يونيو 2015

الآن.. هل يمكننا الحديث عن «نهاية التاريخ»؟!

 

الآن.. هل يمكننا الحديث عن «نهاية التاريخ»؟!

فهد بن سليمان الشقيران

 

 

ربما كان الحديث عن النهايات سائدا في الثلث الأخير من القرن العشرين، إذ صعدت تباشير «النهايات» من نهاية الجغرافيا إلى نهاية التاريخ إلى نهاية الفلسفة بل ونهاية الإنسان. والحديث عن النهايات إنما يشكّل البحث عن «مراحل الذروات» وأساس «نهاية التاريخ» انطلق من جدلية هيغل، ومن ثم تأويلات فاتيمو وصولا إلى «أطروحة» فوكوياما التي تعتبر من أشهر الأطروحات المثيرة للجدل في تلك الفترة. حتى لم يبق مفكر إلا وتحدث عنها ضربا أو تحريرا أو نقدا وتأييدا. وهي من نوع الأطروحات التي تشغل النقاش أكثر من كونها نظرية مشيدة متكاملة، بل هي أقل من ذلك بكثير، فهي تشبه أطروحة «صراع الحضارات» لهنتنغتون. لهذا فإن البحث عن الذروات الآن لم يعد قائما وذلك لفعل التشتت والتفتت التي تشهده الكليات الكبرى في القرن الحادي والعشرين.

 

لا علاقة لـ«نهاية التاريخ» بـ«الحداثة البعدية» فبينهما بون شاسع، ذلك أن الحداثة البعدية منذ ليوتار وهي تتحدث عن توزع المراكز، وتهشم النظم المشيدة، ومن ثم لتتحوّل الفلسفة إلى «صناعة المفاهيم» كما يعبّر جيل دلوز، وعليه فإن الحال التي نعيشها هي حال «ما بعد الذروات» ذلك أن الظواهر تسير على السطح أكثر مما تصعد نحو السماء.

من هنا فإن الصرعات المستمرة على مستوى «الفيديو كليب» أو «الأزياء والموضة» أو «الطبخ والأطباق» أو انتشار «التفاهة الضرورية» كل تلك الحالات وغيرها، إنما تؤكد على تغير مستوى «الذروات» وطريقة حركتها.

 

المفهوم بالمعنى الدلوزي يولد من دون ذروة، يولد بساق من دون جذر أو ثمرة، فهو مسطّح. كذلك النزعات التي تصاحب الحداثات المتوالدة حاليا لا تشهد النهايات ولا تعترف بها.

 

الحالات التي نعيشها لا تبحث عن نهاياتها، بل هي بين الحياة والموت. بعض المفاهيم تشتغل، وبعضها ينطفئ ويموت، حين نأخذ مفهوما صوفيا قديما كـ«الفيض» نجده شغّالا وفعّالا منذ عشرة قرون تقريبا. بينما مفاهيم انتهت واندثرت وهي مولودة في القرن العشرين.

 

إن البحث عن أطروحات تتناول الذروات أو البطولات بات ممتنعا في زمن السيولة المعرفية والتقنية وبزمن لم تعد العولمة فيه فكرة، بل انتهت العولمة كأطروحة لكنها تسكننا كأسلوب كما نرى في العالم الآن. في السياسة نجد موسكو بوجه واشنطن، كما أن إيران في الحضن الأميركي، وأميركا الأسطورية تتضاءل صورتها، والقادة على الصورة القديمة انقرضوا، لن تعثر في القرن الحادي والعشرين على من يشبه «إبراهام لنكولن» مثلا، تلك مرحلة انتهت في زمن التفتت وتحول الظل إلى مركز والجسد إلى ظل، كما تعبر نصوص الحداثات الفوّارة المتجددة المصارعة لكل قديم.

 

في حوار أجراه الزميل ممدوح المهيني ونشر في «الشرق الأوسط» بتاريخ 28 أكتوبر (تشرين الأول) 2013 مع الصحافي الأميركي كريستيان كارل أحد كبار مجلة «نيوزويك» الأميركية التي أغلقت أبوابها هذا العام قال: «باتت الحاجة أقل لقادة عظماء يحدثون إنجازات كبيرة. العالم يدفع لإنتاج قادة تكنوقراط». وهذا الذي يجري إذ تحوّل رؤساء دول عظمى إلى عاقدي صفقات وإلى ضعفاء لا يختلفون عن رئيس أي شركة، من هنا تكون «الإمبراطورية» في القرن الحالي متراجعة على عكس الذي كانت عليه في القرن العشرين، رغم امتلاكها القوة، غير أن التفتت وتساوي الرؤوس وانتهاء الصراع بين الإمبراطوريات في الشرق ضد الإمبراطوريات في الغرب، كل ذلك شكّل نافذة نحو تهاوي «القيم» أصلا لتكون ضمن سياق القانون التقني لا النظرية الأخلاقية والذي يجري بسوريا الآن أكبر مثال، ذلك أنه لا أحد في العالم يريد التدخل ولا أحد يغريه التدخل أو يشعر بمسؤولية التدخل.

 

السطح أصبح ممتعا مهما تجرّد من معناه في بعض وجوهه. حتى إن صيغ الإعلام الحديثة أنصفت التفاهة التي أقصيت من المجال الفني على مدى قرون. الآن باتت هناك أنشطة خلابة هي على مستوى من اللامعنى، تمتعك بسطحيتها. بعض نجوم هوليوود قيمتهم الكبرى في الأفلام التي تنتج من دون أن تحمل المعنى، نتابع جديدهم بحثا عن سطحية عالية نتابع جديد التفاهة وصرعاتها، والتفاهة تكتسب أهميتها إعلاميا وإعلانيا وسينمائيا، وهي عنصر جذب، لأنها تعطيك فقط لحظات تسلية من دون أن تضطر للبحث عن معنى، أنت لن تجده، ومن ثم صار الهامش مركزا بفضل التفاهة ذات القيمة المكتسبة بالسوق، كما أن هناك مومياءات إعلانية وأيقونات يتهافت عليها سوق الإعلان، لقوة تفاهة الشخصية ومحافظتها على شروط «التفاهة القيّمة» لم تعد التفاهة هامشا منفيا. هذه هي الحالات التي لا تتجه نحو الذروات، وإنما هي مثل نيران الأعراس تشتعل وتنطفئ من ذاتها، وهي لا تبحث عن صيغ أو معان وإنما ترتد إلى حيث بدأت لتتوالد حالات أخرى جديدة ضمن الحداثات الفوارة التي لم تعد تؤرخ على طريقة التحقيب التاريخي لفرط تجددها.

 

نحن في زمن تفتت الكليات، وتساوي الرؤوس، وفقدان القادة الكبار، وتسيد الخبير على الفيلسوف، من هنا تأتي التحولات الكبرى التي أشار إليها جيل دلوز تلميحا في بعض أطروحاته، الأمر الذي جعل ميشال فوكو يقول حينها: «قد يكون هذا العصر عصرا دلوزيا بامتياز».

 

السعودية وروسيا.. إحياء الشراكة التاريخية

السعودية وروسيا.. إحياء الشراكة التاريخية

جريدة الشرق الأوسط 17 يونيو 2015

فهد بن سليمان الشقيران

 

في الرابع عشر من أبريل (نيسان) وفي ذروة الضرب الذي تقوم به قوات «عاصفة الحزم» ضد الميليشيات الإرهابية الانقلابية باليمن تم التصويت على مشروع القرار الخليجي في مجلس الأمن، وتم إقراره بالإجماع، واكتفت روسيا بـ«الامتناع عن التصويت»، تحدّث أمين عام حزب الله بعدها منكسرًا بسبب الموقف الروسي المدوّي الذي يعبّر عن انعطافة معيّنة تجاه ملفاتٍ تمسّ مصالح السعودية والخليج، وحين سئل السفير عبد الله المعلمي عن السرّ في الموقف الروسي الإيجابي قال ببساطة: «تحدّثنا معهم». إنه القرار (2216).

يستعاد الآن مسار العلاقات بين البلدين، وهو تاريخ ضارب في القدم، ويعود إلى العام 1926 عندما اعترف الاتحادالسوفياتي آنذاك بالمملكة العربية السعودية ليصبح أول دولة في العالم تعترف بقيام المملكة، وفي عام 1930 تم تحويل القنصلية السوفياتية في جدة إلى سفارة. وفي عام 1932 قام الملك فيصل بن عبد العزيز حين كان نائبا للملك في الحجاز بزيارة للاتحاد السوفياتي، بينما كانت الزيارة التاريخية للملك عبد الله بن عبد العزيز بوصفه وليًا للعهد آنذاك في سبتمبر (أيلول) عام 2003 هي الرافعة للعلاقات بين البلدين حينها. ليقوم من بعده الملك سلمان بن عبد العزيز بزيارة إلى موسكو في يونيو (حزيران)2006 حين كان أميرا لمنطقة الرياض. وهكذا في زياراتٍ توالت للأمير سلطان بن عبد العزيز، وابنه الأمير بندر، والأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السابق.

بين السعودية وروسيا الكثير من المصالح والأهداف المشتركة، والاختلاف على بعض الملفّات والبرامج لا يعني استحالة التعاون، وقد أثبتت مواقف روسيا الكثيرة ومنها ما يتعلق بالربيع العربي وأحداثه، وكذلك التحوّل المصري بعد 30 يونيو أن هناك إمكانات لتأسيس شراكة سياسية واقتصادية تتجاوز فيها السعودية التحالفات الكلاسيكية القديمة المعتادة، لتصل إلى الصين وروسيا، وهذا ما تفسّره زيارة الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع السعودي، الذي استهلّ هذه الزيارة التاريخية لإتاحة أرضية خصبة للنقاش والتشارك وعلى رأس ذلك التعاون العسكري، والاقتصادي وفي مجالات الطاقة، وروسيا من دعاة الحرب على المنظمات التطرفة بما فيها تنظيمات مثل «القاعدة» و«داعش»، باعتبارها ممن تضرر من هذه التنظيمات منذ ثلاثين سنة في مناطق كثيرة من الجمهورية الروسية.

من الطبيعي أن تكون روسيا مقصدًا للأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد، ذلك أن صناعة صيغ تواصل جديدة مع الدول القوية في العالم يعد سلوكًا واضحًا في عهد «الإدارة الذكيّة» التي سرّعت من الإنجازات الداخلية، وتحاول تجريب أسس أخرى للتعامل مع المشكلات الإقليمية، وروسيا براغماتية من الطراز الأول وهي تريد الوصول إلى أنماط تعامل مع دول الخليج وعلى رأسها السعودية لتعزيز الاقتصاد والنفوذ. وقبل أيام وافق مجلس الوزراء على تفويض رئيس مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية – أو من ينيبه – بالتباحث مع الجانب الروسي في شأن مشروع مذكرة نوايا مشتركة بين مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية ووكالة الفضاء الروسية في جمهورية روسيا الاتحادية للتعاون في مجال استكشاف الفضاء الخارجي واستخدامه للأغراض السلمية، والتوقيع عليه، ومن ثم رفع النسخة النهائية الموقعة لاستكمال الإجراءات النظامية.

كل تلك الإمكانات والعلاقات والشراكات بين البلدين ستعززها الزيارة، والاختلافات على بعض الملفات لا تعني عدم نقاشها مرارًا، أو الاتفاق على ملفّاتٍ أخرى، والدبلوماسية السعودية اشتهرت بالممكن، ومن العبارات التي ما فتئ الملك الراحل فهد بن عبد العزيز يكررها: «ما لا يدرك كله، لا يترك جلّه»، هناك إدارة ذكيّة سريعة في السعودية لا تعرف معنى لإضاعة الوقت، أو الرهان على السنين لإصلاح العلاقات، بل تدفع باتجاه الحلول السريعة، والبحث عن مخارج حقيقية لكل اختلافٍ أو جمودٍ يشوب علاقاتٍ مع دول وقوى كبرى، وهذا ما يؤسس له الأمير محمد بن سلمان الذي يزور روسيا وبيده الكثير من النقاط والمشاريع والحوارات والأسئلة التي سيناقشها هناك.

ثمة دراساتٍ كثيرة تتحدث عن الإرادة الروسية للنفوذ بالأصقاع لغرض تثبيت توازن القوى، بمقابل «الهيمنة» التي تمثّلها الولايات المتحدة على النحو الذي يذكره أستاذ العلاقات الدولية أرتيوم لوكين في كتابه: «روسيا وتوازن القوى في منطقة شمال شرقي آسيا» وفيه يشير إلى ضرورة قيام موسكو بتحركاتٍ استراتيجية للمنافسة الجيوسياسية المتزايدة بين الصين والولايات المتحدة. ولنتذكّر التعاونات الروسية الناجحة مع دول عربية مثل الجزائر الذي نقل بوتين العلاقة معها إلى الذروة، فزيارته لها عام 2006 كانت هي الأولى لرئيس روسي منذ عام 1969. وفيها تم الإعلان عن تعاون بمجال الطاقة ومن بعد نتج عن الزيارة توقيع مذكرة تفاهم بين شركتي «سوناطراك الجزائرية» و«غازبروم» الروسية، وهي اتفاقية تاريخية لبلدين يمدّان قارة أوروبا بالغاز.

زيارة الأمير محمد بن سلمان تعيد إلى الأذهان الزيارة التاريخية للملك فيصل في الثلث الأول من القرن العشرين، لتذيب الجمود، تعمل على فتح آفاقٍ أخرى، ومن ثم التأسيس لدروب غير التي سلكت من قبل، وذلك من أجل تجاوز التململ الأميركي من المنطقة وتقصيرها الواضح مع الحلفاء. الاقتصاد يمكنه أن يؤسس تحالفات طويلة الأمد، والسعودية من أغنى دول العالم، وتستطيع أن ترسم استراتيجيات جديدة في المنطقة وقد بدأت ذلك بالفعل للحد من التهديدات التي تشكّلها إيران وأذرعها، ولتقوية الترسانة العسكرية للحفاظ على الأمن القومي والدفاع عن البلاد، والتطوير لمجالات الطاقة والعلوم والتقنية بالتعاون مع دولة بحجم روسيا وغيرها.

في عام 2005 وفي كلمة أمام مجلس الأمن، قال الرئيس الروسي: «إن الطاقة اليوم هي نموذج القوة المحرّكة الأهم للتقدم الاقتصادي العالمي». هذي هي الفكرة الأساسية، أن بلدين كبيرين من دول العشرين في العالم يؤسسان لشراكة جديدة بزيارة استثنائية بسياق آخر، وبمنطقة تعاد رسم خرائطها على أسس القوة والمزاحمة والتحدّي والنفوذ.

 

الصادق النيهوم… حروف مغطّاة بالثلج

 


الصادق النيهوم… حروف مغطّاة بالثلج

فهد بن سليمان الشقيران


بعض الكتّاب تجد كتبهم أليفة لديك، كلما أخذتها وقلبتها تشعر بقيمةٍ استثنائية تجاهها، على بساطتها أحياناً، أو عدم انتشارها، ربما لأنك دخلت إلى هذه الكتب وخرجت منها بطيف آخر أضيف إلى تفكيرك، أو أسلوبك، أو رؤيتك لما هو حولك، بعضهم يصبغ أسلوبك بالجمال، والبعض الآخر يمدك بطاقة هائلة، لدرجة أنك تعود إلى تقليب كتبه – التي طحنتها قراءةً – مستنيراً مسترشداً باحثاً عن طاقةٍ أخرى يمدك بها من خلال أسلوبه أو أفكاره أو كتاباته.

 

مع الأزمات العربية، والحرب الأهلية الليبية، من الضروري العودة إلى «النور الفكري الليبي»، ولعل جوهرة الفكر والأدب الليبي هو: الصادق النيهوم الذي كان حديقة جامعة للشباب الليبي، الباحث عن الإصلاح الفكري والديني والثقافي. لهذا نرى في الكتاب الاحتفائي الذي صدر عنه تحت اسم «طرق مغطاة بالثلج» الكثير من الوفاء من مجايليه وتلامذته. فهو وإن بعُد عنهم في تنقله بين دول أوروبا إلا أنه لم ينقطع عن مراسلاتهم.

 

جاء كتابه «نوارس الشوق والغربة» ليضم رسائل ببياض الثلج، وبحزنٍ شفيف، فهو الآتي من بنغازي إلى أرصفة أوروبا، يحنّ إلى عبق الجدات، وأحاديث البسطاء في المقاهي، جاءت مراسلاته مع رشاد الهوني وخليفة الفاخري، لتطور من أدب المراسلات العربي، حتى أن صحافياً اتهم النيهوم «بأنه يستخدم الأسلوب الأوروبي» في الكتابة، لكنه وفي لقاءٍ إذاعي نشر في «طرق مغطاة بالثلج» نهره وعاب عليه هذا التخريج الصادر عن عدم استيعاب لخاصية الأسلوب الذاتي للكاتب.

 

انتهج النيهوم صيغة المقالة الفكرية، وبرع فيها وتسيّد المقالة التي تجمع بين الفكرة العميقة والأسلوب الشيق والسخرية المطمورة والمدفونة تحت سطح المقال، لهذا جاء نتاجه في معظمه مقالاتٍ مجموعة مثل «محنة ثقافة مزورة»، «تحية طيبة وبعد»، «كلمات الحق القوية»، «فرسان بلا معركة»، «إسلام ضد الإسلام»، «الإسلام في الأسر»، «الحديث عن المرأة والديانات»، وكتب بعض الأبحاث الأخرى.

 

تتنوع تناولاته الفكرية بين دور الجامع، وإمكان أن يحل الجامع محل البرلمان في الديموقراطية. فهو يعتبر الجامع مؤسسة إدراية لشؤون المسلمين، لكن السياسة التغلبية التي طبعت التاريخ الإسلامي المملوء بالخلافات فرغته من مضمونه الكبير.

 

ولم يتم تجاهل دوره الفكري الريادي كمفكر نهضوي إصلاحي، بل تناوله حتى الباحثون في الفلسفة بمداخلات ثرية تجعل منه مفكراً يطرح أسئلة محفزة على النقاش والجدل، ومن بين من خصص أبحاثاً عنه الكاتب اللبناني علي حرب، وذلك في كتابه «نقد النص»، إذ قام بقراءة نقدية فلسفية لنص الصادق النيهوم، خصوصاً في كتبه التي تتناول الفكر الديني وهي «محنة ثقافة مزورة»، و «إسلام ضد الإسلام»، و «الإسلام في الأسر». علي حرب تحدث عن رشاقة أسلوب النيهوم خلال قراءته النقدية الممتعة، كما أن تلميذه إبراهيم الكوني كتب بحثاً نُشر في مقدمة كتاب «طرق مغطاة بالثلج» عن أسلوبه وفكره وأثره على التنوير والنهضة في الصحافة والمؤسسات الثقافية الليبية.

 

من عجائب الكتب، أن بعض المقالات التي تتحول إلى كتب حين تكون مركزةً وتتمخض عن بحث وجهد أثناء الكتابة تتفوق أحياناً على كتب الأكاديميين والباحثين. نستدل على هذا بآثار مقالات رولان بارت الواضحة على الحركة الأدبية والفلسفية في فرنسا، وهي تترجم إلى اليوم إلى لغاتٍ أخرى. وفي العالم العربي لدينا نماذج قليلة من كتب المقالات الفكرية التي نجح تحويلها إلى كتاب، وهذه جزئية تحتاج إلى دراسة خاصة. لكن النيهوم حين تعد الكتب الفكرية النقدية النهضوية تأتي كتبه على رأس القائمة، هذا مع أن جلها عبارة عن مقالات مجموعة.

 

الصادق النيهوم ولد عام 1937 في بنغازي، وتوفي عام 1994 في جنيف، رحل وهو من أعظم من كتب المقالة الفكرية في الصحف العربية في القرن العشرين.

 

 

 

 

 

  

اسبينوزا.. محاولة الإفلات من قبضة الخرافة

اسبينوزا.. محاولة الإفلات من قبضة الخرافة

فهد بن سليمان الشقيران


لم يدر بخلد أحدٍ أن الطفل – الذي أراد له أبواه أن ينشأ نشأة دينية عبر إرساله إلى مدرسة حاخامٍ يدعى مورتيرا – سيكون الناقد الأهم لمعاني الحقيقة في القرن السابع عشر، والأكثر تأثيرا في مجال التنظير للاهوت والسياسة والأخلاق والدين على مر العصور. على أرضٍ أشرقت عليها الطبيعة، وجرى بها قطر الماء واهتزّت الأرض وربت وتشققت عن جمالٍ وخضرة نضِرة، ولد الفيلسوف الهولندي باروخ اسبينوزا في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 1632 متحدرا من عائلة برتغالية ومن وسطٍ يهودي ملتزم بالتعاليم، ولد في أمستردام بهولندا. تعمّق بدراسة الثقافة اليهودية ودرس التلمود. تعرّف مبكرا على موسى بن ميمون وبعض علماء اللاهوت اليهودي في العصور الوسطى.

عاش في وسطٍ صعب، وببيئة موحشة، لا يمكن للرأي الجريء إلا أن يعقبه الجلد، وفي أبريل (نيسان) عام 1647 شاهد اسبينوزا جلْد «أوريل داكوستا» علنا بناء على حكمٍ صادرٍ من الكنيسة اليهودية في أمستردام، الأمر الذي جعل أوريل يقدم على الانتحار فيما بعد.

في منتصف العشرينات بدأ التمرد يتضح على ملامح اسبينوزا، حاول بعض رجال الطائفة استمالته واستدراجه بسطوة المال، وتعرض لمحاولة اغتيالٍ من بعض الجموع المناوئة له وفشلت، بلغت القطيعة ذروتها حين أصدرت الكنيسة اليهودية في 27 يوليو (تموز) 1656 قرارا بطرده، وتمت مقاطعته من الطائفة اليهودية، ومن ثم الأسرة والأصدقاء. تقبّل هذا الطرد والتهديد بهدوء ليدخل في علاقة قوية مع فرق ساخرة من التعاليم والأفكار السائدة تدعى «اللوّامة» بقي مهمّشا لمدة أربع سنواتٍ إلى أن تعرّف في «ليدن» على مجموعة من المهتمين بالفلسفة فكانت البداية لتدشين أشرس الضربات المعرفية التي توجه إلى اللاهوت في عصره.

لم ينشر اسبينوزا كتبه باسمه في حياته باستثناء كتابيه: «مبادئ فلسفة رينيه ديكارت» و«خواطر ميتافيزيقية» وذلك في ستينات القرن السابع عشر، أما كتابه الأخطر: «رسالة في اللاهوت والسياسة» فقد طبعه من دون اسمه، وبرغم نشره بأمستردام غير أنه اضطر للتمويه فكتب على طرّة الغلاف «طبع في هامبورغ في ألمانيا» وقبيل وفاته 1676 زاره الفيلسوف لايبنتز واطلع على كتابه «علم الأخلاق»، عانى من التهميش والمطاردة والمرض واضطر إلى الإقامة بالضواحي، وأقام حينا لدى الرسام «در اسبك» وفي 21 فبراير (شباط) 1677 توفي باروخ اسبينوزا تاركا وراءه حرائق أشعلها لم تنطفئ نيرانها بعد.. وحين توفي نشر أصدقاؤه أعماله ومنها: «علم الأخلاق، رسالة في إصلاح العقل، المراسلات» ونسبت فقط إلى «الحروف الأولى من اسمه».

كان دخول نص اسبينوزا إلى التداول العربي مهما، وذلك عبر دراساتٍ قدمت وهي مهمة من أبرزها «اسبينوزا» لفؤاد زكريا، ومن ثم كتابات عبد الرحمن بدوي، وإلى اهتمامٍ قوي أبداه حسن حنفي لترجمة كتاب: «رسالة في اللاهوت والسياسة». حنفي صاحب الأطروحة عن «فيورباخ» ترجم كتاب اسبينوزا المهم هذا ووضع مقدمة ضافية للتعريف بفلسفته، ليصل الاهتمام أقصاه من خلال ترجمة أعماله ومن بينها ترجمة جلال الدين سعيد لكتاب: «علم الأخلاق».

كانت المداخل التي بدأ بها اسبينوزا تنظيره وأسئلته تشترك بها كل المجتمعات المنغلقة، فهو بدأ بالتطمين للقارئ المنفعل الخائف على عقيدته من الاهتزاز حين كتب في «رسالة في اللاهوت والسياسة»: «(هذه الرسالة) فيها تتم البرهنة على أن حرية التفلسف لا تمثل خطرا على التقوى أو على السلام في الدولة، بل إن القضاء عليها يؤدي إلى ضياع السلام والتقوى ذاتها». أهداف رسالته تتلخص في: إثبات أن حرية الفكر لا تمثل خطرا على الإيمان، وأن العقل هو أساس الإيمان فإذا غاب العقل ظهرت الخرافة.

ناقش في مؤلفاته أسئلة الجوهر، والقانون الإلهي والقانون البشري، وموضوع المعجزات، ومارس النقد التاريخي. استخدم اسبينوزا منهج ديكارت لمساءلة الأسس والأصول والمغلقات التي دمّرت العقول، وراح يضرب بمنهج ديكارت المسارات الفكرية المتعددة بالمجتمع، فعّل المنهج لفحص جذورٍ لم يمسّها ديكارت عبر منهجه كما يوضح وبشكلٍ مطوّل حسن حنفي في تقديمه ودراساته عن اسبينوزا الذي استخدم المنهج في تعبيد الطرق الوعرة التي أعاقت سير الإنسان نحو الإيمان العقلاني وتصفية الذهن من شائبة الخرافة وأعباء الأساطير.

امتدّ مشرط اسبينوزا ليصل إلى مناقشة فكرة الحقيقة والمعرفة الحدسية، والواحدية العلمية، والعلاقة بين الذهن والجسم، وناقش نسبية الظاهرة الدينية، والطابع الأساسي للنظرية الأخلاقية، وفي السياسة تطرّق إلى فكرة الحق الطبيعي وتكوين الدولة، وأهمية الحياة الاجتماعية ووظيفة الدولة، وسواها من أفكارٍ لامعة هائلة، وبرغم مرور أربعة قرونٍ على ما كتبه غير أن الكثير من المفاهيم لا تزال مضيئة في جوف الليل مثل عيون القطط تتحدانا بالأسئلة وبنثار المفاهيم المدوّية.

سنتطرّق في سطورٍ لاحقة لاحقةٍ إلى أبرز تلك الموضوعات التي طرحها، فما كتبه لا تتسع له المساحات المختصرة، فما قام به اسبينوزا مثل زلزالٍ كبير لا يقل عن ثورة «كوبرنيكوس» في القرن السادس عشر، لجهة تحويل العلم وزلزلة العقول وضرب القناعات وتهشيم القلاع، غير أن النبذة المختصرة قد تفتح المجال لقراءته وتفتح مغاليق العقول لتدبر رسالته.

في آخر رسالته باللاهوت والسياسة كتب: «إنني بشر، ومن الممكن أن أكون قد أخطأت، ولكني على الأقل حاولتُ ألا أقع بالخطأ، وحرصتُ بوجهٍ خاص على ألا أكتب شيئا يتعارض مع قوانين بلدي، أو يتنافى مع الحرية والأخلاق» رحل عن خمسة وأربعين عاما فقط.

كانت فلسفة اسبينوزا، ومن خلال المفاهيم التي نحتها، والظواهر التي بحثها، والأنماط التي شرّحها واختبرها، محاولة للإفلات من قبضة حاضر تهيمن عليه الخرافات والأباطيل، أراد بمعاول علمه مستخدما مطارقه أن ينقض على هذا الغول الخرافي الرابض على أوروبا من أقصاها إلى أقصاها، وظف المفاعيل الهندسية والأسس النظرية الطبيعية من أجل تخطيط منهجه وتشييد فلسفته، وهو بهذا يحاول أن يخاتل ويناور ذلك أن الزمن العصيب الذي عاشه كان منفجرا على المستوى الديني والسلطات الكنسية التي تضرب من دون رحمة كل من مس لها أسطورة أو كذب لها أيقونة أو شطب لها فكرة، على النحو الذي ذكرناه في الحلقة التي خصصتُها عن حياته. هنا سأقف مع أبرز المفاهيم المتعلقة بالمعرفة والدولة التي تضمنتها فلسفته.

ألحّ اسبينوزا على أن أول درجة في سلم التفكير تكون: «أنطولوجية» عبر البحث عن الوجود وعن الطبيعة، متجاوزا البدء الذاتي في كوجيتو ديكارت: «أنا أفكر إذن أنا موجود». راح يبحث ويحدد أنواع المعرفة أولها: معرفة نكونها عن الأشياء الخاصة بواسطة حواسنا، وتتمثل لنا فيها الأشياء جزئية مختلطة لا ترتيب فيها، ثم إلى معرفة سماعية تؤدي بنا إلى تكوين فكرة عن الأشياء مشابهة لما نتخيله عنها فحسب. والثاني: ينشأ من وجود أفكار لدينا مشتركة بين جميع الناس، وأفكار كافية عن خصائص الأشياء «العقل». ثالثها: وهو المفهوم المثير للجدل في فلسفة اسبينوزا، وهو «الحدس» عبر الانتقال من فكرة كافية عن الماهية المطلقة للصفات إلى المعرفة الكافية لماهية الأشياء. ورغم الربط بين هذا المفهوم (الحدس) وبين سياق الصوفية في الوصول إلى الحقيقة، كما ذهب إلى ذلك فندلبنت غير أن الحدس الاسبينوزي هو حدس لا يتجاوز معطيات العقل والعلم على النحو الذي تكون فيه الشطحة الصوفية، وهذا مجال بحث آخر.

يعتبر المعرفة العقلية جزء منها فيزيائي انطلاقا من عدم الفصل بين الذهن والجسم، ذلك أن ما يعرفه الإنسان من أفكار تنبعث من حالته الفيزيائية، وجماع هذه الفكرة حال ائتلاف بين جسمه الخاص وعقله الخاص، علاوة على تأثير الاتصال الجسدي بالنتيجة التي يتوصل إليها العقل. يعود إلى الالتقاء بديكارت من خلال مفهوم «التميز» للفكرة التي تمحض الصحيح والخاطئ، فالفكرة الأوضح والأكثر تميّزا أصدق من الفكرة الغامضة المشوشة، وليس علينا أن نقارن بموضوعها لنعرف ذلك، باختصار: «ما دام نظام الأفكار وارتباطها هنا نفس نظام الأشياء وارتباطها، فإننا نستطيع أن نكون متأكدين أن الفكرة الواضحة تماما والمتميزة في ذاتها متضايفة في عقولنا مع ما يناظرها بين الأحداث فقط في صفة الامتداد، وبأنها تتضايف تماما مع هذا الحادث، ومثل هذه الفكرة تشغل مكانها المناسب في سلسلة النظام الضروري للأفكار الذي يكون حقيقة نظام الكون».

على مستوى الرؤية السياسية، والتشييد النظري لمفهوم الدولة، توضح الدراسات التي اشتغلت على فلسفة اسبينوزا أن ثمة تأثيرا من قبل توماس هوبز عليه وبالأخص من خلال كتاب: «اللفياثان»، كلاهما يرى أن كل إنسان مقدر عليه بطبيعته أن يسعى لتحقيق مصلحته، وكلاهما حاول أن يبين أن تكوين المجتمع السياسي بما ينطوي عليه ذلك من قيود على الحرية الفردية للإنسان يمكن تبريره لأسباب مصلحية عقلية.

يكتب عبد الرحمن بدوي في قراءة مقارنة بين هوبز واسبينوزا: «إن هوبز مثل اسبينوزا يتحدث عن القانون الطبيعي والحق الطبيعي، ويقصد بالقانون الطبيعي: المجرى الذي حددته الطبيعة كي يسير فيه الإنسان، والحق الطبيعي وهي مجموع القوانين الطبيعية التي بها نتصور كل فرد على أنه مقدر عليه بالطبيعة أن يعيش على نحو معين». ثمة تقاطعات حول الدولة والسياسة بين الفيلسوفين واضحة ضمن مفاهيم رئيسة تتعلق بالإنسان والدولة والقانون والحرب، واسبينوزا في رسالته رأى أن أفضل أنواع الحكم: «ذلك الذي يتأسس على العقل ويسترشد بالعقل».

كتب اسبينوزا بلغة جافة علمية صارمة، مستخدما الهندسة للمخاتلة، والنقد غير المباشر، واستعمال الصيغ النظرية لهدم الخرافة والأباطيل، لا تزال بعض مفاهيميه وبعد مرور أربعة قرون عليها يصعب تداولها في بلدان كثيرة من العالم، ويستحيل نقاشها وتدريسها بأوساط قلقة محتقنة تجاه الأطروحات المختلفة، بقي غائبا عن التداول الفكري العربي كما أشرنا من قبل غير أن انبعاث مفاهيمه كان قويا عبر أطروحات بدأت في منتصف القرن العشرين على يد فؤاد زكريا، ومن ثم عبد الرحمن بدوي، وصولا إلى حسن حنفي، وانفرط العقد الآن بفضل الجيل الفلسفي الشاب.

اسبينوزا يشبه مفاهيمه، عاش متخفيا في قرى نائية، لكنه موجود في كل لحظة، والمفهوم الذي تطرده من الباب يأتيك من الشباك، إنه طيف اسبينوزا الكبير الذي لا مثيل له في التاريخ.

 

«شون بن».. أصالة البرية وزيف المدينة

«شون بن».. أصالة البرية وزيف المدينة

فهد بن سليمان الشقيران


شكلت حياة المدينة بصخبها وضجيجها، بنظامها الصارم وتعقيدات أهلها، والتوجس المستمر بين الأفراد.. شكلت تلك القيود كلها همّا لدى كثير من الفلاسفة الذين عاصروا الثورات العلمية، والتقدم التقني، وغليان الابتكار وتضاؤل حجم العالم، وتقارب العالم، وسيلان المعلومة. لقد ساهمت المدن بمعنى ما في صياغة «الهم» أو «الجموع» أو «الوجود الزائف» بحسب تعبير هيدغر، لهذا نرى «زرادشت» نيتشه قد يمم وجهه نحو الجبال؛ حيث الأفاعي والنسور، حيث «الحكمة» يلزمها الصمت، والإنصات للوجود يمنح الإنسان قدرة على الحدس ورؤية الوميض ومراقبة شهب الحقيقة الغامضة. وقد رأيت من خلال التتبع أن «هيراقليطس، وفيلوكتات، وبرموثيوس، وإمبيدوكل، ونيتشه، وهيدغر» مع اختلاف أزمانهم، كلهم لجأوا إلى الجبال للتفكير والتأمل، وكل دروب أولئك كانت صادمة، ذلك أن الوجود في الجبال هو «وجود الأعالي» بتعبير نيتشه.

 

حين تحاول أن ترى «مشهديا» تلك الرحلة من المدينة إلى الريف، من الضجيج إلى الحقل، من السهل إلى الجبل، تنبعث لك الصورة التي يطرحها الفلاسفة من خلال مشاهدة فيلم «إلى البرية» Into the Wildالمنتج في 2007، وأصله مستوحى من كتاب يحمل الاسم نفسه، من تأليف جون كراكور، الذي يحكي مغامرة كريستوفر مكندلز. أخرج الفيلم الممثل والمخرج شون بن، وهو الذي كتب السيناريو. الفيلم من بطولة إميل هيرش، وويليام هورت، ومارسيا غاي هاردن، وجينا مالون، وهال هولبروك، وكاثرين كينر، وكريستين ستيوارت.

وعلاوة على إخراج رائع، وسيناريو ممتع، فقد كان للصور والنقلات بين المشاهد، وتتبع البطل سراب الحقيقة، والبحث عما يسميه هيدغر «براءة الصيرورة» أو «بكارة الطبيعة»، كان لذلك أكبر التأثير في مفاصل الفيلم وسيلانه البصري الهائل. يتحدث البطل الحائر، الهارب من المدينة بحفلاتها وصخبها، عن البحر والبر، عن المسير والوميض، عن النهر والماء. وبينما يجهز قاربه ليهزم به موج البحر، يصرخ: «ما يعطينا إياه البحر، هي هذه الضربات من الموج». ومن ثم يبحر وفي منتصف مشواره يرنم حول الحقيقة: «إن اعترافنا بأن الحياة البشرية يمكن أن يديرها المنطق يدمر احتمال الحياة»، ثم تدخل موسيقى «إيدي فيدر» التي تعد من أفضل القطع الموسيقية للأفلام، وحاز الفيلم عنها جائزة «غرامي».

على وقع الموج يغني البطل: «أيها المجتمع أنت مريض». تذكرت النص الفلسفي الرائع لمارتن هيدغر: «وحدها الغابة السوداء تلهمني» الذي كتبه ردا على اتهامه بـ«النازية»، وردا على المناصب التي رفضها، وهو في كوخه أعلى الجبل حين كتب: «المدنيون يندهشون أحيانا لعزلتي الطويلة والرتيبة بالجبال وبين المزارعين، غير أن ما أعيشه ليس العزلة، وإنما الوحدة. في المدن الكبيرة بإمكان الإنسان أن يكون منعزلا أكثر من أي مكان آخر، وبسهولة متناهية، غير أنه لا يستطيع أن يكون وحيدا ألبتة، ذلك أن الوحدة لها نفوذ متميز تماما في ألا تعزلنا، ولكن بالعكس، في أن تلقي بحياتنا كلها بجوار جوهر كل الأشياء. في ليل الشتاء العميق تنفجر عاصفة ثلجية حول البيت، وتأخذ في تغطية ومواراة كل شيء، عندئذ يبدأ زمن الفلسفة، والعمل الفلسفي لا يجري بعيدا كما لو أنه فريد من نوعه، إن مكانه يوجد وسط عمل الفلاحين».

وبينما البطل في رحلته إلى البرية يفكر ويتأمل أن أيامه الأكثر إثارة تلك التي كان فيها مفلسا، وقرر أن يعيش الحياة فقط بـ«بعض الوقت» مستعينا بالحرية والجمال البسيط، تحفه الموسيقى وحالة الحب، وبيده الكتاب.

قدم الفيلم صورا صادمة ذات معنى وجودي عميق، فيه مساءلة لواقع المدنية الذي يشوبه الزيف، هذا فضلا عن «التكاذب الجماعي» و«التواطؤ» على تتفيه كل ما هو قيم، ونحر جوهر الأشياء من فنون وموسيقى وجماليات وروحانيات، لتكون سلعا ضمن شركات، وصيغ متاجرة، وأوراقا للعمولات، بدلا من أن تبقى ضمن كيانها الأصلي. هذا الزيف هو نقطة الهروب في تفاصيل الفيلم ونقلاته. وحين أدركه الجوع في الغابة وجد فريسته «الموظ» بجثتها الضخمة، حينها أطلق النار عليها، ليعثر في جوفها على جنينها، ومن ثم يفشل في تناولها لينثر لحمها للحيوانات، ولتمر الذئاب عليها لتنهش، وهو ينظر إلى الذئاب يسأل: من الوحش هنا؛ الإنسان أم الذئب؟! وهل يلام الذئب على افتراس الإنسان؟!

يبقى الفيلم صيغة وجودية بداخلها صورة دقيقة ومدهشة، وسيناريو شاعريا ومتسائلا. هذا ما جعل الفيلم يستحق أن يكون ذا بعد فلسفي حقيقي بنقلاته وأسئلته وحيويته.

وبينما البطل يلفظ أنفاسه الأخيرة في الحقل يرسل إلى حبيبته التي تنتظره: «السعادة أن نكون معا»، رحل وهو يؤمن بشيء أساسي: «إن الله هو المحبة».

 

جاك دريدا… فيلسوف التفكيك و«التشتيت»

جاك دريدا… فيلسوف التفكيك و«التشتيت»

فهد بن سليمان الشقيران

وسط محيط مزدحم بالاختلافات، ولد الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا في البيار قرب مدينة الجزائر في 15 يوليو (تموز) 1930. تنازعته الأعمال الأدبية والفلسفية منذ المرحلة الثانوية، حيث درس مبكرا نصوص برغسون وسارتر في الأعوام 1947 و1948. وفي منتصف الستينات من القرن العشرين طرح ورقة: «البنية، العلامة، واللعب، في خطاب العلوم الإنسانية»، حينها بات اسمه متداولا بشكل جدي في الأوساط الفلسفية والنقدية، لتتكون أدوات دريدا في التفكيك والاختلاف من خلال كتبه التي توالت: «الصوت والظاهرة»، الذي يعده أحب أعماله إليه، و«الكتابة والاختلاف»، وفي السبعينات أصدر كتبا منها: «مواقع»، و«هوامش الفلسفة» و«التشتيت».

لم يخلق أداة للقبض، أو الوصول، بقدر ما أراد من أدواته الاختراق، والإحراج، والتشويش، والبحث عن الهوامش في المتون، وعن مساحات البياض في الورق المسود. نحت مفهوم «Déconstruction» الذي يصفه بكل مناسبة بمعنى، ذلك أن تعريف التفكيك هو نفي لوظيفته، فلكل ممارسة يقوم بها المفهوم خطها الذي يكيف المعنى والوظيفة والغرض، غير أنه أتاح للناقد أن يدخل من الشبابيك إذا أوصدت الأبواب، من الصعب تعريف أداة مهمتها فحص كل تعريف، وتفكيكه وإحراجه وتسميمه. أطروحاته، وكتاباته ليست للتثبيت أو التاريخ أو التوضيح، بقدر ما هي لزلزلة البنى والسطوح والمعاني والحصون، ومن هنا اختلافه الشهير مع المدافعين عن الحداثة والحوار والديمقراطية.

انشغل بالخطاب والصورة والعلامة والهوية والجسد، والكتابة، وكل معالجة لها حمولتها المفهومية، وأدواتها اللغوية والفلسفية، كان دريدا يحارب المنهجية عبر الخروج من المناهج، وبالنسبة له فإن «لكل نص حكاية مغايرة، عدم استمرارية النبرة والمفردات والجملة نفسها والمهارة في الواقع، كما لو أنني في الحقيقة لم أكتب أبدا، ولم أعرف الكتابة، وكلما شرعت في نص جديد مهما كان بسيطا انتابتني الحيرة أمام المجهول والمتعذر بلوغه، واعتراني شعور ساحق بالخيبة. إن كل ما كتبته هو الآن معدم بل كأنما قد ألقي من فوق».

الكتابة لديه ليست امتدادا خيطيا، أو ترابطا نصيا أو صيغة نحوية، بل هي معارك داخل الكلمات والجمل، وفي فضاء النص ثمة حالات حروب وانتقام بين الكلمات، مما يتيح لها المجال للصراع وكأن القلم هو محرك عرائس، ولكأن الكتابة لعبة وممارسة متناقضة أو متخالفة ومتداخلة، هذه هي حالة نص دريدا غير المكتمل دائما، وكتبه غير المنجزة أصلا، ذلك أن وظيفة المطرقة التي يحملها أنها لا تكمل بقدر ما تضرب أو تحدث كوة، أو تكشف ثغرة، أو تثير الغبار.

والكتابة بمعنى ما لدى دريدا هي اشتباك مع مئات الصفحات من كتابة هي في الوقت نفسه ملحاحة، راقصة وإضمارية، كتابة تقوم كما رأيت بطبع شطباتها ويحمل داخلها كل مفهوم في سلسلة لا متناهية من الاختلافات، كتابة تحيط نفسها وتلفها بكومة من الحذر والإحالات والهوامش، والاستشهادات والتوليفات والملحقات، في ذلك التشابك لا يكون «عدم إرادة قول شيء» تمرينا مريحا كل الراحة، من هنا تكون الكتابة تشبيكا بقدر ما هي تشتيت، وتفريق بقدر ما هي جمع.

ثم إن الفلسفة لديه مجال معرفي لم يمت، يكتب: «إنني أحاول الوقوف عند الخطاب الفلسفي، أقول حدا لا موتا، ذلك أنني لا أومن مطلقا بما شاعت تسميته راهنا بموت الفلسفة، انطلاقا من هذا الحد أصبحت الفلسفة ممكنة، وبات ممكنا من ثم تحديدها بوصفها المجال المعرفي الذي يشتغل داخل ضرورات وعوائق أساسية، وتقلبات مفاهيمية، يستحيل محاربة الفلسفة من خارجها».

ومن ثم يستعيد حال مفهوم «الجينالوجيا» ذلك أن «تفكيك البناء الفلسفي سيكون هو تفكير الجينالوجيا المحكمة البنية لهذه المفاهيم، وذلك بالطريقة الأكثر إخلاصا والأكثر محايثة، لكن في الوقت ذاته وانطلاقا من خارج معين لا تستطيع هذه البنية تعيينه أو تسميته، سيكون ذلك التفكيك تحديدا لما أخفاه ذلك التاريخ أو منعه، صانعا بذلك نفسه كتاريخ على أساس ذاك القمع».

إشكالية الكتابة التي طرحها دريدا تعرضت لنقد واسع من فلاسفة من أهمهم هانز جورج غادامير، ويورغن هابرماس، وبول ريكور. وفي مؤتمر للفلسفة عقد في كندا في منتصف السبعينات خاطب ريكور دريدا ناقدا: «هناك علو في التركيز على إشكاليات الكتابة، مصدره أنك تتعرض لقضايا لا تعالجها كما ينبغي، في ميدانها العلمي الصحيح، من حيث كونها قضايا تتعلق بتحليل الخطاب، لقد وقفت عند الحدود السيميولوجية، ولم تقترب قط من التخوم السيمانطيقية». بينما ينتقد هابرماس تفكيكية جاك دريدا بسبب عدم توفر الأخير على شرط منطقي لغوي متفق عليه للتفاهم والتواصل، الذي يسمح بالحوار بين الأفراد، واعتبر تفكيكية دريدا مجرد شكل آيديولوجي مناوئ للعقلانية، ويدخل على خط تأييد نقد هابرماس الفيلسوف غادامير.

من الصعب أن تكتب عن فيلسوف تفكيكي من أجل إيضاح مشروعه، ذلك أن طريقة طرحه ليست للتوثيق أو الشرح أو الدراسة، ثمة فلسفات عظمتها في الأدوات لا النتائج، وقيمتها في الإحراج لا الإجابة، وذكاؤها في التشتيت لا الجمع، دريدا كان من طينة أولئك الفلاسفة الذين ينثرون النقائض، يكتب الهامش في المتن، بينما يخبئ المتن في الهامش. رحل في 8 أكتوبر (تشرين الأول) 2004 تاركا رصيدا من جدل الحياة والسياسة والكتابة والفلسفة، ترك خرائط وحوارات وكراسات من أخطر ما كتب في القرن العشرين، ومن جميل ما يعبر عن شغب تفكيكيته: «إن صورة الفكر هي التي توجه خلْق المفاهيم، فهي تشبه الصرخة، في حين أن المفاهيم غناء».

 

التعليم من «الكتاتيب»… إلى ذروة التحديث!

 

 

التعليم من «الكتاتيب»… إلى ذروة التحديث!

جريدة الشرق الأوسط 1 يونيو 2014

فهد بن سليمان الشقيران


مشكلة التعليم في المنطقة ليست جديدة، فمنذ أن افتتحت مؤسسات التعليم النظامي والمجتمعات تعيش حالا من الارتباك تجاه تلك المؤسسات، ولعل الموقف من التعليم النظامي كان متشابها في كثير من المناطق والمدن على النحو الذي يسرد تاريخيا في كتب مثل: «فتنة القول بتعليم البنات» لعبد الله الوشمي، ذلك أن فكرة التعليم النظامي فكرة ذات طابع استنفاري، صحيح أن معارضة التعليم لم تكن معارضة واعية في بادئ الأمر، لكن الجذور الأساسية التي قادت بعض المجتمعات للوقوف ضد فكرة التعليم النظامي كانت تستند إلى مبررات لها سياقاتها التاريخية، والاجتماعية.

لقد قرئ التعليم النظامي على أنه اجتراء اجتماعي غريب للانشقاق عن نظم «التعليم في المسجد» أو «الكتاتيب»، وهذا ربما ساهم في تصعيد المواقف الاجتماعية آنذاك ضد التعليم، غير أن ذلك الخوف ساهم في رسم تطمينات رئيسة على مستوى صياغة المناهج، أو على مستوى مسار التربية والسلوك.

ذلك التأسيس بقي طويلا خارج مساحات التحرير الإعلامي أو التدوين التاريخي، واستمرت مؤسسات التعليم العربية في زرع التطمينات ومنح الضمانات على حساب مواكبة المستجدات في مجالات التعليم – ليس فقط على المستوى السلوكي والتربوي، وإنما حتى على المستوى العلمي نفسه. لقد أصبح «التعليم» ثابتا لا يمكن المساس به، وذلك بسبب طغيان حالة التوجس من تلك المؤسسات المغلقة، التي تخشى المجتمعات على أفكار أبنائها منها، في بعض البلدان تم تجاوز هذا الهاجس، فأدخل تعليم الفلسفة في الصفوف الأساسية، كما تم إدراج كثير من المواد الفنية والعلمية التي تساعد على إدخال الطالب في إيقاع العصر بكل مستجداته وعواقبه ومصائره.

من أدق المهام الحكومية والاجتماعية الرئيسة في هذه المرحلة، العمل على رسم استراتيجية تقوم على إنهاء الهاجس الرئيس القديم، وذلك عبر تجاوز مرحلة «الطمأنة» إلى مرحلة «التعليم»، على عكس ما نشاهده أحيانا في استراتيجيات التي تركز على الجوانب الضيقة من الأدوات التربوية، وتغرق في مناقشة أمور كان من المفترض أن يتم الانتقال إلى ما بعدها، وهذا هو سر تضخم آثار التعليم السلبية، وتحوله إلى مكان لإنتاج وتكرير الأفكار الثقافية الخاطئة، وآلة لتحويل المجتمع إلى نسخ مريضة مكررة ومتشابهة، تختلف فقط في مستوى تضخم المرض واستفحاله.

كانت لدى النقاد صورة واحدة من النقد هي «المناهج»، التي رأى بعضهم حاجتها إلى الإصلاح والتطوير، لكن هذا الطرح أدى إلى تأخر تطوير تلك المناهج، وذلك لارتباط نقدها بمرحلة مكافحة الإرهاب، الأمر الذي جعل طرح فكرة التصحيح في المناهج متوافقة مع التصعيد الغربي ضد المسلمين! كما يتوهم البعض، ذلك الاحتكاك أجل الطرح الحقيقي الذي يجب أن يشمل مآلات تدوين المناهج بطريقته الحالية، وذلك بسبب صعود وتيرة «التوجس» التي ارتبطت بالتعليم منذ تأسيس أول مدرسة، هذا مع كون المناهج ليست هي التي تشكل الذهنية الأساسية للمتلقي، بل ربما كان الدور البارز للمعلم الذي يتحكم في طرح المعلومة وإدارتها، وتأويلها وشرحها، وإذا كان المدرس جزءا من المجتمع في ثقافته فإن الإشكالية ليست في المناهج بالذات، وإنما في طبقات فكرية صلدة تحتاج إلى كثير من التحرير والتنقيب من أجل الإسهام في نقل التعليم إلى الحقبة التالية، بعد أن بقي طويلا في الحقبة الأولى التي بدأ التعليم بها.

التعليم في السعودية الآن يمر بمرحلة انتقالية، هي من أهم حقب التعليم على مر تاريخه، إذ جاء الدعم الملكي بثمانين مليار ريال، وأعلن الأمير الوزير خالد الفيصل حزمة من المشاريع، تبدأ بتعليم الروضة وتعليم اللغة الإنجليزية في المراحل الابتدائية، وصولا إلى ابتعاث المعلمين. ولعلي أؤكد ضرورة هذه القرارات التي تتجاوز ما عبرت عنه بـ«مراحل التطمين» لنصل إلى مواجهة العصر. ومن أبرز ما يلفت مشروع ابتعاث المعلمين والمعلمات لمدة تصل إلى سنة، لتأهيلهم وصقل تجربتهم عبر اطلاعهم على الأسس التعليمية والمناهج والوسائل التربوية في أنجح مؤسسات التعليم بالعالم.

إنها مرحلة كبرى ضمن معارك كثيرة نخوضها ضد التطرف والرجعية والتخلف وخطابات الموت وثقافات الاستعداد للرحيل.

 

  

رهان التنمية وسقوط الشعار!

 

رهان التنمية وسقوط الشعار!

جريدة الشرق الأوسط 20 أبريل 2014

فهد بن سليمان الشقيران

 

خلال فترة من الزمن كانت بعض الأقلام الفكرية والسياسية تعتبر الخليج منجما من المعادن، غير أنه فقير ثقافيا، ومشتت معرفيا، وعرضة لقوى إمبريالية، وغارق في حالات من الاستهلاك الاقتصادي والعبث بالمال. تصاعدت تهجمات شعراء من العرب ضد الخليجيين فوصفوهم بالألفاظ غير لائقة، إلى درجة تحدث فيها عبد الله الغذامي بأن نزار قباني «آذى الخليجيين ثقافيا». ثمة محاولات جرت لشطب المنتج الخليجي وتهميشه على كافة المستويات. غير أن الرواد في الوسط الثقافي والفكري استطاعوا ضرب تلك الإرادات المعتدية على الخليج، ومن أبرزهم غازي القصيبي حين كتب عن الخليج الذي يتحدث شعرا ونثرا، وكذلك محمد جابر الأنصاري، الذي كتب ضد تلك المحاولات في كتابه: «مساءلة الهزيمة»، ليستمر الخليج فعليا في إنتاج سجاله، وتمرده، وأدبه، وشعره، بل ورؤاه الفكرية القوية.

خلال العقدين الماضيين استوعب الخليج أهم المؤتمرات الثقافية والإعلامية والاقتصادية والفكرية، حلت العواصم الخليجية ببناياتها الشاهقة، ومزجها بين خضاب التقاليد وصراعات الحداثة، ولم تصل المؤتمرات التي تقام في عواصم عربية أخرى إلى مستواها، وبينما كانت مدن مثل «القاهرة، وبيروت، وبغداد» هي موطن انطلاق السجالات، وأساس التحولات، ونقطة المؤتمرات، تحولت تلك المرحلة لتكون مدن مثل «الرياض، وأبوظبي، ودبي، والمنامة» حاضنة لأهم المؤتمرات وأكثرها جدية واستقطابا. تتحرك طاقة التأثير بين المدن تبعا للتطور الذي يشهده الخليج على المستوى الثقافي بشكل أساسي. ثمة حوارات لا مثيل لها أقيمت في البحرين مثلا، والتي قاد دفتها الراحل محمد أحمد البنكي في تلفزيون البحرين، وأسس لثقافة حوارية فذة، ومن أبرز تلك الندوات السجال بين الأنصاري وأدونيس حول العلمنة والدين والحداثة والثبات والتحول، كان نقاشا بين مجالين وفضاءين. توجت مسيرة البنكي الريادية بكتابه الببلوغرافي: «جاك دريدا عربيا».

هذه الفترة هي «زمن الخليج»، إذ نجا من موجات وخضات قريبة منه، واستطاعت قياداته أن تنأى بشعوبها عن الصراعات المستطيرة، لتعود إلى مجال التصحيح الداخلي، ومن ثم البدء في ورش لتجديد التعليم، ودفع التنمية، ونمو الاقتصاد. بقيت المسيرة باتجاه التنمية العتبة الأساسية نحو الحداثة، لتستثمر السعودية في المدن الاقتصادية بخمسمائة مليار ريال سعودي، وتجدد برامج الابتعاث، وتفتتح جامعتين، وتحجم التطرف والجماعات الإرهابية. لقد كان المناخ المضطرب من حولنا فرصة لإعادة النظر في التحصين والتغيير والتصحيح لكثير من الثغرات المهملة، على المستويات الفكرية والاقتصادية والثقافية والدينية، حيث أثرت الاضطرابات إيجابيا على الخليج، إذ انتعشت السياحة في مدنه، واستعادت بريق مؤتمراتها، وانتظمت استراتيجيات التعليم ضمن فلك الحداثة والتنمية المستديمة.

مهرجانات كبرى شهدها الخليج، من الجنادرية، إلى مؤتمرات الإعلام، وصولا إلى معارض الكتب (الرياض، أبوظبي، المنامة، الكويت، مسقط، الشارقة)، أكثر من ألف رواية خليجية، وثلاثمائة ديوان شعري، وعشرات الكتب المترجمة وجوائز تحفيزية مشجعة كجائزة الملك عبد الله للترجمة، وجوائز لتحفيز الخيال والأدب والرواية آخرها كان في الأسبوع الماضي في الإمارات، إذ تنتعش الرواية، من خلال فعالية جائزة الإمارات للرواية التي يرعاها الشيخ عبد الله بن زايد، وفازت بها فتيات إماراتيات. كل تلك الومضات في الخليج تبرهن على زمانه وهيمنته الحالية.. أعمال فكرية وعلمية أحدثت دويّا مثل ما يكتبه سعد الصويان، وسعد البازعي، وخلدون النقيب، وباقر النجار، ونعيمان عثمان، وآخرون. وفي حوار مع الشاعر السوري أدونيس، وبعد أن اعتبر الشاعرة فوزية خالد ضمن أهم ثلاث شاعرات عربيات، تحدث عن بركان الإبداع الثقافي في الخليج، معتبرا أنه المنطقة الأهم في الإنتاج حاليا وبخاصة في مجال الشعر والفكر.

التقيت المفكر اللبناني علي حرب في مدينة الإعلام بدبي، وتحدث عن أن دبي مدينة عالمية، بتعدديتها، وأنماط سكانها، وحيويتها، ونموذجها الخارق الذي خرج عن كل السياقات والأنماط والقوالب المعتادة. بالفعل إنه زمن الخليج، إذ أرى في كل محفل أو معرض للكتاب، أو مؤتمر من المؤتمرات، مستقبلا مشرقا لهذه المنطقة المختلفة في نمطها السياسي، والمتجددة في مجالها الاقتصادي، والحيوية في صعودها الاقتصادي.. إنها أرض لم تراهن على شعارات مجردة وأسماء فقاعية وأوهام مختلقة، بل على التعليم والوعي والمعرفة والتنمية، وقد حان حصادها، وتستمر الحكاية.

  

سقوط المثقف في فخ “الشعبي”

سقوط المثقف في فخ “الشعبي”

جريدة الشرق الأوسط 6 أبريل 2014

فهد بن سليمان الشقيران

 

مع الموجات التي تحدثها وتكررها مواقع التواصل الاجتماعي، تغيّرت صورة الرموز. إذ باتت فلتات اللسان تنبئ عن المكنون أكثر من النص المحكم، فتحذف تغريدات خوفا من المصير القانوني طبقا لنظام مكافحة الجرائم المعلوماتية. رموز كثر تغيروا من خلال هذه المواقع وتدويرها المخيف، ودمجها للعامة بالخاصة. ليس غريبا أن يندمج بعض الدعاة والوعاظ ونجوم الميديا والفن مع الجمهور، فهو مائدتهم وهدفهم وهو شرط لاستمرارهم، غير أن الأغرب تلاشي وانكشاف زيف أسماء ثقافية كانت لها صولات وجولات في معارك الحداثة في الثمانينات. يفتخرون بسقوط النخبة وبروز الشعبي، ويمارسون العملية التفاعلية بطرق الناشطين أو الحركيين، ولهم في كل حادثةٍ موقف، ويقتربون حد التملق من رموز الرجعية في أكثر من تصريحٍ ولقاء، لتتحول حالات التملّق تلك إلى حافزٍ على التنظير للرجعية من خلال محاضرات تنتقص من مفاهيم كبرى مؤثرة على تاريخ البشرية في عصرها الحديث.

فقد كثيرون صوابهم، حتى اعتبر مفكّر لبناني مثل علي حرب أن «الثورات العربية» أنتجت مفهوما جديدا هو «الناشط»، ليصل الأمر من بعدها إلى تصنيم وتضخيم شباب بسطاء لهم صفحات على الـ«فيسبوك»، توهموا أنهم من صنع الأحداث، ومن أسقط العروش، ومن حرّك الجيوش. وفي حوارٍ مع شاعرٍ لبناني يساري اعتبر «الدم» شرطا لصناعة الحرية، ويستهتر بالمثقفين الذين يقومون بحالات نقدية مجهرية للأحداث التي تجري أو الصيغ الحديثة التي تتشكل. عادت أحاديث إسقاط النخبة من خلال تجييش الثقافة الشعبية، وإعادة بعثها من جديد، ولا غرابة ضمن هذا السياق أن تجرى حوارات مع بعضهم في قنوات لا تخرج عن هذا الإطار.

هذا الطمس للدور النقدي المفروض على الكاتب أن يتخذه، والتشجيع على الهياج الجماهيري، ليس إلا محاولة لتدمير البنية الأساسية للمؤسسات المرتبطة بالواقع وتسييره، ذلك أن الجماهيرية ثقافة تدمير، والفردانية ثقافة بناء، وكل الأمم التي اعتمدت على الحشد الجماهيري آل بها المطاف إلى مجيء طغيان مضاعف.

سقط بعض المثقفين الخليجيين تحت وطأة المتطلبات الشعبية، واستخدم بعضهم شعارات عادية مثل: «هذا رأيي أعرضه ولا أفرضه»! وهي عبارة لا تقدم شيئا، لأن صيغ الفرض للرأي لا يمكن أن توجد إلا بسلطة وبقانون، غير أن نفي «الفرض» للرأي في موقع تفاعلي، إنما هو سقوط في مجال الشعارات، وربما في شرك القضايا والنشاط. كما أن الحديث من قبل المثقف عن أدائه للفروض الدينية، أو علاقته المميزة بالمشايخ، هو لغو لا مردود منه، ذلك أن كل المجتمع يمارس عباداته وطقوسه، ويحترم فقهاءه ورموز وطنه، فهذا التزيّد لم يكن ليتضخم في نفس المثقف وطرحه، لولا انزلاقه للجماهيرية المغرية التي تجعله مهووسا بذاته وبكل تفاصيل رأيه ويومه وعيشه.

من الواضح أن هذا البركان الضخم الذي أطلق حممه في مجال التعاطي الثقافي والفكري والسياسي، لم يغيّر المثقفين أو الناشطين إلى الأفضل، بل إلى الأسوأ. أدباء وكتاب وربما نقاد كبار كان يجب أن يحتفظوا بوقارهم وبصورتهم الأكاديمية العاقلة المتزنة المرتبطة بالمكتبة والمحاضرة وكتابة الورقة والإنجاز العلمي، بدلا من السقوط في فخاخ التنابز أو المحاججة الطويلة التي تنبئ عن تبذير للوقت في مثل تلك الوسائل. قد يحضر الكاتب أو الناقد فيها بغية ترويج المنتج المعرفي، غير أن كثيرين دخلوا بوصفهم أكاديميين منتجين وانزلق بهم «تويتر» ليكونوا ناشطين مدمنين على الحضور في جميع الأوقات.

تلك الموجة جعلت لكل شخصٍ منبرا، ولأن ثقافتنا منبرية وخطابية، فإن لكل شخص رأيا وخطةً، وربما برنامجا سياسيا، ففي داخل كل شخصٍ طموحُ زعيم، وهذا هو وجه الخطر.

 

السعودية.. تأسيس التحالفات وتسيير العواصف

 

السعودية.. تأسيس التحالفات وتسيير العواصف

جريدة الشرق الأوسط 31 مارس 2015

فهد بن سليمان الشقيران

بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية زار الملك فهد بن عبد العزيز العراق لغرض الدعم للشعب العراقي بعد آلامه الكبيرة التي تجرّعها، وليبارك للحليف العراقي القوي بوجه إيران آنذاك، التي تصدر الثورة وتسن رماحها للتمدد في الخليج، وكان لا بد من كسر نابها قبل أن تقتص من ثروة الخليج الغنية، ويذكر الأمير بندر بن سلطان أن الملك فهد فوجئ حين طلب الرئيس العراقي صدام حسين منه في تلك الزيارة أبريل (نيسان) 1989 توقيع اتفاقية عدم اعتداء بين البلدين، رد الملك بأن هذه الاتفاقية موجودة في الشراكة بين البلدين بجامعة الدول العربية، لكن صدام ألح على الملك فهد أن يوقعها فلبى طلبه على اعتبار تمني صدام وقوله: «إنها الاتفاقية التي ستبهج الشعب العراقي».

 

توهم صدام أن تلك الاتفاقية قد تجعل السعودية تتردد في حال غزا الكويت بعد مشكلة أسعار النفط ومزاعم ثقل الديون المطلوبة للكويت من العراق، غير أن المعادلة لم تكن صائبة، ومع بزوغ فجر الثاني من أغسطس (آب) عام 1990 ووصول القوات العراقية إلى الكويت أعلنت السعودية بقيادة فهد الوقوف مع الشعب الكويتي والبدء في تأسيس تحالف عربي إسلامي دولي لطرد القوات العراقية من الأراضي الكويتية وعودة البلاد إلى أهلها، جاءت إلى المنطقة ألف طائرة، بتحالف دولي هو الأكبر والأضخم في تاريخ المنطقة كانت تلك «عاصفة الصحراء».

 

في السادس والعشرين من مارس (آذار) أعلنت السعودية أن وزير الدفاع رئيس الديوان الملكي الأمير محمد بن سلمان كان حذر أحمد علي صالح ابن الرئيس اليمني السابق من الدخول إلى عدن، وقبلها أعلن وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل عن خطورة الذي يجري في اليمن من قبل الحوثيين وأن التدخل العسكري ليس مستبعدًا، تم استبعاد فرضية التدخل العسكري السعودي ضد الحوثيين، غير أن القمة الخليجية في قصر «العوجا» بقيادة الملك سلمان كانت بالغة الدلالة بأن ساعة الحسم والصفر قد بدأت.

 

بدأت ملامحها من قصرٍ له رمزية كبيرة في تاريخ السعودية ومن «الدرعية» منبع التأسيس للدولة والفكرة، أما عن رمزية «العوجا» فالملك سلمان أرّخ لهذا المعنى في كتابة له حول «العوجا» وسياقها التاريخي، حيث يرى أنه ما من شك بأن العوجا هي الدرعية التي كانت نخوة لأسرة آل سعود، ثم لأهل العارض جميعا، ثم امتدت لتشمل جميع نواحي الدولة السعودية والمملكة العربية السعودية، ويعتبر هذه النخوة (العوجا) ترتبط بالمكان وهي الدرعية وبالدعوة التي على أساسها قامت الدولة السعودية وعاصمتها الدرعية، واشتهرت بها وأصبحت الأساس لها إلى يومنا هذا، وبهذا تكون هذه النخوة هي للمكان والدعوة التي انطلقت منه بشكل متلازم. (انظر: جريدة الرياض عدد: 16160).

 

ومن قول الشاعر حسين بن علي بن نفيسة (ت 1368هـ) يهنئ الملك عبد العزيز بدخول حائل:

 

لك الحمد منا في الضحى والأصائل

 

يوالي كما أوليت كل الفضائل

 

بأيدي أولي العوجا أولي البأس في اللقا

 

هم الناس عند المعضلات الخلايل

 

كانت السياسية السعودية منذ تأسيس البلاد ليست سياسة السلام الضعيف، ولا سياسة الحروب الدموية العبثية، بل لم يسبق لدولة في المنطقة أن أثمرت مبادراتها عن مصالحات كالسعودية، سواء في المبادرات للسلام في فاس، أو بيروت، أو مبادرة حل قضية لوكيربي، أو اتفاق الطائف، واتفاق الفلسطينيين بمكة، والدعوة إلى الحوار بين المتصارعين في سوريا من خلال مؤتمرات جنيف، بل حتى في حرب الخليج التي جمعت بين القيادتين العراقية والكويتية في جدة، تلك المبادرات تعبر عن الرغبة الملحّة والحقيقية للسعودية بأن تتجنب الحروب ما أمكن، لكن حين تأتي الأمور على طريقة الاستفزاز والابتزاز على النحو الذي مثّله الخطر الحوثي الآيديولوجي الأصولي الميليشيوي ضد الحدود السعودية وضد المصالح والأمن القومي حينها تكون الحرب قائمة وضرورية، بل ومهمة، فالحرب هي أساس كل شيء، ومن دون الحرب لا يوجد السلم أصلاً، وكل حالة «سلم» ليس إلا حالاً من «انعدام مؤقت للحرب» كما يعبر الفيلسوف الألماني هيغل.

 

أعلنت السعودية عن بدء «عاصفة الحزم» لتأديب المتطرفين الحوثيين، وللمساهمة مع المجتمعات الدولية في الحرب على الإرهاب، فالتمدد القاعدي، والحوثي، ومرتزقة علي عبد الله صالح القتلة كل هذه تجعل من الحرب ضرورة بل وخدمة للإنسانية والبشرية جمعاء، إن «عاصفة الحزم» خدمة كبرى تقدمها السعودية والدول الحليفة في «ائتلاف الشرعية اليمنية»، وليس غريبا أن تندد ميليشيا حزب الله الأصولية الآيديولوجية الإرهابية بعاصفة الحزم وتعتبرها عدوانا على اليمن، ويحاضر أمين عام الحزب عن السيادة بينما لم تحتل عاصمة لبنان بيروت إلا قوتين، هما قوة حزب الله في 7 مايو (أيار) 2008 والجيش الإسرائيلي في 1982. من هنا تكون الحرب خدمة إنسانية جليلة للشعب اليمني وللأمم في هذه الأرض.

 

من نافلة القول الحديث عن الشبه الشديد بين الملك سلمان ووالده المؤسس الملك عبد العزيز، وهذا مثبت على المستويين؛ الشبه الشخصي من جهة، وكذلك التطابق الفريد بين الابن وأبيه من خلال إعادة عنصر «الحزم» بوصفه أساس ضبط البلاد وقمع المعتدي، وقطع اليد التي ستمتد إلى شبرٍ من البلاد، كما أن النجاح الساحق لعملية «عاصفة الحزم» تأتي ثمرة للمجلس السياسي والأمني الذي أمر به الملك لفهم مجريات المنطقة باستمرار بجهد ولي ولي العهد الأمير محمد بن نايف، ووزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان، هذه الحرب الناجحة المؤزّرة هي ثمرة الاطلاع الدائم المستمر والمثابر لمجريات المنطقة وضرب الخطر استباقيًّا حتى لا تتكرر حالات الاحتلال الإيراني الفج لعواصم عربية مثل بغداد وبيروت ودمشق وآخرها صنعاء، وحين قرعت طبول ألوية الحوثيين المتهالكة الصدئة كانت القوة الضاربة من فوقهم ومن بين أيديهم تدكهم دكًا دكًا.

 

إنها مرحلة الحزم، والقوة ضرورة وشرط سياسي، والسعودية بلد الحوار والسياسة لمن أراد ذلك، وبلد القوة والتأديب والحرب إن أراد العدو ذلك، من معارك عبد العزيز الأولى ضد المتطرفين القتلة، وإلى عاصفة الصحراء في عام 1990، والآن نعيد نفس التحذير عبر عاصفة الحزم في حرب ذكية مرتبة قوية تليق بتقنيات الحرب في القرن الحادي والعشرين.