يناير 2017

عن الحمراء… النورس بالمطار والذئب بالمدينة

 

عن الحمراء… النورس بالمطار والذئب بالمدينة

فهد سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 26 يناير 2017

 

ما إن تدلف إلى شارع الحمراء غرب بيروت إلا ويخالطك الشعور بأن الأفق الذي لا يتجاوز طوله ألفًا وثلاثمائة متر، هو محتوى لبنان، حيث المكتبات، وضجيج المقاهي، وأكشاك الصحف والمجلات. وإذا نضجت الشمس ضحى يبتلع الشارع العابرين على الأرصفة من اللائذين أو القافلين. وحين كان خندقًا زراعيًا قبل خمسة قرون لم يدرك بنو الحمراء أن شارعهم سيتحوّل إلى ميدان تلاقٍ وتنوع. صمغ شجر المقساس الذي زرعوه لم يصد العصافير، بل على أغصانها غرّدت. ومع المغيب تلمع أضواء «النيون» وبرقها يضيء ظلمةً بليلٍ لا ينعس، والأرصفة تلك اعتادت على إخفاء أسرار تمتمات المحبين وهم يتجهون نحو الأماسي السينمائية والشعرية، وربما لمقهى ينبعث منه صوت فيروز وهي تغني: «خبي أسرار أسرار»، والشجر المشبع بندى الليل سمع أصوات أدباء كثر، بلند الحيدري، محمد الماغوط، بدر السياب، أدونيس، عبد الله القصيمي، شارع حفي حي بنهاره وليله.

لم يذبل تاريخه، شارع الحمراء، وإن فقد كثيرًا من وهجه منذ منتصف السبعينات حيث الحرب الأهلية، بقي متوهجًا بمرحه حتى مع تطور سياحي لافت، من الواجهة البحرية، وحي الزيتونة، ومنطقة عين المريسة، وأسواق ومطاعم الأشرفية، كل ذلك لم يقض على جاذبية الحمراء، ففي كل زاويةٍ تاريخ، ولكل مقهى حكايا ورواد وأساطير جعلوا للمكان الذي يرتادونه تاريخًا يروى. كتب عفيف دياب عن مقاهي الحمراء القديمة وربما المنقرضة، مذكرًا بمقهى «هورس شو» الذي انطلق عام 1959؛ مقهى الرصيف الأول بالشارع والذي تحول إلى أهم ملتقى للمثقفين اللبنانيين والعرب على اختلاف مشاربهم وعقائدهم وأحلامهم، ثم مقهى «إكسبريس» و«مانهاتن» و«نيغرسكو» و«إلدورادو» و«ستراند»، مقاهٍ باتت تاريخًا وماضيًا، وأخرى تفجّرت مع مشاريع التطوير الحديثة.

ذلك الشارع المختصر لروح لبنان لا تزال الجماعات الإرهابية ترى فيه هدفًا مفضلاً للاقتصاص من لبنان الجذل بالفرح، مر على أرصفته عناصر من تنظيم القاعدة قبض عليهم لاحقًا، وتقافز على شققه بعض المطلوبين حتى تم القصاص منهم، وآخر تلك المحاولات ذلك الانتحاري بحزامه الناسف قاصدًا مقهى «كوستا» بزواره المعتادين من النهار إلى جوف الليل، قبضة رجال الأمن ونجاح شعبة المعلومات سهّلا من المهمة، فقبض عليه قبل أن يضغط الزر، وإلا فإن مجزرةً مهولة كادت تحدث في الحمراء، اختار وقتًا هو الذروة، ليلة السبت ترتسم شوارع الحمراء بوجهٍ ضاحك، ووديان من المشاة والسيارات تمخر عباب الشارع جيئةً وذهابًا، وتغص الطاولات بالخارجين من بيوتهم مع أجهزتهم أو كتابهم المفضل أو بصحبة شريكة قلب وحياة، مستدفئين بظلمة الحمراء الحميمية.

حاول التنظيم تكرار جريمة رأس السنة في إسطنبول، الهدف اغتيال قلب المدينة، وغرس جرح يصعب برؤه، والغضب الراديكالي من بهجة لبنان تاريخي ومشهود، ولهم في هجاء بيروت صولاتهم وجولاتهم، غير أن العيون المفتوحة، والتركيز الأمني العالي، بأعصابٍ باردة، سهّلا من اجتياز الخطر. ولبنان مهدد من آثار الأزمة السورية، ومن الجيوب المختبئة، وبالتأكيد أن ثمة خلايا نائمة تنتظر أوامر الانقضاض، ذلك أن الأعداد الكبرى من اللاجئين السوريين سيندسّ بينهم من يضمر الشر للبنان وهذا افتراض معروف لدى الأجهزة الأمنية، والرئيس اللبناني ميشال عون بافتتاحه لـ«العهد الجديد» عبّر عن قلقه المتصاعد من وضع اللجوء، باعتبار المجتمع اللبناني يستضيف ما يقرب من نصف سكانه وهذا ليس له مثيل بالعالم، تحديات إرهابية وبيئية، بطول المسافة بين أسراب من الطيور تهدد الطائرات بمطمر «الكوستا برافا» وإلى ذئاب منفردة تهدد الأبرياء بمقهى «الكوستا كوفي».

إعلان الحرب على شارع الحمراء به استهداف قاسٍ للتنوع اللبناني بطوائفه وأديانه، وقصد معلن لتدمير الثقافة التي بثها لبنان المرح على العرب والخليج منذ الخمسينات الميلادية حين بدأ الاحتكاك والتأثير بين مجتمعات الخليج والمجتمع اللبناني، وكل الآثار التي أضافها لبنان على مستوى الصحافة والإعلام والأدب وتغذية مقومات التنوع باعتبارها «جغرافيا الهويات» لها تأثير نافس المد المصري فنيًا وجماليًا حينها. يروي سمير قصير في كتابه «تاريخ بيروت»: «كان عالم المجلات يتقاطع على نحوٍ واسع مع عالم السينما التي شكلت منذ العشرينات إحدى النوافذ الرئيسية التي ترى منها بيروت العالم الخارجي. شهدت شبكة الصالات السينمائية، التي لا مثيل لها في الشرق الأدنى كله، توسعًا مطردًا وكانت تضمن لزائريها أنها لن تفوت عليهم أي شيء مهم مما تنتجه هوليوود أو شينيشيتا أو باريس وكذلك القاهرة، وأنشئت منذ الخمسينات صالات عدة في محيط وسط المدينة إلى جوار الصالات القديمة… فصارت بيروت مسرحًا مدهشًا… وخصوصًا شارع الحمراء الذي سرعان ما غصّ بالصالات»، مذكرًا بتاريخ صالات سينمائية مثل سينما الحمراء، وكريستال، وأوبرا، وإمبير (ص 414).

أمام لبنان تحديات كبرى، الهوية اللبنانية والتنوع الذي تعيشه لا تفضله الجماعات الأحادية، ذلك أن للبلد تاريخه مع الحياة، يصف ذلك إريك أمبلير: «كل شيء يوحي بالجو الذي مهّد للأساطير العظيمة، وتبدو لك الصور التي تشاهدها بعيون الروح حقيقيةً أكثر من أي جمادٍ حولك».

  

أفغانستان أبدية الفوضى واستحالة الاستقرار

أفغانستان أبدية الفوضى واستحالة الاستقرار

فهد سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 19 يناير 2017

 

 

ضمن مهمة إنسانية، يدخل السفير الإماراتي مع وفدٍ دبلوماسي إلى دار الضيافة لوالي قندهار، بغية وضع حجر الأساس لدار خليفة بن زايد، والتوقيع على اتفاقية كاردان للمنح الدراسية، فيحدث انفجار مدوٍ غادر يودي بحياة فريق المساعدة الإنسانية. لقد وضع الهجوم المشهد الفوضوي بأفغانستان على المحك، ولئن لم تتبنَ طالبان الهجوم فإنها بالتزامن أعلنت عن مسؤوليتها عن تفجير في هلمند وفي العاصمة كابل، حيث فجر انتحاريان نفسيهما أثناء خروج موظفين من مكاتب البرلمان، في عملية أودت بحياة ثلاثين شخصًا على الأقل.

لا يُستبعد أيضًا حضور تنظيم داعش بهذه العملية بعد انشقاق قادة من طالبان وانضمامهم إليه، فمنذ مارس (آذار) 2015 والتقارير تتحدث عن انتشار قوي للتنظيم وبخاصة في منطقة الحدود، وكان الجنرال جون كامبل، المسؤول الأميركي عن قوات حلف الناتو قد صرح بأن «هناك انحسارًا لطالبان وطلب ولاء لـ(داعش). وينبغي على مسار الأمور أن يشكل مصدر قلق للرئيس الأفغاني أشرف غني ولي شخصيًا».

لنتذكر تقريرين نشرا بهذه الجريدة، أحدهما لحمود رحماني من كابل بعنوان «داعش يتمدد بقوة في أفغانستان على حساب طالبان» في 19 أكتوبر (تشرين الأول) 2015 تضمن رصد معلومات تؤكد أن «تنظيم داعش يسعى للتوسع على حساب طالبان في مناطق التوتر، خصوصًا بشمال وشمال شرقي البلاد، حيث تعد ولاية فارياب وولاية فراه الواقعتان في شمال شرقي البلاد من الولايات التي يمكن لـ(داعش) الانتشار فيهما بسبب قربهما لدول آسيا الوسطى، ووجود مقاتلين شيشانيين وأوزبك وطاجيك، إضافة إلى مقاتلين من تركستان الشرقية، ضمن تشكيلات (داعش)». والثاني لوليد عبد الرحمن بعنوان «داعش ينشط في أكبر منطقة قبلية على حدود باكستان وأفغانستان» في 8 فبراير (شباط) 2016 وبه يذكر أن «من بين قيادات طالبان الذين أعلنوا الولاء لـ(داعش) «أمراء» كل من مُقاطعة أوركزاي سعيد خان، ومُقاطعة كرم دولت خان، ومُقاطعة خيبر فاتح جل زمان، ومُقاطعة هنجو خالد منصور، ومدينة بشاور المفتي حسن».

أحسب أن هناك حومة من الصراع على مناطق السيطرة من قبل القوتين المتصارعتين الأبرز وهما «طالبان» و«داعش»، وذلك بعد تراجع فاعلية تنظيم القاعدة وانحسار تأثيره. أرقام أميركية تتحدث عن ضمور لافت لـ«القاعدة» مما يجعل المقاتلين هناك ينحصرون بمائة مقاتل فقط! قوة تنظيم داعش أنه ابتلع كوادر وقياديين من طالبان بايعوه منشقين عن الحركة، وهو ما منحها القدرة الفائقة في التمدد على الأرض، وتسهيل دخول الانتحاريين إلى مناطق يفترض أنها آمنة، وتوفير دعم لوجيستي عابر للحدود باعتبار الخبرة السياسية التي تتمتع بها طالبان، والأمر الأهم بالنسبة لـ«داعش» أن المنضوين إلى التنظيم من المنشقين عن الحركة سيوفرون الحاضنة القبلية لهم في أنحاء البلاد باعتبار طالبان «ظاهرة بشتونية» كما هو التعريف الأميركي الشهير.

قد يكون الاضطراب في أفغانستان وما يلتحم بها مع باكستان من أسبابه الفشل الأميركي في تقدير الوضع واستخدام أوباما لأكثر من موقف ورأي واستراتيجية، منذ شعار «الحرب الصحيحة» وإقرار إرسال أربعين ألف مقاتل، إلى استراتيجية أخرى تتعلق بالحوار بين طالبان وباكستان قادها مبعوث أوباما لأفغانستان وباكستان ريتشارد هولبروك في إسلام أباد 2010 ونجح جزئيًا بجمع الطرفين، غير أن اندفاعه هو مع الوزيرة كلينتون لم يكونا كافيين بالنسبة لأوباما، ولم يمهل القدر هولبروك من إتمام الصفقة، إذ سقط بمكتبه في العاشر من ديسمبر (كانون الأول) وانتهت معه خطته الواقعية، «الضغط بالحرب والقوة من أجل إحلال السلام».

هولبروك التقى الملك عبد الله، رحمه الله، عارضًا عليه الاستراتيجية الأميركية تجاه أفغانستان؛ الملك نصحهم بأن تعالج «جذور مشكلة طالبان» أكثر من التركيز على القشور. لكن أوباما في آخر المطاف نفض الأوراق عن مكتبه وقرر الاكتفاء – فقط – بمحاربة الإرهاب في أفغانستان، من دون التفكير في الإعمار والبناء، أو تغيير الأرضية التي تنتعش بها المنظمات الإرهابية وتقتات عليها، لهذا استطاعت دول أخرى مثل الصين أن تنفذ إلى أفغانستان وباكستان عبر بناء الجسور، والقيام بمنشآت رمزية نجحت من خلالها في كسب جولاتٍ على الولايات المتحدة في تلك الأرض. ذلك القلق والارتباك يرويه كتابةً وإعلامًا وشهادةً والي نصر مستشار هولبروك في ذلك الملف المعقد الشائك والممل. كثيرون رأوا أن المأزق الاستراتيجي الأميركي بأفغانستان بدأ منذ أن نجا الملا محمد عمر ومعه أسامة بن لادن من القصف الأميركي في تورا بورا في 2001، وسط تصرفاتٍ مريبة من استخبارات أفغانية وباكستانية أقرب ما تكون إلى الخيانة.

إذا استمر الفشل الأميركي في أفغانستان فإن الحيتان الأخرى قد تبتلع النفوذ الثمين الذي دفعت أميركا لأجله منذ نصف قرن تضحيات مادية وعسكرية، غير أن الوصول إلى حالٍ من الاستقرار أشبه بالمستحيل؛ بسبب تنوّع المشكلات والاضطرابات، وتداخل اللاعبين على الأرض، واستمرار التفريخ النوعي للتنظيمات المستوعبة قبليًا واجتماعيًا. كان من وعود أوباما الانتخابية وأولوياته «إعادة التعافي لأفغانستان»، وعد لم يتحقق منه شيء، بينما مبعوثه هولبروك علّق على الوعد قائلاً: «إننا إذا تمكنا من تحقيق الهدف بتعافي أفغانستان، فإنها ستكون نهاية حروب أميركا بالعالم الإسلامي، أما إذا انتكس الوضع فإنها ستكون بداية حقيقيةً للحروب الأبدية، حروب بلا نهاية».

هكذا تبدو أفغانستان اليوم، مجزرة قندهار ضد بعثة دبلوماسية إماراتية تقوم بعمل إنساني، تبرهن على نهاية آمال الاستقرار في تلك البقعة من العالم، وبداية الحروب العبثية، ورسم مخططات تسيل فيها الدماء.

 

الفنون بالخليج… سجالات متواصلة

الفنون بالخليج… سجالات متواصلة

فهد سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 12 يناير 2017

 

 

 

تصاعد نقاش مزمن ينشب أواخر كل عام بين التيارات المختلفة بالخليج. خلافات تتمحور حول الكريسماس، واحتفالات رأس السنة، وبلغت الذروة بمطالباتٍ لأحد الكويتيين بتحييد دار الأوبرا عن الموسيقى والاحتفالات الترفيهية. وأخذ النقاش مداه مع أحداث إسطنبول حيث سمعنا «أنصاف التبريرات» من خلال الكتابات والتعليقات. جدال حول استضافة ماجدة الرومي بأوبرا الكويت، ومحمد عبده لحفلات جدة. من الواضح أن ثمة أزمة مع الموسيقى وتوابعها الترفيهية والفنية لدى طرف مؤثر بالخليج، له أصواته البرلمانية، وتأثيراته الاجتماعية، ومنابره الدينية. قلق استثنائي تجاه لحظات الفرح والاحتفال. وإذا كان من أمرٍ يستحق العجب فهو الرعب المستمر من الموسيقى، مع أنها في رأيي العلامة والثيمة لرفاه أي مجتمع، فدور الأوبرا بدبي، والكويت، ومسقط، كلها تعبر عن الاستقرار السياسي، والتأنق الاجتماعي، والرقي الفكري.

تلك الصروح هي محتوى المجتمع، فالموسيقى مرتبطة بشكلٍ أساسي بتطور المجتمع، وتحولات التاريخ، والذوق الموسيقي الرفيع له ارتباطاته وعلاقاته وآفاقه. ليست المشكلة في اختيار البعض لرأي معين، بل في تعميم الرأي وتحويله إلى قانون، بغية فرض الذوق على أذواق الجميع.

من الضروري وضع الفنون قاطبة ضمن خيارات المدينة، وإلا فإن الاحتفال بالكريسماس حرمته جماعات مسيحية متنوعة مثل بيوريتانيي أوليفر كرومويل في إنجلترا بالقرن السابع عشر الميلادي، وكذلك الكلفانيون في اسكوتلندا كما يروي مالوري ناي في كتابه «الدين الأسس» والذي خصص فيه ميادين لدراسة العلاقة بين الدين والنظام الثقافي للمجتمع، إذ يَعتبر مثلا: «أن معنى الموسيقى يتحدد بشكلٍ أوسع بناءً على الوضع الثقافي للفرد الذي يستمع إلى الموسيقى أكثر من الموسيقى ذاتها» آخذًا موسيقى موتسارت مثالاً، باعتبارها الممثل للثقافة الأوروبية المسيطرة أواخر القرن الثامن عشر في النمسا، ثم يجتهد لإيضاح الانقسام الاجتماعي تبعًا للذوق الموسيقي، فالذين يستمعون إلى بريتني سبيرز يختلفون عن سمّيعة موتسارت. مستمعو الأخير، هم الأكثر غنى، ومن أصحاب المهن المؤمّنة بشكلٍ أفضل، ومن أصحاب المنازل الأغلى ولديهم تعليم أفضل لأطفالهم، ولديهم تأمين صحي، ولديهم زوارق يبحرون بها مع الحكومة، على عكس الذوق الأقل نخبويةً أو المنضوي ضمن «الثقافة الشعبية». قد يصحّ ذلك الفرز الذي طرحه مالوري ربما على بقية صنوف الموسيقى، الراب ولون البشرة، الجاز وعلاقته بالشيوعية والمقاومة والثورة كما في كتاب المؤرخ إريك هوبسباوم عن «تاريخ الجاز»، إذ وصف حضوره لحفلة فرقة «ديوك إلينغتون» وهم في نشوة موسيقى الجاز كانوا يزدرون «الجمهور المتضخّم ببطء من أهالي جنوب لندن»، واصفًا الجاز بالذي «يحمل البعد الصامت والعاطفة الجسدية التي لا جدال فيها». تلك لمحة عن العلاقة بين المجتمع وذوقه وطبقته وصراعاته الاجتماعية، وانفعالاته عبر الموسيقى.

بينما الفيلسوف ماكس فيبر، أسس نظريًا للعلاقة بين الموسيقى في التكوين الثقافي للمجتمع البرجوازي، وهو عازف مجيد للبيانو، واصفًا إياها بـ«قطعة الأثاث البرجوازية» أخذ رحلته الطويلة النظرية والعملية مع الموسيقى ليتوّجها بكتاب هو خلاصته عن الموسيقى: «الأسس العقلانية والسوسيولوجية للموسيقى» ترجمه للعربية حسن صقر الذي يعلّق في فاتحة الكتاب بأن «فيبر يقرّ بدور البروتستانتية في دعم الغناء والموسيقى، في الشمال يزداد طول الليالي شتاءً وفي الوقت نفسه تنخفض الحرارة وتتكدس الثلوج، فيضطر الناس إلى البقاء في البيت، وفيبر يعوّل على هذا البقاء ويرى فيه دافعًا لاستنطاق الموسيقى بما لديها من أسرار ومسرات، كي تعين الفرد على التخلص من هذه السوداوية التي قد تؤدي به إلى أن يكون فريسةً للهواجس، فالكنيسة البروتستانتية على النقيض من الكنائس المتزمتة الأخرى المحرمة للغناء والموسيقى». الموسيقى شريكة في جميع مجالات الحياة اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا.

انطلاقًا من النماذج الماضية، فإن التداخل بين الموسيقى الشرقية والغربية له تاريخه، باعتبار التأثير الذي سببته موسيقى الكنيسة الشرقية على موسيقى الكنيسة الغربية، وهذا موضع بحثٍ مهم للمختص علي الشوك بأبحاثه ومقالاته، راصدًا محتوى التراتيل وعلاقاتها الثقافية سواء الآثورية، أو المارونية، منقبًا عن الموسيقى في مصر والشام وبلاد الرافدين وسواها.

كل ذلك يعزز من تحويل فهمنا عن الموسيقى، الفهم الشعبي، من دون الغوص في الآثار التي يرسمها، والوشوم التي يحفرها.

العمل الموسيقي يؤسس لشبكة من العلاقات مع الأفكار والمعاملات، هو صدى للنظرية الاجتماعية، ورصد لقرع نعال الناس في الشارع، وأسى على التاريخ، ومستوى من التحديد الاقتصادي، وصيحة على خريطة الجغرافيا. الموسيقى بمقاماتها وسلالمها وحروفها توطئة صامتة بين خيال الإنسان ونطقه، بين الرأي والرؤية، بين الخطّ والخطيئة، وهي فجوة بين الزمان والمكان، لذلك فإن القلق الاجتماعي تجاه مشروعية السمع، أو قانونية الصرح الأوبرالي، أو أخلاقية الحفل الفني تعبير صريح عن قلق تجاه الحضارة.

يذكّرنا جون بارو دائمًا بأن «ثمة حضارات وجدت بلا رياضيات، وبلا رسم، وحضارات حُرمت من العجلة أو الكتابة، لكن لم توجد حضارة بلا موسيقى».

 

مجزرة إسطنبول… الذئب المنفرد وأسوار المدينة

مجزرة إسطنبول… الذئب المنفرد وأسوار المدينة

فهد سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 6 يناير 2017

 

 

صُدم العالم بالعملية النوعية بنادي رينا بإسطنبول. مجزرة خلّفت عشرات القتلى والجرحى من جنسياتٍ مختلفة. المنفّذ ذئب منفرد من تنظيم داعش. على إحدى القنوات اللبنانية تسأل فتاة عن الهدف من هذا القتل العشوائي، وإطلاق النار على مدنيين أبرياء وهم بكامل أناقتهم؟ يمكن اعتبار «سيكولوجيا الإرهابي» من أعقد الموضوعات المتعلقّة بالإرهاب والتي تطرح منذ عقدين. في بادئ الأمر، أواخر التسعينات، ومع اتساع رقعة العنف أخذ التحليل النفسي مداه الأبرز، وبسبب من انعدام الجرأة على نقد الأفكار وبعض الخطابات الدينية صار للمحللين النفسيين صولاتهم وجولاتهم. غير أن العامل النفسي مهم لتعميق الفهم، والبحث في سيكولوجية الإرهابي لا يعني التعويل على مرضٍ نفسي معيّن، إنه بحث للفهم والتفسير، لا لإيجاد المخارج أو التبرير.

ربما كانت أطروحة جيرولد م. بوست «القادة وتابعوهم – في عالم خطير، سيكولوجيا التحليل السياسي» من أفضل ما طرح بهذا المجال باعتبار تجربته «شاهدًا خبيرًا» بالتحقيقات التي أجرتها الاستخبارات الأميركية خلال واحد وعشرين عامًا، وهو مدير ومؤسس «مركز تحليل الشخصية والسلوك السياسي» بالاستخبارات الأميركية. قام بوست بعمل دراسات في العمق لشخصيات ونوازع وغوامض قادة العالم بغية مساعدة الرئيس الأميركي، ووزير الخارجية، ووزير الدفاع ومسؤولين حكوميين كبار آخرين أثناء عقد مؤتمرات قمة أو مفاوضات مستوى عالٍ وإفادتهم بالتعامل مع الأزمات، قدم دراسات عن صدام حسين، وفيدل كاسترو، وكيم يونغ، وأسامة بن لادن، وكان المسؤول عن وضع الملفات الشخصية لأنور السادات ومناحم بيغن التي استخدمها جيمي كارتر في محادثات كامب ديفيد.

بالنسبة إليه، ليس الإرهاب ظاهرة متجانسة، وليس له تعريفٌ موحّد، ثمة طيف واسع من الجماعات والتنظيمات الإرهابية، وكل منها له سيكولوجية ودوافع، وبنية صناعة قرار مختلفة، بالفعل يجب على المرء ألا يتحدث عن سيكولوجيا الإرهاب بصيغة المفرد، بل عن سيكولوجيات الإرهاب، وربما يكون العنوان الأنسب للوصف: «عقول الإرهابيين» ذلك لأنه ضمن طيف من المجموعات الإرهابية، الإرهاب الثوري الاشتراكي، أو الإرهاب القومي الانفصالي، أو إرهاب الجناح اليميني، أو إرهاب المتطرفين الدينيين، كما أن الإرهابيين مدفوعون لارتكاب أعمال العنف نتيجة لقوى سيكولوجية، وإذا أخذنا في الاعتبار تنوّع القضايا التي يلتزمون بها، فإن وحدة خطابهم مفاجئة، إنه خطاب «نحنُ، ضدّ هُم»!

ثم يضرب مثلاً بأحد القادة الذين تم إجراء مقابلاتٍ معهم وهو حسن سلامة، وكان قائد المفجّرين الإرهابيين الذين قاموا بموجة التفجيرات في عام 1996 التي عجّلت بخسارة رئيس الوزراء شمعون بيريس وانتخاب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، فقد مات ستة وأربعون إسرائيليًا في الانفجار، وحكم على سلامة بأربعة وستين حكمًا مؤبدًا متتاليًا. قال حسن سلامة عن الإرهاب الانتحاري إن «التفجير الانتحاري هو أعلى درجات الجهاد، ويلقي الضوء على عمق إيماننا. المفجرون مقاتلون مقدّسون، يقومون بأحد أهم الشؤون الإيمانية»، بينما يضيف قائدٌ آخر: «هي الهجمات الانتحارية التي تحرز أعلى احترامٍ وترفع المفجّرين إلى أعلى مرحلة ممكنة من (الشهادة)».

وكما كان إرهابي إسطنبول متخفّيًا، وقاتل السفير الروسي متسربلاً بلبسٍ حديث، لإخفاء الذئبية، فإن جيرولد بوست يتحفنا بشهادة دالّة وإن اختلف انتماء الأفراد المنتحرين بين تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وسواهما من الفصائل المشرعنة للأعمال الانتحارية، فهو وخلال خبرته «كشاهدٍ خبير» في محاكمات إرهابيي «القاعدة» المدانين بتفجيرات السفارات الأميركية في كينيا وتنزانيا، كان حصل على نسخة من مستندات وزارة العدل عن دليل إرهاب تنظيم القاعدة «إعلان الجهاد»، وهي وثيقة استثنائية تذهب بعيدًا في تفسير كيف استطاع إرهابيو الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) أن يحافظوا على غطائهم في الولايات المتحدة، التي هي بلد الأعداء، ففي الدرس الثامن مما يجب اتخاذه من الإجراءات بالنسبة إلى العضو «المتخفّي» أن لا يدل مظهرهم على التوجه الإسلامي، وأن يكونوا حذرين، بالإضافة إلى تجنب زيارة الأماكن الإسلامية المشهورة.

ربما كانت ذروة وصفه لسيكولوجية الإرهابي جزمه بأن في قلبه فصيلة متوحشة من الحرب النفسية، هي العنف بصفته تواصلاً، لن تربح القنابل الذكيّة والصواريخ هذه الحرب، فالطريقة الوحيدة للرد على الحرب النفسية هي الحرب النفسية!

من حقّ الفتاة اللبنانية البحث عن إجابة تبرر خسارتها لثلاثة من مواطنيها، باعتبار العمل ليس له تبريره العسكري، أو الديني، أو الميداني. يغدو الإرهاب أفظع حين يصاب المدنيون غيلة وعلى حين غرّة، بأماكن ليست للتدبير السياسي أو الاستخباراتي والعسكري، وبمنطقة هي مظنّة السياحة والترفيه، وأبعد ما تكون عن العسكرة والحرب، إنها أعمال تبرهن على التوحش والذئبية بالهجوم والاغتيال، بينما يصفهم إريك هوفر في كتابه «المؤمن الصادق» بـ«حثالة الأرواح الضالة».

عمليّة كارثية، ذئب منفرد يستهدف الفردانية، يستخدم كل صيغ الحداثة لضرب الحداثة، يمرّ على الجثث بدمٍ بارد ليتأكد من تصفيتها، إنها روح انتقامية ارتكاسية. ما جرى بتركيا عبر العمليتين من مقتل السفير إلى عملية نادي رينا هو نقطة تحوّل بالعمل الإرهابي، خلاصتها «ما من مكان آمن في هذا العالم» مهما كانت الثكنات والحراسات، لأن الإرهابي الحديث يدبّ دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء.

 

نبوءات هوبزباوم… وآثار القرن العشرين

نبوءات هوبزباوم… وآثار القرن العشرين

فهد سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 29 ديسمبر 2016

 

يبدو مشهدًا دراميًا، السفير الروسي أندريه كارلوف، يُرشق دمه على جدرانٍ زيّنت بلوحاتٍ فنيّة داخل معرضٍ أنيق. شابّ لم يختر لباس الظواهري وأبو حفص الموريتاني، بل لبس مثل الناس. يقوم بتنفيذ الجريمة، ومن ثم يبدأ بإلقاء الخطبة، كُشفت هويته أنه «موظّف بالشرطة». من هذه القصّة تبدو المأساة الدولية التي تعاش حاليًا، ذلك أن المؤسسة نفسها بمفهومها العميق قد تبدو مهددة، والتأسيس النظري للدولة وللسلطة ومفاعيلها لن يكون كما أسس عليه منذ خمسة قرون. التحدي الأكبر الذي يواجه الدول اليوم يتمثّل بمستوى القدرة على تحصين السلطة، والبحث عن دعائم حديثة تحقق لها القدرة على التعايش مع تحدياتٍ قد لا تخطر على بال؛ ذلك أن الإرهاب تجاوز مرحلة الأنفاق والكهوف، والتحصّن بالجبال، بقدر ما تغلغل بالمؤسسة، ناخرًا جسد السلطة، وهذا ما يعزز من فرضيات التضاؤل الكبير أو ربما التهشّم والانهيار. أحدثت مستجدّات العنف المنظّم موجة غليانٍ غير مسبوق وليس له مثيل من قبل. خُتم القرن الماضي بأحاديث النهايات والذروات، ونبوءات الاكتمال، وصيحات التبختر بالتقنية والحضارة والعولمة، وانتهاء الجغرافيا والإنسان والحدود، لكن فاتحة القرن الجديد كانت مدوّية بصورة هي الأخرى درامية ممثلة بأحداث 11 سبتمبر (أيلول)، صورة تبدي مع كل إعادة تأويلاً آخر للمستقبل المنظور.

يرفض المؤرخ إريك هوبزباوم أن يحصر في «غيتو» الماركسية، وفي مذكراته «عصر مثير» اعتبر الفصل بين ميداني السياسة والتاريخ يبدو متعذّرًا، ثم يمتنّ لما أكسبته صفته الماركسية من رواجٍ لكتبه بالمجر، وسلوفينيا. وبالعودة لكتابه «عصر التطرفات – القرن العشرون الوجيز 1914 – 1991» خصص الفصل الثامن حول الحرب الباردة، ذاكرًا ملاحظة تاريخية قد تفيد بهذا لفهم الحدث الذي يتحدّانا: «فالذي تغيّر على وجه الدقة بالحرب الباردة، تلك التحولات على المسرح الدولي التي ألغت تمامًا، أو عتّمت جميع الخصومات والنزاعات التي شكّلت السياسة الدولية قبل الحرب العالمية الثانية». ثم يشير إلى أن التبدلات تلك سيكون لها تأثيرها على الألفية الثالثة أكبر مما كان للحرب الكورية، أو لأزمتي برلين وكوبا.

نستعيد هوبزباوم لسبب أساسي، كونه مؤرخا، أو كما يحب أن يصف نفسه بـ«المراقب»، والذي أعطى نتائج واستشرافات للقرن الحادي والعشرين، من بين ذلك عدم استبعاده وجود حرب نووية شاملة يعيشها البشر. وفي حوارٍ مهم وربما متأخر معه قبل رحيله في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2012 نشرتْه مجلة «نيولفت ريفيو» يضع خمسة تغيرات رئيسية سيشهدها العالم وهي: انتقال مركز العالم الاقتصادي من شمال الأطلسي إلى آسيا الجنوبية. الأزمة الرأسمالية العالمية. إخفاق الولايات المتحدة في الهيمنة على العالم. انبثاق كتلة البلدان النامية الجديدة. وصولاً إلى التغير الخامس المتمثل بالتآكل والضعف المطرد بسلطات الدول، أي في الدول القومية داخل حدودها الإقليمية، وفي أجزاء واسعة من العالم، ولأي نوعٍ من أنواع السلطة الفاعلة، معتبرًا أن هذا التنبؤ المتعلق بتآكل دور السلطات يتسارع بشكلٍ أكثر مما كان يتوقعه.

تحدي العنف للدول، وإسهامه المحتمل بهشاشة هيكليتها قد يكون مؤشره انتعاش العنف.. نرى الحدث التركي مثالاً، ذلك أن الإرهاب ينتعش في العالم ليس لقوته وسطوته، بقدر ما يبرهن على تراجع شكل الدول وطرق تجديد مؤسساتها الفاعلة بالعالم. يستفيد الإرهاب مما يمكن وصفه بـ«الوضع القائم»، ومنظّمات العنف دائمة التشكّل، وشديدة التجدد، ولديها قدرة على السيلان بالمجتمع، والذوبان والانصهار داخل مختلف المؤسسات، وهذا ما يحتّم على المعنيين دراسة سبل أخرى ليس على المستويات الأمنية فحسب، بل والقانونية، والسياسية، والبلدية.

الفيلسوف توماس هوبز، في كتابه المؤسّس: «اللفياثان»، طبع عام 1651، يرجع العنف الناخر بجسد الدولة إلى: «التنافس: الاتجاه نحو تأمين المنافع والغايات، والحذر: تأمين الحياة، والكبرياء: بغية الحفاظ على الشرف والسمعة». قد ترجع الدولة بكل محتواها من سلطات رمزية، أو كاريزماتية، أو مؤسسات فاعلة نافذة ما تفتقده مع اهتزاز الأحداث السياسية والأمنية. ولعل العدو الأبرز للدولة هو انتشار العنف، أو صناعة الاضطراب الجماهيري. في الخطر الثاني ما يمكن مواجهته عبر العملي السياسي والأمني، بينما انتشار العنف بوصفه ثقافة نافذة فاعلة لديها قدراتها الجهنمية على الاختراق، والعمل ببطء، والتكتيك المنظّم، وتأسيس خلايا التخابر، وتجنيد الأتباع بكل القطاعات، ذلك ما يجعل منه عدوًا أولاً بلا منازع. وكما ساهمت الحروب الأهلية في أوروبا بتغيير المفهوم الكلاسيكي للدولة ونمط عمل السلطة منذ هوبزباوم وإلى ماكس فيبر فإن التحدي الآن هو موجة ثانية أخرى تتجاوز دولة ما بعد الحروب الأهلية، وإنما تأسيس أنماط للعمل المؤسسي بما يتناسب ويتواءم مع تحديات انتشار العنف، والبرهان الأوضح على ذلك ما جرى في فرنسا وألمانيا، وبريطانيا، وإسبانيا، وأميركا، وبلجيكا.

رأيناه، الإرهاب، خرج من الجبال، إلى معارض الفنون، بأزياء أخرى. لكأنّ سيغفريد ساسون يصف المشهد: «صفوف من الوجوه المتذمّرة المقنّعة بالخوف، تغادر خنادقها، وحول معاصمهم يواصل الزمن الأجوف إيقاعه العجول، تمضي بأيدٍ متشابكة وعيون متلصصة، وتتخبط بالوحل».