أغسطس 2012

غرائز الفلاسفة… ونعرات المثقفين

 

 

غرائز الفلاسفة… ونعرات المثقفين

فهد بن سليمان الشقيران

جريدة الحياة ٢٧ أغسطس ٢٠١٢

 

 

 (ألتوسير)

امتاز الإنتاج الفلسفي الأوروبي بأنماطٍ فريدة، تسبب النضج العلمي والمعرفي بتسهيل المهمة لتجاوز الأمراض التي تأتي عادةً لدى البعض من دخن النفس وعطب الذات… التأليف المشترك كان سائداً، ومع طغيانِ اسم أحد المؤلفين على الآخر غير أن المشروع يصل بكل قوته إلى عيون القارئين. يعزو الناس حين ينقلون من كتاب «ما هي الفلسفة» النص إلى «جيل دلوز» وحده، وكأن فيليكس غيتاري لم يكن شريكاً في التأليف. وحتى نحن نتورط بهذا العزو الأحادي لمؤلفٍ واحد، مع أن الفيلسوف الفرنسي جيل دلوز يعتز كثيراً بمشاركة المحلل النفسي غيتاري له في كتابه الأكثر تأثيراً «ما هي الفلسفة»، ويعتبره شريكاً له في نحت رؤيته، ولم يجد غضاضةً في ذلك.

 

كما أن الدراسات العميقة لفلاسفةٍ عاصر بعضهم البعض كانت سائدة، كذلك فعل فوكو مع دلوز، ودلوز مع فوكو، تترابط ذواتهم ضمن وحدة مشروعهم، حتى أن فوكو في قراءةٍ له لدلوز رأى أن العصر المقبل سيكون «عصراً دلوزياً بامتياز». وحين مات ألتوسير كتب جاك دريدا: «العالم غير مناسب – قراءة في غياب ألتوسير»، هذا الانفتاح بين الفلاسفة والنقاد في فرنسا تحديداً على اعتبار أن كل من استشهدت بهم من قبل من الفلاسفة الفرنسيين لا تجد له مثيلاً في بعض البلدان التي لم تتجاوز أدوات القبيلة في التعاطي الثقافي والمعرفي.

 

هناك حروب داحس والغبراء، وبعض المعارك التي ترى فيها الجيوش الجرارة، وتسمع الصهيل والفحيح، لكن نحو لا شيء، ويتعاركون على فتات الموائد وصغير الطموحات وسفاسف الأمور وسفالات النزوات.

 

حين ألّف دلوز مع غيتاري «ما هي الفلسفة» كان التأليف مشتركاً بمعنى الكلمة، غابت نصوصهما مع بعضها البعض، حتى غدا كلّ نصٍ مشتركاً بينهما، وليست على طريقة التأليف المعتادة أن يكون الكتاب مقسوماً إلى قسمين مثلاً.

 

نماذج التأليف هذه تدل على وجود ما يمكن تسميته بـ«النسك المعرفي»، كان غيتاري يعرف أن جيل دلوز أشهر صيتاً، وأن اسمه سيكون ثانياً، لكنها الشراكة المعرفية الفذّة التي تعالت بممارسيها عن الحماقات التي تمارس يومياً، وما أصعب النجاة بالنفس من الحماقات المشتركة بين الناس، إنها تحتاج إلى قوة هؤلاء الفلاسفة الأفذاذ الذين كلما قرأ الإنسان سيرتهم شعر بمسافةٍ سلوكيةٍ هائلةٍ تجاوزوا بها الترهات. هذه النماذج لا تعني أن الفلاسفة وأهل الثقافة في أوروبا أبرياء من دنس النفوس، فهناك موسوعات فلسفية أشعلت خصومات بين مؤلفيها، وهناك تآليف مشتركة فضّت، وهناك حروب وفضائح بينهم مثل الذي جرى بين هيغل وشبنهور. غير أنني أسحب الجانب المضيء الذي نأمل أن نكون ضمنه.

 

لو قرأنا بعض السجالات بين المثقفين العرب لأدركنا صعوبة إيجاد صيغة التقاء مشتركة، فضلاً عن شيوع الاشتراك في التآليف، خذ مثلاً: فؤاد زكريا يأخذ على عبدالرحمن بدوي أنه يغلق الباب بعنف حينما ينزل من السيارة، وهذا بدوي يصف العقاد بـالتافه الذي لا يقرأ له أحد ولا يشتري كتبه أحد، وأركون – بحسب ما يروي سعيد اللاوندي – يقول لا أخفيك أن بدوي كريه، والجابري وصف طرابيشي بـالمسيحي الذي لا يحق له نقد التراث الإسلامي، ومصطفى أمين حين رأى صورة توفيق الحكيم بجوار حمار قال: اختبر ذكاءك، أيهما توفيق الحكيم، والعقاد يقول: لا أقرأ لبدوي، لا أحتاج إلى قراءة إنسانٍ أعرج، هذا مع أن بدوي لم يكن أعرجاً.

 

هذه الصورة أيضاً ليست صورة – كل – الثقافة العربية لكنها وجه من آثار التعالق بين المثقف وبيئته، وتنبئ العبارات عن استحالة شيوع التعاون المعرفي بمعناه الكلي.

 

الأكيد أننا بحاجة إلى إعادة صيغ التداول الثقافي والمعرفي الذي يعشش ضمن وسطٍ موبوء ومريض.

 

 

 

 

 

الموضة… وصراعات المستهلكين «الرمزية»

الموضة… وصراعات المستهلكين «الرمزية»

فهد بن سليمان الشقيران

جريدة الحياة ٢٠ أغسطس  2012

(بيير كاردان مصمم أخذت أعماله حيزاً من تحليلات بورديو)

كلما تجددت الصراعات داخل المجتمع أنتجت ترسانةً من الأفكار والتحليلات والتأويلات، والصراعات تطلق الموضة داخل المجتمع كالرصاصة ثم تتقبّلها جيوش البشر بنفوسٍ مطمئنةٍ، ليزداد مستوى التمايز، وهذه إحدى الحالات التي جدّدتها نماذج رأس المال، وهذا هو التوصيف لها وليس التبرير أو التحذير… والموضة في المجتمع تخلق مجموعةً من الصراعات الرمزية بين المستهلكين، الحرص على إبراز توقيعات الماركة أو اسمها أو رمزها، مثل إطلاق سلاحٍ لإثبات الذات، أو الإعلان عن الحضور، لهذا ليس مستغرباً أن تكون حالات الاستهلاك الوقتي لمنتجات الموضة ضمن البحوث والتحليلات الفلسفية، فضلاً عن إخضاعها للقراءة السوسيولوجية التي نشطت في فرنسا في القرن الماضي.

من بين من حضرت الماركة والموضة والأزياء في تحليلاته الفلسفية أو السوسيولوجية «بيار بورديو»، الذي كان قد أعلن في 1976 فشل مصمم الأزياء الفرنسي بيير كاردان حين أراد أن ينقل إلى بيوت الثقافة الراقية رأسمالٍ متراكماً داخل دور الأزياء العالمية.

إن مُنْتَج الموضة ليس وسيلةً غرَضية يُستعان به على ستر الجسد، أو حماية الرجلين، أو ارتداء الساعة لضبط الوقت، أخذ المنتج أهدافه الغامضة والواضحة، ذلك أنه وبالتحالف مع «الإلحاح الإعلاني» تمكّن بشراسةٍ من قلب المجتمع وترميزه. وإذا كانت الحروب الدموية التي عصفت بالعالم خلال القرون الماضية قد استبدلت بالحروب الرمزية في الرياضة والسينما، فإن الموضة تكون – أحياناً – هي البديل عن الانتقاص اللفظي للآخر من الطبقةِ الأقل المجرّم قانوناً، من هنا تأتي الموضة بكل جمالها وسحرها كبديلٍ أخلاقي للفرز الطبقي الاجتماعي العلني الذي يلقى مُطلقه لغوياً أحكاماً قضائية صارمة.

وبالعودة إلى «بورديو» فإنه حين كتب في 1974 بحثه: «دور الأزياء والثقافة» حذّر من أن يُقْرأ هذا البحث على أنه «مزحة»، بل ورأى أن: «الموضة موضوع ذو حظوةٍ كبيرةٍ في التقليد السوسيولوجي». وينطلق من درس «بارمنيدس» القديم، إذ: «ينصّ على أن هناك أفكاراً لكل الأشياء، ومن ضمنها القذارة وشعر الجسم لم يحظ إلا قليلاً باهتمام الفلاسفة».

الأفكار الكامنة في الظواهر والأشياء هي التي ترصد من الناقد والملاحظ والقارئ للمجتمع. والموضة بكل سطوتها وسلطانها الرمزي الأكثر حضوراً في الصراعات الرمزية بين المجتمع، وهو صراع غلافه جماليّ على عكس الصراعات الرمزية التي تطلق من سلاح الهوية أو منطق العرق، أو استئصالية السلاح، كما أن الموضة في بعض وجوهها هي «ذوقٌ رفيع» حين تناقش خارج حقل السلعية المالية والاستهلاكيّة الاجتماعية، ويربط بورديو بين: «تماثل البنية بين حقل إنتاج هذه الفئة الخاصة من سلع الترف أي سلع الموضة وحقل إنتاج الفئة الأخرى من سلع الترف هذه ألا وهي السلع الثقافية الشرعية مثل الموسيقى والشعر والفلسفة، وهذا يقود إلى الحديث عن دور الثقافة الرفيعة».

بقدر ما تكون الموضة حقلاً يضم الكثير من التناقضات والمفاعيل الطارئة والأصلية في المجتمع، بقدر ما تؤسس لشبكةٍ من العلاقات بين أفراد المجتمع وبين الأذواق والخيارات التي يطلبها الناس في حياتهم ويومياتهم، ولم تسلم الفلسفة من سمة الموضة، بل إن الاتجاهات الفلسفية التي أعقبت النظريات الكليّة، بدءاً بالوجودية ومن ثم البنيوية، وصولاً إلى فلسفات الاختلاف، ونقض المعنى، وتفكيك النظرية، ونقد النقد، واستبدال المركز بظلّه، كل تلك الموجات قرنت بموضات أو وصفت بأنها موضات، حتى أن الجيل الوجودي الشاب في فرنسا آنذاك أطلق ترسانة من المطالبات والأشكال والألوان التي تُرتدى في المقاهي والطرقات.

تفرّعت الموضة عن موضات استبدل «الذوق الرفيع» بالاستهلاك المحض، ونزعت الماركة من تاريخها وصاحبها، لتكون ضمن مصانع ووكالات تدير هذا التوقيع وتخضعه للإعادة والتدوير.

فقدت الموضة قوتها في تكوين شبكة من العلاقات الجديدة ومن تطوير الذوق الاجتماعي الجمالي العام.

 

عن هيغل… والثورة… والإرهاب

عن هيغل… والثورة… والإرهاب

فهد سليمان الشقيران

جريدة الحياة 13 أغسطس 2012

 

لا تأخذ الأحداث قيمتها إن لم تكن منجماً لإنتاج المعاني، والحدث ليس مهماً أن نكون معه، وإنما المهم أن نقوم بمساءلته وفحصه وتشريحه. يمكننا أن نكون معه لنكون ضده. وباستعراض الأحداث الأوروبية نجد أن لكل حالةٍ نقّادها، دائماً تحتاج المجتمعات لا إلى الشاعر أو الخطيب الذي يهيّج الجميع ويحرضهم على النزال ويكون ضمن الحدث، بل تحتاج إلى الواقف هناك بصمت يرقب المشهد ويدوّن الملاحظات ويصنع الأسئلة. الحدَث الكبير ينتج أسئلته كما يفتح كوى على جدُر الأجوبة، ويصنع الحلول كما يؤدي إلى المآزق، هذه طبيعة الحدَث الذي يمسّ المجتمع أو جزءاً منه، والأحداث العربية الحالية تأتي ضمن هذا السياق.

حتى الثورة الفرنسية 1789، فكما صنعت لها من انساق كليّاً معها، فقد أنتجت لها نقّادها، وعلى رأسهم هيغل، الذي انتقد الإرهاب الذي يمارس عقب الثورة، وانتقد حالات التدمير التي تسببت بها، يكتب هيغل في محاضراته عن تاريخ الفلسفة عن معضلاتٍ شابت الثورة، وعن دمار تسببت به، كما ينتقد «الإرهاب» الذي أعقبها، ويضيف هيغل: «الإصلاح الاجتماعي والسياسي لابد أن يبدأ من أرض الواقع بحيث يحلل ما هو قائم ويستخرج منه العناصر العقلية فيدعمها، والعناصر «اللاعقلية» فيعمل على نقدها وتفنيدها وإصلاحها، إن الإنسان يستطيع أن ينقذ الدولة التي يعيش فيها، لكنه لا يمكن أن يصل أبداً إلى رفضها تماماً أو نبذها كليةً».

أثّرت الثورة الفرنسية بمعظم نتاج «هيغل» وهذه قيمته حين تناولها بمعاول الأسئلة، وهو حين كان في فورة شبابه انساق عاطفياً وراء الثورة، قبل أن يعلن خيبة أمله منها بعد التدمير الذي تسببت به، بل يصف تلك المرحلة بأنها «أكثر السنوات تثقيفاً» لما ضخّته من أسئلة جارفة حول السياسة والقانون والمجتمع والدين، وفتح أسئلة الدولة وتكوينها في «أصول فلسفة الحق»، معنى الحدث أن يكون موضعاً لإنتاج المعاني وتكرير الأسئلة، والثورة الفرنسية كما أنتجت شعاراتها فقد أنتجت أعطالها، والنمط الذي انتهت إليه جاء من النواة الثقافية الأساسية الغائرة في خليّة المجتمع الأوروبي الذي يستطيع أن ينقذ نفسه باستمرار كما يعبر «ماكس فيبر».

راح «هيغل» يفتش عن المفاهيم التي عطّلت الثورة الفرنسية وأجّلت تحقيق شعاراتها، ليجد ضحيته في «روسو» محمّلاً إياه مسؤولية الإرهاب الثوري بسبب تفسيره للإرادة على أنها «صورة محددة بإرادةٍ فردية»، ولأنه فسّر الإرادة الكليّة لا على أنها عنصر عقلي بل فقط كإرادة عامةٍ تصدر عن الإرادة الفردية، كما تصدر عن إرادةٍ واعية، رأى هيغل أن هذه الإرادة الفردية تؤسس للسلوكيات التعسّفية، وهذا ما انتقده أحد أشرس نقّاد هيغل، وأعني به الفيلسوف الإنكليزي كارل بوبر في كتابه «المجتمع المفتوح وأعداؤه»، بل وانتقد بوبر أفلاطون من قبل حين ماثل بين الأنانية والفردانية قائلاً: «المجموعة يمكن أن تكون أنانيةً والفرد غيرياً، بل يمكننا القول إلى حدٍ ما إن الآخرية تفترض الفردانية». حملة هيغل على لوك كانت جنايةً على الإرادة الفردية بحثاً عن تحقيق الإرادة الكلية.

فضيلة الحدث الكبرى أن يحقق للبشرية واقعاً أفضل، كان يمكن أن تتحوّل الأحداث بكل حمولتها إلى وسائل للوصول إلى واقعٍ أكثر نمواً، ربما يكرر البعض ما ردده هيغل في شبابه أن الإرهاب جزء من الثورة، غير أن المعنى الليبرالي للتغيير الذي يطرحه بوبر يبدأ من «محاربة الإكراهات»، ذلك أن السعادة الاجتماعية لا تشترط الوسائل السياسية بل: «علينا أن نعمل بالنسبة لكل جيلٍ تقريباً على أن تصبح الحياة شيئاً ما أقل خطراً وجوراً».

مع حال «طلبنة» المجتمعات التي تأتي بها التيارات الأصولية الثاوية في سكناها بقرونٍ تاريخية بادت لا يمكننا أن نرى شعلة نورٍ في كل هذه الكهوف التي تساق إليها المجتمعات بسياط الثورات.

النكبة الأصولية الكارثية

النكبة الأصولية الكارثية

فهد سليمان الشقيران

جريدة الحياة ٦ أغسطس 2012

 

تتحرك الرؤى الأصولية ضمن فضاءات حادّة، ذلك أن شبّاك صيدها للحدث تمتّنَ بمطيّة دينيةٍ جعلت من سرقاته للحدث، أو استلاله للمعنى الوجودي للبشر، مشروعاً. والأصولية فعلُ إلغاءٍ للواقع واستسلامٍ لأيديولوجيا واهمة، إذ يختطف المعنى الدنيوي البريء ليكون مدّجناً ضمن صيغٍ هي على مستوىً من التخالط بين الحق والباطل، بين الغيب والشاهد، بين المستقبل والحاضر. وبين تلك الثنائيات التي تضخّ عبر مكائنهم المنتشرة بالمال الديني تعلو قيمتهم الاجتماعية، وتغدو سطوتهم فوق كل سطوة، وتأخذ ديكتاتوريتهم مشروعيتها من أيديولوجيتهم، والمجتمعات التي تخترق أصولياً تكون في الغالب يائسة، فهي تبحثُ عن خلاصٍ من غثاثة الواقع ورثاثة الحكم، فتجد في أولئك الطامحين الأصوليين مفراً وملاذاً من الخراب القديم.

غير أن الهروب اليائس ليس اختياراً بالمعنى المدنيّ أو الديموقراطي، بل هو انتحار مؤجل، كل صيغة ترشيح تقوم على دعاوى «التجريب»، وكل اختطاف للمناصب الدنيوية بذرائع الدين هو تقويضٌ للمعنى الفردي للإنسان. لهذا نجد التيارات الأصولية لا تعطي أفرادهم قيمة، بل هم تروسٌ في آلة، هكذا نجد جماعة الإخوان المسلمين بنسخها وفروعها السرية والعلنية تعتبر الدائرين في فلكها من محبين ومريدين، أو من الأعضاء في فروعها أعضاء ومنتمين، تجد في كل تلك الجيوش الإنسان «الكادر» لا الإنسان «الفرد». والكادر هو ترس، يدور ضمن سياق تفكير الغير، ويأتمر بما تمليه جمجمة المرشد من أمر، غير أنه لا يستطيع أن يمارس صيغه الوجودية، بالقبول والرفض، في الإبداء والإعادة، في الإنكار والتصديق. هذه هي مشكلة تحويل الجموع إلى متاريس في مكائن سياسية تعاني من أعطال دنيوية ومدنية كبيرة.

لا تقل الحركات الأصولية طغياناً وبطشاً وديكتاتورية عن أي نظامٍ جائر مر على العرب والمسلمين، لقد أخذوا حاجات الناس وعثراتهم مطايا للوصول إلى أصواتهم السياسية، لم يجدوا في إنسانية الإنسان ما يمكنه أن يخاطب، بل هم يخاطِبون ولا يُخاطَبون، يقولون، ولا يقال لهم، بل إنهم ربطوا نجاة الإنسان الأخروية بصوته الديموقراطي، وهذه ذروة الاستغلال والسرقة للمعنى الفردي للإنسان.

وإذا كانت الأصولية شهدت ولادةً كبرى في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، فإنها الآن تشهد ولادة ثانية. إذ وصل المسجونون من كوادر الأصوليين إلى عروش الحكم. وهذا التكرار للنكبات يحتاج إلى دراسةٍ فعلية واسعة، وقد قاربها محمد أركون في مساهمته «نحو أركيولوجيا جذرية للحركات الأصولية» ضمن كتابه: «تحرير الوعي الإسلامي – نحو الخروج من السياجات الدوغمائية المطلقة».

القابلية الاجتماعية للتدجين الأصولي تعزى أحياناً إلى العامل الاقتصادي، تُحتل أدمغة الجموع عبر استغلال أزماتهم المعيشية، يكتب محمد أركون في فصله آنف الذكر: «ولا ينبغي أن ننسى فشل ثورة الإصلاح الزراعي في البلدان ذات التوجه الاشتراكي، وكذلك فشل التصنيع لأنه منغلقٌ على ذاته داخل نسيجٍ اجتماعي ثقافي عتيق وغير مناسب على الإطلاق لنجاح الصناعة في بلادنا، أضف إلى ذلك سياسة حرق المراحل الارتجالية التي راحت تلقي على الغرب مسؤولية جميع أنواع الفشل في التنمية والخيبات الحقيقية المتراكمة، وعلى هذا النحو ماتت فرحة الاستقلال التي طبعت السنوات الأولى من الستينات بطابعها، وعمت الكآبة الجميع. كل هذه العوامل وسواها كثير أسهمت في انقلاب المجتمعات العربية والإسلامية من المرحلة الشعبية الصحية والطبيعية، إلى المرحلة الشعبوية المرَضية، والتعصبية، وعلى هذه الأرضية المتفاقمة راحت تزدهر حركات الإسلام السياسي، أو ما يُدعى بالظاهرة الأصولية».

مع الأحداث العربية الأخيرة أخذت الأصولية بشبّاكها المشرعن دينياً جموعٌ من المثقفين، وكل الذين كانوا «أعضاء في قلوبهم» ضمن الجماعات الأصولية نزفت أقلامهم فرحاً واغتباطاً بهذه النكبات الأصولية التي تعادي المعنى الدنيوي للإنسانية.