نوفمبر 2017

الديمقراطية والعلمانية بين الجابري وطرابيشي

الديمقراطية والعلمانية بين الجابري وطرابيشي
جريدة الشرق الأوسط 23 نوفمبر 2017
فهد سليمان الشقيران

بقي مفهوم العلمانية بكل التباسات تبيئته وترجمته إلى العربية مثار نقاشٍ طويل ليس على المستوى الآيديولوجي العقائدي المتعلق بضرورة ربط أي إجراء سياسي بـ«الحكم الإسلامي»، وإنما حتى بين التيارات الفكرية العربية المعاصرة، كان النقاش كبيراً بين عدد من المفكرين حول علاقات العلمانية بمفهوم الديمقراطية، سجال بدأ أواخر الثمانينات بين مفكريْن بارزين هما حسن حنفي ومحمد عابد الجابري على صفحات مجلة «اليوم السابع» امتد لعشرة أسابيع متواصلة في الفترات بين مارس (آذار) ونوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1989، وقد طبع في كتابٍ بعنوان: «حوار المشرق والمغرب». يرفض حنفي العلمانية لأننا: «لا نحتاج إليها وهي واردة من الغرب»، بينما الجابري يرفضها لأن «الإسلام ليس فيه كنيسة» حتى ندعو لفصل الدين عن الدولة، بل يقول كما الإخوان المسلمين: «الإسلام دين ودولة».

تم طرح الديمقراطية كبديلٍ للعلمانية، وذلك من قبل الجابري بسلسلة مقالاتٍ أعاد طبعها بكتابه «الدين والدولة وتطبيق الشريعة»، وتحت عنوان: «بدلاً من العلمانية، الديمقراطية والعقلانية» يكتب: «برأيي أنه من الواجب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر القومي العربي وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية… فمسألة العلمانية في العالم العربي مسألة مزيفة، بمعنى أنها تعبر عن حاجاتٍ بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات». ويحيل الجابري العلمانية بوصفها دعاية من «مسيحي الشام» الخاضعين للهيمنة العثمانية، ويدلل بأن العلمانية لم تطرح في بلدان المغرب ولا في بلدان الجزيرة، وبالتالي لا تحتاج الديمقراطية إلى الصيغة العلمانية، هذه الأسطر ستستفز طرابيشي الذي خبر الجابري وألف الرد على أطروحاته.

في الجزء الأول من كتابه «هرطقات – عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية» يعمل طرابيشي مجرحه الدقيق على طرح الجابري العشوائي حول مفهوم «العلمانية»، وهو نقد طويل جداً، ولكن يمكن الوقوف على صلب النقد وعصب الاعتراض، يقول: «الحال أن الجابري، عندما يعوزه المزيد من الأسلحة المنطقية لتدعيم مقولته عن عدم لزوم العلمانية، يستعين بمنطق الأصوليين، ولكنه لا يأخذ من استدلالهم سوى مقدمته الصغرى، أي تحديداً الضعيفة. هكذا يقول بالحرف الواحد: (أنا مقتنع تماماً بأن الإسلام هو دين ودولة في آن واحد) إن ما يسكت عنه الجابري ـ علماً بأنه من المختصين الرواد في الساحة الفكرية العربية بعلم المسكوت عنه ـ هو أن صاحب هذه المقولة هو مؤسس حركة الإخوان المسلمين حسن البنا».

يعترض طرابيشي على مقدمة الانطلاق عن الجابري: «أما من حيث المقدمة الكبرى، فلنقل بصراحة إنها مبنية على حيلة شكلية: فليس صحيحاً تعريف العلمانية بأنها (فصل الكنيسة عن الدولة). فالكنيسة هي حالة جزئية من حالات ذلك الكلي الذي هو الدين… فالعلمانية قد لا يكون فيها أذى للإسلام كدين، بقدر ما أنها تهيئ له جواً للانعتاق من أسر السلطة السياسية وللتفتّح والتقدّم كدين. وذلك ما حدث أصلاً للمسيحية التي اكتشفت، بعد طول مقاومة، أن العلمانية قد أفادتها في استعادة بعدها الروحي بعدما كانت جرت مصادرته، على مدى قرون عديدة، لحساب البعد الزمني. والعلمانية في نهاية المطاف لا تتطلع إلى تحرير المجتمع من الدين، بل إذ تكف يد الدولة عن المجال المجتمعي وعن المجال الديني معاً، تكفل أكبر قدر من الحرية الدينية للأفراد والجماعات معاً. ففي ظل العلمانية فحسب، يمكن أن تتفتح الحرية الدينية إلى أقصى مداها؛ وفي ظل العلمانية فحسب، يستعيد الدين مجال فاعليته في المجتمع».

لم يكن مفهوم العلمانية مثار احتجاج تقليدي في كهوف المتطرفين، وبعض المجاميع الدينية، بل حدثت اشتباكات كبرى، نتذكر معركة عبد الرحمن بدوي مع فؤاد زكريا، حين أخذ الأول على زكريا التأكيد على حيوية العلمانية في ضبط حركة الواقع، بل ويتخوّف بدوي من طرح زميله بالسوربون محمد أركون.

تأتي ممانعة الجابري ضد المفهوم باعتباره دخيلاً على المجتمع العربي، وهو من بين الآثار المسيحية التي لا يحتاج إليها الإسلام، يستخدم وغيره ذات المنطق التقليدي الحارس للهوية، وحين تقرأ كتاب الجابري آنف الذكر يعيدك إلى منطق عبد الوهاب المسيري في كتبه المناوئة للعلمانية وأساسها «العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة» وفيه ينطلق بعداوته للعلمانية من مفاهيم طرحت في مدرسة فرانكفورت مثل «الاستهلاكية – الشيئية – الأداتية»، و«التشيؤ» المتهمة به العلمانية الاستهلاكية كان قد طرحه من قبل جورج لوكاتش. يكتب المسيري مثلاً في كتابه «الهوية والحركة الإسلامية»: «لا بد أن أشير إلى أن عبارة (إصلاح الخطاب الديني) تستخدم أحياناً لتعني إعادة صياغته بطريقة ترضي الغرب، مما يعني تحويل الدين إلى تجربة ذاتية روحية فيفصل الدين عن السياسة وعن الحياة، وتصبح النزعة الجهادية والرغبة في إقامة العدل في الأرض نزعات ورغبات إرهابية، أي إن الإصلاح هنا يعني إلغاء ما أسميه بالإسلام المقاوم وسيادة رؤية لإسلام براغماتي عملي مسالم مساوم يعجب الأجانب، والذي أسميه ساخراً (الإسلام السياحي)».

باختصار؛ لا يمكن للديمقراطية أن تكون بديلاً عن العلمانية، فلكل مفهوم وظيفته، ومن دون بيئة على مستوى من العلمانية لا يمكن للعملية الديمقراطية أن تكون ذات فعالية مدنية. والديمقراطية أداة وفضاؤها العلمانية. وكل الجلبة التي قادها مفكرون يساريون ومقاتلون راديكاليون وأمشاج من الإسلاميين والمفكرين المتحولين مثل «المسيري وجارودي» كلهم لم يأخذوا بالاعتبار إمكان التعامل مع المفهوم بوصفه «منصفاً لحضور الدين بالواقع» بدلاً من استعماله كمنتجٍ غربي يثير الريبة والهلع.

إن الديمقراطية الأداتية حين تطرح بوصفها البديل عن العلمانية، فإن في هذا تدشين لمرحلة أصولية.

  

العدالة المنصفة… وشكل الدولة الحديث

العدالة المنصفة… وشكل الدولة الحديث
جريدة الشرق الأوسط 9 نوفمبر 2017
فهد سليمان الشقيران

لم تعد الديمقراطية هي الصيغة الوحيدة المحققة لأكبر احتمالٍ بالعدالة؛ بل شهد المفهوم تحديات كبرى، معظمها نشأ من التصعيد التحليلي لتاريخ العدالة وإمكانات تشكيلها لحدوثٍ من دون الرضوخ لصيغة الديمقراطية بوصفها الأداة الناظمة لكل إيقاعات العلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة. وأخطر ما يمكن طرحه تحويل الطرح الديمقراطي على أنه ضمن المعيار الأخلاقي، وبالتالي لا قيمة لأي نظام سياسي من دون طهر الديمقراطية، وهذا تنقضه التجربة التاريخية للمفهوم حتى في الدول التي خبرته ودرسته، بل قد يجر كوارث سياسية واجتماعية كبرى، إذاً الهدف من الديمقراطية تحقيق العدالة، وأينما وكيفما تحققت العدالة المنصفة فإن الدولة تقترب من تلبية حقوق مجموع الإرادات المتصارعة بالمجتمع.
تنصّ رؤية 2030 على مفهومين أساسيين هما من أهداف رؤية الدولة التي ستشكل النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي؛ أولهما: الحنفية السمحة، بما يجعل الدولة ضمن الإطار السمح للمفهوم الديني، ومن هنا يمكن اعتبار هذا المفهوم موازياً ونظيراً لـ«التسامح» الذي طرح بالفلسفات من قبل لنزع فتيل الفتنة بين المسيحيين أنفسهم بتصارعهم، وبين المسيحيين واليهود، كما في رسائل التسامح عند فولتير وجون لوك وآخرين، وصانع الرؤية الأمير محمد بن سلمان في مؤتمر إعلان «نيوم» اعتبر تحقيق التسامح والتفاهم والتعايش مع الحضارات من ضمن الأهداف الأساسية لئلا تضيع علينا العقود بملاحقة المتطرفين، ونرهق الميزانيات للحرب على الإرهاب. المفهوم الآخر الذي ذُكر في الرؤية: القيم السامية، وهذا يمكننا من الاطمئنان على النهج الذي ستتخذه الدولة باعتبارها قادرة على تحقيق القيم السامية وفق نظامها السياسي، ومؤسساتها، وقوانينها، وأثمر ذلك تحقيق قيمتين في أسبوعٍ واحدٍ تقريباً؛ الأولى: صدور نظام مكافحة الإرهاب وتمويله بمواد صارمة حاسمة لتجعل النظام من أمتن القوانين الملاحقة للإرهاب بالمنطقة، والثانية: البدء بترسيخ أسس العدالة عبر الأمر الملكي بتكليف ولي العهد لملاحقة المتورطين في قضايا فساد، وبعد صدور الأمر الملكي بساعات أعلنت وتسربت أسماء أمراء ووزراء ورجال أعمال وجهت ضدهم تهم معينة يتم على أثرها التحقيق معهم.
إن العدالة يمكن أن تكون ثمرة أنظمة سياسية تتخذ مناهج إدارية متعددة، وليس شرطاً أن تحيل الديمقراطية للعدالة، بل كل التطبيقات السياسية العربية للديمقراطية أسست لحراسة الفساد، والمحسوبيات، وشلت وعطلت حيوية وحركة المجتمعات والدول.
جون راولز الحافر بمفهوم العدالة مشروع عمرٍ تحدّث في أطروحته «العدالة كإنصاف» عن علاقات هذا المفهوم بتاريخ الإرث الديمقراطي، فهو يوضح أن «الفكر الديمقراطي أظهر ومنذ قرنين تقريباً، أنه لا يوجد أي إجماعٍ حول الكيفية التي ينبغي أن تنتظم حسبها المؤسسات الأساسية داخل نظامٍ ديمقراطي إذا كانت مطالبة بتحديد وتأمين الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين، وبالاستجابة لمقتضيات المساواة الديمقراطية. هناك اختلاف عميق حول الكيفية التي يمكننا أن نحقق من خلالها قيم الحرية والمساواة في إطار البنية الأساسية للمجتمع على أحسن وجه، لنقل لأجل تبسيط ذلك بأن هذا الصراع الداخلي بالنسبة لتراث الفكر الديمقراطي هو نفسه الذي أثير بين تقليد لوك الذي يولي أهمية أكبر لما يدعوه بنيامين كونستطان بحرية المحدثين، أي حرية التفكير والاعتقاد، وبين بعض الحقوق الأساسية المتعلقة بالشخص والملكية، وبين تقليد روسو الذي يركز على حرية القدامى، أقصد تساوي الحريات السياسية وقيم الحياة العمومية، من المؤكد أن هذا التقابل يفتقد للدقة والصحة التاريخية، غير أن بإمكانه أن يتخذ وسيلة لتثبيت الأفكار».
معيار راولز باختصار لتحقيق العدالة المنصفة، أن ينسجم الشخص ضمن حقه مع النظام العام مع حريته وتساويه مع الجميع والمتساوق مع نفس النظام بالنسبة للكل، وكذلك أن يتم إخضاع التفاوتات الاجتماعية لترتبط بوظائف ومواقع مفتوحة بوجه الجميع حسب الشروط المنصفة لتكافؤ الفرص، وكذلك وهنا مربط الفرس: «يجب أن تكون التفاوتات للصالح الأفضل للأعضاء الأكثر حرماناً في المجتمع». راولز يتفرّد بهذا المعيار الناصع الذي يتجاوز الأداتية الديمقراطية، ليضع معاني المساواة وترتيب التفاوتات مداخل تحقيق العدالة، لأن الديمقراطية بوجهيها الفكري والتاريخي، ليست ضامنة للعدالة، ولكن يمكن تحقيق العدالة ضمن نظام سياسي لا يتشدق بالديمقراطية، وهناك نموذج عربي حين نتحدث عن حقبة حكم الحبيب بورقيبة بتونس، وهذا مثال واضح وصريح.
وأخيراً؛ فإن التبجيل الأعمى لآلية «الديمقراطية» ليس له قيمة ضمن تطور المفاهيم السياسية، وضمن المزيج الذي تخلقه كل دولة لنفسها بما يتفق مع قيمها ومجتمعها، لكن مع عدم الاختلاف حول جوهرية «العدالة» بوصفها جوهر العمل السياسي، ولهذا تفصيل آخر.

 

تحرير المجتمع من اختطاف الصحوة

 

تحرير المجتمع من اختطاف الصحوة
جريدة الشرق الأوسط 2 نوفمبر 2017
فهد سليمان الشقيران

كانت العقود الثلاثة الماضية عصيبة على السعوديين؛ الموجة الراديكالية التي عمّت العالم الإسلامي بعد الثورة الخمينية ألقت بظلالها الكئيب على تفاصيل الحياة، إذ بات الواقع ميداناً للانتقام المتبادل، امتلأت النفوس بالحسرات، والرغبة بالتوبة من المباحات، قُصفت البيوت ليلاً ونهاراً بالأشرطة والمطويّات، تخلص الناس حتى من صور ذكرياتهم، وإن سمع المرء مقطعاً من أغنية عابرة بالراديو فإن الوساوس كفيلة بهدّ كاهله. لقد كانت المباحات تنقض ظهر الإنسان، كل شيء حُرّم تقريباً، باستثناء ما يبيحه دعاة تسيّدوا المشهد، واختطفوا المجتمع، واكتسحوا المنابر واحتلوا الواقع بأكمله، وغدا الصالح من يزينونه هم، والطالح من يعادونه. لقد قُضي على الحياة تماماً، وقد كان لقلةٍ غرباء من المثقفين والكتاب أدوارهم المتحدية لأولئك وذلك من خلال الكتب والروايات والصحف، قادوا مقاومةً نصرُها مستحيلٌ أمام جيوش الكراهية وسدنة الحرام، حتى نالهم من التكفير والتضييق ما نالهم فما وهنوا وما استكانوا، حتى جاء الأثر السياسي التاريخي.
أثر بليغ يُروى عن الخليفتين عمر وعثمان: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»، أثبت صدق معناه على مر التاريخ، إذ أقوى أساليب التغيير في تاريخ المجتمعات، أن يؤمن الحاكم بمشروعٍ لشعبه، ويبني نظماً وأسساً قانونية تحرس ذلك المشروع، وتجعله جزءاً من الواقع. قيّض الله الأمير محمد بن سلمان ولي العهد ليضع حداً لذلك الاختطاف التاريخي للمجتمع السعودي. العقود الثلاثة الماضية لن نعيد تكرارها في السنين المقبلة، قالها الأمير في حواراتٍ عديدة، وكانت واضحة صارمة في حوار «نيوم»، إذ تعهد الأمير محمد بتدمير التطرف على الفور، لقد طُويت الصفحة، والآن على الرموز الظلامية، ودعاة الكراهية، وحرّاس الوسواس، وقادة الكآبة، أن يعتزلوا المشهد، وأن يلزموا بيوتهم، فالمرحلة ليست لهم، إلا إذا استطاعوا صوغ أفكارٍ أخرى جديدة، وصناعة تحولاتٍ فكرية، والدخول ضمن مراجعات تجعلهم ضمن «المجتمع الطبيعي» أو «الحياة الطبيعية» كما وصفها الأمير. إنها سُنة الحياة، فالإنسان لا يمرّ بالنهر مرتين، كما يقول هيراقليطس، الحياة صيرورة مستمرة وأبدية.
كلمة أخرى مهمة قالها تركي آل الشيخ، المستشار بالديوان الملكي ورئيس هيئة الرياضة السعودية، في المؤتمر الصحافي الذي أعلن من خلاله عن تنظيم دخول العائلات إلى الملاعب الرياضية، إذ أوضح أن: «الملك وولي العهد مثلما هم شديدون بإيقاف المحرمات، هم أيضاً لديهم الشدة للحفاظ على المباحات، وهذا الموضوع بات واضحاً». إذاً، يعود النهر مجدداً إلى الجريان، وينهدّ سد تعيس مَنَع المباحات وشوَّهها، وجعل الحرام قرين الطُّهر، والمباحات مظنّة الغفلة، و«الغفلة» مصطلح صحوي امتلأت به الأشرطة، وهي حالة من عدم الخوف والرهبة والرعب، الغفلة لديهم تعني السعي في مناكب الأرض، والتمتع برزق الله، إنهم يريدون الناس مجرد قطيع يعيش بالوحشة من دون أي استمتاع بالحياة الدنيا.
من أبرز أسباب تسيّد الحالة الصحوية، حركة جهيمان في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 1979. صحيح أنها ضُربت على مستوى الخليّة والتنظيم، لكن لم يكن هناك «اجتثاث» مباشر على النحو الذي قام به الملك عبد العزيز بمعركة السبلة في 30 مارس (آذار) 1929. الفرق في الأولى أنها لم تُجتَث من أصلها ولم يتم سحق أفكارهم بشكلٍ قوي، ذلك أن الظاهرة الراديكالية تعيد صنع نفسها كل ثلاثين سنة، ومن دون استعدادٍ سياسي لسحق الظاهرة مع جذرها فإن بعض أفكارها قد تنتشر، وبعض أتباعها قد يتسيدون، كما أن الخطأ الخطير أن أُعطيت حرية لأولئك الدعاة، وباستثناء أحداث عام 1994 حين تم القبض على دعاة التطرف وإيداعهم السجن، لم يكن هناك جهد رسمي حقيقي لتحرير الواقع من قبضة الصحوة.
أبرز سلاح انتصرت به الصحوة كان التضييق على المباحات، مع أنه الأصل في الدنيويات، ولا يحرّم شيء إلا بدليلٍ قاطع ناصع، ومعظم المحرمات التي يساط بها ظهر المجتمع هي من المباحات، والآية القرآنية صريحة: «قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق». إن الحرب على المباح كانت منظّمة عبر الكاسيتات والمطويات والخطب والمواعظ، وذلك من أجل استهداف المجتمع بضميره الواخز، حتى تعزز الوسواس، وباتت النجاة من عقاب الله لا يمكن أن تكون إلا عبر ذلك الداعية، والانصياع لتعاليم «الشيخ». الآن نعيش حالة مختلفة، تعود الأمور إلى نصابها، وكل القرارات التي اتخذتها السعودية هي من قبيل إتاحة المباح وتنظيمه، وهذه بداية الطريق للخروج من السياجات الصحوية الكارثية التي حبست أنفاس المجتمع.
زمن السنين الثلاثين المدمّرة التي عاشها المجتمع علينا اعتباره من التاريخ، لقد بدأت الخطّة التنموية الشاملة التي يتغير من خلالها المجتمع عبر الاقتصاد والرياضة والإعلام ومنصات الترفيه المتنوعة، فالترفيه حقّ للإنسان وليس ترفاً كما يعتقد بعض المعاتيه، إنه ليس زمن الصحوة، ولا زمن الإخوان، بل زمن التنمية والانتصار لدنيا الإنسان.

  

مذكرات عمرو موسى… فرصة للنقاش

مذكرات عمرو موسى… فرصة للنقاش
جريدة الشرق الأوسط 26 أكتوبر 2017
فهد سليمان الشقيران

لا تزال أصداء صدور الجزء الأول من مذكرات الدبلوماسي المصري عمرو موسى تثير الكثير من الجدل والنقاش؛ المذكرات التي تضمّنت رواية ما وراء كواليس نصف قرنٍ من العمل السياسي لم تسلم من مبالغات في الوصف، وتبرئة لساحة الأنا، غير أنها بقيت محتفظة بالنفَس السردي الممتع، وبخاصة أن تبويب مذكراته التي عنونها بـ«كتابيه» كان متسلسلاً، وذلك وفق منهجٍ أشار إليه الراوي في مقدمة الكتاب. وقد تفاوت مستوى التشويق في الكتاب وبلغ مداه في حديثه عن السادات، ولقائه بعبد الناصر، وحرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 وأحداث حرب الخليج، وعملية السلام، وقد عرج على مواقفه في أحداث مؤتمر مدريد عام 1991، وهنا يورد قصة لقائه مع جيمس بيكر في منتصف الكتاب.
يورد عمرو موسى موقفه الخطابي حين التقى بيكر وربط بين أي عملية سلام بإيقاف الاستيطان الإسرائيلي، وتحدّث عن مركزية مصر في أي عملية سلام تجري بين الفلسطينيين والإسرائيليين. موقف كان قد أشار إليه الأمير بندر بن سلطان في سيرة «الأمير» التي كتبها عنه ويليام سيمبسون، وذلك في الفصل المخصص لعملية السلام بالشرق الأوسط، باختصار يروي الأمير بندر أن بيكر سأله: هل سيحاول عمرو موسى إلقاء محاضرة علينا بعد أن التقيت برئيسه؟! ردّ عليه الأمير بندر بتوقع ذلك، وحين فعل ذلك عمرو موسى بالفعل؛ حيث تشعب حديثه وأدلى بموقفه الذي يصفه الأمير بندر بـ«القومي»، ضرب بيكر بملفّ جلدي على الطاولة حتى عاد عمرو موسى بموقف رئيسه» (ص: 291).
وبعيداً عن البطولات اللفظية، وبخاصة تلك المرتبطة بقضية فلسطين، عرج على موضوعٍ مهم بهذه المرحلة، وهي طبيعة العلاقة بين مصر وقطر، وبين عمرو موسى وأمير قطر السابق ووزير خارجيته، حمد بن خليفة وحمد بن جاسم، تحدث عن توتر العلاقات بالطبع بعد تسلم حمد بن خليفة الحكم بسنة واحدة، ومن ثم يقول: «قام تعاون كبير بيني وبين حمد بن جاسم؛ والواقع أنه يجمعنا ودّ متبادل، فأنا أقدّره شخصياً، وأقدّر كفاءته ونشاطه وانفتاحه، وأداعبه دائماً بقولي: كفاك جمعاً للثروة، فيقول لي: أريد أن أكون أغنى رجل بالعالم العربي». يضيف: «علاقة الرئيس مبارك وحمد بن خليفة كانت طيبة للغاية، رغم كثرة المشكلات التي كانت تظهر على فترات. ومن ضمن القفشات التي كان الأمير يرددها على لسان مبارك ويضحك جداً عليها، حكاية طائرة حمد بن جاسم التي أمر أمير قطر بمنحها للرئيس اليمني علي عبد الله صالح، فبعد أن شاهد صالح هذه الطائرة خلال توديعه رسمياً في مطار الدوحة أبدى إعجابه بها، فمنحها له الأمير، وكان حمد بن جاسم واقفاً إلى جانبها لا يتوقع ذلك، وحزن وظل يشير إلى هذا المقلب آسفاً، بينما ظلّ الأمير يشير إلى هذا الحدث ضاحكاً، وكان كلما التقى مبارك مع حمد بن جاسم قال له: كيف تترك طائرتك لعلي عبد الله صالح؟ فيرد: لقد كانت جامبو يا سيادة الرئيس، فيرد عليه مبارك بالطريقة المصرية: جامبو على جامبو».
تلك المواقف توضح مستوى «الخفّة» في السياسة القطرية، وأحسب تلك القصص توضح مدى انعدام الحكمة لدى جل السياسيين القطريين، رغم «الكلام الإيجابي» لعمرو موسى عن قطر، على سبيل المثال حين تحدّث عن غضب الملك عبد الله من تهجّم قناة «الجزيرة» على مصر، يقول: «كانت السياسة القطرية تحاول إرضاءه بقدر إمكانها»، وهذا غير صحيح إطلاقاً، ورغم أن مذكرات موسى طبعت الآن، أي في عزّ الأزمة بين دول المقاطعة وبين قطر، فإنه لم يلتفت إلى التفريط اللفظي والموقف الهادئ من دولة حاولت انتهاك سيادة مصر، وليس صحيحاً أن قطر بذلت «إمكاناتها» من أجل إرضاء جيرانها وعلى رأسها السعودية، بل هناك أذى مستمر مدعوم من النظام القطري نفسه، الذي يستهدف بالصوت والصورة أمن دول المنطقة واستقرارها.
وحين أراد موسى وصف أمير قطر السابق قال: «أود أن أضيف هنا نبذة عن الأمير الشيخ حمد، فهو ناصري التوجه، وهابي المذهب، ويمارس الاثنين معاً، أو لا يمارسهما»، وهنا يجب أن نتداخل مع عمرو موسى مطالبين بالأسباب التي جعلته يخلع هذا الوصف على الأمير، لم يورد إلا سبباً واحداً، وهو أن الأمير قال له ذلك، ثم إن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لا تتضمن مذهباً، فهي دعوة إصلاحية ليس لديها مذهب فقهي، ومرجعها بالفقه لمذهب الإمام أحمد بن حنبل، إذن لا يوجد شيء اسمه «المذهب الوهابي»، بل ثمة دعوة تصحيحية ضمن المجال العقدي، ولم تؤسس لمذهب فقهي خاص.
مذكرات موسى طُرح الجزء الأول منها فقط بأكثر من ستمائة صفحة، ورغم الاختلاف الذي أوردته غير أن هذا لا ينفي التاريخ السياسي والدبلوماسي للوزير المصري المخضرم، غير أن أي مذكرات تطرح لا بد أن تخلق فرصة للنقاش والسجال حول المعلومات، والأوصاف والأشخاص والقصص التي تضمنتها الرواية.