أغسطس 2016

شهود على سنين الانعزال

شهود على سنين الانعزال

فهد بن سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 25 أغسطس 2016

 

«سوريا هي الحلبة التي تتواجه فيها كل القوى بعضها ضد بعض ويكون لذلك عقابيل جيدة أو سيئة في كل أنحاء العالم».. بهذا الاقتباس من المؤرخ توينبي يقدم الاستهلال «شارلز هل» العضو الرفيع بمعهد هوفر لكتاب فؤاد عجمي «التمرّد السوري».

 

صورة عمران وإيلان الكردي، والفوضى الدبلوماسية التي ضارعت الحدث جعلتْه ميدان المتحدثين والمفكرين الكبار في الولايات المتحدة منذ بدئه وحتى اليوم. عجمي انتقد حتى تعب إدارة أوباما باعتبارها «الميؤوس منها»، فمن دون دور أميركي لا يوجد مجتمع دولي، والإضراب عن التدخل في الأزمات التي تعصف بالعالم تهدد النظام العالمي نفسه، استطاع أوباما «الساحر (هوديني)» – بوصف عجمي – إقناع المجتمع الأميركي بالتعب، ولم يتدخل إلا على مضض في ليبيا، لكنه «التدخّل من الخلف» يقول أوباما. بينما المذبحة السورية ليس لها مثيل على الإطلاق منذ مذابح رواندا وكمبوديا ومجزرة سربرنيتسا، ليس دور أميركا أن تكون شرطي العالم، بل أن تقوم بدورها في الحفاظ على النظام العالمي، وهذا لا يتحقق بالانعزاليّة، لقد صغّر أوباما دور أميركا، والكارثة كانت بإرسال الأخضر الإبراهيمي «البعثي القادم من طبقة سياسية غير ناجحة» تلك كانت خلاصة صيحة عجمي المدوية منذ بدء الأزمة السورية وحتى رحيله يائسًا مغتاظًا من الانعزالية الكارثية.

 

على الضفّة الأخرى يأتي خبير آخر مرموق مثل «والي نصر» ليطرح سفرًا باذخًا بعنوان: «الأمة التي يمكن الاستغناء عنها» (العنوان يدحض به جملة لبيل كلينتون استعادها أوباما «أميركا الأمة التي لا يمكن الاستغناء عنها») وليضع شهادته خلال عمله مستشارًا لريتشارد هولبروك في مكتب البعثة الخاصة لأفغانستان وباكستان المعروفة باسم SRAP خصص له طابق بالخارجية الأميركية، يتحدّث نصر مقدّمًا رأيه ورأي هولبروك «عرّاب اتفاقية دايتون» حول إدارة أوباما لملف انسحاب العراق، وموضوع أفغانستان وباكستان وطالبان، وتقييم الموقف الأميركي الذي اتخذ بشتى الدول، ثم يقدّم دروسًا مستفيضة من مجازر البلقان والأدوار الخارقة التي قام بها هولبروك مقارنًا بينها وبين ما يشبه الخضوع أمام الأزمات في العالم وبخاصة بما يتعلق بالحوار مع إيران الذي بدا وكأنه يحمل شكل الخضوع، لكن أوباما لم يلتقِ رئيس البعثة هولبروك بشكلٍ منفردٍ على الإطلاق، كما لم يمنحه ما يلزم من وقته، وهذا يذكّرنا بنكتة فؤاد عجمي أن «كاتب خطابات صغير مثل بنجامين رودز» أهم لدى أوباما من مستشار قومي كبير مثل بريجنسكي.

 

أطروحات والي نصر وفؤاد عجمي وهولبروك كلها تنعى القوة الأميركية التي كانت تخيف المعتدين على السلم الأهلي في كل أنحاء العالم، كانت الحروب التي تصنع السلام هي الأقدر على تحقيق التسويات والتوازنات في النزاعات المسلحة ذات الطابع العرقي أو الديكتاتوري. في أيام البلقان – يورد والي نصر: «تعمد هولبروك إيصال التهديد بالقوة الأميركية للزعيم الصربي المعاند ميلوزوفيتش؛ في أحد الاجتماعات المحبطة خرج هولبروك وانفرد بمستشاره العسكري وطلب منه إرسال قاذفات (بي 52) الثقيلة إلى إحدى القواعد الجوية في بريطانيا وأن يحرص على جعل محطة (سي إن إن) تنقل صور هبوط هذه القاصفات، كانت النتيجة أن حرب البوسنة قد توقفت بعد هذه الحادثة بوقتٍ قصير»، آمن هولبروك في كل الملفات التي تولاها أن القوّة العسكرية الجاهزة دائمًا أهم مما تحويه الجعبة الدبلوماسية، وبهذه الطريقة انتهت حرب فيتنام «لقد استعرت هذه الحروب على مدى عقود، لكنها انتهت واقعيًا على طاولات النقاش». يعزو والي نصر الفشل الدبلوماسي الأميركي في ملفات المنطقة بالإضافة إلى باكستان وأفغانستان لإحالة أوباما ملفات السياسة الخارجية للبنتاغون والسي آي إيه: «ولولا العناد الذي تتحلى به هيلاري والقدرة على فرض شخصيتها لانحدرت الأمور إلى أن تفقد الخارجية أي تأثير لها على الإطلاق. لقد تولى البيت الأبيض معظم الملفات الخارجية، الملف الإيراني والقضايا العربية والإسرائيلية، كلها تدار من البيت الأبيض ولكن الشأن الباكستاني والأفغاني كانا استثناء بسبب سرعة هولبروك في تشكيل بعثة SRAP.

 

كل ذلك يطّرد ويتفق مع شكوى عجمي – في حوارٍ تلفزيوني معه – من الوزير كيري الذي يعتبره مجرد موظف في البيت الأبيض بل لا يستطيع أن يؤسس فكرة لسوريا، ولطالما كال الوزير الثناء لبشار الأسد، تلك كانت ذروة مسببات شعور عجمي باليأس من الخلاص للثورة السورية.

 

الصور تتشابه مع اختلاف الملفات من باكستان وأفغانستان إلى إيران والعراق وصولاً إلى سوريا.

 

شكّلت إمكانية الانسحاب الأميركي من قضايا المنطقة جدلاً واسعًا، هيلاري كلينتون تنافح في مقالة لها في «فورن بوليسي» عن كون الولايات المتحدة يجب أن تتخذ من آسيا اهتمامًا لها بدلاً من الشرق الأوسط، لكن والي نصر والذي عمل معها يرد على هذا الترويج الكارثي والتبديد لمصالح أميركا القومية بالمنطقة. بالنسبة إليه: «إن كنا كأميركيين نرى أن قيادة العالم قد بدأت تفلت من قبضتنا، فإن ذلك ليس عائدًا إلى الخمول الاقتصادي الذي نعاني منه خلال السنوات الأربع الماضية، وإنما سيكون بسبب عدم يقيننا من حقيقة دورنا العالمي في قضايا الكوكب البارزة، لقد دأبت الولايات المتحدة على سلوك مسلك عسكري واتخاذ مقاربة عسكرية في مفاصل سياستها الخارجية الأمر الذي حطّم سمعتنا عند الحلفاء والأصدقاء على حدٍ سواء، والآن أضفت ملامح التضارب والتناقض في طريقتنا لملاحقة مصالحنا الشكوك حول جدارتنا بقيادة العالم»، بينما في أطروحات عجمي نرى نفس الرأي، ذلك أن تخلّي الولايات المتحدة عن الكويت أو البوسنة أو كوسوفو أو أفغانستان والعراق كان سيخلق كارثة. لقد كانت موجة الرأي الأميركي في عهد روزفلت ضد التدخل في الحرب العالمية الثانية لكنه تدخّل وكان قرارًا حاسمًا أثبت جدواه، لكنه يتعجب من ضخّ مفهوم «التعب» لدى المجتمع الأميركي في العهد الأوبامي الموشك على الانتهاء.

 

أولئك خبروا المعلومات الدقيقة لمراحل كانوا ضمنها ومن صميمها ولم يدّعوها، إذ يتحتم على الرؤية الاستراتيجية، والتحليل السياسي، امتلاك معلومات استخباراتية كافية، وهذا ما يندر ويشحّ عربيًا.

 

لقد عرفت المجتمعات العربية والإسلامية الولايات المتحدة بوصفها مساعدة ومساندة منضوية بمصالح مشتركة عميقة، غير أن انسحابها سيؤدي بالمنطقة إلى تجمّع دول شحيحة ثقافيًا ومعنويًا ومافيوية، وليست لديها مصالح شاملة مشتركة مع العرب والمسلمين، ولا تحمل حضاراتٍ حيّة يمكن نشرها بالمعنى الذي تحمله الحضارة الغربية بذروة تجليها بالولايات المتحدة، كما أن القيم الأميركية هي قيم العصر وهي «سستامه» ونظامه.

 

قد تكون الظروف المقبلة أكثر ضراوة مع التغييرات الكبرى وتغيّر الأحلاف، وانتهاء صلاحية بعضها أو قربها من ذلك، أما حين يسود السلوك الانعزالي على السياسة الأميركية المقبلة، وتجاهل ضرورات التدخل، فستأخذ المنطقة طريقها نحو الاضطراب المضاعف. فرق كبير بين القيم التي تحملها الأمة الأميركية العظمى مقارنة بالأخرى الروسية أو الصينية وسواهما من الدمامات التاريخية، إنهم خارج سياق التطلّع أو التشوّف الاجتماعي بالعالم العربي والإسلامي.

 

قبل ردحٍ من السنين قال الفيلسوف بودريار: «أميركا عالم مثالي متكامل، إنها مثل امرأة لا مثيل لها، إنها بلدة سينمائية، إنها نهاية العالم.. إنها الكارثة.. إنها دمار المعنى واختفاؤه».

 

الوثيقة الأميركية.. والسياسات الحربية

الوثيقة الأميركية.. والسياسات الحربية

فهد بن سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 11 أغسطس 2016

 

في الثلاثين من سبتمبر (أيلول) عام 2011 انطلقت طائرة أميركية من دون طّيار متجهة شمال اليمن٬ الهدف سّيارة تعبر طريًقا صحراوًيا وتقّل ستة أشخاص٬ أهمهم: شاب نحيل ذو صوت زاعق٬ ترّبى في أميركا وولد في نيومكسيكو٬ وصفه مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) بأنه «الملهم الروحي» لتنظيم القاعدة (أنور العولقي). مشوارهم القصير الذي أرادوه سريًعا كان هو الحتف٬ تقصف الطائرة هدفها الأهم ثم تعود. تبقي الطائرات من دون طّيار المآوي الإرهابية في العالم تحت الضغط العالي في الحركة والتنّقل٬ وتجعلهم يشعرون دوًما بأنهم أهداف محتملة.

 

في فيلم Terminator The الخيالي لجيمس كاميرون المنتج عام 2008 تدور أحداث متخّيلة لعام ٬2029 تتسّيد الآلات على الإنسان٬ ومن ثم يحاول لجمها أو محاربتها٬ فجأة تبدو آلة دقيقة طائرة بصورتها الباهرة٬ يعلو الصراخ «يا للهول٬ إنها الآلات٬ بدأت تسيطر على العالم».

 

في السادس من أغسطس (آب) الحالي نشر «الاتحاد الأميركي للحريات المدنية» الوثيقة التي تقع في 18 صفحة وتحمل عنوان «تعليمات للسياسة الرئاسية»٬ تنص الوثيقة على أن «أي إجراءات٬ بما فيها المتعلقة بأهداف إرهابية محددة٬ يجب أن تكون انتقائية ودقيقة قدر الإمكان». نقاش كبير يجري حول دور الطائرات العسكري ومدى ارتباطها بالمخاطر على المدنيين٬ كما يمتّد الجدل إلى موضوعات تتعلق بالقيم والأساليب التي يمكن أن يواجه بها الإرهاب٬ بينما تصّر الولايات المتحدة على جدوى هذه الطائرات بوصفها الأكثر براعة ونجاًحا وأمًنا في ملاحقة المتطرفين في كل أنحاء العالم٬ عشرة آلاف طائرة أميركية استطاعت قتل 70 في المائة من الإرهابيين في مختلف أصقاع الأرض.

 

لدى مايكل بويل٬ وهو المتخصص بمجال العنف السياسي والإرهاب٬ أطروحة مهمة بعنوان: «تكاليف حرب الطائرات من دون طّيار ونتائجها» يناقش فيها مستوى الفعالية لهذه الآلة بالحرب على الإرهاب٬ فعلى سبيل المثال هذه الطائرات جعلت مناطق مثل المناطق القبلية الخاضعة للإدارة الاتحادية في باكستان غير آمنة٬ وبسببها تقلّص مستوى اللوذ بها من قبل الإرهابيين٬ وفي نتيجة بحثه يعتبر «الفرصة التي أتيحت للرئيس أوباما في فترة ولايته الثانية فرصة لقلب الاتجاه وإحلال سياسة جديدة للطائرات من دون طيار تخفف من هذه التكاليف٬ وتتفادى بعض العواقب الطويلة الأمد الناجمة عنها. إن من شأن منهٍج أميركي معقول أن يفرض بعض القيود على استخدامها من أجل الحد من التكاليف السياسية والعواقب الاستراتيجية طويلة الأمد». خطوة واحدة يراها الباحث ضرورية تتمّثل في استخدام هذه الطائرات لضرب الشخصيات القيادية والعملّياتية٬ مع تقليل ضرب الجنود المشاة أو إلغائه.

 

بالطبع ذلك الجدل حيوي ومرن في الأوساط البحثية الأميركية٬ والوثيقة التي كشفت مؤخًرا توّضح مستوى حضوره. لا خلاف على ضرورة قتل أي إرهابي في العالم ضمن أي وسيلة معّينة لا تضر بالمدنيين٬ الفكرة الأساسية هنا كيف يمكن للولايات المتحدة بعد تجربتها الطويلة مع هذه الطائرات سواء في حروبها الدولية أو حربها على الإرهاب أن تحّسن من مستوى استخدام هذه التقنية التي تتنافس الدول على اقتنائها٬ إذ بلغ عدد الدول المتطلّعة لامتلاك هذه التقنية أكثر من 76 دولة في عام .2012

 

ثمة طرح آخر يتناول إمكانية وصول هذه التقنية إلى أيدي الإرهابيين٬ يقول ربيع يحيى في كتابه المهم «الطائرات من دون طّيار.. الهيمنة الأميركية الإسرائيلية والقوى الصاعدة»: «تتطلّع التنظيمات الإرهابية إلى امتلاكها لغرض استهداف مناطق مكتّظة بالسكان٬ أو تجّمعات جماهيرية٬ خاصة في المدن وفي ساعات الذروة٬ وهو ما يحقق هدفين للتنظيمات المتطّرفة؛ أولهما: سقوط عدد كبير من الضحايا٬ وثانيهما: نشر حالة الذعر والفوضى».

 

تحقق الطائرات فعالية لا يمكن لآلة أخرى أن تقوم بها في الحرب على الإرهاب٬ فقد استخدمتها الولايات المتحدة في أفغانستان٬ والعراق٬ وباكستان٬ واليمن٬ والصومال٬ وليبيا٬ وقطاع غزة٬ وقد استثمرت أكثر من 4.1 مليار دولار في تطوير قاعدة كامب ليمونييه في جيبوتي٬ وذلك لاستخدامها منطلًقا للطائرات من دون طيار٬ وتشير الأرقام إلى مقتل ثلاثة آلاف شخص بهذه الطائرات فقط خلال العقد الماضي. مهام الاستطلاع والتعقب ومطاردة المطلوبين اللائذين إلى مناطق فوضوية أو غير مستقرة ومدججة بالمدنيين لا تزال أساس الفعالية التي على أساسها تطّور الدول الأوروبية وإسرائيل والولايات المتحدة هذه الطائرات٬ ومع التطوير العسكري والتقني يتصاعد النقاش حول الحدود والأخلاقيات المرتبطة بها٬ وأسس قواعد الاشتباك المسموح بها٬ والتاريخ يحّدثنا عن دور سقوط طائرة من دون طّيار داخل إيران في تطوير الأخيرة لهذا السلاح٬ والتمدد الذي تتخذه الطائرة في العالم يمكنه أن يصل يوًما ما إلى أيدي الإرهابيين٬ وقد يكون مستوى الاعتماد عليها كلًيا في مناطق النزاع مرتبطا بتطّورها التقني الذي يقلل من أخطار سقوطها٬ ذلك أن مستوى الذكاء في حركة الطائرة لا يزال غير عاٍل٬ بحسب المتخصصين٬ ويمكن أن تطّور تكنولوجًيا لتتخذ من بعد قراراتها بنفسها٬ وهذه المشاريع ممولة أميركًيا لتطوير فعاليتها وذكائها.

 

لا يمكن نقاش مدى أخلاقية ملاحقة الإرهابيين عبر هذه التقنية٬ هذا لا يناقشه أحد تقريًبا٬ بل الصراع على مدى الدقة التي تصيبها وحول أرقام الضحايا المدنيين٬ الوثيقة الأميركية.. والسياسات الحربية، وضرورة وضع قوانين وقواعد ينبغي على الحكومة اتباعها عند تنفيذ هجمات ضد أهداف محددة.

 

تلعب الطائرات هذه دورها في جعل العالم أكثر أمًنا٬ سيتطّور قانونها وذكاؤها٬ لكنها بلا شك العدّو الأبرز للإرهاب في كل أنحاء العالم.

 

الخطاب الديني وسجالات التجديد

الخطاب الديني وسجالات التجديد

فهد بن سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 28 يوليو 2016

 

ضمن برنامج «حوار العمر»٬ أجرت جيزيل خوري٬ عام1999ندوًة تلفزيونّية جمعت كلاً من نصر حامد أبو زيد٬ ورضوان السيد٬ وعلي حرب. أبو زيد كان مهموًما بالمشكلات التي تعتري الخطاب الديني منذ أوائل التسعينات الميلادية٬ وقد تسببت أعماله بسيٍل من المداخلات والبحوث والكتب النقدية٬ وكان علي حرب من أهم نّقاده. في مداخلته٬ تحّدث حرب عن مشكلة طرح أبو زيد٬ معتبًرا إياه «داعيًة ومبشًرا»٬ ثم يستدرك: «أبو زيد يريد أن يغّير من فهم الناس للإسلام٬ وهذا أمر مستحيل».

 

بالطبع هنا ينطلق علي حرب من أرضيته التي دافع عنها منذ بدايات كتاباته النقدية٬ وهي أرضية تعتمد على الإفادة والتداخل مع فلسفات الاختلاف والحداثة البعدية٬ وهو من المفّكرين الكبار في هذا المجال٬ انطلق من مفاهيم الاختلاف بوصفها الحداثة الصاعدة الناعية للحداثة الكلاسيكية٬ لا ترى مثلاً في تغيير فهم الأديان مشروًعا مهًما٬ ذلك أن الثقافات التي تحملها الشعوب٬ والأديان بكل محتوياتها٬ هي فضاء خاص للمؤمنين بها٬ ولا معنى لوضع مركزّية محددة٬ بل تتساءل عن سبب كون الإرث الفرنسي أهم من الإرث البرازيلي أو الإندونيسي… وهكذا.

 

وبالتالي٬ الدين ليس من اهتمامات الحداثة البعدية بوصفه معياًرا للحقيقة٬ أو ميداًنا للدخول إلى التنوير. من هنا كان الخلاف بين وجهتي النظر العربّيتين نصر من جهة٬ وحرب من جهٍة أخرى٬ نظرة ترى إمكان إيجاد قراءات أخرى تتواءم مع العصر٬ ونظرة أخرى لا ترى أهمية للمثقف الشامل المسؤول عن الخراب والدمار٬ والمهووس بذاته وبالحقائق الخشبية التي يحملها.

 

سيأخذ فضاء ذلك النقاش حّيزه٬ لكن ضمن مناٍخ آخر٬ عبر ندوة نقاشّية أخرى بين جاك دريدا وجياني فاتيمو٬ طبع النقاش بكتاٍب تحت عنوان «الدين في عالمنا».

 

دريدا بمعول التجاوز الصارم لثنائية الحق والباطل٬ النور والظلام٬ المركز والهامش٬ يحرس عدم منهجيته الضرورية عبر فحص واختبار وفضح المنهجيات الأخرى٬ فهو يتحّدث: «لنتذّكر أيًضا بما اعتبره مؤقًتا عن حٍق أو باطل أمًرا بدهًيا٬ كيفما كانت العلاقة التي تربطنا بالدين٬ هذا الدين أو ذاك٬ فإننا لسنا رجال دين تابعين لمؤسسة كهنوتية٬ ولا نخبة من التيولوجيين.. كما أننا لسنا أعداء للدين بالمعنى الذي يمكن أن يكونه بعض فلاسفة الأنوار». هذا نمط متجاوز من الفهم التقليدي لمكان البحث في المجال الديني داخل التحليل الفلسفي٬ بل يأخذ فضاءه٬ وكل ما يحمله من مكّونات هو ملك المؤمنين٬ ثم يراجع دريدا دراسة كانط للدين والعقل.

 

هنا الفكرة الأساسية أن الدين في الحالة الحداثية البعدية لم يعد موضوًعا مركزًيا يعنى به الفيلسوف كما عني به فيورباخ وكانط وهيغل ونيشته٬ بل بات من ضمن ما تجاوزت الحداثة البعدية الاهتمام به. لهذا جاءت إجابة علي حرب على مشروع نصر أبو زيد٬ ومفادها إذا أردت تغيير الخطاب الديني الإسلامي٬ فإنك ستأتي بخطاٍب ديني آخر٬ وأنت هنا بالطريقة الفكرية والبحثية تقوم بعمٍل دعوي تبشيري بديل مضاد لخطاٍب تبشيري آخر.

 

لكن مع التصاعد الخطير للفكر الإرهابي منذ أواخر التسعينات٬ الذي بلغ ذروته مع أحداث 11 سبتمبر٬ أصبح الحديث عن الإسلام والخطاب الديني أساسًيا في الندوات الفلسفية والأبحاث والدراسات. وجاك دريدا نفسه تحّدث عن الإرهاب ومفاهيمه المجاورة من خلال ندواٍت٬ كما في حواره المشترك مع هابرماس٬ وفي كتابه عن أحداث 11سبتمبر٬ أو بعموم حواراته٬ وهو نموذج لفيلسوف عاش التجربتين٬ ذروة المنهاج التفكيكي المتجاوز للثنائيات والحقائق٬ ليصل بعد الألفية الجديدة لنمٍط من التناول الضروري لما يريد الناس فهم معناه ودهاليزه وفضاءاته٬ وكانت حينها الحداثة البعدية بموضتها الفاقعة تتلاشى لصالح مناهج أكثر تعبيًرا عن أزمات الإنسان في عصره.

 

لا يمكن الشعور بالترف ونحن نبحث عن الأسس المبتغاة لصناعة رؤية حول الإرهاب في عالم اليوم٬ وهو إرهاب متداخل كما تعكس بعض الأحداث الأخيرة٬ ثمة جاذبية من نوٍع خاص نحو القيام بأعمال نوعية غير مقلّدة٬ من نوٍع خاص وجديد٬ إرهاب معظمه يتضمن مرجعيًة دينية معينة٬ بينما حملت الأخبار بعض المصابين بأمراض نفسية أو عصبية معينة٬ أخذ الإرهاب سمة عصره٬ كأنما العملّية الإرهابية الحديثة تضع بصمتها الخاصة بين المنتجين الآخرين للإرهاب٬ بما يشبه التنافس بين مصانع الكولا والمطاعم السريعة العالمية٬ تنافس محموم على تجاوز التقليدية في التنفيذ٬ هناك صورة مختلفة بين الحدث والآخر٬ من حادث نيس الإرهابي بباريس إلى جريمة ميونيخ٬ نحن أمام صور مختلفة بين مشهديٍة وأخرى٬ والقادم قد يكون أخطر وأكثر خروًجا عن التقليدية في الضربات القاصمة التي توجه نحو المدنيين في العالم.

 

لم يعد نقاش موضوع التغيير للأفكار ضرًبا من الترف٬ بل من أهم الموضوعات الراهنة. نصر أبو زيد تمّسك بما يصفه علي حرب بالدعوة والتبشير إلى آخر حياته٬ بينما استمر علي حرب معارًضا لهذا التوجه الثقافي النخبوي المتمسك بالحقيقة٬ واعتبر القراءة ليست شرًطا أن تكون للنصوص المعينة٬ أو الحدث السياسي٬ بل قد ينشغل الكاتب بقراءة هجمٍة لكرة القدم٬ وليس سًرا أنه بارع بأخبار رياضة التنس ­ كتب مقالًة عنها في مجلة «المجلة» قبل اثني عشر عاًما ­ ولعبة التنس كانت من صميم اهتمام فيلسوف ما بعد حداثي آخر هو ميشيل فوكو.

بين نصر وعلي حرب مسار ثقافي عشناه٬ ولكن هل نجح أٌي من المشروعين؟ وهل نجا من التبشير أٌي منهما؟!

 

طارق رمضان.. وبؤس التحليل السياسي

طارق رمضان.. وبؤس التحليل السياسي

فهد بن سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 14 يوليو 2016

 

بعد الانفجار الآثم بجوار الحرم النبوي تبدّت بعض الوجوه، وعلت أصوات استطاعت خداع الإعلام الأوروبي باسم التسامح، ودعوى انتهاج الفلسفة في التفكير، ووضع الحقوق الإنسانية في الحسبان. طارق رمضان، حفيد حسن البنا، وابن سعيد رمضان سكرتير البنا، والده من أوائل المؤسسين للعمل الإسلامي السياسي في أوروبا، لهج طارق بالإدانة للسعودية محمّلاً إياها وزر التفجير، بالطبع صدم فقط الذين لا يعرفونه جيدا، ومستوى خطابه المراوغ ذي المرجعية الراديكالية، وقد كتبتُ في هذه الصحيفة مادتين عنه في 3 و17 مارس (آذار) من العام الحالي.

 

النبرة الخطابية والصيغ اللغوية والأدوات المحتالة الفكرية التي يستخدمها رمضان هي نفسها المدوّرة في المعاجم والقواميس الإخوانية، ولم يغادر أرضية هذا التنظيم، وآية ذلك أن الكتب التي ألّفها والحوارات التي أجراها لم يتفوّه بها بكلمة حول النهج السياسي الحديث، وموقفه من الدولة الأوروبية بكل حمولتها المفاهيمية، بل يكشف باستمرار عن تقاطعات، ويذهب بعيدا في سبق الأدبيات التي يتمثلها للغرب بقرون في التشريعات والقوانين، لكنه لا يؤسس لمعنى دنيوي في أي تعاط للواقع الاجتماعي، ومستوى الدنيوية في الواقع.

 

إنه نسخة محدثة من جده، مع إغراق في الإساءة إلى الممالك النفطية كما يسميها، وفجاجة بكراهية الخليج، وإدانة للسلفية «الحرفية» كما يسميها، من دون أي مساس بالنظام الإيراني الراديكالي سبب الإرهاب الدولي والعالمي، ومن دون وضع أي مشرط على الخطاب الإخواني، وكلما حوصر بأسئلة حول الرؤية السياسية لديه ومن يتبعه، يهرب إلى إدانة السلفية الحرفية، وذوي التوجه «الإسلامي الساذج» كما يعبّر. ولأن الإعلام الأوروبي سخي بالألقاب؛ فهو يقدم باسم «الفيلسوف» ويطرح آراءه بإزاء مفكرين كبار، كما في كتاب «خطورة الأفكار» الذي تضمّن حوارا مشتركا بين طارق رمضان وإدغار موران. والحقيقة من قرأ الكتاب يشعر بالخذلان والبون الشاسع بين العقلين والفكرين والمنهاجين، بين فيلسوف بارع مثل موران له إسهاماته الجلية، وبين منطق طارق رمضان العادي، والكلام الإنشائي، والحديث العاطفي عن السلام المنشود، وادعاء وجود مشروع سياسي حقيقي لديه، ويستخدم أسماء فلاسفة ومفكرين باقتباسات مدرسية من دون فهم جذري للنظرية الفلسفية التي يقدمها، وهذا انعكس على توجهه التحليلي؛ إذ يبادر بالهجوم على دول الاعتدال، وعلى رأسها السعودية، لكنه يجبن عن توجيه النقد الحقيقي المباشر للجماعات الراديكالية، وبخاصة بعد التفجيرات التي طالت أوروبا من باريس إلى بروكسل، لكنه ينشغل بمسائل الأغذية وتيارات اليمين، والأطروحات العلمانية.

 

قد يجهل وينسى رمضان أمورا كثيرة، لكنه لم يغادر القاعدة الإخوانية الأصلية، فهو وريث بيت إخواني عريق، ويتوقّى سهام الإعلام الأوروبي من خلال مزايدته اللفظية على المسلم غير المسيّس ممن يطلق عليه هو «الإسلام الحرفي»، وفي الكتاب إياه «خطورة الأفكار» يكتب: «العلاقات جيدة مع الملكيات النفطية، وهناك نوع من الحفاظ على الصورة السلبية للإسلام، والتي تطرح إشكالية حقيقية… الأميركيون والصينيون، ليس لديهم مشاكل مع الملكيات النفطية ما دامت تحافظ على مصالحهم، ومن ناحية أخرى هناك صفقات يعقدونها مع هؤلاء (الإسلاميين الرأسماليين) المحافظين للغاية». ص:196.

 

هذا النص الممل يحمل ذروة البؤس في التحليل الفكري؛ ذلك أن الملكيات العربية، وبخاصة الملكيات النفطية، ساهمت في رفع مستويات التعليم والكفاءة البشرية وتحسين مستوى الطبابة، ودعم المشروعات واحتواء العمالة، وعلى المستوى السياسي استطاعت أن تؤسس لتعامل سياسي معتدل، والمحاور الملكية العربية هي الأكثر قدرةً على إدارة الأزمات وتجاوزها، لم يستطع رمضان أن يتجاوز الكلام المستهلك القديم الشائع في السبعينات الميلادية حول النفط وآثاره الثقافية والاجتماعية من الأطروحات، التي يدعي انتقادها، مثل التيارات الماركسية العربية، وهو يغرق حتى أذنيه في بؤس النظرة للنفط والدول المعتدلة التي تساهم في رفع مستوى حياة البشرية وجودتها على هذا الكوكب.

 

قدرة رمضان على ليّ الكلمات في الإعلام الأوروبي لم تمنحه الوهج العربي الذي يرغبه، وحين يلقي محاضراتٍ في المنطقة لا تتجاوز رؤيته أي كتيّب إخواني آخر، مع تجديد في العبارات واستخدامٍ اتباعي لا إبداعي في بعض الأدوات. السعودية أهم دولة تحارب الإرهاب في المنطقة وهي شريك استراتيجي لأوروبا وحلف الناتو والولايات المتحدة في الحرب عليه، وقد استطاعت القوى العربية أن تحرس مصر من براثن الإرهاب بعد أن استبدّ بها الحزب الإخواني الواحد، وبسواعد أهلها نهضت مصر من كبوتها، واستطاعت أن تكون قريبة من محورها الطبيعي محور الاعتدال، وتطوير الجيرة المصرية الخليجية، ربما لهذه الأسباب دوّخت الضربات العدلية على الثغرات الفكرية السائبة المتمسحّة بلبوس الدين بعض المحللين ومنهم طارق رمضان، وقد يصحّ في صورة التجنّي تلك قول أبي فراس الحمداني:

 

أنا الجارُ لا زادي بطيءٌ عليهمُ

 وَلا دُونَ مَالي لِلْحَوَادِثِ بَابُ

 بَني عَمِّنا لا تُنكِروا الحَقَّ إِنَّنا

 شِدادٌ عَلى غَيرِ الهَوانِ صِلابُ