحول إلى “خبرات وجودية” وتجارب فكرية تغني آلة التفكير الإنسانية، وتخصب إنجازات الفرد في حياته، ولعل التجارب التي تطرأ على المرء تؤسس لنظرته للحقيقة والعالم، وهذا ما يجعل من الحالات الفكرية في كثير من أنماطها ذات علاقة معينة بكل مايحيط بها من ظروف، وهذا ليس عيباً إذ لاتوجد أفكار بشرية خارج تأثير الظروف. وفي هذا أنقل من المترجم الدكتور عبد الغفار مكاوي النص الآتي: “إن الجرح الذي يؤلم هو نفسه الجرح الذي يشفي، فالإخفاق الذي يهزّ الإنسان من جذوره يمكن من ناحية أخرى أن يهديه إلى الطريق إلى وجوده ويساعده على أن يكون “هو ذاته” ويكتشف في داخله البعد الباطن الذي كان خافياً عليه” الفلسفة نفسها هي ميدان خصب مليء بالخبرات الكثيرة التي احتكّت بالأشياء وتحولت احتكاكاتهم تلك إلى شرارات معرفية.
إن “التجارب” التي يخوضها الإنسان في وجوده هي التي تمنح ذاته القوة التي يحتاجها في سبيل إكمال غوامض الحياة، والتقوقع على الذات والاستنكاف من خوض المختبرات العلمية والفكرية واستلهام التجارب يمنح الإنسان بعداً لاوجودياً فيحوّل تواجده وحضوره إلى وجود شكلي فيه من الخواء والعطالة مالايطاق، والحياة بطبيعتها متحركة وهي (كالنهر) والنهر لايعبر مرتين ، فالمسألة بالأساس درجة “احتياج” للتغلب على مسائل اللحظة ولولا درجة الاحتياج -التي كان الناس عليها إبان العصور الأولى- لما اكتشف الإنسان أبجديات احتياجاته الحديثة، فكل النعم التي يترفّه الإنسان المعاصر بالتلذذ بها جاءت من العلم وفروع العلم التي تتوالد حتى اليوم وتخلّقت في أرحام الفلسفات.
هناك في (حقول التجارب) تولد العلوم والاكتشافات التي يحتاجها الفرد، وفي حقل التجارب الفردية تولد الذوات وتتعزز القدرات ويتحول معها الإنسان إلى كائن أكثر وعياً بذاته، وفي وسط تلك الخبرات يرقى الإنسان إلى درجة الإبصار والاستبصار فيحرث في جوف الغموض ليكنز ماخفي من الوضوح وليرأب ماتصدّع من ذاته بما اكتشفه بذاته، تلك هي الخبرات الدنيوية التي يجنيها البحّاثة والعلماء والفلاسفة من حياتهم فيمرّون على العلوم يحرثونها بأقلامهم وعقولهم ليخففوا من العتمة والغموض عبر الكشف والإيضاح.

عرائس في دروب “التيه”

عرائس في دروب “التيه”
جريدة الحياة 11 أغسطس 2010
فهد بن سليمان الشقيران



ظل البحث عن جرثومة الوعي، التي تحط الواعي في كوكبٍ من البحث والتأمل، مثار حديث خلال القرنين الـ «19 و20»، لم ينجُ من أحابيل هذا السؤال الذاتي حتى الفلاسفة المثاليين، كانط نفسه – الفيلسوف المثالي في حياته وفكره – كان في آخر حياته كئيباً، لم يكن مطمئناً لطعناته التي وجهها ضد أسئلة المعرفة المسمومة الفتاكة.
كانت نظريته في المعرفة مهدّئةً لعاصفة أسئلته، فخضعت لتأويلات متعددة، اعتبرتها «الكانطية» الجديدة في ألمانيا نظرية في المعرفة، وأولتها مدرسة «ماربورغ» على أنها مثالية خالصة، بينما اعتبرتها الوضعية المنطقية فلسفة تحليلية وعدّت «كانط» من رواد التحليل، بينما اعتبرها «هيدغر» فلسفة معنية بالبحث في الموجود والوجود، على رغم كل تلك التأويلات فإن فلسفة كانط كانت مجرد سد ستهده الأمواج، إذ برزت أسماء أخرى خطفت منه أسئلته وأطلقتها بلا أجوبة، أطلقتها كالثيران في دروب التيه تضرب في كل زقاق؛ تضرب… وتضرب… بلا منهج.
كانت تلك هي «الرضّة الضرورية» التي احتاجتها الفلسفة منذ عصر الإغريق – بحسب تعبير نيتشه – فكتبت الفلسفة تاريخاً لتاريخها، ووضعت خريطة أخرى: للحقيقة، وللخير، والشر، والإنسان، والسياسة والذات، والفكر، والفن.
ظهرت فلسفات الطمس والمحو، الإبداء والإعادة… إنها الفلسفات التي عناها هيدغر بقوله «فلسفات صناعة السؤال» لا فلسفات صياغة الجواب.
كانت الفلسفة جبلاً أصماً فتتته ديناميت «نيتشه»، كتب قبل أن يعرفه الناس: «أعرف قدري. ذات يوم سيقترن اسمي بذكرى شيء هائل رهيب؛ بأزمة لم يعرف لها مثيل على وجه الأرض، أعمق رجة في الوعي، فأنا لست إنساناً أنا عبوة ديناميت»، استطاعت مطرقته أن تحول المركز الواحد المتصلب إلى هوامش تسير كالقوارض تبحث عن فرائسها. إنها ما عناه جيل «دلوز» حينما نحت طريقاً للفلسفة مساره تحويل الفلسفة من الأهداف الكبرى إلى وسيلة لـ «صناعة المفاهيم»، مستلهماً نيران نيتشه الذي كتب: “إنك لن تعلم شيئاً عن طريق المفاهيم إذا لم تكن قد خلقتها من قبل، بمعنى أنك كنت أنشأتها”يكتب «دلوز» في كتابه الرئيس «ما هي الفلسفة؟» النص الآتي: «ما هي الفلسفة اليوم، وكما كانت في كل أيامها المجيدة والبائسة؟ إنها إبداع المفاهيم. صحيح. ولكن شرط أن يسترد سؤال الماهية سؤال الكيفية، أن يغدو معاً وجهين لحقيقة واحدة، ألا يأتي أحدهما إلا ويسبقه الآخر، يعني أن الفلسفي هو فن المفهوم، كطريق وحيد إلى “بيداغوجيا الكينونة: سُكنى العالم شعرياً”.

(شبنهاور)


أخذت الفلسفة المنقادة إلى التفاسير المجردة تتراجع من الناحية الوظيفية، وبفضل عرائس «فوكو» المفهومية – التي تذهب نحو تخوم الأشياء – لم يعد السجن غرفة تأديب، ولم يعد الجنس وسيلة للإنجاب والعفة، ولم تعد الرقابة مجرد تاريخ طارئ على فئة، بل استطاع أن يؤسس لمنهج فلسفي مختلف هو خارج عن المنهجية القديمة، إنه منهج من دون منهاج، أسس لرؤية تبحث في “علاقات القوى”، هدفها – بحسب مطاع صفدي -: “تحويل المفاهيم من أقانيم مجردة، إلى بؤر قوية؛ فلا يمكن للفلسفة إلا أن تهجر أساليب التجريد، وتذهب إلى الأشياء عينها، لتكشف فيها بؤر القوى التي تحتبسها تحت أديمها”.  بفضل الطرق والدروب المتعددة التي شقتها أحدث آليات الفلسفة، كسرت الكهوف، وألغيت السدود، ارتخت الأسئلة كالأشباح السوداء على المفاهيم القديمة المغبرّة، وعلى رأسها الفن الذي ذوى وتحجّر في جوف الآلة. بقي الجمال جثة في مشرحة “كانط”، وموضوعاً في بوق “هيغل”، ولعنة في يد “شبنهاور”، لكنه – الجمال – غدا عاصفة لإنسان “نيتشه” الأقوى، كان هو الكمال لإنسان نيتشه الأعلى.
السؤال الذي تطرحه الفلسفة اليوم هو الأخطر في تاريخها، إنه سؤال يتعلق بحيويتها الوظيفية، وهذا سبب طرح «موت الفلسفة» الشهير، في خضمّ ذلك الجدل نحن لا زلنا ندعو إلى تدريس الفلسفة.

زعيق الخائفين

زعيق الخائفين
جريدة الحياة 30 مايو 2011
فهد سليمان الشقيران

(كتاب نيتشه والذي نظّر في للمخاطرة)

المجتمعات الهزيلة، هي تلك المجتمعات التي لا تخاطر؛ وأكثر المخاطرات الاجتماعية سحراً، أن يقرر المجتمع تلمس طرقاً جديدة للخروج من سجون التخلف، وحصون الانحطاط. يبدأ الخروج حين يمارس المجتمع مقارنةً حاسمةً بين حالته التي هو عليها، وبين سير المجتمعات الأخرى بسرعة البرق، بفضل التجريب والمخاطرة وإعادة النظر في المسلمات والبدهيات. المجتمعات المريضة بالسكون تخاف من ممارسة المخاطر، وتخشى من كسر القديم، والخروج عن النهج البالي، لهذا فإن الخوف هو مصل المخاطرة وعدوها، والمجتمعات التي تخاف من التفكير تخاف حدّ الرعب من الدخول في مجالاتٍ أخرى للحياة، إن الذين لا يخاطرون ليس بإمكانهم اكتشاف طرقٍ أخرى للوجود والحياة، لا يمكننا أن نبتكر رؤية كونية أو حياتية من دون الخروج عن منطق السكون، إلى منطق التجريب والمغامرة والمخاطرة بقلبٍ متجلد.
لو لم يكن لتعليم الفلسفة والتفكير من فضلٍ على أي مجتمع سوى هزيمة الخوف، من خلال إلفة الخطر لكانت ميزة كافية، ذلك أن المجتمعات المصابة بمتلازمة السكون تضجّ من أساسها عند أي كارثةٍ وتصاب بارتكاب لافت مع أي موجة تغيير، ولا ينام معظم سكان ذلك المجتمع حين يقوم أحد أفراده بالانشقاق عنهم في تفكيره، أو حينما يعتنق رؤيته الخاصة في كل مسائل إدراك الوجود والحياة، بل ويقومون بحملةٍ شعواء متشابهة ضد أولئك الذين يستقلون بأفكارهم، وتلك الحملة ليست نصرةً لمبادئهم، وإنما ليستمر شعورهم بالطمأنينة، وليروضوا أنفسهم على “الخوف” ويعظون الناس من سوء المخاطرة وشرها المحض!
من عبارات نيتشه الشهيرة قوله:”لكي تجني من الوجود أجمل ما فيه عش في خطر”؛ ذلك أن الإبداع ذاته يحتاج إلى سلوك دروبٍ متشابكة من طرق المخاطرة، فلو أن البشرية سلّمت بالآراء التقليدية الموروثة لما تقدمت بعلومها نحو اكتشافات تتجدد. والبحث عن الحقيقة بحد ذاته سلوك البحث عن الحقيقة هو جزء من الحصول عليها، بسبب المتعة التي يشعر بها المُخاطِر ساعة التجريب والبحث والاختبار والتمحيص، أما الذين أقفلوا أذهانهم على ما تعلموه، وركنوا إلى الذين سكنوا فمسّتهم الغيبوبة الوجودية الكبرى فهم خارج “احتمالات الإبداع” بل هم في غيّ وهمهم يعمهون.
خرافة “الخوف” من نعيم “المخاطرة” هي التي أسست لكراهية التفكير والتغيير، وهي التي جذبت الجموع نحو الهدوء والسكون والركون، تلك الخرافة البشعة مكّنت التخلف من أن ينخر في الجسد كله، حتى ران على الواقع كل علامات الغيبوبة، افتقدنا حتى إلى “محاولات الخروج”، إن الإنسان المحارب للتغيير الفكري والاجتماعي هو إنسانٌُ خائف، لا يستطيع أن يستقلّ بتفكيره، أن يخوض غمار تجارب أخرى “غير مخيفة” ولكنها “خطرة” لأن دروب البحث ليس لها نهايات.
من خصائص المجتمع الساكن أنه يخاف من “الحرية” لأنها تضيف على مسؤولياته مسؤولية كبرى، وهي مسؤوليته عن نفسه، وهذه المسؤولية بالذات هي التي لم يجربها الفرد العربي بعد، لأن الارتهان لشيخ القبيلة أو للنظام المركّز، أو لحمولة الآراء التي تسيره من خلال مرجعيةٍ يتخذها ويسير على ما تحدده له من أطرٍ وحدود هو الذي دمّر إرادة الحرية لدى الإنسان. يظنون أن تسليم الحرية إلى ِشخصٍ أعلى يدير شؤونهم، ويفكر بالنيابة عنهم، يظنون أن هذا السلوك هو الذي يريح بالهم، وما علموا أن راحة البال تلك تعني اغتيال أجمل مسؤولية يمكن أن يتسنّمها إنسان، وهي أن يكون مسؤولاً عن نفسه!
إن الضجيج والإزعاج من قبل بعض الخائفين والارتباك والزعق من قبل الخائفين جراء أي محاولةٍ للخروج من التقاليد، إنه يمثل أوضح صورةٍ من صورة الخروج الاجتماعي من كل احتمالات الإفاقة من غيبوبةٍ تشرحها بلاعيم الزاعقين!

إنهم يخافون من الكتاب

إنهم يخافون من الكتاب

جريدة الحياة  12 مارس 2012

فهد سليمان الشقيران

(حوكم غاليليو سنة 1633)

لم تكن الكتب هامشاً في تغيير الآراء والأفكار، بل كانت مسؤولةً بشكلٍ كبير عن تغيير الأمم والحضارات، كانت العوامل الأخرى موجودة، غير أن الكتاب بحضوره فرض سطوته وخطورته، بدليل خوف المؤسسات الساكنة والمستبدة منه، كان الكتاب يحارب من الكنيسة في أوروبا، وكان المخالف يُقتل، أو يُنفى، بل وتحرق كتبه، ارتبط الكتاب بمفهومه العام بالحرية والاستقلالية والتفكير الفردي، ذلك أنه يشحذ العقل والفكر بعد أن ران عليه الركود، وركن إلى الطمأنينة.

ولنقرأ ظروف الكتب التي غيّرت أوروبا وأثّرت على البشرية، كانت الكتب في القرن الـ 15، التي يؤلفها الفلاسفة، توزّع من دون أن تكون ممهورةً بالاسم، بُعداً من التضييق والذبح والقتل، هيمنة الكنيسة وجبروتها لم تمنع الفلاسفة الذين يؤلمهم وجع الناس من الاستبداد الطغياني الكنسي من التأليف وإعلان الأفكار وفق السبل المتاحة… «ديكارت» هرب من فرنسا إلى هولندا، من بيئة كاثوليكية إلى بيئة بروتستانتية، عمل على كتبه بصمت حتى ضرب ضربته الكبرى المؤثرة في تغيير منهج التفكير.

عشرات القوانين أُعلنت في أوروبا من أجل منع الكتب وتقنين نشرها، نذكر منها على سبيل المثال إعلان قانون الملوك الكاثوليك عام 1552، الذي يفرض الرقابة على الطباعة في إسبانيا، وفي عام 1515 صدر مرسومٌ لـ «ليون العاشر» يفرض على المسيحيين الالتزام بالرقابة الاحتياطية على الكتب، وفي عام 1520 يكلّف برلمان باريس «السوربون» بمراقبة الكتب، إلى أن نشرت «السوربون» في 1544 قائمةً هي من أوائل قوائم الكتب الممنوعة في أوروبا، كانت الرقابة على الكتب في أوروبا قاسية ودامية، واستمرّت فاعلةً إلى أن أصدر إعلان حقوق الإنسان والمواطن عام 1789 الذي أقرّ للجميع حرية التعبير، كانت معركةً قاسية ذاقت المجتمعات ويلاتها، وبالذات في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا.

تأملتُ الكتب التي مُنِعتْ منذ القرن الـ 15، والشخصيات التي أُعدمت، فإذا بالكتب الممنوعة هي من بين الكتب التي غيّرت وجه أوروبا، والشخصيات التي عُذّبت وقُتلت كانت غيورةً على مجتمعها، باحثةً له عن مساراتٍ أخرى للحياة والرؤية، خذ مثلاً: في عام 1593 تمت إدانة كتاب «حول الفلسفة الكليّة الجديدة» لفرانشيسكو، وفي 1600 إدين وأعدم «جوردانو برونو» بعد قطع لسانه وحرقه بسبب قوله بوجود عوالم لا نهائية متمايزة عن بعضها البعض، وفي 1616حظرت كتب «كوبرنيكوس»، وفي 1633 حوكم «غاليليو»، وفي 1644 اعدم «فيراتني بلافيتشينو»، وفي 1663 أدينت أعمال «ديكارت»، وفي 1751 أدين كتاب منتسكيو «روح القوانين»، وفي 1762 صودر كتاب «أميل» لروسو، وفي 1679 أدين كتاب «رسالة في اللاهوت والسياسة» لأسبينوزا. هذا على سبيل المثال.

تعيش المجتمعات فتراتٍ من الركود، حينها يعزز استسلام الناس فكرياً من قوة الاستبداد الفكري، فيُحرس السكون مقابل أيّ حركةٍ أو جلبةٍ تحدثها مقالة أو يسببها مؤلف، والوعاة الذين يعلمون ويدركون الثغرات في المجتمع، تحزنهم العذابات الاجتماعية التي سببتْها الأفكار المصمتة التي لا تمسّ، إذ يحتكر الفكر، وتُقنّن الأفكار المتداولة، ويرفض الرأي الجديد الذي يغيّر من حياة الناس، ويهدم الجُدُر التي تمنع وصول هواء العصر إلى البيوت، لهذا ينشأ الخوف من الكتاب بناءً على «تعليمة» أساسها القبضة الفكرية الصارمة التي تمنع كل فكرةٍ جديدةٍ، أو أي رأيٍ مختلف أو حديث، ولنقرأ كتاب «الكتب الممنوعة» من تأليف المؤرخ الإيطالي «ماريو انفليزي»، أو «مدخل إلى التنوير الأوروبي» لهاشم صالح، أو «فلسفة الأنوار» لفولغين، سنجد نماذج استبدادٍ مهولة ذكرت القليل منها هنا.

 إن المجتمعات الحيوية لا تخاف من الأفكار، وحين تخيفنا الكتب في القرن الـ 21 فعلينا أن نعرض أنفسنا على أطباء الحضارة، سنكتشف حينها أننا نعيش في العصر من دون أن نكون منه، ونستهلك منتجات الحضارة من دون أن ندخلها، ونعيش وسط ضجيج أفكارٍ عظيمة لكن الآذان قد أصابها الصمم… هذه هي الكارثة.

 

عندما بكى نيتشه

عندما بكى نيتشه
21 مايو 2008
فهد الشقيران
(غلاف الفيلم)
من عادة المستجد في قراءة الفلسفة الوقوع في فخ «تسطيح» نصوص فريدريك نيتشه، لذا قلما يخرج من هذا الفخ سوى من استوعب بُعد التأثير ومدى امتداد ضراوة النار التي أشعلها نيتشه في حقل الفلسفة، فهو من ساهم في رسم المنعطف الفلسفي الحديث، وذلك عبر أكثر من صيغة، فهو اعتمد في كتابته على أسلوب الشذرة القصيرة في الغالب مستفيداً من طريقة التدوين الصينية، فهو أسس لكل مراحل الحوار الفلسفي الحديث. والنص النيتشوي نص ديناميتي كل من وطأه انفجر عليه بطريقة مختلفة، ثمة أكثر من نيتشه، نيتشه بفهم هيدغر، ونيتشه بفهم ياسبرز ونيتشه بفهم فوكو ونيتشه بفهم دلوز، وهذا هو سر عظمة النص النيتشوي الذي يحفر الأفخاح لكل من ظن أن الفلسفة لا بد أن تكون بشكل وبقالب محدد، فهو حرّيف في صياغة الجملة، وفي فيلم (When Nietzsche Wept – عندما بكى نيتشه) المنتج عام 2007 يدخل نيتشه على الدكتور (برور) بعد أن قرأ الأخير كتاباً لنيتشه وقف نيتشه أمامه وصرخ بأذنه (أريد أن أكتب بعشر كلمات ما يكتبه غيري في كتاب كامل).
رأى جيل دلوز في حوار معه أن ثمة علاقة بين «المرض» و «الإبداع» على عكس السذج الذين يقرأون الفلسفة بعقليات طبية، فيعتبرون كتابات نيتشه «هلوسات مريض» هذا مع أنه وفي فترة مرضه التام (1889-1900) لم يؤلف ولم يكتب شيئاً، نيتشه لم يكن مجرد مؤلف كتب يعاني من غموضها طلاب الفلسفة وإنما حافر أرض الفلسفة، ودلوز لم يخطئ حينما كتب عن نيتشه: (إن أمر نيتشه بالنسبة لكانط كأمر ماركس بالنسبة لهيغل، يتعلق بالنسبة لنيتشه بإعادة وضع النقد على قدميه) وفي مكانٍ آخر يكتب: (إنها لفكرة نيتشوية تلك القائلة بأن كانط أخطأ النقد لكن نيتشه لا يثق بأحد غير نفسه لتصور النقد الحقيقي والقيام به) هذا في بداية تكون فلسفة نيتشه التي أراد لها أن تترعرع وتبرز على نحو تام في كتابه الكبير (هكذا تكلم زرادشت) فقد سرد في أجزاء أربعة نظريات مختبئة جعلها كامنة بين نصوصه، لم يكن يسرد كتاباً تعليمياً على طريقة الفلاسفة قبله. لكأنه ينشد أسراره.
تمكّن عبر أسئلته الدامية من تحويل مسار الفلسفة من فلسفة مسكونة بإهدار الحبر في كتابة الأجوبة، إلى فلسفة تعيد التفكير في معنى ومشروعية الأسئلة، ليحوّل سياق القرن العشرين من قرنٍ كلاسيكي يغرق في الفلسفات ذات الطابع اللاهوتي إلى فلسفات يكون مركزها الأساسي هو «الإنسان» المتملك لعناصر القوة والقادر على أن يكون الإنسان الدنيوي البحت، ليساهم من بعد ذلك بكسر حصون الفلسفة المنيعة ليخرج بها من البحث عن المعنى، إلى البحث في معنى المعنى، ومن النقد إلى نقد النقد، ومن التنوير إلى تنوير التنوير، لتصبح فلسفته ليست فلسفة نظرية جامدة، وإنما تغلغلت في شتى مجالات الحياة. رسم خطة «البحث الجينالوجي» لبحث وتقويض الأصول والمراكز، وأصبحت نصوصه فاتحة للهيرمينوطيقا وليحرث الفلاسفة الذين تفرعوا عن فلسفته في أكثر المشاريع الفلسفية تأثيراً في القرن المنصرم كما فعل هيدغر، فوكو، دلوز، دريدا.
(أرماند أسانتي ممثلاً دور نيتشه)
دلوز رأى أن الفيلسوف هو «شاعر المفاهيم» ونيتشه قاد حرفة «شعرنة الفلسفة» وهي الآلية التي أعجب بها مارتن هيدغر في بعض كتاباته، وفي طريقة قراءاته لشعراء عصره، فهيدغر كتب النصوص الشعرية علاوة على «شعْرنة الفلسفة» لتصبح مدججة بالصور والرموز ومحاطة بهالة من الغموض الساحر، غير أن تلك «الشعْرنة» لا تحوّل النص إلى محض خيال. فشعْرنة نيتشه، داهمت كل الفلسفات والفنون، حتى «الكانطية الجديدة» المتمثلة بممثلها الأيرز الفيلسوف الألماني المعاصر (يورغن هابرماس) لم ينج من آثار زلزال نيتشه، ومن فلاسفة الاختلاف عموماً فالفلسفة ليست كيانات منفصلة أو قبائل متناحرة، وإنما وحدات تتعدد. لذا كتب جيل دلوز: (نرى ماركس، والقبسقراطيين، وهيغل ونيتشه، يمسكون بعضهم بأيدي بعض في رقصة دوارة تحتفل بتجاوز الميتافيزياء)
نيتشه لم يفصل التفكير عن حوافز الذات، في الفيلم –آنف الذكر- حينما يعرض طبيبه عليه فرصة علاجه، يسأله نيتشه عن «حافزه الدفين» من مساعدته، وحينما عبّر له عن حافزٍ أخلاقي تقليدي رفض نيتشه ذلك العرض، حتى جاء الطبيب لنيتشه بحافزٍ ذاتي محض. يعرض الفيلم قصة حب عاصفة كان هو طرفها الوحيد مع الفتاة الفنلندية اليهودية (لو سالومة) وكانت «لو» في العشرين من عمرها وأعجب نيتشه بها وبسعة ثقافتها ورصانتها، حتى أنه وصفها بأنها «توأم دماغه» من شدة ولعه بها، وحينما عرض عليها الزواج سمع أن صديقه العزيز الموسيقار ريتشار فاغنر قد أبدى إعجابه بها، حينها هجر ذلك الصديق، وهاجمه وهاجم موسيقاه بشراسة شديدة.
بقي نيتشه يتألم من فراقه لصديق عمره فاغنر، حينها اعتزال الناس، وكتب: (يؤلمني كل الألم ألاّ يكون إنسان واحد قد اكتشفني، أو احتاج إلي، أو أحبني منذ 15 سنة) وكتب في مكان آخر: (هنالك شيء آخر، هو الصمت الرهيب الذي تسمعه حواليك، سبعة حجب تحيط بالوحدة، ولا شيء يخرقها، تذهب إلى البشر، تسلم على أصدقاء فإذا أنت أمام قفرٍ جديد، وما من يلتفت عليك، وفي أحسن الأحوال لا يستوقفك سوى نوع من الثورة عليك) تلك لمحة وشذرة عن فيلسوف –رغم تأثيره- لم يقل عن نفسه سوى (أنا مجرد كاتب).

ذكرى ولادة ديكارت: ضرورة التفكير المنهجي

ذكرى ولادة ديكارت: ضرورة التفكير المنهجي
فهد بن سليمان الشقيران
(رينيه ديكارت)
في مثل هذا الشهر وتحديدا في 31 مارس 1596 ولد رينيه ديكارت، ليبدأ حياةً مليئة بالإنتاج المؤثر، وليساهم في تغيير مجرى التفكير الفلسفي، فهو يعتبر أحد أبرز الفلاسفة الذين يشكلون «نقطة تحول» في تاريخ الفلسفة. ديكارت – وفق الموسوعات الفلسفية – ولد في بلدة لاهي من أعمال مقاطعة تورين من عائلة ثرية، توفيت أمه بعد ولادته بثلاثة عشر شهراً فكفلته جدته وقامت على تربيته إحدى المرضعات. تلقى علومه الأولى في مدرسة (لا فليش) اليسوعية حيث اكتشف الآباء اليسوعيون عبقريته فعاملوه معاملة خاصة كما أن اعتلال صحته ساهم في تركيزهم عليه، وقد رغب في زيارة دول أوروبا عامة ليزيد من تجاربه ومعارفه ولذلك خدم في جيوش أمراء مختلفين حتى استدعته كرستينا ملكة السويد ليكون مستشاراً لها في شؤون الفكر والعلم وعندها وافته المنية.
يعتبر أبرز فلاسفة فرنسا، وأحد الرواد في «الاتجاه العقلي» في أوروبا، اشتهرت فلسفته بأنها فلسفة الأفكار الواضحة المتميزة وربما كان من أبرز خصائصه الفلسفية، أنه ناحت نظريات أكثر من كونه كاتب نصوص، ففلسفته علمية معرفية، نستشف هذا حين كتب قاعدته المشهورة: (يجب ألا أقبل شيئاً قط على أنه حق ما لم يتبين لي بالبداهة العقلية أنه كذلك ويجب ألا أحكم على الأشياء إلا بما يتمثله ذهني في وضوح وتميز ينتفي معهما كل سبيل إلى الشك) وإذا كان فرانسيس بيكون قد استبعد الأسباب الغائية في فلسفته ولم يستبعد الأسباب الصورية، فإن ديكارت قد استبعد الأسباب الغائية والصورية معاً، فهو يكتب: (ينبغي ألا نظن أننا نستطيع أن نفهم الغايات التي توخاها الله في خلقه للعالم) ويقول في مكان آخر من تأملاته: (لما كنت أعلم أن طبيعتي ضعيفة ومحدودة للغاية وأن طبيعة الله واسعة لا متناهية ولا يمكن الإحاطة بها فقد تيسر لي الآن أن أتبين أن في مقدوره صنع أشياء كثيرة لا حصر لها وتتجاوز عقلي، هذا الاعتبار وحده كاف لاقتناعي بأن ما اصطلح عليه بالعلل الغائية لا محل للبحث عنها في الأشياء الفيزيقية أو الطبيعية، إذ يلوح لي أن الخوض في غايات الله ومحاولة الكشف عن أسرارها جرأة عليه سبحانه) وهو عنوان ثراء فلسفي يصف هذا الغنى والتنوع الدكتور -كريم متى – كاتباً: (في فلسفة ديكارت تلتقي تيارات فكرية مختلفة فيها ينصب التيار الفكري الوسيط ولا سيما نظرته في الوجود وفي الروح، ومنها ينبع التيار الفكري الحديث متمثلاً في التفسير الآلي للعالم، فإذا كان ديكارت من ناحية يظهر الولاء لمبادئ الديانة المسيحية وتعاليم الكنيسة وأسرارها فإنه من ناحية أخرى قد خرج في نظراته في العالم الطبيعي وفي الطريقة الصحيحة على مبادئ القرون الوسطى وأخذ بالتفسير الآلي للعالم).
(ديكارت أستاذاً للملكة كريستينا)
رينيه ديكارت أعاد النظر في طرق التفكير عبر رسمه لـ«المنهج» العلمي الذي أقامه على أدوات علمية فهو يرى أن العلم يجب أن يبدأ بقضايا واضحة بينة ومن ثم يتم الدخول للقضايا التي تلزم عنها، فهو انتهج منهجا رياضياً. حتى أسس منهجه العلمي الذي يقوم على (الحدس والاستنتاج ووضع «الشك» قاعدة للحدس، والتحليل، والتركيب، والإحصاء كقواعد للاستنتاج.
وجد ديكارت في «الرياضيات» النموذج الذي يمكن أن يتبع في سبيل التعلم لأنه اعتقد أن المعرفة لا يمكن أن تكون معرفة ما لم تصبح يقينية. ولذا اعتبر ديكارت المعرفة المحتملة عنوان تناقض في الألفاظ ويكتب بخط واضح (المعرفة التي تقبل الشك لا يمكن أن تكون علماً) وهي الرؤية التي سيقتنع بعكسها تماماً الفيلسوف المعاصر كارل بوبر، ووصلت فتنة ديكارت بالرياضيات إلى حد الغزل اقرأه وهو يكتب: (لقد أعجبت أشد الإعجاب بالرياضيات لأن البراهين التي تقدمها يقينية والرياضيات تعتمد على أشياء بينة بذاتها، ولكنني مع ذلك لم أدرك فائدتها الحقيقية ولما كنت موقناً بأنها ذات فائدة في الفنون الميكانيكية فقد دهشت حين وجدت أنه رغم صلابة أساسها وقوته لم يُقم عليها أي بناء ضخم) لذا شيّد فلسفته على أساس ذلك العلم.
أساس المنهج الذي وضعه ديكارت يقوم على «الشك» فهو كتب في مبادئ الفلسفة النص الآتي: (بما أننا كنا أطفالا قبل أن نكون رجالا، وكنا، قبل حصولنا على قدرة الوعي الكاملة، نصيب تارة في أحكامنا على الأشياء و نخطئ تارة أخرى، لأجل ذلك ، كانت الأحكام ، التى كوّناها على هذا النحو من التسرع ، تمنعنا عن إدراك الحقيقة، وتؤثر فينا بحيث لا يحتمل أن نتخلص منها، ما لم نعزم ، ولو مرة واحدة في حياتنا، على الشك في جميع الأشياء التي نجد فيها أقل موضع للشك) رأى ديكارت في الشك بوابة أولى للدخول إلى مفازات البحث، نلمس جوّ الشك الهائل في إصراره حينما كتب (وأمضي قدماً حتى أهتدي إلى شيء يقيني وإذا لم يتيسر لي ذلك علمت علم اليقين على الأقل أنه ليس في العالم شيء يقيني ثابت).
تلك لمحة موجزة عن فيلسوف طبع على الفلسفة مسحة هانئة اهتزّت على إثرها الفلسفة وربت، لفيلسوف صبغ –حتى- الحياة الأوروبية بصبغة حديثة، فرنسا ابتلعت فلسفته وهضمتها إلى درجة جعلت أحد الباحثين –وهو هاشم صالح- يكتب: (حتى تنظيم الشوارع والساحات العامة في فرنسا يحمل سمات المنهجية الديكارتية من حيث الوضوح والدقة) أرادنا ديكارت، أن نعرف عن الفلسفة أنها ليست بعداً واحداً وأنها ليست مدرسة محتكرة إنها مساحة من الفضاء الرحب أن يصبح الفيلسوف صاحب تصوّر منفتح يتطور باستمرار وأن يُعنى أولاً بتطوير ذاته وتغيير تفكيره هو. أن يدخل إلى تخوم العالم عبر اختراق (الذات) ومنه ولد الكوجيتو (أنا أفكر إذن أنا موجود).