مايو 2014

الفلسفة: تحولات الوظيفة … ومآزق الإنسان

الفلسفة: تحولات الوظيفة … ومآزق الإنسان
المدونة
 30 مايو 2014
فهد سليمان الشقيران

 

بقدر ما تحمل الفلسفة تعريفاتها الدقيقة، بقدر ما تحمل ممانعةً ضد التعريف. إذ لكل فيلسوفٍ تعريفه لها، طبقاً للرؤية التي يتخذها، أو المسار الذي يسلكه، أو المنتج الذي يعمل عليه. ثمة تعريفات للفلسفات … لكن “الفلسفة” بقيت فضاءً ممتداً لا يمكنها أن تحتكر ضمن حدّ، أو توضع ضمن قصد، أو تحصر ضمن تأويلٍ أو انفجار نظريٍ واحد. من هنا يكون لبعض الفلاسفة أوصافهم عن الفلسفة، على النحو الذي يصف فيه نيتشه الفيلسوف بأنه “حامل المطرقة”، أو أنها السبيل نحو “السخرية” بينما يعتبرها جيل دلوز محاربة “للغباء” وفوكو يصف وظيفة الفيلسوف بأنه محارب دون هوداة “للحماقة”. كل تلك الشطحات أو التوصيفات الشذرية للفلسفة، أو التعميمات اللحظية لها تنبثق من لحظة الرؤية الدقيقة لما في الواقع، ذلك أن العالم بعد الحربين العالميتين، والثورة الصناعية، أصبح أكثر غربة، وبات الإنسان ضحية “الاغتراب” الكارثي على الرغم من كل فتوحات التقنية، إذ يمكنك أن تلفّ العالم بجهازك الكفي لكنك “الغريب” بداخله بكل ما للكلمة من معنى.
ما يجري بالعالم من مذابح ومجازر، أو صراعات وحروب تصل حد التهام الأكباد، وضرب الرؤوس، وقطع الأمعاء، وقتل الأجنّة مثير للسخرية الكبرى في هذا القرن الذي كان الكل يأمل أن يكون قرناً حقيقياً تسوده العدالة والسلم والرخاء والازدهار. لكن على العكس إذ ما نره من حروبٍ أهلية في الشرق الأوسط وأفريقيا أمر مفجع للغاية. إذ تتسمّر لوهلة ثم تتساءل: ماذا يفعل هؤلاء بالعالم؟ وما قيمة ما أنتجه الإنسان من نظرياتٍ وتعريفاتٍ وتوصيفاتٍ إذا كانت الحروب والدماء تسيل كما كانت تسيل منذ الإنسان القديم، ومنذ العصور الغابرة؟!
كل هذه الحماقات التي يرتكبها الإنسان تبرهن على أن الكثير مما يجري في هذا العالم مثير للسخرية، ثمة اندفاع نحو العنصرية وانتشار للكآبة، وتفشي للأمراض الخطرة، ونضوب في المياه، وجفاف في المناخ، وتضخم بالسكان، وازدياد بالفقر، واحتباس في المناخ، كل تلك الكوارث ليست من صنيعة الكائنات الأخرى على الكواكب من حولنا، بل من صميم صنع الإنسان وفعله. لهذا ربما حاول الإنسان “أنسة” كل شيء لكن من دون أن يؤنسن نفسه. بات الأسير الأكبرلـ”الاغتراب” عن الطبيعة التي لم يبد وفياً معها، ولم يتعامل معها بإخلاص وجدية، ولم يعر للموضوعات الأخلاقية أي اهتمام. هناك أوضاع مزرية تمارس بعد كل القرون التي مضت من النظريات والمفاهيم والموضوعات التي تحاول أن تعالج “الحماقة” أو “الغباء”.
ثم تكتمل الحماقة، ويتصاعد الغباء من خلال ما اعتبره هيدغر “الوجود الزائف” إذ تتعمد المجاميع البشرية على “التواطؤ” للغيبوبة ضمن “الوجود الزائف” ضمن “الأشياء” والجموع، و “القيل والقال” على حد وصف هيدغر أيضاً. هناك تجهيل وتواطؤ على تجريب الجهل والانغماس التام في “شيئية” مقرفة. تتبعها حال نسيان للذات والكينونة والمصير والمعنى، هناك زحف كبير وتنافس ضخم على التفاهة والحماقة والغباء.
الوجود الزائف حيث السقم بالتفاهة والأشياء، والغرق بزيف “الهٌم” أو “الجموع”، وياله من وجود يبعث على “الغثيان” على حد تعبير سارتر.
ربما تكون وظيفة الفلسفة الآن –التي تتحوّل دائماً- شبيهة بوظيفة الصوفي العارف، الذي تضيق عبارته كلما اتسعت رؤيته”النفّري” وربما كانت متعةً نصّية … يلوذ الإنسان بالنص للاغتسال من درن الواقع، وربما كانت علاجاً وترياقاً وعزاءً للإنسان في ظلّ هذا الموج من الدماء والأشلاء، وربما تكون صاقلةً للكينونة بحيث تجعل الفرد ضمن الوجود الحقيقي، وجود الإدراك للمعنى والتمسك بالسخرية والغضب، كما تتمسك الفلسفة بوظيفتها الأصلية منذ الإغريق “مخاطبة الغموض” وربما كان الفيلسوف حامل رؤيةً لكن من دون تبشير، إذ يكتفي بالانزواء وراء الظلمة، ليكون جمهوره الوحيد هو “ظلّه” –على حد تعبير الماغوط-، ليعيش بين صداقة الكلمات، وبين صور الشعر الملهمة، على وقع صوت الموسيقى الأصيلة … يأتي صوتها المطمْئن من بعيد، وربما كانت وظيفة الفلسفة أيضاً حالة من “الإنصات للوجود” كما يكتب هيدغر.
كتب بودريار قبل رحيله 2007:”لا أدري ماذا سيحلّ بهذا العالم”.

فوكو ودلوز.. تصور مشترك للفلسفة

 

 

فوكو ودلوز.. تصور مشترك للفلسفة

صحيفة الشرق الأوسط 25 مايو 2014

فهد سليمان الشقيران

 

إذا كانت الفلسفة في مرحلة ذوت، تعتمد على التأمل ووضع المنهج ومن ثم الإنتاج، فإن القرنين التاسع عشر والعشرين سيشهدان موجة من الفتوحات المعرفية المتفرعة والمتصدعة عن انغلاقات المثالية، وسحر الظاهراتية، ومطارق النيتشوية، وصولا إلى إبداعات «عرائس التيه» بفعل فلسفات الاختلاف والتي اتخذت من «المنعرج النيتشوي» معولا للـ«تجاوز»، ومن ثم اكتشاف الدروب المتعددة على المنحدر الوعر على حد تعبير «هيدغر».

 

ولما كانت «استراتيجية التعدد والاختلاف» خلاقة نسبة إلى تعددية الصيغ، وتشعب المشارط، وتنوع الأساليب، وتجدد نتائج القراءة؛ استطاعت الفلسفة أن تنبعث من جديد من خلال عقلها «المنبثق الصاعد»، إذ نحتت البحث في «الأبستمية» لا بوصفها نظاما واحدا محددا، وإنما بوصفها مجموع علاقات يعثر عليها بزمن ضمن ممارسات قولية تفتح المجال لتشكيلات أبستمولوجية وعلوم، وأحيانا لمجموعة من «الأنظمة المطقمة» إنها بحسب فوكو في كتابه «أركيولوجيا المعرفة»: «مجموع العلاقات التي يمكن الوقوف عليها في فترة ما بين العلوم عندما نحللها على مستوى الانتظامات القولية».

 

يتكامل الفيلسوفان ميشيل فوكو وجيل دلوز، ذلك أن الورش التي يختبران فيها عدتهما المعرفية كانت تمحض إنتاجهم، دلوز وبقراءاته لكل من: ديفيد هيوم، ونيتشه، وبرغسون، وأسبينوزا، وكانط، ولايبنتز، وفوكو، يتجاوز نصوصهم إلى مفاهيمهم، ويدخل في عصب نصوصهم، لا يكتب ما يتطابق وإنما ما يتخالف، ويتجاوز المراد و«النية» إلى المفهوم ولا يعنيه بالضرورة السيف وإنما قد يلفته الغمد، ولا يبحث عن الشخوص وإنما عن «ظلالهم» أحيانا، وهذا ما بينه في أطروحته الأهم: «الاختلاف والتكرار». دلوز لا يرى في «الفيلسوف» إلا قناعا شخصيا لشخصياته ومفاهيمه. وبقراءاته تلك يقدم نصوصا أخرى للفيلسوف موضع القراءة، ويكتشف أسئلته ومفاهيمه، ويتداخل معه ضمن صيغة حوارية، فهو يدخل ليختلف ويناقض ويحاور ويحرج ليوجد نصا ثالثا هو ليس شرحا ولا ترجمة ولا تفسيرا، وإنما قراءة فحسب تكون خارقة للسقف المعتادة.

 

في كتابه «ما هي الفلسفة» وفي فصل «مسطح المحايثة» يكتب: «إن المفاهيم أشبه بالموجات المتعددة التي تعلو وتهبط، ولكن مسطح المحايثة، هو الموجة الوحيدة التي تلفها وتنشرها.. إن المفاهيم هي الأرخبيل أو العمود الفقري وليست النفس، بينما المسطح هو بالأحرى الجمجمة التي تسبح فيه هذه المعزولات، والمفاهيم هي مساحات أو أحجام مطلقة، عديمة الشكل أو متشظية، بينما المسطح هو المطلق اللامحدود، الذي لا شكل له ولا مساحة ولا حجم». من هنا تكون قراءاته في النصوص الفلسفية ضمن هذه العدة المفهومية المتجاوزة.

 

يعترف فوكو بأهمية قراءته لكتاب جيل دلوز وفيليكس غيتاري: «أوديب مضادا» الذي قدح بذهنه قيام الحضارة الغربية على «التأديب والعقاب» كما في تقديمه لمؤلف جيل دلوز أو في مقالاته عن أطروحاته، وكان لها دورها في انشغال فوكو بـ«المراقبة والعقاب» وفتح وثائق وأضابير «السلطات» في التاريخ الأوروبي في السجون والمصحات والمعرفة والجنس.

 

حين توفي ميشيل فوكو في 25 يونيو (حزيران) 1984 كتب جيل دلوز كتيبا بـ150 صفحة كانت كافية لأن تكون أهم دراسة عن ميشيل فوكو. بحث في مفاهيم فوكو وانشغالاته في أسس التفكير. واحتوى الكتاب على رسم لصورة مشروع فوكو بصيغ فنية وأدبية وفلسفية، وفيه عبر عن اشتراكه مع فوكو بالتصور المشترك للفلسفة، لم تكن التجريدات مثل: الواحد، والكل، والعقل، والذات، موضع اقتناع بل الأهم تحليل الحالات المتشابكة، أو الجاهزيات المطروحة، كان يجب – بحسب فوكو – أن نتعقب ونفصل خطوطا خرائطية.

 

دلوز وفوكو ينتميان إلى رواد «النزعة الشكية» التي حددها بول ريكور بـ«ماركس، ونيتشه، وفرويد»، حيث تعيد الذات تشكيل شتاتها، من هنا حيوية جيل دلوز في قراءته الفلسفية وبحثه في المضمر داخل النص. ذلك أن مشروع فوكو ليس ممتدا ومستقيما ومتضايفا، إذ لا يكمل كل كتاب ما يليه. تعامل دلوز مع مراحل فوكو لا بوصفها صيغ تباين، بل هي انصهار ضمن التحول والتغير، فالفلسفة بصمتها النهر، ضوؤها النار، وثيمتها «الصيرورة» كما يستلهم من شذرات «هيراقليطس».

 

في 1970 نشر فوكو مقالة عن جيل دلوز بعد طبع كتابي دلوز: «الفرق والتكرار» و«منطق المعنى»، وفيها تحدث عن أن هذه الآثار ستحوم طويلا فوق رؤوسنا ضمن صدى ملغز.. يوما ما سيكون هذا العصر عصرا دلوزيا». وعلق دلوز على هذه المقولة في كتابته عن فوكو بعد رحيله: «لا أعرف ما كان يعنيه فوكو، لم أسأله قط، كانت لديه دعابة شيطانية كان يريد أن يقول – ربما – إني كنت الأكثر سذاجة بين فلاسفة جيلنا، نجد لدينا جميعا ثيمات من أمثال، الكثرة، والفرق، والتكرار، لكنني اقترح مفاهيم خاما تقريبا، بينما ينشغل الآخرون مع أكثر من توسط، لم يؤثر في قط تجاوز الميتافيزيقا، أو موت الفلسفة، والتخلي عن الكل والواحدة والذات، لم أصنع منها قط دراما». (انظر كتاب جيل دلوز وتجديد الفلسفة لجمال نعيم ص: 125).

 

بقي جيل دلوز فيلسوفا متداخلا مع تاريخ الفلسفة وخرائطها، فهو ضرب مثلا في شراكة التأليف بينه وبين فليكس غيتاري، واستطاع أن يقيم ورشة مفهومية ضخمة للبحث في «ما الفلسفة»، والذي لا تتسع المساحة للتطرق إليه، هذا فضلا عن تاريخ الفلسفة، ووظيفة الفيلسوف، بالإضافة إلى مسار «الرؤية» الفلسفية للفنون من رسم وسينما. وحين ترى محاضراته على الـ«يوتيوب» بين تلاميذه تشعر بالفعل بقيمة الحوار مع كل نص أو رؤية أو صورة أو مفهوم أو نمط.

 

حين رحل فوكو كتب: «كلما توفي مفكر عظيم، ارتاح الأغبياء وأقاموا حوله صخبا جهنميا».