مايو 2012

عن أي ديموقراطية نتحدث؟!


عن أي ديموقراطية نتحدث؟!
فهد سليمان الشقيران
جريدة الحياة 28 مايو 2012




تطرح الديموقراطية نفسها كسؤال كلما جدّدت احتكاكها بالمجتمع، بين من يرى فيها مقدمةً لنتائج، ورؤية أخرى ترى في الديموقراطية «نتيجة لمقدمات». بين شرط أرضٍ ثقافيةٍ خصبة تنبت عليها ثمار الديموقراطية يانعةً بكل نضارتها، وبين رؤى تعتبرها رحلة تربيةٍ تنضج المجتمعات بإخفاقها في تجريبها. إنه خلاف فلسفي متجدد بمستوى تجدد أسئلة الديموقراطية التي تتعرض لتعديلات واشتراطات وإبداء وإعادة حتى في الدول التي بلغت الذروة في تطبيقها.
كلما ضرب مفهوم الديموقراطية بمعول الفلسفة فجّر إِشكالياته، إنه مفهوم سياسي يُدرس بالتجارب، ويتعرّف عليه بعدسات الفلسفة لجهة إمكان تجاوب تطبيقه مع نسيج المجتمع بمختلف طبقاته وفئاته.
براتراند راسل يقول: «إن الديموقراطية تكاد تكون مستحيلة التطبيق في شعب جاهل، وهي ترتبط بالتعليم والثقافة». كارل بوبر جاء بعد هيغل، وهو من أشرس نقاد فلسفة هيغل وفي أطروحته حول «المجتمع المفتوح وأعداؤه»، ربط بين الديموقراطية ومستوى تحضر الشعب بحيث يصل إلى حال احتياج للنظام الديموقراطي، فالثقافة الديموقراطية لدى بوبر تسبق تطبيق الديموقراطية الآلي. أما الفيلسوف الألماني هيغل فهو نقيض رؤية بوبر وراسل، يكتب: «إن الشعوب ليست قاصرة ولم تكن قاصرة في أية مرحلة من المراحل على الإطلاق». يستمر هيغل: «إن تطبيق الديموقراطية بين شعب تغلب عليه الأمية ستكون عرجاء أو فاسدة أو ناقصة لكنها ستكون ديموقراطية على أي حال، وسيكون وجودها أفضل بكثير من انعدامها، فالناس تمارس الديموقراطية وتخطئ».
رأى هيغل أن: «أفضل علاج لأخطاء الديموقراطية هو المزيد من الديموقراطية، فالممارسة تصحح نفسها باستمرار وتعدل من أخطائها إلى أن تصل إلى الحد الذي نرجوه، إننا هنا أمام تدريب يشبه تدريب المواطن على قيادة السيارة لا يمكن أن يؤجل بحجة أنه يقع في أخطاء، لا وصاية على الشعب حتى ولو كان أمياً متخلفاً، لأنه هو في النهاية صاحب المصلحة الحقيقية».
التجربة العربية مع الديموقراطية جمعت نفسها من خلال أمثلةٍ ونماذج يمكنها أن تكون موضع حكمٍ على تطبيقها. لقد جربت عربياً بوصفها مقدمةً لنتائج، فتحوّلت إلى آلية لحراسة ما هو قائم، من استبدادٍ وطغيان، واستثمرت أصولياً لتفريخ العنف، ولأنها استخدمت كمقدمةٍ لنتائج، لا نتيجةً لمقدمات كررت أمراض المجتمعات التي تتحرك فيها، إذ حرست القبليّة، وأصبحت الطائفية وسيلة الضغط الأول لتحريك الجموع بكل تنويمٍ مغناطيسي إلى الصناديق واضعين المرشح الذي أملاه عليهم «المثال» نصب أعينهم سواء كان المثال شيخاً، أو سيداً، أو موجهاً، أو مرجعيةً حركية أصولية.

(براتراند راسل)


حرست «ديموقراطية المقدمات» كل الأمراض واعتنت بها، وصارت الإكسير لجميع أنواع السفالات التي تمارس باسم السياسة. سيّسوا الديموقراطية، لكن الديموقراطية لم تشتغل بمجالها السياسي.
تُسحر بعض الأمثلة الانتخابية العيون، يظنّون أن هذا الصندوق هو المصير، بينما يأتي الصندوق بشخصٍ ويذهب بآخر، لأن الثمرة لا تنبت من دون شجرة. لم تنمُ الديموقراطية الأوروبية إلا بعد القضاء على أمراض التغلب، وسحر «الأمثلة» وهوس «الأساطير».
تحتاج الديموقراطية إلى حيوية الفضاء مدنياً حتى تتحرك باتجاه التنمية. ديموقراطيات المقدمات عربياً لم تحقق التنمية. يكتب جورج طرابيشي: «الديموقراطية تتعارض في ماهيّتها بالذات، مع فكرة المثال، فهي أكثر مذاهب الحكم واقعيةً، ولا تتطلب أبطالاً ولا أطهاراً، بل كلما كان الحكّام عاديين كانت ضمانات الممارسة الديموقراطية من حيث هي بالتعريف (لعبة) أكبر».
الديموقراطية ليست غايةً بحد ذاتها، وإنما وسيلة، والمجتمعات التي – قصدها هيغل – بمعنى الاستيعاب للديموقراطية تدريجياً تلك التي نفضت الغبار عن العيون وبدأت بفركها بحثاً عن النموذج المبتغى دنيوياً بغية الخروج من تيه واقعها. حين يتعامل مع الديموقراطية كمقدمةً لنتائج ستأتي تغدو غاية عقيمة لا تلد تنميةً ولا تؤوي الدنيوية، بينما تزهر الديموقراطية حين تأتي بعد التعاهد الثقافي الملحّ وخوض الصراع مع مساءلة العوائق كلها من دون خوفٍ أو مواربة.

أوهام الحوار النموذجي

أوهام الحوار النموذجي
فهد بن سليمان الشقيران
جريدة الحياة 21 مايو 2012
(يورغن هابرماس)

يأخذ الحوار دروبه المتوزّعة، ويسير بخطوطٍ غير مستقيمة. قوته في فوضاه، في شتاته. إنه ليس نموذجاً، إنه سير في فضاء السؤال، ورحلة بلا زاد للتنقيب في جيوبٍ مهجورة وسط قرص اللهب. يتعقّل الحوار حيناً، ويأخذ صيغة السرد المستمر في أحايين أخرى. الحوار ليس نموذجاً، وليس منهجاً، إنه بمعنًى ما شكل من أشكال «إرادة التعقل» كما يعبر «هيراقليطس»، وهو في بعض وجوهه «سلوك اتصالي» كما يكتب هابرماس، وفي وجهٍ آخر درب من «دروب التيه» كما يحب أن يصف هيدغر عموم الرحلة السؤالية والتي تسكن الكائن الساكن في «بيت اللغة» كما يعبر هيدغر أيضاً. الحوار فضاء عمومي رحب، به تطلق الآراء والأفكار، وتختلج المشاعر، وكلما توزّعت دروب الحوار وتشتت طرقه، وتشعبّت متاهاته كان ثرياً لافتاً، لأن أي تنميط له يحوّله إلى حصة مدرسية فجة.

وإذا كانت وظيفة الفكر «التجاوز» – كما يشير جيل دلوز – فإن الحوار أحد أدوات التجاوز. والحوار لا يقرّب الرؤيتين، بل ربما كانت إيجابيته في إبعادهما. تبتعد الرؤى لتلتقي ضمن ضوء وضوحها، كما في حوار الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس والكاردينال السابق والبابا الحالي جوزيف راتسينغر؛ تلتقي الرؤى لتزداد بُعداً، وليكون البعد أكثر نضجاً بين رؤيتين يستحيل التقاؤهما، وهذه صيغة خلاّقة من صيغ الحوار. درب الحوار ليست واحدة، وصيغه ليست نموذجية، ووظائفه ليست معلومة. يفاجئنا بشظاياه، بالبُعد أو القرب، يضعنا أمام شرر الأسئلة، أو يلسعنا بسخونة السجال، أو ننعم ببرد متعته. إنه ليس نموذجاً.

ثمة عبارة سمعتها أخيراً ومفادها: «لا تقاطعني»، وهي عبارة وعظية، يحسب لها انطلاقها من أخلاقٍ تتعلق بعدم الخطأ على المُحاوِر أثناء إجراء الحوار، غير أنها – بمضمونها الواضح الداعي إلى عدم مقاطعة المحاور – مجرد فكرة نموذجية عن الحوار العصي على التحديد. المقاطعة جزء من سلوك الحوار المعتاد، حين يكون الحوار بلا نموذجٍ ضيّق تكون المقاطعة ثريّة. صمّ صاحب الدعوة آذاننا منذ سنواتٍ مضت عن ضرورة نمذجة الحوار، وجعله ضمن شروطٍ طويلة عريضة أساسها «اللا مقاطعة»، ولم تكن دعوته هذه إلا فكرة ساذجة عن الحوار المدرسي البسيط الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.

تحويل الحوار إلى ترسانةٍ من الشروط يعني منع هواء حرية السؤال من النفاذ إلى فضاء الحوار. محاربة المقاطعة وجعلها عيباً من عيوب الحوار إنما يعبّر عن الخوف والرعب من الفضاء المطلق الذي يتحرك بداخله الناس في اتصالاتهم الحوارية. المقاطعة هي التي تحيي الأسئلة، وتدفع المتحاورين إلى الاستمتاع أكثر بالحوار وسيره. والمقاطعة ليست سيئة إلا لدى من أرادوا تقزيم الحوار الحر العصيّ على القوالب إلى منظومة مدرسية، يدار فيها الحوار بالعصا. الحوار الفكري ليس جلسة برلمانية أو خصومة في محكمةٍ تستخدم فيها القوة. إنه كينونة وجودية، والتقاء بين كياناتٍ بشرية، تنبض بأسئلتها، بكل مكنوناتها، تفتح رصاصات الشك باتجاه بالونات اليقين.


الحوار أنبل الممارسات التي تجري بين كائنٍ وآخر، وقيمته في عفويته وحيويته، أتذكر الحوارات الطويلة بين «زوربا» وصديقه البوذي في رواية «كازانتزاكس»، تبدأ نهاراً وتنتهي ليلاً، تستأنف وتقطع، يغشاهم النوم، ثم يستكملان الحوار الأبدي، حوار مستمر حول أسئلةٍ كبرى، بين كائنين نقيضين، أحدهما حسّي متعي، والآخر روحي بوذي، وتستمر الحوارات الماتعة التي تتغذى على المقاطعة، وتنجح بها.


علينا أن ننهي حالة تقليم أظافر الحوار، وتحويله إلى فصولٍ مدرسية ساذجة، ولنطلق حواراتنا في الهواء الطلق، ولنقاطع بعضنا البعض، فالحوارات يجب ألا يكون لها أي هدف، واقتناع أي من الطرفين ليس شرطاً، ولا هدفاً، يكفي الحوار أنه مشتغل بكل مفاعيله التحريضية على التجاوز… على التجاوز الأبدي.

طه حسين وقصة التحريض الديني*:

طه حسين وقصة التحريض الديني*:
عبد العزيز السويد: مداهمات قام بها رجال دين قبل ثلاثين سنة لمكتبة تنويرية في بريدة كانت تقوم بإعارة كتب طه حسين:
 فهد الشقيران من بريدة: باستمرار يعود اسم “طه حسين” مرةً أخرى إلى الظهور، وذلك من أجل إنصافه للدور التاريخي الذي لعبه من أجل دفع مسيرة التنوير العربي، صحيح أن كتاباته لم تكن فكرية عميقة ومنهجية صارمة على طريقة “المشاريع”، وإنما جاءت مبطّنة في سياق “الأدب” غير أن بعض الباحثين في دراساتهم الجديدة رأوا أن هذا “الدفن”  للأفكار بين سطور الأدب، هو سر تفوّق اسم “طه حسين”. ولعل إنصاف طه حسين جاء مبكّراً من “المغرب” العربي، حيث كتب عبد الله العروي: “إن ثلاثة أرباع النقد الأيديولوجي يظهر عندنا على شكل نقدٍ أدبي، فيتخذ الرواية والقصة والمسرحية كوسيلة لترويج الأفكار السياسية والاجتماعية، ومحمد عبده وسلامة موسى، وطه حسين روّجوا لأفكارهم التجديدية، بواسطة دراستهم للأدب العربي قديمه وحديثه”.
عبد السلام بنعبد العالي –المغربي هو الآخر- يوافق العروي على النص السابق، فهو رأى أن طريقة “طه حسين” في عرض الفكرة كان لها أبلغ الأثر في الترويج للمنهج الديكارتي بشكل أكبر مما روّجت له كتابات فلسفية رصينة. ويمكن أن نعرف قيمة طه حسين بنتائجها، حيث ساهم في إلهام بعض أهم المفكرين العرب ويذكرون هذا في كتاباتهم منهم “حسن حنفي، ومحمد أركون، وعبد الرحمن بدوي، ونصر حامد أبو زيد”.
طه حسين في السعودية:
يلفت المارّ من طريق “محمد بن عبد العزيز” المعروف بشارع “التحلية” في مدينة الرياض  شارع اسمه “شارع طه حسين”، وهو شارع فرعي لطريق رئيسي وحيوي، و شارع “التحلية هو أهم شارع للمقاهي والمطاعم والتنزّه في الرياض وهو موطن تجمّع شبابي، وفيه تحدث الاحتفالات وترتفع أصوات موسيقى السيارات، كأن طه حسين وجد نفسه بجوار شارع لا يعرف إلا الفرح. لكن -ومن جهةٍ أخرى- عُرف اسم “طه حسين” في السعودية عبر المكتبات “التنويرية” المتحررة التي نشطت في بعض المدن، وهي مكتبات كانت تروّج لمبادئ رئيسية حول الحرية والعدالة والتنوير وتعارض البرامج الدينية الأيديولوجية، كما عُرف عبر التصعيد الديني الذي وجّه من قبل “خطباء المنابر” في تلك الفترة الهامة من تاريخ الثقافة في السعودية، وكان التشنيع الديني ضد طه حسين-ربما غير مسبوق- ضد أي شخصية عربية فكرية حتى اليوم.
عبد العزيز السويد شاهد على مرحلة حجب النور:
في زيارتي لمدينة بريدة التقيت الكاتب السعودي عبد العزيز بن علي السويد وهو مثقف سعودي، وشاهد على مرحلة  “المكتبة الثقافية” التي كان لها دور تنويري ريادي قبل ثلاثة عقود، وتحدّث لنا عن تلك المرحلة قائلاً: (اللاعنون رحلوا وبقي طه حسين ذاكرة الأدب ونور في عقل الفكر العربي، نسي الناس أولئك الذين تبرموا من العميد طه حسين، ويتذكر الناس حتى الآن أنوار ذلك الرجل الأعمى الكفيف طه حسين).
عبد العزيز السويد يتذكّر أيام المعهد العلمي في مدينة بريدة -وهو معهد ديني شرعي يتبع جامعة الإمام محمد بن سعود- يقول: (في المعهد وفي المرحلة الثانوية، كنا نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ومن طه حسين عند ذكر اسمه أو سماع لقبه، كما عودنا شيوخنا لقد كنا إذا اضطررنا لكتابة بحث أو موضوع عن الأدب المعاصر آنذاك وجاء اسم طه حسين كعملاق ورائد للأدب والفكر، لابد أن نصحب الاسم بالتعوذ منه).
أما عن موقع طه حسين في “المكتبة الثقافية” فيقول عن تلك المرحلة: (عندما أنشأ  بعض الشباب مكتبة ثقافية في بريدة لتكون مصدراً للثقافة الحديثة، طالت ألسنة بعض المشايخ عبر اتهام  المكتبة أنها تضم كتباً في الإلحاد والزندقة، فطلب القائمون على المكتبة من هؤلاء الناقمين عليها الحضور للمكتبة والتفتيش عن كتب الإلحاد والزندقة، فلما لم يجدوا شيئاً وخابت ظنونهم، قالوا ولكن لديكم كتب لـ طه حسين وهذا يخرب  عقول الناشئة).
(وحينما أتيحت كتب “طه حسين” للاستعارة من تلك المكتبة اعتبر البعض استعارة تلك الكتب من دلائل ضعف الإيمان) وتلك المكتبة التنويرية لم تعد قائمةً الآن بالطبع، وكانت معارضة لتوجهات دينية  كانت تنضج في تلك الفترة خاصةً في المعهد العلمي “الديني” في بريدة الذي كان في تلك الفترة يضم من بين أساتذته محمد سرور زين العابدين.  
(شارع باسم طه حسين في مدينة الرياض)
شيخ سعودي “طه حسين شيطان أدبي”:
 يتعجّب عبد العزيز السويد من ذلك التحريض العلني ضد طه حسين، ويحكي لنا في ذكرياته عن تلك المرحلة ويقول: (مرة قلت لشيخي الكفيف يا شيخ طيب لو كتبت اسم ” طه”  لوحده هل يلزمني التعوذ منه قال شيخي لا “طه” اسم نبي، قلت له: و “حسين” اسم ابن نبي، قال: نعم ولكنك إذا جمعت “طه وحسين” صار اسم “شيطان أدبي”).
 يتذكّر السويد في حديثه مواقف أخرى مع شيوخه في المعهد الديني، يقول:(سألت شيخي مرة بعد أن مُلئت عقولنا الناشئة  بأسماء الفرق الضالة وزعماء هذه الفرق من مثل الجهمية والقدرية والمعتزلة، قلت له يا شيخ: طه حسين يصنّف  تحت أي فرقة من فرق الضلال والبدع؟ هل يكون مع معبد الجهني أو الجهم ابن صفوان أو غيلان الدمشقي؟ قال شيخي: بل يصنف مع فرعون وهامان).
وإذا كان “طه حسين” حظي بعد أن تمّ فرم اسمه على المنابر بشارعٍ فرعي متفرّع عن شارع الموسيقى والمرح الذي هو شارع محمد بن عبد العزيز في الرياض غير أن وضع هذا الشارع لا يعبّر عن حقيقة الموقف الديني من “طه حسين” إذ كان للمنابر دورها في التحذير من اسم “طه حسين” ويتذكّر عبد العزيز السويد أن: (خطب الجمعة صار بعضها  يخصص للتحذير من قراءة كتب عميد  الأدب العربي، حتى ولو كان خطيب الجمعة لم يقرأ حرفاً واحداً من مؤلفات طه حسين).
حصار ديني ضد كتب طه حسين:
لئن كانت أقسام المراقبة الإعلامية في “الجمارك” السعودية بدأت تتسامح بعض الشيء مع الكتب التي تُستخدم للاستعمال الشخصي غير أن عبد العزيز السويد يطرح موقف بعض المراقبين في “الجمارك” من كتب طه حسين، يقول: (في إحدى المرات أحضرتُ مجموعة كتب من إحدى الدول، وعرضْتها على مراقب المطبوعات في الجمارك لفسحها وكانت تضم بالإضافة إلى كتب “طه حسين” مجموعة كتب فلسفية لنيتشة وأسبينوزا وغيرهم، وفسح الموظف لجميع الكتب إلا كتاب:( الوعد الحق) و(الحب الضائع) لـ طه حسين، فقلت له أنها كتب فكرية أدبية وروائية عادية، فقال:لا، إذا كان  المؤلف طه حسين فأنا أريد أن أبرئ ذمتي، قلت له وهل هي  من ضمن قوائم الكتب الممنوعة رسمياً؟ قال: لا، ولكني لن اسمح  بأن تتسبب هذه الكتب لـ طه حسين بتضليل  أحد من الناس). لقد وصل التحريض الديني ضد طه حسين إلى حدّ اعتباره مروّج الضلال.
أثر طه حسين الفكري:
ساهم طه حسين في رسم آثار فكرية مهمة على امتداد الوطن العربي، وربما كان هذا التأثير يأتي بوضوح لدى مفكرين رئيسيين في السعودية، حيث تحوّل طه حسين إلى “ديكارت عربي” عبر نشره منهج الشك. الكاتب عبد العزيز السويد فيتحدّث بحميمية عن أستاذه الفكري والأدبي طه حسين حينما يقول:(هذا الرجل العقلاني الفذ طه حسين علمني أول درس في الحياة كيف أشك بعقلي، وإذا شك الإنسان بعقله سيبحث  ويتعرف على عقول أخرى، مجرد الشك بنتاج العقل يصنع أسئلة، وهذا هو دور عقل الإنسان السوي علمنا طه حسين كيف نفحص أفكارنا ومسلماتنا وعقولنا كيف نشك بما لدينا، حتى نصل بالبحث الدؤوب عن الحقيقة.
يصفه السويد لا بـ”عميد الأدب العربي” وإنما أيضاً بعميد “الشك” العربي.
السويد يختم حديثه عن مرحلة “التحريض الديني” ضد طه حسين بقطعة أدبية: (في كل يوم نتذكر طه حسين حاملاً كومة من الكتب فوق ظهره كومة من اللعنات هناك من قال له: أنت أعمى لكنك شيطان يا طه! لكنه لم يبال كثيراً، كان يتذكر (مرجليوث) و(الأيام) ويبتسم لنا تاركا لنظارته السوداء جدا أن تشرح الموقف، موقف العقل من الذات، موقف الشك من العقل وموقف العقل من البداهات الأولى، في كل  يوم نتذكر  طه حسين،  رحل بعيداً هناك في عصر ضوئي تماماً).
*أصل هذه المادة نشرت في صحيفة “إيلاف” الإليكترونية في 5 نوفمبر 2008.

تسيّد الأسلوب … وتلاشي النظرية الشاملة

تسيّد الأسلوب … وتلاشي النظرية الشاملة
15 مايو 2012
فهد سليمان الشقيران

(مارتن هيدغر)


من بين أكثر الانتقادات إثارةً للملل التأكيد الدائم على أن المجتمعات العربية لا تقرأ، هذا بعد أن تسرد بطبيعة الحال الأرقام والإحصائيات التي تتناول الفرق بيننا وبين المجتمعات الأخرى، باتت هذه الفكرة مملة لأنها لا تحتاج إلى تأكيد أساساً؛ أظنّ أن المشكلة ليست في ضعف معدلات الصفحات المقروءة للإنسان العربي نسبةً إلى غيره فقط، بل الأزمة في المعنى الذاتي الذي تدار به قراءة هذا النص أو ذلك الكتاب.إنها أزمة آليات قراءة قبل أن تكون أزمة قراءة بحتة. 

منذ انهيار النظرية الشيوعية على المستوى الواقعي والنظريات الشمولية تفقد عصبها وتتلاشى محفزات إنتاجها، تداخلت الغايات مع الوسائل في ظروف إنتاج النص، أخذ الاسلوب قيمة النظرية، امتزج الأسلوب بالنظرية، صار النص الفلسفي لا يحرك المجتمع من خلال صياغته، وإنما تتحرك به الذات من خلال الترحال داخله، والفناء بشعرية النص الفلسفي والغوص بتأويلاته وآفاقه، تحركت أدوات الفعالية بين الذات والموضوع، بين القارئ والنص، بين الخيال والحكاية، تآلف ما كان مختلفاً، بتلاشي النظرية الشاملة ثبت التحالف الضمني بين الفكرة الصلبة والأسلوب الجميل، صار النص بمربعاته يطرح نظرياتٍ متعددة إلى ما لا نهاية، إن النص يخلق النظرية من خلال القراءة التأويلية، ولا يطرحها من خلال الأسلوب المدرسي. “فيكتور لوبيز” يطرح جاذبية الأدب للفلسفة الحديث بنفس مستوى جاذبية العلم للفلسفة في القرن السادس عشر، النص الفلسفي يطرح مربعاتٍ نصية يمكنها أن تنمو وتزدهر من خلال القراءات التأويلية المتعددة.

لم يعد مبدأ “نفي النص” على اعتبار مرجعيته النظرية مجدياً؛ القراءات الثرية التي طرحت لنتاج كارل ماركس من قبل فلاسفة القرن الماضي لم تكن بهدف الدعاية للنظرية الماركسية، بل كانت قراءة داخل النص الماركسي لا النظرية الماركسية بمعناها الشمولي، إنها ليست عودةً لأشباح ماركس بالمعنى السياسي، وإنما لما يفتحه نص ماركس من كوى تبين مآزق الإنسان في الاقتصاد والسياسة والمجتمع، لهذا كانت قراءات:دريدا، هابرماس، جيل دلوز، لآثار ماركس أو أشباحه بداية لتحرير أي نص من مرجعيته المدرسية.

(جيل دلوز)


من هنا تمت إعادة قراءة “هيراقليطس” مجدداً منذ بعث نيتشه له، وهو الفيلسوف اليوناني القديم، تجدد أدوات القراءة للنصوص هو الذي جعل من فيلسوفٍ مثل هيراقليطس يكون أكثر حداثةً وتجدداً من نصوص فلاسفةٍ معاصرين، إن القراءة هي التي تخلق النص وتبعث فيه الحياة من جديد. لا يمكن نفي أي نص أو إهماله بناءً على انتمائه المدرسي لهذه المدرسة أو تلك. إن انتهاء وهج الفلسفات الوجودية التي لقيت رواجاً في القرن العشرين لا يعني موت نصوصها الفلسفية، لأن قراءة تلك النصوص يعيدها لفلك الفلسفة الحديثة، كما أحيا مفهوم “التقويض” لدى هيدغر فلسفات الحداثة البعدية. إن انتهاء وهج المدرسة لا يدمّر وهج النص ولا يلغيه، بل ولا ينقص منه.

لا نشكو من تراجع معدلات القراءة، وإنما من فقرٍ في المعنى الذاتي الذي يمكن أن تكسبه القراءة، إن القراءة مفهوم مترابط يتصل بالفرد تؤثر كل الأفكار والأمراض والمعتقدات والهواجس التي يحملها الإنسان على مستوى إجادته للقراءة، يمكن للقراءة أن تصنع من خلال الاحتكاك بالنص نصاً إضافياً، كما فعل جيل دلوز وهو الفيلسوف المهم حيث خصص أبحاثا عديدة لقراءة نصوص غيره، كما قرأ فوكو وكانط وديفيد هيوم بقيت تلك القراءات نصوصاً فلسفيةً إضافية تجاوز النصوص التي قرئت بالمعنى الذي تقدمه وتضيفه للحقل الفلسفي.

إن العلاقة بين الذات والنص حين تصل حد الفناء بالكتاب، والغرق بالمعنى، والدهشة بشهب التأويل فإنها تصنع وهجاً علمياً مختلفاً، فالقراءة أكبر من التمتمة بالمطابقة أو الصراخ بالنفي.


“ربيع” تنظيم القاعدة

“ربيع” تنظيم القاعدة

جريدة الحياة 14 مايو 2012

فهد سليمان الشقيران


يضخّ الإعلام عبر وسائطه مجموعة من العبارات والتشبيهات والاستعارات التي تغدو مع الإلحاح والاجترار عبارة مألوفةً، يطاع معناها، ويسمع صداها؛ تطقّم لتكون جاهزةً ساعة الاستعمال الخبرَي مع كل حدثٍ، تكون العبارة جاهزةً إذ عُلّبت وشُحِنتْ بمعانٍ أريد لها أن تكون ظِلّاً للحدَث.

ولأن اللغة الإعلامية ليست علمية-على الطريقة المفهومية المنظّمة التي تعتمدها مجالات المعرفية في العلوم الإنسانية أو العلوم الطبيعة- وقعت في فخاخ التجهيز الخاطئ للعبارات التي لا تدل بالضرورة على مضمون الحدث بمجالاته أو مفاعيله أو صوره وتجلياته كافة. ولأن بياض الإعلام يحتاج إلى سوادٍ عاجلٍ فإن التدقيق المتضمّن الحد الأدنى من العلم بالمفردة وجذورها اختفى لصالح مكائن تظلم ملايين المفردات التي تستخدمها في غير موقعها.

ومع أن مفردة «الربيع» التي تستخدم بإلحاح في المنتديات والوسائل الإعلامية هي استعارةٌ من فصول الربيع التي مرّت على حضاراتٍ أخرى، غير أن الواقع يجعل من استخدام هذه المفردة لشرح الحدَث العربي الحالي من قبيل الهذيان الذي يقع فيه الإنسان حين تأتيه وعكة نفسية نتيجة خسارته الفادحة، يظنّ أنه ربح، يرقص من دون ملل، لكنها رقصة الخسارة، يستعير عبارة «الفوز» لكنه لم يفز إلا بخسارةٍ مطلقة، لن تسترها لغته الهذيانية التي تبرهن على توعّك نفسي حاد.

في كتابها النفيس: «خطاب الصحافة اليومية» تشير: سوفي موران – وهي أستاذة علوم اللغة في جامعة السوربون – إلى أن: “خطابات وسائل الإعلام ليست خطابات عابرة ووقتية، والأطروحة التي أدافع عنها أن هذه الخطابات غدت الآن مجالاً لبناء الذاكرة الجماعية للمجتمعات الحاليّة”.

بناء الذاكرة الجماعية يأتي من خلال الورشة التوّاقة إلى العجالة في الصياغة. على الصحافي- بوصفه مؤرخ اللحظة – أن يتأنّى في التقاط الكلمات التي يصفّها في مربّعات نصه، ذلك أن استخدامه لذاكرته الجماعية التي يشترك في مجهوليّة مصدرها مع الآخرين يعني تكراره الملحّ لكل الملفوظات الجاهزة. قوة الصحافي في تأنّيه باستخدام توصيفاته، وكم أشفق على بعض الذين يستخدمون مفردات لا يفهمون معناها، وربما فهموا معناها واستخدموها بحماس بائس لم يبرزهم إلا بأوداج متحركة.

ما أسوأ التضخيم حين يكون عاطفياً، خذ مثلاً استخدام مفرداتٍ من مثل: «الفنان الأسطورة».. وغيرها من الكلمات الحماسيّة المزعجة.

تزعق الأصوات المبحوحة احتفالاً ببهجةٍ عقيمة على الأحداث العربية الحالية، كما تنزف الأقلام الكسولة، وتركض الطرائد الهزيلة اغتباطاً بالحدث العربي الذي لم يأتِ إلا بالأصوليين إلى قبب البرلمانات، وهو اغتباط قاصر بسبب افتقاده للمعنى الدنيوي الذي تحتاجه أي خطوةٍ للتقدم.

في مصر تفرّخ القاعدة عن خلاياها، حتى أن نبيل نعيم-القيادي الجهادي بمصر «التائب»- انتقد «القاعدة» على تظاهراتهم في العباسية ودعواتهم للجهاد! وفي ليبيا تحضر القاعدة في جسد النظام، فهي شريكة له ومؤثر في السياسات والاستراتيجيات، وفي اليمن يبلغ التنظيم ذروة قوته منذ بدء تأسيس قواعده هناك في التسعينات من القرن الماضي. القيادي في التنظيم باليمن فهد القوصو – الذي قتل – صرّح في 23 سبتمبر من العام الفائت أن القاعدة ستستفيد حتماً من التحرك السياسي الشعبي العربي، وهي الآن تغرس جذورها في اليمن عبر هيمنتها على مساحات شاسعة وإعلانها قيام إمارات في بعض المدن، والاستخبارات الأميركية والفرنسية تعتبر المرحلة القادمة في المعركة مع القاعدة “جديّة”.

لا أدري كيف استعيرت عبارة «الربيع» بهذه السهولة، كان يمكن للأصوليين أن يعتبروا هذه المرحلة ربيعاً لهم، غير أنها ليست ربيعاً لمستقبل البشر الذين يزحفون على هذه الأرض باحثين عن المستقبل، وعن دنيا تليق بهم، إنه ليس ربيعاً للشباب كما يقال! إنه ربيع تنظيم القاعدة.

 

عن السينما… شهُبٌ في قلب العتمة

عن السينما… شهُبٌ في قلب العتمة
جريدة الحياة 7 مايو 2012
فهد سليمان الشقيران
في السينما يطبق الصمت، ترتخي النظرات متأملةً على الشريط البصري الساحر. بؤبؤ العين يتنقّل بين مشهدٍ وآخر، محمّلاً المخيال ترسانةٍ من الصور الجديدة. توقظ بعض اللقطات مشاهد من آثارنا الذاكرية، إذ سرعان ما تتبدّى لنا في بعض المشاهد ركضات الطفولة، أو يد الجدّة، أو حميمية الأم، وربما راحت بنا الذاكرة نحو مفازاتٍ من الصحراء والتيه، أو الوجع والألم، أو الفاقة والحاجة، أو البؤس والضياع. سحر الشريط بترحاله بأعين المتابعين، بنقله لهم من مرحلةٍ إلى أخرى. ينطلق بنا الفيلم، من حاضرنا ليخيّل لنا المستقبل بكل بعده، وليرجعنا إلى الماضي بكل فضاءاته البعيدة، المليئة – ربما – بالخضرة والفرجة، أو الترحال والأمل.
في الشريط البصري الذي يسيّل النص مشهدياً ليعرضنا على ذواتنا. رسائل الموسيقى المجازية الحالمة الموغلة في قرص عروق أدمغتنا التوّاقة للجمال، يخرق الصوت في آذاننا حارثاً بأرضٍ متراكمةٍ من طبقاتٍ ذاكريةٍ هائلةٍ بحضورها الغائب، وبغيابها الحاضر. تحضر الموسيقى لتغييبنا عن مشهدٍ لحظية راحلةً بنا إلى سفرٍ آخر بادئين برحلتنا اللحظية من استدارةٍ تستمر بجزءٍ من الثانية نتجه من خلال المشهد لنخرج منه. هكذا تفعل موسيقى بعض الأفلام – خذ مثلاً – موسيقى فيلم The Last of the Mohicans المنتج سنة 1992 من بطولة دانيال داي لويس، إذ ترسل الموسيقى شيفراتها من خلال التحالف بين الصوت والصورة.
ثم تأتي رسائل الجسد التي تجسّنا، تتفحّص بتحدياتها الهائلة أعماقنا المكنونة. يغدو الجسد برسائله المجازية لغةً إضافيةً، تغيب هوامش الصورة ليحضر هو. يغدو الكل هامشاً، لكأن الفن في عمقه «فن التجسيد» أو سحر «ترتيب الفوضى»، بدءاً من النوتات المنثورة التي يحوّلها الموسيقار إلى سيمفونية، وليس انتهاءً بالجسد الذي حتى وإن بدا في حالة تبذّله غير أنه يغيّب المراكز، فترتّب رسالة حضور الجسد فوضى كل شيءٍ حاضر في المشهد معه.
وإذا عدنا إلى كتاب «جماليات الفيلم» الذي اشترك بتأليفه كل من «جاك أومون، وآلان برغالا، وميشال ماري، ومارك فيرني» نعثر على الرسائل المجازيّة، وقد أخذت صيغ الكمال في بعض الأفلام «السردية» المدججة بالشيفرات الباثّة لرسالةٍ وجودية، أو معنىً كوني، أو قصة جمالية، أو لغة عشقية. جاء في الكتاب المهم: «تمنح السينما بصفتها وسيلة تسجيل صورة مجازية، تُعرف فيه. كل شيء هو في حدّ ذاته خطاب».
يأخذ المشهد نصوصيّته البصرية من خلال رمزيته، وشهب الرسائل المجازية الفتّاكة، التي لا تفلت من عين المنصت لأي فيلمٍ جدير بأن يكون محط فحص وتحليل وإبداء وإعادة.
حين ترتخي العيون التي رفعتها الأعناق نحو الشاشة الكبيرة، في المكان المظلم تتجه الذات بتفاصيلها نحو رحلةٍ من المعنى. يتحوّل المعنى تبعاً للشرود الذهني بالفيلم، أو التتبع الفكري الحادّ له، أو الاستمتاع البحت بكل مشهد، أو نشدان الرسائل الجسدية أو الشيفرات الوجودية في عمق الفيلم ونصه اللاهب. تأخذ الأفلام أعماقها الفلسفية حين تحرض الذات على خلق شعور تجاه الآفاق التي تعيشها، إشعال سؤالٍ، أو تشغيل فكرة، أو التحفيز على تمرّد، أو الهذيان الذاتي بعد الفيلم، أو سلوك طرق التقليد لبعض رسائله الصغيرة الحادّة كأطراف الدبايس.
تتحوّل العلاقة بالفيلم، بكل الشريط البصري، وبالنصّ الذي سيّلته المكائن التقنية إلى علاقةٍ بين الذات والذات، وليست بين الذات والصورة. تكون كل المعاني المتعثّرة التي لا تدرك من كل الحاضرين، حالة متوقّدة توقظ نيران الأسئلة وتؤجج حرائق كبيرة على ورق القناعات القديمة. رأى «ميرلوبونتي» أن: «الفيلم لا يفكر»، الفيلم ليس كتاباً، إنه أعمق من ذلك، فيه نكتشف آثارنا الذاكرية وقد تجسّدت بمشهدٍ بصري!
تبلغ رسالة الفيلم قوتها – أحياناً – في خيالاتنا الذاهبة بعيداً حين نكون في «ذروة الشرود».

حوار حول الأصولية والأحداث العربية

مقاربات لأسئلة طرحها الأستاذ: عبد الرحمن العصيمي في 2 مايو2012:
 

دبي:
-هل تحسّن الوضع في العالم العربي بعد اكتساح الإسلاميين للانتخابات في عدد كبير من الدول؟

كل نمط أيديولوجي حين يتحرك ويزحف ليكون قابضاً على هيئة الحكم ومدبراً لشكله لن يجر إلا الخراب، وصول الأصوليين إلى السلطة ليس حدثاً جديداً فقد جُرّبوا في السودان سنة 1989 بانقلاب حسن الترابي وعمرالبشير على النظام الديموقراطي في السودان بدعوى أنهم يتعرضون للإقصاء، فجاؤوا بإقصاءٍ مضاعف. تبخّرت كل أحلام الديموقراطية، وأحالوا البلد إلى ما هو عليه الآن، تسببوا في انفصال الجنوب، ومأساة دارفور. وهكذا فعلوا في غزة حين وصلوا إلى الحكم، ولا ننسى نموذج إيران. لهذا فإن مهاجمة ونقد وصول الإسلاميين إلى السلطة ليس تخوفاً سطحياً، بل هو خوف من تكرار تجارب مأساوية جربتها الشعوب، وها هي تعيد انتخاب الأصوليين لكأنها تريد أن تلدغ من ذات الجحر مرةً أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا همّ يذّكرون.



-ما تفسيرك لاتجاه الشعوب العربية لاختيار التيارات الإسلامية؟

الأصوليون استخدموا العاطفة الملتهبة مع الشعوب التي احتجّت على حكامها وأنظمتها، اختفت خطابات أزرار الانترنت وصفحات الفيسبوك، وبقي الصوت الأصولي قوياً في الميادين، يراهن على انتخابه من خلال القصص الغيبية والأحلام، لم تعد الديموقراطية فعلاً مدنياً ذلك أن مناخاتها الدنيوية المطلوبة والضرورية اختفت. أصبحت الشعوب أمام نماذج متطرفة تستخدم الخطاب الزاعق بحثاً عن إقناعٍ وإلحاح يمكّنهم من الوصول إلى قبب البرلمان. وهم-حتى الآن- بجلساتهم البرلمانية تحولوا إلى أيقوناتٍ مضحكة تملأ كراسي البرلمانات بكل سطحية وإفلاسٍ سياسي.

ثم إن آلام الشعوب المقموعة بالطغيان وجدت متنفّسها في الخطاب القاسي الذي ينعش الغائب وينصره على الشاهد، ويجعل السياسة والديموقراطية ضمن عالمٍ افتراضي، بعيداً عن تحديات الواقع ومتطلباتها، من دون أن تطرح أسئلة الدولة، أو مفهوم الديموقراطية، أو واقعية وجود “ثورة” أصلاً، بدليل أن “الغوغائية” لا تزال قائمةً من جموعٍ من العاطلين عن العمل الذين يريدون الحرب على العالم كله، تحت ذريعة “إتمام الثورة” فيخربون ويسخرون من كل العالم. يقعون فرائس لأوهام الزهو الذاتي تحت دعوى مجدٍ أجوف بإسقاط هذا النظام أو ذاك، ولك أن تتخيل مصائر الثورات من دون انقلاب الجيوش، وهذا ما سرّع برحيل مبارك وبن علي، على عكس الجيش العقائدي السوري الذي بطّأ من سقوط النظام حتى الآن.



هل الثورات العربية آتت أكلها ؟ وما هي أبرز سلبيات الثورات برأيك؟

الاحتجاجات العربية هي نشاط على أرض الواقع، هدف إلى إسقاط النظام، ربما من سلبياته تلك الأسطورية المبالغ فيها لبدء الثورات، والتفسير الأحادي لاندلاعها. الاحتجاجات العربية أنشطة اجتماعية على أرض الواقع، ولا أبالغ إن قلت أن سلبيات الاحتجاجات تكمن تحديداً في إيجابياتها المتداولة إعلامياً، قالوا أن من إيجابية الثورة “انعدام القادة”، وهذه كارثة، إذ أصبح كل فردٍ يطالب أن تكون بلده على مزاجه هو، وكل من سخط خرج إلى الميدان.
سلبيات الاحتجاجات أنها سرّبت أوهام التقدم والثورة وأحلامها لدى الشعوب، بينما افتقرت أصلاً للشجاعة المطلوبة لمواجهة أسئلة التقدم. ثغرات الاحتجاجات هي التي مكّنت القاعدة من التمكن في الكيان السياسي الليبي، وهي التي فرشت الطريق للأصوليين من إخوانٍ وسلفيين لأن يتسيّدوا المشهد السياسي، معتمدين على “مظلوميات” تاريخية، وعلى خطابٍ ظاهره المدنية والتقدم، بينما تكمن كوارثه في تفاصيله، لهذا يعيش قادتهم في صفوفهم الأولى، بل وحتى الطرائد الهزيلة على أمجاد الوصول إلى السلطة تحت دعوى بدء مرحلة الانتقال والنور الجديد، وهذا وهم محض، ذلك أن التغيير الذي لا يشتمل على شعارٍ مدنيٍ واحد هو حالة من النكوص، أو ما أسميته في أحد مقالاتي بـ”النكبة الحضارية المضاعفة”.



-نقد متواصل على الإخوان المسلمين لماذا؟ وهل أنت متفائل فيما يخض الأوضاع الفكرية والسياسية في العالم العربي مستقبلاً؟

المشكلة في الأيديولوجيا الأصولية، ولعل البراغماتية التي تتبع من قبل الإخوان المسلمين بكافة فروعها ونسخها وتحديثاتها تحتّم على الباحث أن يفحص آراءهم وأفكارهم. بعضهم طالب بإسقاط الملكيات في إحدى الندوات وحين انتشر تصريحه نفى أن يكون قد تفوّه به، الأمر الذي اضطر مضيفيه أن ينشروا التسجيل على “اليوتيوب” فكُشفت الكذبة، أبان التسجيل عن كلامٍ تضمن الرغبة بالتطبيع مع إسرائيل وضرورة البدء بثورة في بلدانٍ خليجية. فهي جماعة متلوّنة تقول الشيء ونقيضه، استراتيجاتها المعلنة تخفي طموحاتها الباطنة. وكل جماعة أصولية تريد أن تسحب المجتمعات إلى ماضٍ تقليديٍ لا علاقة له بالدين أو المدنية هي جماعة تشكّل خطراً على مستوى سير البشرية واطمئنان الإنسانية.

بخصوص التفاؤل، لا أجد كبير فرقٍ بين عام 2010 وعام 2011 وعام 2012 كلها أعوام متشابهة، الفرق في أنشطة اجتماعية واحتجاجاتٍ في الشوارع، جرّت حتى الآن الكثير من الكوارث والخراب، ذهبت وجوه وجاءت وجوه أخرى، والأحلام الوردية والسنة الرومانسية الماضية لم تربطها إراداتٍ فكرية أو تنموية، بدليل الدروشة المطبقة على الحالة السياسية العربية.