سبتمبر 2015

سحر الغرب … لماذا أربك السيّاح؟!

 

سحر الغرب … لماذا أربك السيّاح؟!
جريدة الشرق الأوسط 27 أغسطس 2015
فهد سليمان الشقيران

تعبّر التشكيلات الاجتماعية باستمرار لحظة حركتها عن مكنوناتها، إذ تبثّ الدلالات المباشرة والرمزية، بكل ما تحملها من ميزٍ وأعراض فاقعة لأمراض مستعصية، ويكون التعبير جليًّا حين تتاح المساحات للحركة والنشاط ضمن بيئةٍ حرّة، الأصل بالإنسان فيها البراءة الأصلية. تحديات الحريّة والمسؤولية جعلت جمعًا من السيّاح يحرصون سنويًا على التمتع بالقارة الأوروبية بجمالها الباهر، وبمناخها الليبرالي والذي يتنفّسه هؤلاء من دون إدراك ماهيّته. إنهم يشعرون بمناخٍ منعش، وحرّية كالهواء النقي، وقانون ضابط للكل، مع مؤسساتٍ حيّة، لكنهم يخافون من إدراك أن هذه المناخات نتاج جهود اجتماعية وفلسفية وقانونية نضجت على مدى أربعة قرونٍ بأوروبا، بعد تجارب الدم، من حروبٍ أهلية دينية طاحنة دامية، تلك كانت الحالة الطبيعية قبل أن تتفتّق عبقريات فلاسفتها بالانتقال التدريجي لـ«الحالة المدنية».
إن القصص التي يتداولها الإعلام حول الفوضى والرّثاثة والدمامة في المنظر لبعض السيّاح العرب في تلك البلدان كثيرة، من انتهاك لحق الحيوان بذبحه، وحق الإنسان بإزعاجه، وحقوق الطبيعة من العدوان على الشجر والحجر، وكل تلك التصرّفات توضّح مستوى اضطراب العلاقة بين الإنسان ومحيطه، بل تعبّر بامتياز عن اضطراب في شبكة العلاقات بين الإنسان والمدنيّة والدولة.
فالمدنيّة هي مستوى تعاقدي ينضبط إيقاعه ضمن وعي الفرد بالعلاقات وحدودها وطبيعتها بين (الذات – المدينة – الدولة) وهذا التضابط الصارم في الدول الأوروبية أساسه المتين النجاح الاستثنائي في تحقيق صيغ «العقد الاجتماعي» ذلك المفهوم الساكن في كل تفاصيل الحياة ومساراتها، وهو المانع والحائل ضد إمكانيات التداخل والتضارب بين المؤسسات والمصالح، إذ يمنح المفهوم التعاقدي للمدينة حيويّتها ذلك أنه أسلوب تأليف بين المختلفات، ومن مهامه الأساسية التأليف بين «الحريّة والحماية» بين الحقوق الفردية ومصالح المجتمع.
والحالة التعاقدية علاوة على تغييبها في الوعي العربي، فإنها مستعصية، ذلك أنها لا تتأسس إلا ضمن المجتمع بمفهومه العميق، وثمة فرق بين المجتمع المتكوّن والتجمّع الاعتباطي، كما أن الاعتياد على الرقابة السلطوية، والعيش ضمن مناخٍ يُجلد فيه الإنسان من شتى السلطات بما فيها سلطة المجتمع، يحوّل الحرية العادية الطبيعية الأصليّة المتاحة إلى موضوعٍ يغري على الانتهاك من قبل الرعاع، فكل الحقوق لديهم مستباحة وكل البلدان يمكن انتقاص مدنيّتها بسبب الجهل المطلق بالمعنى التعاقدي الذي يسيّر تلك المجتمعات بكل فصوله وأبوابه وقرون تشكّله.
إن أي غياب للمعاني التعاقدية في أي مجتمع يؤدي بالضرورة إلى تضاعف السلطات الموازية.
إن الإجراء التعاقدي الذي يتمتّع به الفرد بالمجتمعات الحديثة له بعده القانوني؛ إذ يرتبط بتحقيق مستويات العدالة، والليبرالية كلها بمفهومها النهائي هي إجراء لتحديد وضبط مستويات الاختيار ضمن شبكة علاقات الفرد ومساحات التحرّك لا لغرضٍ عاطفي أو ديني أو آيديولوجي بل لموضوع يوازن بين مصلحة الفرد و«جسم المجتمع»، ومناخ الليبرالية الحر هو ميدان لتحقيق وتنمية قدرة الفرد على تحمّل مسؤوليته تجاه الأفراد الآخرين ليكون لجم النزعات الشريرة أو البريّة هدفًا مدنيًا، لتصل المدنيّة بمستوى التعاقد إلى حدّ تقلّص ضرورة حضور علامات السلطة كالأجهزة الأمنية أو التداخلات الاجتماعية.
كل تلك الصيغ الحيوية تعيش تحديًا يوميًا بغية الاستمرار في تشجيع وتأهيل المناخ الليبرالي الضامن لإيجاد حياة تسير من دون أن يخدش تعدد الاختيارات حق إنسان ومن دون غياب المساواة القانونية التي تجعل من المناخ الليبرالي بما يضمنه من حرية الفرد المطلقة ضمن القانون أكثر تحديًا من المناخ السلطوي. وربما أمكن القول ببساطة: إن المناخ الحرّ يدرّب على المسؤولية، والمناخ السلطوي يدرّب على الاستهتار بالحريّة وبالمسؤولية معًا، ويسبب القهر الاجتماعي حالةً من الانفلات الشخصي والعدوان على القانون والاضطراب تجاه مفهوم الدولة والرعب من الوعي الذاتي بشبكة العلاقات المحيطة على مستوى المدنيّة والآخر والقانون والدولة.
توضح المآسي المعيشة في المنطقة على كل المستويات حال الفقر المفاهيمي تجاه الأسس التي تحرّك الواقع، ولعل الضياع المطلق والتيه التاريخي، والفوضى الثورية العربية أكبر دليل على غياب الرؤية التي نريدها لكي نعيش. لا يمكن أن يؤسس أي مجتمع ضمن مناخٍ عصري طبيعي في ظلّ غياب الفهم القانوني والفكري لمستوى العلاقات بين كل الموجودات في المجتمع، إن الحالة التعاقدية عبارة عن موازنة للحقوق، إنها مسافة تعبر عن سمو الفرد حين يلتزم بتعاقدٍ مدني يوازن بين الهبات والتنازلات.
وباستعادة المؤسس الرئيسي لهذا الفتح الإنساني المبين «جان جاك روسو» في «العقد الاجتماعي» نعثر على شرحٍ لا بد من فهمه وتمثّله حين يكتب: «الميثاق الاجتماعي، ينطلق من مجرد افتراض، لا من مرحلةٍ تاريخية معينة، وهو أن البشر في وقتٍ ما أصبحوا غير قادرين على متابعة حياتهم في الحالة الطبيعية.. إن كل من رفض طاعة الإرادة العامة يرغم عليها من طرف الجسم بأكمله، وذلك لا يعني سوى أنه يجبر على أن يكون حرًا، لأن ذلك هو الشرط الذي يهبه كل مواطنٍ لنفسه لوطنٍ يضمن له أن يتخلّص من كل نوعٍ من التبعية الشخصية.. إن الانتقال من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية يحدث في الإنسان تغيّرًا بارزًا جدًا يجعل العدالة تحلّ في تصرفه محلّ الغريزة، ويضفي عليه الطابع الأخلاقي الذي كان ينقصه سابقًا. وعلى الرغم من أنه بهذه الحالة يحرم نفسه من عددٍ من الفوائد التي يستمدها من الطبيعة فإنه يربح مقابلها فوائد أخرى أكبر، إذ تتمترس قواه، وتنمو وتتسع أفكاره، وتزداد عواطفه نبلاً، وترتفع روحه كلها إلى درجةٍ من السمو».
المعنى التعاقدي يتضمن تنازلات، وذلك لظروف تعدد الخيارات وتوزع الرغبات وتنامي الحاجات، كل تلك الأمور هي المحتّمة لتطلع الإنسان للحالة المدنية ذات الطابع التعاقدي والذي تبدو فيه الذات والشخصية والفردانية مركزية، لكن ضمن طيفٍ لا يغيب، صورته المسؤولية، وجذوته القانون، ونتائج الإخلال به وبمعناه العقوبة الرادعة التي تخلّص مجموع الجسم من تلوّث بعضه ممثلاً بخطأ «الفرد» والتأديب القانوني هو ما يعيد تأهيل «الشخصية».
من الصعب إخفاء تلك الممارسات الدميمة التي قام بها بعض السيّاح العرب من دون تجديد الوعي بالعلاقات، حين نتعلّم أن الوجود الاجتماعي والقانوني مصدره الحق وليس القوة، وأن الحرية هي ذروة السمو بتحمّل الفرد لأعباء الذات، حينها تكون الحريّة معدنًا ثمينًا تحرسه المسؤولية. حين نتعامل مع الليبرالية بوصفها حيوية مدنية دنيوية ندرك مستوى صقلها للفرد واختبارها للقانون.
إن رمزية ذبح «بطّة» سرقها سائح عربي من حديقة، هي ذاتها آلية الذبح الموجودة لدى «داعش» وسواها، هذا التلاقي غير الواعي أساس التعبير الصارخ لغياب الوجود المدني الذي يعتبر الحق قبل القوة، والحرية قبل السلطة، والمسؤولية القانونية بمناخٍ حرّ هي ذروة الإنسانية، مسافات لا يحتملها إلا البدء بتأسيس مفاهيم حيوية تطوّر التجمّع ليصل إلى مستوى المجتمع، وتعوّد الإنسان على معنى أن تكون حرًا وهي مسافات من الواضح أن استيعابها يحتاج إلى قرون.
روسو في كتابه «هواجس المتنزه المنفرد بنفسه» كتب: «إن الحرية شبيهة بتلك الأغذية القوية الدسمة، التي تصلح لتغذية البنيات القوية التي اعتادت تناولها، ولكنها ترهق الضعفاء النحاف الذين لا قبل لهم بها ولا يقوون على احتمالها».

  

التقنية وأسباب المرض الكارثي

التقنية وأسباب المرض الكارثي

جريدة الشرق الأوسط 3 سبتمبر 2015

فهد سليمان الشقيران

منذ أوائل القرن العشرين والتقنية تفرض راهنيته للفهم والتحليل، إذ تحوّلت تدريجيًا وبامتياز إلى وسيط بين الإنسان وأشيائه وأفكاره ومشاعره وتخيّلاته، وهي تطرح اليوم بكل وسائلها ووسائطها باعتبارها حاضنةً لما يدمّر الإنسان على النحو الذي نراه في صيحات العالم تجاه مواقع التواصل الاجتماعي، وأبرزها «تويتر» الذي يأرز إليه كل رموز مؤامرات القتل والإرهاب، حتى جاءت نتائجها كارثية، لتثبت أنها ليست مواقع للتواصل على طريقة الفعل الحواري، بل مواقع للتنافي، ولهذا يقترح عادل حدجامي تسميتها بمواقع «الاتصال» ويرى آخرون أنها مواقع وهم وانفصال. تلك التقنيات الساحرة الأسرة بحمولتها وشظاياها وكل ثورتها وترميزاتها المبثوثة تحتاج منا إلى فحص وفهم بغية لجم هذا الطوفان والتعرف عليه ومساءلته.

 

معضلة فهم التقنية تعيدنا إلى قرنٍ مضى لاستذكار ما كتبه مارتن هيدغر في مقالته عام 1953 تحت عنوان «مسألة التقنية» أراد من كتابتها البحث في «ماهية التقنية»، والبحث في علاقاتها. وإذا كان نيتشه قد افتتح نقد «عهد الآلات» ورمى بسهامه أعباء «ثقافة الآلة» – التي تجعل من الحشود «آلة نمطية واحدة يذوب في دوارها الفرد وتحوله إلى أداة استعمال لتحقيق بغية واحدة» – فإن هيدغر من بعده حاول دراسة علاقة «التقنية بالعالم» ليخصص جزءًا من بحوثه المتعددة لهذا الغرض، حتى في كتابه الأساسي «الوجود والزمن» 1927 نراه يطرح ومضات عن استفهامه، مما جعل لوك فيري يجعل من مناقشة هيدغر لماهية التقنية «الخيط الناظم لمناقشة هيدغر للحداثة». لقد كانت موجة التقنية في بواكيرها حينما وصفها بـ«ميتافيزقيا العصر»، وقد تتابعت التحليلات من بعد ذلك لدى هابرماس في درسه سنة 1965 وماركيوز، ومدرسة فرانكفورت في المرحلة الثانية من تطوّرها، لقد أثبتت التقنية أنها حدث ومجيء يتطلب كل الاهتمام والفهم.

 

يتواطأ الناس الآن على الشكوى من رسائل الآخرين، ومن عبودية عيونهم ورقابهم لأجهزتهم الكفّية، حتى المتخصصون يندبون حظّهم نظير ساعاتٍ طوال يبذّرونها بالتفاهات بدلاً من متابعة مطالعاتهم ومراجعاتهم وأبحاثهم. ولعل هذا الانتشار الكاسح يعبّر عن أزمة كبرى في العلاقة بين الإنسان ووقته وحياته، لكأن الاستسلام إلى «التطبيقات» هو إهراق لماء الحياة وإحراق لزهر العمر وتوزيع مجاني للساعات على تفاهة محضة من دون أي مردودٍ مفيد. إنه انتحار بطيء يعبر عن اليأس المرير أن تكون هذه الأجهزة الصغيرة هي البداية لأيامنا وهي النهاية، والمقياس لجودة إبداعنا عبر الثناءات المجّانية التي تطرح فيه، والمعنى من وجودنا عبر التعريفات المزيّفة التي تدبّج على طرّة الصفحة الشخصية عبر ألقابٍ لا تسمن ولا تغني من جوع.

 

وإذا كانت القيم أساسًا تعاني من اهتزازٍ وتآكل، ومن اضطرابٍ غير مسبوق، وبخاصة بعد الأحداث السياسية واستمراء حالة الدم، والتطبيع مع الخيانات للأوطان والتهافت على حصص الفساد، فإن التقنية صارت كالمعول الضارب على أسس القيم، معلنًا انهيارها وتفسّخها وتفتّق الاحتكاك الاجتماعي عن بوادر نهاية معنى الإنسان ووقوعه في شرك الجموع حيث التعاسة اليومية، والانهيار القيمي بالمجمل، وفقدان الشعور بالذات الإنسانية نظير عدم وجود دور علمي أو عملي يمكن أن يكون باعثًا على شعور الإنسان بفردانيته «الفريدة». هذه الحالات من الاتصال الاجتماعي تعزز من حالات التطابق والتشابه والتشاكل والوسوسة المستمرة بين شتى الشرائح للضخّ في موضوعاتٍ صغيرة والاصطفاف الطفولي باسم الانتماء المعيّن لهذا التيار أو ذاك.

 

وتلك الموجة التقنية لم تدرّب على التواضع والمعرفة، والرغبة في التواصل الحيوي المنتج مع الآخر بقدر ما أتاحت الفرصة لجمع من الجهلة لعرض بضاعتهم المزجاة على منصّاتها، وكانت بالفعل رافعةً لكثيرٍ من الفقاعات في المجالات العلمية تحديدًا، حتى اكتشفت قلة من العقلاء الكثير من الزّيف، ثمة حملات مهمة كشفت عن رسائل أكاديمية ودرجاتٍ علمية مزوّرة، أو من جامعاتٍ وهمية لبعض نجوم تلك التطبيقات، والعجب أن أولئك لا تزداد الجماهير إلا متابعةً لهم، وتصديقًا لزيفهم، ونسيانا لكوارثهم وجناياتهم العلمية والمعرفية.

 

لقد طرحت التقنية نفسها بنسخة الاستخدام العربية على أنها منصّة مجانية تحرّض وتغري من ليس له علاقة بأي مجالٍ على امتطائه وادعاء الخبرة فيه والتمكّن من تفاصيله ودهاليزه ومصاعبه.

 

وقصة التطرف والإرهاب المرتبطة فيها باتت دولية، إذ سرعان ما هبّ الاتحاد الأوروبي ومعه الولايات المتحدة للحديث حول مواقع التواصل الاجتماعي ونتائج السيلان المعلوماتي المتوفر فيه والحرية المستغلّة من جماعات العنف وعلى رأسها تنظيمات القاعدة وداعش، وهذه تحتاج إلى تشريعات وأنظمة قانونية صارمة تلجم هذا الاستغلال المخيف، لكن وبعد كل هذا التشخيص ووضع الصور الكارثية وإدانة الظاهرة «الـتويترية» هل من حلولٍ ممكنة؟ من البدهيات أن ينشد الإنسان الحرية للجميع، والرغبة في زيادة مساحات انطلاق منصات التعبير والإبداع، غير أن غياب القيم الذاتية الفردية وهشاشة الأخلاق حد انعدامها أحيانا يفرض علينا الشعور بالغثيان من شكل الفعل والقول والسلوك الذي مورس في مساحة الحرية، حينها نتساءل إن كنا فعلاً نستطيع تحمّل أعباء الحرية المرتبطة قانونيًا بالمسؤولية، وهذا ينطبق على التقنية بشكلٍ واضح وناصع.

 

تثبت تجربة العقود من انفجار التقنيات على تفاوت جماهيريتها مستوى الاستخدام الأولي السيئ لأي صرعةٍ جديدة، ذلك أن «التقنية لا تفكّر» بل تدخل كأداة تنعجن بأخلاق وقيم المجتمع الذي تشتغل فيه، وعليه تكون كل تجلياتها عبارة عن شرح أمين وعرض دقيق وإيضاح فصيح لكل أمراض وانهيارات المجتمع، إن التقنيات تدخل على المجتمعات الضعيفة مثل الزلازل فتحدث خسفًا ذلك أن القيم المطلوبة لتشغيلها هشّة، لهذا صارت التقنية لدينا هي النعمة، وهي اللعنة، ولله في خلقه شؤون.