يوليو 2017

محاولة لفهم ظاهرة العنف في العالم

محاولة لفهم ظاهرة العنف في العالم

فهد سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 27 يوليو2017

برغم الحديث عن الأخطار المناخية، وشحّ الغذاء، وسيل التنبؤات حول جدب الأرض، وغور المياه، غير أن الشبح الأكبر بلا منازع هو «العنف» بكل أشكاله، الإرهابي منه، والإجرامي، والسياسي. وبات ترف أي مجتمعٍ يقاس بمستوى أمنه أولاً؛ ومن ثمّ تأتي بقية المعايير الأخرى. وبرغم مشاهدة أحداث عنف كبيرة بشرق آسيا، ومذابح جماعية لا تعقل في أفريقيا، وحروب أهلية بالشرق الأوسط، ومجازر استثنائية في أوروبا، وغالبها عنف عرقي وسياسي، فإن إرهاب الحركات الراديكالية الذي طبع أواخر القرن العشرين وأبحر سابحاً بالدماء منذ بدء الألفية الجديدة وإلى اليوم يعتبر أكثر شراسة وذلك لمخاتلته، ولطريقة حركته، وتجدد خططه، فهو ليس عنفاً إجرامياً يمكن حصره ولجمه، بل عنف آيديولوجي ليس له هدف مادي دنيوي محدد وإنما يغدو القتل هدفاً والانتحار غاية، حتى وإن رفعت شعارات الدولة الإسلامية، أو إقامة نماذج متخيّلة من خلافة أو مجتمعٍ حقّ طاهر يحكم الشريعة.

لا تتعلق المسألة بالتحليل الاعتيادي لمعنى العنف، ولا التعليل الاجتماعي، أو النفسي، فضلاً عن السياسي، بل عن العلاقة بين العنف وفكرته، بين الإرهابي ومقدّسه، وذلك انطلاقاً من أصل التضحية، تلك كانت ميزة مقاربة رينيه جيرار في كتابه «العنف والمقدس» وهو بحث أنثربولوجي يسبر أصول العنف والتضحية ليس انطلاقاً من التأويلات للنصوص المؤسسة بل والمتخلّقة برحم الثقافات، وهو يبحث في العلاقات بين التضحية والمقدس والعنف. ضمن هذا المجال كتب منوبي غباشي ورقة مهمة حول «العنف المقدس» فيها اعتبر أن «الأضحية، القربان الدامي، مَثّل النموذج الأساسي للعنف المقدّس. ولئن كان في الأصل ظاهرة أنثروبولوجية قديمة ارتبطت بالوعي الجماعي البسيط (الوثنيّات القديمة وعقائد التأليه الطبيعية الإحيائية والطوطمية) فإنها تحوّلت فيما بعد إلى ظاهرة اجتماعية سياسية في المجتمعات المركّبة والمتطوّرة والتي لم تفقد ظاهرة التقديس»، ثم ينقل عن روجي كايوا، في كتابه «الإنسان والمقدّس» أن «العنف المقدّس» هو العنف «الذي يتمّ التشريع له انطلاقاً من مرجعية دينية أو أسطورية أو آيديولوجية. ولكنّ العنف المقدّس لا يأخذ ملامحه من النصوص التأسيسية فقط، بل يتجسّد في أكثر المظاهر قسوة وفظاعة، في الحرب وفي التعذيب الذي يمارس ضدّ أتباع دين مغاير أو ضدّ معتنقي عقيدة أو مذهب مخالف».

بينما الأطروحة الأكثر رصداً لعلاقات العنف والمجتمع والإرهاب، فهي لأستاذ الفلسفة بجامعة «ريتسوميكان» بول دوموشيل وقد عنونها بـ«التضحية غير المجدية – بحث في العنف السياسي». الكتاب أهداه المؤلف لرينيه جيرار، وقد كان طيف أستاذه ماثلاً في فصول الكتاب، به حلل معنى العنف حتى لدى آكلي لحوم البشر كما في عَوْده المتكرر لطرح آلان كوربن في كتابه «قرية آكلي لحوم البشر» والذي يحلل فيه حادثة عنف جماعي حدثت في إقليم دوردوني خلال حرب عام 1870. ومن ثمّ يدخل على خطّ مفهومي مهم نحتتْه حنة أرندت وهو «تفاهة الشر» ويشرّحه باعتباره «يعبر عن اندهاش أمام ما يمكن أن نسميه بـ(عدم تقديس الجلاد) ذلك أن ضخامة الجريمة وبشاعتها لا تمنحان أي عظمة لذاك الذي اقترفها، وأنهما لا تحيطانه بهالة مقدسة، ولا تمنحانه أي صفة غير عادية شريرة، تتناسب مع أفعاله، إزاء الإنكار الذي تظهره نفسيته وأساليبه. إن تفاهة الشر تميل بالجلاد إلى مستوى ضحاياه المجهولين والذين لا وجه لهم، إنهم أعداد لا تحصى من أناسٍ غير معروفين لم يكن ثمة ما يدل على المصير الرهيب المرصود لهم». لقد أبدى دومشيل وأعاد وقلّب مفاهيم كبرى حول العنف منذ أرندت وحتى جيرار، ولكنه وبطريقة رائعة يضع وصفاً للعنف خاصاً به «إن العنف بمعنى ما، يصل بسرعة مفرطة ليستطيع الاندماج مع النزاعات، والتنافسات التي تحرك الأفراد، لأجل ذلك، فإنه يصدّ بقدر ما هو يجذب، ويثير القلق بقدر ما هو يسحر المشاعر، ولكنه يقترب من أفرادٍ فاعلين ليس عندهم أي التزام في الانخراط فيه… لا فلح العنف بسهولة في أن يعدي بعدواه أولئك الذين هم مشغولون إلى حدٍ كبير بنزاعاتهم الخاصة، وبمنافساتهم الشخصية الخاصة بهم».

كل تلك المفاهيم هي بمثابة مشارط تحاول الوصول إلى جذر العنف، وذلك من خلال المسح الأنثربولوجي للثقافات، فالعنف جزء من تاريخ البشرية، وهو أساس بتحولاتها الكبرى ومنعطفاتها التاريخية، وعليه فإن الإرهاب بوصفه التجلي الأبرز لظاهرة العنف يجعل مستقبل العلاقات بين الدول والثقافات والشعوب على المحك، بل حتى مسائل التواصل والسياحة والتعلم ستشوبها تحدياتٍ غير مسبوقة، وقد يكون السفر في المستقبل القريب صعباً، مما يعزز من فرضيات الصراع بدلاً من التفاهم والتواصل، ولن يكون زمننا بعد الإرهاب كما هو قبله، قد تنجح الدول بضرب كيانات إرهابية وإنهائها، لكن نزع النزوة العنفية يحتاج إلى صيغ حضارية وتحولات فكرية تعجز عنها معظم دول العالم باستثناء تجارب غربية محددة، وواجب الدول احتكار العنف، ومنع الأفراد من تقييم خيرية العنف، فالدولة وحدها من يمتلك حق الوصف، وكل نزعات العنف تعبر عن خلل بالعقد الاجتماعي، بسبب عدم تنظيم «التفاوتات» بين الناس، ضمن صالح الأقل حظاً بالمجتمع كما يعبر جون راولز، كل ذلك قد يؤجل نشوب الصراعات الكبرى، ويحد من لهب النار… نار الإرهاب الحارقة.

 

«طاولة الزهر» والتصوّر السطحي للعالم

«طاولة الزهر» والتصوّر السطحي للعالم

فهد سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 20 يوليو2017

من أعقد المسائل التي أرّقت الفلاسفة سؤال كيفية تكوين الإنسان لقناعاته، وترتيبه لأفكاره، وصياغته لحقائقه المتحوّلة والثابتة طوال سير الإنسان على هذه الأرض، ذلك أن المعلومات التي يتلقاها العقل، والمسائل التي ينافح عنها تنتج ضمن مسار يتعلق بكيفية المعرفة، أو نظرية المعرفة. قبل أيام قرأتُ فصلاً ظريفاً من كتاب: «الذهنية العربية – العنف سيد الأحكام» للمهتم بعلم الاجتماع اللبناني فؤاد إسحق الخوري؛ عنوان الفصل: «اللعب والآيديولوجيا»، وفيه يقرأ الذهنية العربية من خلال «طاولة الزهر» باعتبارها لعبة عربية، ولأن: «ترتيب طاولة الزهر إنما يعكس تنظيماً كونياً عاماً، هي للعب، إنما ترتبط كما يعتقد البعض بالنظام الكوني العام، فالطاولة بشكلها المربع وهي مفتوحة ترمز إلى كمال الأرض اللامتناهي، وترمز الخانات السوداء والبيضاء المحفورة في الخشب إلى الليل والنهار، كما ترمز الجوانب الأربعة التي تصف في كلّ منها الخانات الستة إلى الفصول الأربعة، وعدد الخانات الاثنتي عشرة في كل جانبٍ إلى عدد الأشهر بالسنة». فهو يعتبر ألعاباً مثل «طاولة الزهر، والبيل، والأسير، والباصرة»، كلها تتبع الذهنية المسطحة نفسها، بينما الألعاب الأخرى مثل «كرة الطائرة، ولعبة المضرب، والسلة، وكرة القدم»، هذه ألعاب «هرمية التركيب»، فاللعب يؤثر على الآيديولوجيا، ويفضح شكل الذهن ودور التصور في صناعة الحقيقة.

 

انشغل الحكماء بالبداهة الأساسية التي تعتبر منصّة صياغة الحقيقة، تعدد «دروب الحقيقة» على وصف هيدغر، فكانت المنعرجات الفلسفية، من المنطق الأرسطي، والتصوّرات والمثل اليونانية، ثم تطوّرات الحكمة بالمشرق، وأفكار العصور المناوئة للخرافة طوال القرون الخمسة من العاشر وحتى الخامس عشر، استقراء فرنسيس بيكون وكهوفه، وكوجيتو ديكارته وثلاثية الأنا والفكر والوجود، ونقدية كانط للعقل المحض عبر تحقيقه لفحص دور المعرفة القبلية وآثارها المجرّبة على نحت الحقيقة، والمتعالي، وليضع الإحراج الفلسفي العتيد «الشيء في ذاته» (وقد خصص عن هذا المفهوم كتاباً كاملاً مارتن هيدغر) وليس انتهاء بورشة هيغل المفهومية الباحثة بالوجود عبر «المطلق» والراغبة في جسّ روح التاريخ وحركته، وتوالت المنعرجات الفلسفية، وربما كان الأبرز «جينالوجيا نيتشه» المنعرج الفلسفي بتعبير هابرماس في كتابه القول الفلسفي للحداثة.

 

ثمة فلسفات مؤثرة لدى هوسرل وتلاميذه ماركيوز، ليفيناس، وهيدغر؛ والأخير كان أكثرهم تأثراً بهوسرل رغم الاختلاف السياسي بينهما، وكان هيدغر يعترف لأستاذه بأنه محرّضه على أسئلته حول الوجود (مع اختلاف شديد بين نظرية هيدغر في الوجود والزمن)، وبين ظاهراتية هوسرل التي تهدف بعمقها إلى الإجابة عن سؤالٍ أساسي: «كيف يتأتى أن تستقدم الموضوعية معناها إلى المعرفة؛ أي كيف يتأتى لها أن تصير ذاتية؟». وهذا واضح في كتابه الأساسي: «أفكار ممهدة لعلم الظاهريات الخالص، وللفلسفة الظاهرية»، وبشكلٍ أعم عبر سجالاته مع الصيغ النظرية المتعلقة بإنتاج الحقيقة للفلاسفة الذين سبقوه وذلك في كتابه المنطقي الثري: «مباحث منطقية – مقدمات في المنطق المحض» بأجزائه الثلاثة، وفيه يستعرض الجدل حول الحقيقة وتسلسل إنتاجها.

 

تسلّح هوسرل بظاهريته معيداً الاعتبار لظواهر الوعي التي تعتبر حركة الفكر ولياقته، فالوجود بالنسبة إليه ما يظهر، ولهذا راح يمشّط بالفلسفات السابقة والأدوار التي منحها كل فيلسوفٍ لنظريته، وذلك من خلال البحث المنطقي في العقل المحض، والبحث بمواضع البداهات.

 

في معرض نقاشه عن مدى استقلال «السيكولوجيا» عن المنطق، وضع أسئلة ضرورية سماها أسئلة النزاع التقليدية المتعالقة مع تحديد المنطق، وهي: هل المنطق فنّ نظري، أم فن عملي بمعنى أنه صناعة؟ وهل هو علم مستقل عن غيره من العلوم وبخاصة عن السيكولوجيا أو الميتافيزيقا؟ وهل هو فن صوري أي يشتغل كما يفهم عادة بمجرد صورة المعرفة؟ أم أن عليه أن يهتم بمادتها أيضاً؟ وهل له سمة فن قبلي وبرهاني؟ أم فن أمبريقي استقرائي؟ وعلى أهمية تلك الأسئلة بترتيب التسلسل للمنطق الذي سيكون مختبر الحقيقة فإن هوسرل وبحذق يحذّر من الانحياز لهذه النزاعات التقليدية، بل بالأحرى القيام بتوضيح الفروق المبدئية التي تلعب فيها، والطريق للمنطق المحض بتحديد تعريف للمنطق يكون مقبولاً بشكل «شبه كلي». تفصيل ذلك بالجزء الأول من مباحث هوسرل المنطقية.

 

محور العمل النظري الفلسفي المتعلق بالحقيقة هو التعريف المحدد للمنطق الذي تسلكه، وبالتالي فإن التصوّر الجمعي للحقيقة يهدم فرصة النظرة الفردية للعالم، وكل تصور جمعي للحقيقة هو منظنّة سيادة العنف وتطوّر الإرهاب، والهدف الأساسي من الاختلاف الفلسفي التأسيس لعناصر المغايرة وفضائل الاختلاف، ذلك أن الحقائق كثيرة هي بعدد الفلسفات وأكثر، ولم تكن يوماً حالات التطقيم للحقائق إلا عمليّة طمس لمفهوم «الشخصية» كما يعبر هيغل، ولكن قد تكون اللعبة دليلاً على تصوّر الوجود، كما في قول خوري آنف الذكر، والحقيقة متعددة الدروب والمسالك، وعلى حد تعبير غوته: «لا يكون المرء في البداية ضد شيء، أشد مما هو ضد أغلاطٍ تخلى عنها».

 

«الماركة»… وصناعة الإنسان المتباهي

«الماركة»… وصناعة الإنسان المتباهي

فهد سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 4 مايو 2017

ترسم الماركات حركة الحياة البشرية؛ وتخطّ الخيالات والأحلام مرتبطة بمستوى القدرة على الامتلاك أو الاستهلاك، وتوشك العلامة أن تطمس هويّة لابسها، باعتبارها قيمة بديلة عن الذات وقدرها، أكثر من كونها قيمة إضافية، والإشعاع الذي يحدثه الامتلاك للماركة فيه خواء، ذلك أنه شراء لوهج مادي خارج قدرات الذات وطاقاتها، أو إبداعات الفرد وخلقه، وبها يغرق الإنسان بطوفان من العلامات التي تطارده بسحر أشكالها وأصنافها، من ملابس وسيارات ومقتنيات شخصية ثمينة، حبائلها مغرية، ولها شبكة من الإملاءات التي توقع الناس بحالٍ من التنافس الرمزي، إذ يتحول الواقع إلى مسرح عرض يتبارى فيه الخاوون بالماركات المقتناة، لتتحول الحالة الاجتماعية إلى معركة مستمرة للتغلب على الآخر بإبداء القدرة الشرائية، عبر تصعيد الاستهلاك، رغبة في اكتساب قيمة ذاتية من خلال مادة مقتناة، وهذه ذروة الإفلاس.

تفرض سيميائية الماركة ضرورتها البحثية باعتبارها سمة العصر، والثمين منها بات جزءاً من آمال وأحلام الجموع بأصقاع الأرض، ويمكن العودة إلى بحثٍ أساسي لـ«بول ماننج» بعنوان: «سيموطيقيا الماركة» يمهّد في مدخله إلى أطروحة «المكدنلة» نسبة إلى مطعم الوجبات السريعة باعتبارها جزءا من أدوات السيطرة ليس على المستوى السياسي، بل من خلال وضع شبكة على أكبر عدد ممكن من البشر لاصطيادهم ضمن حالات تطقيم السلوك، وتنظيم الروتين العالمي على نمطٍ واحد، وهو ما يحلو لنقّاد العولمة، لوضعها ضمن خطط الرأسمالية العالمية، من مثل أطروحات (مدرسة فرانكفورت) ثم يعود لوضع ماركات الكولا ونايك ضمن ما يسميه «ميلر» جوانب ما بعد الرمز، وبالنسبة إليه: «فالماركة محطة دخول امتيازية إلى موضوعاتٍ متنوعة بوصفها عملية جعل عوالم الحياة اليومية مادية في الاستهلاك أو تجعلها مصدراً لثقافة ثانوية للموضوعات والأزياء والأذواق، أو تجعلها مظهراً لأشتات تناقضات الرأسمالية الدولية المعاصرة، أو تجعلها مجرد اختزال لخطاب تحليل نفسي للرغبات والغرائز».

الماركة الاستهلاكية اليومية، أو الآسرة الثمينة النخبوية تجرّ الناس بالسلاسل إلى خوض حروبٍ اعتباطية، مع عمل المنتج الدائم لإدراك شبكات الارتباط الذهنية والرمزية بين الناس، في الشوارع يتخاطب الناس بشكلٍ صامت من خلال سياراتهم، أو ساعاتهم، أو ما يضعونه على ثيابهم من قطعٍ مرقومة أو منقوشة باسم علامة، وكذلك الأمر في المناسبات والأسواق بين النساء إذ تصبح السجالات الصامتة أبلغ من الحديث والصراع، وذلك عبر الشنط والأدوات الشخصية والعلامات التجارية، وهذا جزء من عمل المنتج أن يقيس شبكات الارتباط ومفاصل الصراع بين كل المستهلكين على الأرض.

وبالنسبة لـ«فيري جادنروليفي» فإن: «المنتج والماركة يشكلان توأماً امتيازياً، يتمّ التعبير عنه في تعويذات التسويق الشائعة على أنه منتج تم تصنيعه في مصنع، والماركة يشتريها مستهلك وبوصفها تعويذات، كما يظهر هذا، فإن تعريف الماركة يتطوّر مع الزمن على أنها نوع من التصوف عبر ما هو سلبي، تعرّف نفسها ليس عن طريق القول: ما الماركة؟ وإنما عن طريق ما ليست عليه، وبدرجاتٍ تتحرك الماركة من كونها امتداداً رمزياً للمنتج أو كما يسميها ديفيد أوجليفي – أحد شيوخ تشكيل الماركة عام 1955 – المجموع غير المحسوس لمزايا وصفات المنتج، اسمه وطريقة تعليبه وسعره وتاريخه وسمعته والطريقة التي يعلن بها عنه في الإعلانات».

ليست المسألة أن نهجو الماركة، أو نجعلها باطراد ضمن إفلاس شخصي، بل لا بد من وضع أدوات فهم قبل التورط في أمواجها المتلاطمة، والحذر من طمس الذات، وتفتيت مركزية الإنسان بهذا العالم لجعل الماركة والعلامات واللوحات والثيمات هي المحركة له والمحتلّة لعقله، وألا تكون الماركة هويّة بديلة، أو اسما آخر للإنسان دون اسمه وقيمته وذاتيته وفردانيته، وأن يحصّن نفسه من الانضواء تحت الجموع الغارقة باليوميات العادية الاستهلاكية، ما يعتبرهم هيدغر ذوي الوجود الزائف الهارب من «الوعي بالوجود»؛ يغدو الواقع مدججاً بالبشر اللاهثين وراء صور وصيغ وعلامات، من دون أي اعتبار للوعي الذاتي والوجودي، وصقل الإنسان نفسه بالعلم والتجربة والأسئلة.

إن الإنسان أعمق وأعرق من أشيائه.

 

قمم أرض القداسة تفضح الأحقاد

قمم أرض القداسة تفضح الأحقاد

فهد سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 25 مايو 2017

 

في عام 2001، طبع المفكّر البحريني محمد جابر الأنصاري كتابه «مساءلة الهزيمة: جديد العقل العربي بين صدمة 1967 ومنعطف الألفية»، تحدّث في فصولٍ منه عن المثقفين العرب ورؤيتهم للخليج، وذلك من خلال رصد مقولات وتصورات عن الإنسان الخليجي، خصوصاً وقد عاش طفراتٍ متلاحقة، واغتنى بوقتٍ كانت البلدان العربية الأخرى بمجملها تعاني من الآلام الاقتصادية والسياسية بعد عهودٍ من الاستعمار، وبسبب اضطراباتٍ سببتها الانقلابات العسكرية والحكومات المتبدّلة؛ كان الخليج حينها في أوجِ الغنى بسبب إدرار النفط والمعادن لأموال طائلة ساهمت بجعل الحكومات أكثر قدرةً على الإنفاق. في الكتاب، ينقل الأنصاري بأسفٍ مقولة لأبي يعرب المرزوقي الذي يصف الخليجيين بأن لا هم لهم إلا «البطن…». والمرزوقي مشهود له بترجماته القيّمة، وله مؤلفات يشار إليها بالبنان، لكن الفلتات السياسية التي يطرحها منذ سنواتٍ باتت كثيرة، خصوصاً حين يتعلّق الأمر بالحديث عن «البداوة» أو «الإنسان الخليجي» بشكلٍ عنصري وفوقي، وهي فوقيّة ليس لها ما يبررها، وضمن اغتباطٍ لا يعلل!

 

في 28 أبريل (نيسان) 2011، أجرى الأستاذ تركي الدخيل حواراً مع أبي يعرب المرزوقي، لبرنامج «إضاءات»، وسأله عن المقولة التي نسبها إليه الأنصاري، ثم أوضح بقولٍ يثبت نظرته تلك، إذ اعتبر الوصف تجاه الخليجيين هو «الصورة السائدة عن الخليجي السائح بالغرب»، ومن ثم قال: «إن هذه الصورة التي يقولها بعض العرب عنهم»، هو ثبّت هذه الصورة، وجعلها عبارة عاديةً… وأجاب وهو يبتسم جذلاً. ثم عاد المرزوقي، وبعد الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الأميركي الحليف دونالد ترمب، والقمم التي عقدها مع الملك سلمان وقادة السعودية وزعماء الخليج وممثل لأكثر من 55 دولة، ليعلّق بقولٍ ينضح بالعنصرية والفوقية والازدراء؛ يقول ضمن سلسلة تغريداتٍ نشرها على حسابه بـ«تويتر»: «الحلف لا يكون بين الحامي والمحمي، بل بين إرادتين ذواتي مشروعٍ مستقل، يتساويان في الطموح حتى يكون للشراكة معنى، الأقزام لا تحالف العماليق»!

 

هذه المقولة التي كتبها تمثّل جمعاً من المثقفين العرب المتهافتين على جوائز مؤسسات الخليج ومؤتمراتها وخيراتها، والمتطلعين لمكافآت زعمائها، والمستكثرين على الخليج غناه ونعمته، والمتوهمين بأنهم أكثر من مجتمعات الصحراء تعليماً وفهماً وإدراكاً، والمنطلقين من فوقيةٍ لا تتفق ورؤاهم الفلسفية المدعاة، أو التأصيل للمعاني الأخلاقية بالبحوث والكتابات، أو التمسّح بنفحات التصوّف، كل ذلك البناء النظري يتهاوى مع انبعاث الأحقاد المكنونة، عبر الاحتقار لمجتمعاتٍ لها تاريخها الضارب، الذي توازي به المجتمعات العربية الأخرى، فجلّ المهاجمين للخليج يعيشون في دولٍ بمستوى الدول موضع الشتم نفسه، أو أقل، إذ لم يهجو الخليج شخصاً انطلق من بلدٍ له فضل على البشرية، بل تتساوى الرؤوس حين نضع جردة الحساب.

 

بل إن بعض دول أولئك غارقة في الفساد والانهيار الاقتصادي، وتكاد تصنّف ضمن «الدول الفاشلة»، وضربت درساً تاريخياً في مستوى المديونيات والحاجة الاقتصادية والكساد المالي والتراجع العلمي والتعليمي والفقر القيمي.

 

غير ذلك المثال، عشرات الأصوات الزاعقة بمنصاتٍ متعددةٍ تحاضر على دول الخليج بطريقة إدارة أموالها. نعم، لقد قامت السعودية بعقد صفقاتٍ بمئات المليارات من الدولارات، وذلك للاستثمار العسكري والاقتصادي والصناعي، مع الحليف الأقوى بالعالم الولايات المتحدة الأميركية، دفعت السعودية هذه الأموال من حرّ مالها، من خيرات بطن أرضها، من النفط والغاز والمعادن؛ السعودية من أغنى دول العالم، والدولة العربية الوحيدة ضمن دول العشرين، وتضم الثقل الاستراتيجي الممثل بالحرمين الشريفين، والغنى المالي الذي تعيشه السعودية موعود بالمزيد؛ لدى السعودية مناطق بكر مليئة تسبح بالنفط، وتسيل بالغاز، تكفي لأجيالٍ متلاحقة، وقد عقدت السعودية هذه الصفقات لمصلحة أرضها وشعبها ووطنها أولاً. من بين كل القضايا التي يتغنى بها العرب، من قومييهم ويسارييهم وإسلامييهم، قضيتنا الأولى بلا منازع هي مصلحة أرضنا ومصلحة وطننا السعودية، ثم بمراحل تالية تأتي القضايا التي تهتم بها السعودية من باب المسألة الإنسانية وتزكيةً للمال الوفير، ولا تنتظر مردوداً من أحد.

 

حين كانت هذه الأرض بصحرائها لا مورد بها سوى التجارة، عبر سفر تجار «العقيلات» راجلين من دولةٍ إلى أخرى، كان الناس يصابون بالعمى من الجدري، ويموتون بسبب «الحمى»، والعرب شمالاً وشرقاً يعيشون على موارد أنهارهم، وطبيعة أرضهم وزراعتهم، وبما بقي من مؤسساتٍ ومساعداتٍ تقدمها الدولة الوصيّة عليها، غرقت صحراؤنا مراراً، كان إنسان الصحراء شامخاً لم يتسوّل منحةً من أحد، بل يصعد أعلى التلّ بليلة المطر هارباً من الغرق المحتّم. وحين جاءت الولايات المتحدة الدولة العظمى والحليف الأول إلينا، اكتشفت النفط ونعمنا به ورغدنا، وسافرنا باتجاه العالم، انطلقنا سائحين ومستمتعين، دارسين ومتعلمين، حينها استيقظت كوامن الحقد لدى أهل الخضرة والأنهار، يحسدوننا على معادننا وخيرات أرضنا الوفيّة التي أحرقتنا سنين بسبخها وقيظها، ولكنها سرعان ما وفت، حين اهتزّت الأرض عن النفط وربت، فأنبتت من كل زوجٍ بهيج. استيقظت قريحة نزار قباني حينها عن قصيدةٍ ضعيفة بعنوان «الحب والبترول»، بها يسخر من مرض الجدري الذي أكل جلود الأجداد بالخليج في سنين القحط، قائلاً بقصيدةٍ تنضح عنصرية:

 

أيا جَمَلاً من الصحراءِ لم يُلجمْ

ويا مَن يأكلُ الجدري منكَ الوجهَ والمعصمْ

 

إن القوميّة المتخشّبة، ودعاوى الوحدة وقصائد الانبعاث الصاعد، انتهى زمنها وولّى، نحن بزمن التحالف مع الدول العظمى المفيدة ذات القيمة الحضارية والأخلاقية والاقتصادية، مع الدول التي تضيف إلى حلفائها ولا تكون عبئاً عليه، نتحالف مع أميركا الدولة الأعظم والأقوى عبر التاريخ؛ إنها قوة القوى، وموئل كل شيء، يفخر الإنسان بأن يتحالف معها شامخاً عملاقاً، أرض القداسة كما يعبر ترمب. لقد كانت أميركا أعظم حليف استفدنا منه، ولم يكن حليف استهلاك وابتزاز، بل الحليف الذي علّم الكون كله الحضارة ذات الثقافة التي برمجت حياة البشر على هذه الأرض.

 

نعم، استثمرنا مع أميركا، وتشاركنا معها بأموال طائلة جداً، من حرّ مال هذه الأرض، ومن لديه مديونية معنا فليأتِ، فهذا الخير لأهلنا وشعبنا ووطننا، ولكل بلدٍ مورده، فاستثمروا بمواردكم، واعفونا من زعق البلاعيم، ومن الأوصاف العنصرية التي تدلعها بتكرير مستمر ألسنتكم المتدليّة. ومن جميل قول عثمان العمير معلقاً على أولئك: «نحن نذهب إلى المستقبل، مع أهل المستقبل». فلينظر كل مجتمعٍ أمع أهل المستقبل سينطلق، أم مع قوى الشر والإرهاب والظلام؟!