شرود السينما ضد معيارية الفلسفة

شرود السينما ضد معيارية الفلسفة

فهد بن سليمان الشقيران

جريدة الحياة ٢ سبتمبر ٢٠١٣

 

من خصائص الفنون أنها غير معادية لقرائها أو لمنتقديها، ذلك أن قراءتها بل ونقدها شرط لتذوقها. الفن يرحب بالنقد دائماً بل هو المجال الأكثر ترحيباً به. وآية ذلك أن الفيلم الواحد تتعدد عليه القراءات والآراء والانتقادات وكذلك الفنان بما ينتجه، تتعدد أيقونات التقويم للمنتج الفني، وهذا ما يصعب وجوده في المجالات المختلفة الأخرى، إذ يغرق أهل بعض المجالات بالنرجسية والادعاء، حتى قال الشعراء عن النقّاد: “الناقد شاعرٌ فاشل”.

مثل هذا التنافي بين النقاد والمنتجين هو الذي أعنيه بالرحابة التي يعطيها المجال الفني لمن ينتقد، والسينما بمجالها العريض تؤسس لورش نقدية يومية من خلال ما يطرح عليها من قراءات، وكلما تصاعد الإنتاج السينمائي ترعرعت شجرة النقد، واستوى ثمره على سوقه. في المؤلف المشترك بين جاك أومون، وآلان برغالا، وميشال ماري، ومارك فيرني بعنوان «جماليات الفيلم»، جاء في مقدمته:”تُصدر دور النشر الفرنسية كل عام ما يناهز 100 كتابٍ مخصص للسينما، وثمة مصنف عام -ملحق للعدد 16 من مجلة سينما اليوم ربيع 1980- معنون تحديداً بـ[السينما في 100 ألف صفحة] كما نحصي أكثر من 10 دورياتٍ شهرية [نقد أفلام، مجلات فنية، حياة الممثلين]وما إلى ذلك)(*).

 بهذه المعلومة يتضح أن النقد السينمائي ليس مقصوراً على العارف أو المختص، ميزة الفنون أن نقادها يمكن أن يكونوا «هواة» على عكس بقية العلوم والمجالات التي تتطلب العارفين والمختصين المتضلعين، من هنا برز مصطلح «هاوي السينما» والتي تطوّرت بحسب المؤرخين في فرنسا بعد حرب عام 1945.  بقيت الفلسفة قريبة من السينما وقارئة لها بفعل ضغط المجال السينمائي على الفلاسفة، وإذا كان برغسون تناول الصورة، فإن جيل دلوز سيتناول السينما، وسيتجاوز المفهوم الفني الهيغلي، فهو المعارض لمفهوم هيغل للفلسفة أصلاً، كما يصف دلوز فلسفته بأنها «هيغلية مضادة» ومعاصرة، ميشيل فوكو كتب أن القرن الـ20 سيكون قرن التخلص من قبضة هيغل.

 تجاوز دلوز حصر الفنون أو تحديدها، وأطلق سلطانها، فهو خصص لكل مجالٍ عمله، فاصلاً بين الفلسفة والعلوم والفنون، نافياً أن تكون الفلسفة هي العلم، بل إن العلوم والفنون عبارة عن ثلاثة فروع معرفية مستقلة، وتفكر بالتساوي، ولا أفضلية لفرع على آخر.  السينما تتجاوز الحقيقة، وتنفي التطابق، فهي لا تنتج إلا ما يختلف، ومن هنا الشراكة بين القراءة الاختلافية للسينما وبين القراءة «الهاوية»، إذ الفن بعمقه كما يكتب هيدغر: «الفن هو تغيير وتحويل في صور الأشياء، ولهذا هو أكثر وأشد تحقيقاً للحياة من الحقيقة التي ليست سوى تحنيط لما يظهر».

الفن يتجاوز الحقيقة لأنه شارد، والحقيقة معيارية.  القراءة والأداة والمعول والمشرط، هذه الوسائل للحرث في المجال الفني والسينمائي، إنما تفتح كوى على جدرٍ مغلقة، وتستطيع أن تفتت «بديناميت» بطشها كل ما يفصل بين الفن وقارئه، وبين الفيلم والسائر شريطياً على الشاشة، ممعناً بالتركيز والنقد والتلصص والتربص.

النقد الفني يتجاوز النقد العلمي لرحابة المجال وطوله، ولأن النقد ضمن الجمال وضمن وسائل الفرجة والرؤية والصيغة والجملة، لا ضمن مجال الحق والباطل والأصل والتطابق والتوافق والابتداع.

الفن تجاوز دائم وحيوي، ولا يمكن عزله عن النقد. من هنا، فإن أي تطور نقد ممتنع من دون تطور فني، والفن ينتج نقّاده من جنسه.  هذا هو الهياج الجماهيري على الفنون الرخيصة و«الكليبات» والإنتاج الهابط، هذا هو مجال السفه السينمائي يهيمن، ولم ينتج نقاداً له، إلا ضمن سياق التفاهة التي يقطعها. فمهمة الفن، ليحفز على القراءة، أن يكوّن أثراً مغرياً للقراءة والتربص.

(*) انظر كتاب “جماليات الفيلم” طبع عن دار كلمة 2011.