يونيو
24
محاكم الحق على أرصفة الثورة
فهد بن سليمان الشقيران
جريدة الحياة ٢٤ يونيو ٢٠١٣
ربما لو أردنا البحث عن خيط رفيع يمكن من خلاله الوصول إلى توصيف علمي مختصر لما يحترب في هذه المنطقة من اضطرابات وحروب أهلية بواجهة الدين، لألفينا كل الصراعات التي بدأت كانت تتعلق بـ«إشكالية المعنى»، وهي الإشكالية التي ستفجّر نفسها داخل نفق التاريخ بطوله وعرضه، ولا تزال ألغام إشكالية «المعنى» تفاجئنا على أرض أحداثنا حتى اليوم، وإذا كانت «الفلسفة» بمفهومها العريض تبحث في الأعمدة الفقرية للنصوص والعروق الخضر أو السود للأحداث فإنها تبحث أيضاً في أزمة غامضة، هذه الحروب الرعناء، وهذا التوحش المخيف وصعود التصفية الدينية والمحاكم على الأرصفة إنما تعيدنا إلى مشكلة المعنى والحقيق
وحينما يتملى الباحث في سبيل اجتلاء مكنونات هذا الصخب، رغبةً في البحث عن أسباب مقنعة يجد نفسه تائهاً، لا ينتبه إلا وقد غرق في طوفان من الإشكاليات والأسباب، وهذا ما يجعل من الوضع مظلماً ذلك أننا واقعياً لم نزل بعدُ في مرحلة بعيدة من «العصر الذي نعيش فيه»، وهذا ربما شكّل جزءاً عضوياً في تذبذب أثّر حتى المثقف العربي الذي يعيش بين عصرين، الفيلسوف الفرنسي بول ريكور وفي كتابه «محاضرات في الأيديولوجيا واليوتوبيا» يوصّف هذه العلاقة – عيش المثقف لأكثر من عصر في آن واحد – وخصّ حديثه عن «مثقف البلاد النامية»، فهو وبحكم زيارته المتكررة للشرق الأوسط توصل إلى التوصيف الآتي: «أن مثقف الدولة النامية يعاني أكثر من مرارة ذلك أنه واقعياً يعيش في القرن الـ18 – وفق تفاؤل ريكور معنا – وفكرياً يعيش عصر الحداثة الفائقة بكل فوريتها وتوالداتها».
تلك كانت توصيفات أحد الفلاسفة المعاصرين للمثقف العربي الذي يعاني الأمرّين من جهة إشكالية التوصيف، خصوصاً حينما تكون التوصيفات متصلةً بأجواء مكبوتة لأسباب اجتماعية أو سياسية. وما زاد الطين بلةً أن المنطقة تمتدّ على نحوٍ خطر ضمن بؤر الصراع الداخليّ، كما تحوّل الإرهاب من تنظيمٍ إلى ثقافة، حتى تعثر في مواقع التواصل الاجتماعي على إرهابيين ثقافياً وإن لم يحملوا السلاح، بات الإرهاب شبحاً داخلياً.
كل تلك الصراعات الطائفية والتصفيات على الأرصفة ترتدّ نحو مسائل فكرية لها جذورها العميقة في التراث، ولعلّ هذا ما رسم على السطح «إشكالية المعنى في الفكر العربي»، وعلى رغم كون العالم العربي ليس أكثر من أي عالم آخر في تعدد طوائفه ومذاهبه إلا أنه لا يزال يخطو وئيداً باتجاه نزع فتيل التفريق الطائفي والعرقي والأثني. يقول «مطاع صفدي»: «إن الحرب العالمية الثانية سرّعت من نضج الحداثة إبانها وأسهمت في العبور إلى مرحلة ما بعد الصراع».
بل أسهمت في تشكيل قالب إنساني جيد نشهده في أوروبا، على رغم تعداد التيارات الفكرية واختلاف الأعراق، والعالم العربي، على رغم الحروب التي طحنته طويلاً وأكلت من دمه على مدى قرون إلا أن الحروب تردّه تارةً أخرى نحو إحياء النزعات القومية والعرقية وإذكاء الحرب المعنوية الدينية تحت يافطات «الطوائف» و«ميلشيات الأحزاب»، و«نموّ بذرة الإرهاب»!
لم نصل بعد عربياً إلى توصيف دقيق لإشكالية الصراع التي تكوّنت عن إشكالية المعنى الفكري، ففي كل دراسة للحركات الأصولية، أو للتجمّعات البشرية، أو للحروب والنكسات تذكر نتائج مختلفة السياق، إن العجز البشري الخطر الذي نشهده عربياً إزاء ما يخصنا كلنا من أحداث عبر توصيفها أو ذكر نتائجها ودلالتها يعتبر من أبرز إشكاليات الصراع العنيف، الذي نما مع بروز الحكومات العسكرية، والثورات الوهمية الاستبدادية، والحركات الإسلامية الأصولية!
السؤال، إلى متى هذه الحرب على «المعنى»؟ إلى متى تظل كل طائفة أو حزبٍ أو تيارٍ فكري تحتكر الدلالات؟
يونيو
17
أساطير حول العبقرية والجنون
فهد بن سليمان الشقيران
جريدة الحياة ١٧ يونيو ٢٠١٣
من السهل أن تسحر الكتب المتعلّقة بالذات وتطويرها، وأسرارها، أو عاداتها، القارئ، وتحديداً حين يتعلّق الأمر بالعبقرية وعلاماتها، أو اتصالها بالجنون وغرابة الأطوار، وآية ذلك أن قراءة نماذج العباقرة الذين لديهم مسّ غرابة الطور تجعلهم يكبرون في أعيننا، ولو تصفّحنا النماذج المبثوثة في ثنايا تلك الكتب والصفحات، سواء كانت فان جوخ أو أينشتاين، أو ماكسويل أو نيتشه أو حتى ديكارت الذي قيل إنه كان يظنّ أن دجاجةً تبقبق في بطنه، كل تلك الأمثلة لا تدل على أنموذجٍ دائم، فالكثير منهم لم تمسّه غرابة الطور إلا بعد أن اكتمل إنتاجه، غير أنها لم تكن محايثةً للإنتاج أو مضارعةً له، من هنا يكون الفرق هائلاً بين العبقرية بوصفها إمكاناً وبين الاتصال بين العبقرية والجنون بوصفه السحر أو المشهد الجاذب أو القصة الآسرة، وأعرف الكثير من الكتب الخفيفة التي تُباع على أنها لاكتشاف العبقرية داخل الذات أو إطلاق المارد النائم الكامن الساكن في داخلك، وسواها من كتب بيع النجاح و«بزنسة» السير و«تطقيم» العباقرة و«تعليب» الذوات.
الاضطراب النفسي أو غرابة الطور تأتي ضمن سياقٍ نفسي وليست ضمن سياقٍ علمي، الكثير من الفلاسفة العظماء كانوا طبيعيين في حياتهم مثل إيمانويل كانط، كان يعيش حياةً طبيعية، لم يكن صارماً كما في السيرة الكلاسيكية عنه، بل كان مندمجاً مع الحياة، تطقيم الكبار أو تعليب سير الفلاسفة جعل من يقرأ سيرة كانط يشعر أنه أمام شخصٍ لا يسعد ولا يهنأ ولا يقابل البشر، وأحيل هنا إلى فصل: «تقويم حياة كانط – القضاء على أسطورة» ضمن كتاب: «امانويل كانط – حياته» لعبدالرحمن بدوي، الذي أشار إلى أن كانط كان مشاركاً في الحياة اليومية، ويغشى المقاهي ويلعب البلياردو، ويحضر في معظم أمسياته حفلات الموسيقى والتمثيل والرقص ويبقى أحياناً إلى منتصف الليل، كما لم يكن مناضلاً أو مناوئاً بل كان كالفلاسفة الألمان علاقتهم بالساسة جيدة، أو على أقصى الحدود باردة، فهو أعجب بفريدريش الأكبر وأهدى إليه كتابيه: «تاريخ الطبيعة العام ونظرية السماء» عام 1755، ورسالته الاستهلالية بعنوان: «صور ومبادئ العالم المحسوس والعالم المعقول» عام 1770.
الكثير من العباقرة والمبدعين لم يحتاجوا إلى أن يكونوا غرباء أطوار أو أن تمسّهم لوثة الجنون. الفكرة أن السذاجة الحماسيّة أو الضغط الدرامي يقود إلى تحويل المبدع إلى مجنون، أو مشاغب أو غير مفهوم، وهذه مبالغة سيرية لا قيمة علمية لها.
يكتب «هابرماس» في نصه: «كيف نفكر مع هيدغر ضد هيدغر»: «العبقرية لا يمكن أن توجد من دون نوعٍ من اللبس، ربما كان هيغل على حقٍ عندما فكر في أن الأفراد الذين يتجسّد فيهم التاريخ الكوني لا يمكن أن نحكم عليهم انطلاقاً من المعايير الأخلاقية».
رأى هابرماس أن اللبْس قد يساعد في فهم العبقرية لكنه ليس سبباً لها، ذلك أن العبقري لم يبدع لأنه ضمن لبس أو غموض بل لأنه ضمن ضخ إبداعي ومعرفي أو فني. من هنا نرى في الضخّ التربوي أو المتاجر التدريبية عناصر كثيرة من المبالغة والغش في طرح السير، وكأن كل إنسانٍ يحضر هذه الدورة أو تلك عليه أن يكون غريباً في أطواره فيقطع أذنه كما فعل جوخ.
ولو أخذنا المجتمعات المبدعة حالياً لرأينا أن نسبة الجنون والأمراض النفسية والغرابة في الأطوار والعته الذهني والذاتي عندها أقل منها عندنا، إذ تغصّ المصحّات ونرى في الشوارع والكثير من الأماكن من ابتلوا بالاضطراب أو العته أو الذهان أو الانفصام لكن هذا لم يثمر عن إبداع أو تقدم، ولم يجعلنا في مقدم الأمم، لم تحتج كوريا الجنوبية أو ماليزيا أو أوروبا إلى عبقري برتبة مجنون لينهض بها، بل إلى أناس طبيعيين على مستوى من التعليم الجيد الذي رسم وخطط له لتنهض. فلا صحة لهذا التطقيم السيري الذي تنضح به الدورات وبعض الكتيبات.
يونيو
10
خلف كل قيصرٍ يموت قيصرٌ جديد
فهد الشقيران
جريدة الحياة ١٠ يونيو ٢٠١٣
في البدء يأخذ الحدث تدويره الرومانسي في وسائل التكرير الإعلامي. الصور التي ترفع بها الفتاة كسرة الخبز، والشهامة المصطنعة بين المسيحيين والمسلمين، والسعي الهاتف في الميادين، كل تلك الصور تسحر الكثيرين فيبادرون بتسمية ذلك الحدث بـ«الثورة». تأبّط الكثيرون الكتب التي تُعنى بالثورات الأوروبية، وربما لم يبقَ أحد لم يتحدّث أو يقرأ كتاب حنة أرندت «في الثورة»، فضلاً عن الرجوع إلى مدائح بعض الفلاسفة للثورات ومن بينها الثورة الفرنسية.
ما فتئوا طوال العامين الماضيين من التهليل والتكبير. بقيت صيحة «أدونيس» بوادٍ سحيق إذ ظلم موقفه بحجة رجوع «الشيخ إلى طائفته»، بينما كان موقفه واضحاً إذ يرفض ثورةً لا تنادي بالعلمنة، بل ويرفض كل ثورةٍ تخرج من الجوامع، قالها عن حدث مصر قبل أن يقولها عن الحال السورية، هذا بعد أن أعجب بالأحداث التونسية كغيره من كبار المثقفين الذين تحول موقفهم من الحال «الثورية» في ما بعد.
لا تكاد تفرق في المشهدية الإعلامية الحاليّة، بين الحرب الأهلية وما يسمونه بـ«الثورة»، ذلك أن الثورة لها اشتراطاتها القبلية، فهي نتاج نضج المجتمع، الثورة نتيجة غليانٍ فريد يصاحب النمو في الأرضية التي يعيش عليها الناس، والثورة ليست شرطاً أن تكون على طراز الدم، أو على أسلوب الثورات الأوروبية، بل يمكن اعتبار ما جاءت به كوريا الجنوبية أو ماليزيا على أنه ثورة حضارية، إذ تجاوز السدود والحدود، وخرجت عن «الطوق» وتركت لغيرها العيش في التاريخ خصومةً وجدلاً، وفي الماضي تقليداً وارتجاعاً. الثورة على الطرق القديمة ولّى زمنها، وما من ثورةٍ نموذجية حتى الثورة الفرنسية.
يقتبس «ليوتار» نصاً من «كانط» عن الحماسة التي لاقتها الثورة الفرنسية من «ما الثورة» وهو نص يستشهد به «فوكو»، نص يكثف ويختصر فكر كانط التاريخي والسياسي حين يكتب: «إن الثورة، قد تفشل أو قد تنجح، كما قد يتراكم بسببها البؤس والفظائع، إلا أنها على رغم ذلك تجد في قلوب المشاهدين كافة ممن هم غير متورطين أصلاً – بشكلٍ غير مباشر – في هذه اللعبة موقفاً أو مشاركةً تتفق مع عبارتهم التي تقترب جداً من الحماسة، وما دام التعبير ذاته عن هذه الحماسة كان يعرضهم للخطر فلا يمكن أن يكون هناك أي سببٍ آخر له سوى وجود ميل أخلاقي له داخل الجنس البشري».
ثمة رومانسية مشهديها تحققها الانتفاضات العربية الحاليّة للمتابع لها وهو على الأريكة، ينظّر ويحلل، ذلك أنها تعطي بحسب كانط من هو غير مشارك بالثورة حال وجدانية على أن «الطغيان سيزول»، وأن الوعد قد اقترب. المشاهد غير الشريك بالانتفاضة هو الذي يحرّك دوائر الأخبار، لأن تتحمس بالنقل المستمر حتى تشبع تطلعه وتشوفه وتكسبه في صفّها. إنها المشهدية الرومانسية المختلطة بالدم، والحلم الكبير بأن تتساقط الرؤوس الطاغية الباغية واحداً تلو الآخر، غير أن ذلك لم يحدث.
كل الطغاة الذين زالوا جاء من هو مثلهم بالبطش وأسوأ، وهذا يذكّر بنصٍ جميل للشاعر أمل دنقل في قصيدته الشهيرة: «كلمات سبارتكوس الأخيرة»، حين كتب:
«هم الذين يرثون الأرض في نهاية المدى
لأنّهم… لا يشنقون!
فعلّموه الانحناء…
وليس ثمّ من مفر
لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كلّ قيصر يموت: قيصر جديد!
وخلف كلّ ثائر يموت: أحزان بلا جدوى…
ودمعة سدى
فتقطع الصحراء. باحثاً عن الظلال
فلا ترى سوى الهجير والرمال… والهجير والرمال
والظمأ الناريّ في الضلوع!
يا سيّد الشواهد البيضاء في الدجى…
يا قيصر الصقيع».
يونيو