يوليو 2014

داعش.. حشاشون بلا قلاع

داعش.. حشاشون بلا قلاع

فهد سليمان الشقيران

جريدة “الشرق الأوسط” 29 يونيو 2014

 

 

ربما كان انفجار تنظيم داعش المفاجئ بالعراق أكبر حدث أصولي في المرحلة الماضية بعد زوال حكم الإخوان بمصر. يتمتّع هذا التنظيم بالتماسك، ووفرة المال، وقوة البأس، حتى أعادتْنا قوتهم الضاربة إلى قلعة الحشاشين في القرن الحادي عشر «آلموت». الشخصيات التي تنفّذ وتدير في داعش نسخة مكبّرة من صيغ حراك شخصيات الحشاشين. تختلف المنابع بين الحشاشين الإسماعيليين الداعين إلى إمامة نزار بن المستنصر بالله، ومن جاء من نسله وأسسها الحسن بن الصباح، وبين داعش التنظيم الذي يسعى إلى إقامة الدولة الإسلامية النقية التي «لا تشوبها شائبة العصر ولوثة الغرب وانحراف الأمم»، تنفّذ الحدود، وتجري المحاكمات ويُهلك الحرث والنسل من دون هوادة، والجامع بينهما تلك الحالة الدموية التي تحرّكهما، والتدريب الفدائي والرغبة بالموت وسفك الدماء.

 

في سياق التدريب الدموي كتب المؤرخ الألماني أرنولد أوف لوبيك عن الحشاشين باستغراب: «إن إيماءة منه – الأكبر – كافية لأن تجعل الكثيرين منهم يقفزون من فوق الأسوار المرتفعة فتدقّ أعناقهم وتتحطم جماجمهم ويموتون ميتة بائسة، وهو يؤكد لهم أن أسعدهم مآلا هم الذين يسفكون دماء الآخرين، ويلقون حتفهم بالتالي انتقاما لفعلتهم».

 

هذه الفرقة (Assassin) تطوّر اسمها ومفهومها ليشمل الاغتيال الغامض، والسجال يطول حول سبب التسمية على ما يسرد المؤرخ برنارد لويس في الفصل الأول من كتابه: «الحشاشون – فرقة ثورية في تاريخ الإسلام». غير أن ما تأسس داخل تلك القلعة كان تاريخيا ومؤثرا على الجماعات الإجرامية ليس في الشرق الأوسط فقط، بل امتدّت تلك التعاليم الدموية إلى أوروبا، وقيل إن خمسة عشر شخصا من الحشاشين حاولوا قتل ريتشارد قلب الأسد في معسكره عام 1195 في «شينون»، وأصبح التحالف بين بعض الغربيين وشيخ الجبل بغية تنفيذ الاغتيالات المنظّمة قائما كما يؤكد بعض المؤرخين، وهو الأمر الذي ينفيه برنارد لويس نفيا قاطعا.

 

بلدغة خاطفة، نفّذت في العاشر من يونيو (حزيران) 2014، استطاع تنظيم داعش أن يحتل مدينة الموصل، وأن يستولي على كل مفاصل المدينة الأثرية، ومبنى المحافظة والمطارين المدني والعسكري، واستولى على أموال المصارف وكل ممتلكات الدوائر الرسمية. هذه الصورة شبيهة بمئات الصور الحربية التي أدارها الحشاشون ضد الفرس والأتراك بالمعارك الطاحنة التي لم تتوقف، نعثر على هذه الصور في رواية «آلموت» لفلاديمير بارتول، من خلال شخصيات حربية مقاتلة مثل «ابن طاهر» و«سليمان» و«عبد الملك» و«عبيدة» وهو ما نقرأه في الفصول: السابع، والثامن، والتاسع من الرواية الضخمة التاريخية.

 

ثمة صيغ وخطوط تجمع بين الأصوليات بمختلف ألوانها وتشظياتها وتنوع أهدافها، بين الإخوان المسلمين والقاعدة وداعش الكثير من المشتركات التي تجمعهم بتنظيم قوي ودولة مغلقة عاصمتها قلعة «آلموت» مثل «الحشاشين». صيغ الدم والاحتلال والمباغتة والقتل، وثقافة الدماء والأشلاء، كلها إرث ممتد من الوحشية التي يرى البعض أنها هي «أصالة الإنسان الأول» قبل أن يقلّم أظفاره ويتهذّب، وامتداد فكري للتنظيمات «الانشقاقية» التي تركز على مبادئ الانفصال والتحرك بالفراغات والاقتيات على الأزمات، هذه مشتركات تجمع بين شتى الأصوليات إسماعيلية كانت أو شيعية أو سنية، الأصولية الإسلامية تجمعها خطوط كبرى على مستوى الآيديولوجيا والدوغمائية في التفكير والمبادرة الدموية في التنفيذ، لهذا أصبح استحضار حالة «الحشاشين» معتادا في الدراسات التي تتعلق بالإرهاب والخلايا القتالية العنيفة.

 

الملاحظ أن القادة لا يكونون بالضرورة داخل المشروع الدموي تنفيذا واقتناعا! وبوحي من رواية «آلموت» فإن ابن الصبّاح قائد فرق الموت كان منعزلا بقصره ضمن ملذاته، على وقع شعر زميل دراسته عمر الخيام وتشرف على شؤونه ومتعه «مريم». صنع على عينه «جنّة» كما يذكر المؤرخ ماروكو بولو وقد وصفها بـ: «أجمل حديقة يمكن أن تقع عليها عين، ملأها بمقصوراتٍ من أروع ما يمكن، وأقام على خدمة الحديقة فاتناتٍ من أجمل نساء العالم، يجدن العزف على مختلف آلات العزف، يغنين بأصواتٍ رخيمة، ويؤدين رقصاتٍ تخلب الألباب»، وهذه حال المحرّض، الذي يكوّن خلية لاقتحام الموت، بينما هو يسبح بملذات الحياة، وهذا ليس لغزا بل تجدونه بدعاة الموت الذين يغرقون الأبناء بالدم، وعائلاتهم تتعثر بكثبان المسك.

 

كانت ضربة قوية ضربتها بغتة حالة «داعش» لأن إهمال الأصولية يعني تكاثرها تلقائيا، وكان لتعقيدات الحدث السوري، والتخلي الغربي عن المنطقة، والتجاوز الدولي للمشكلات الراهنة أكبر الأثر في تفريخ تلك الخلايا وإعادة إنتاج أتباعها، بين قلعة «آلموت» وساحة «الموصل» عشرة قرون من دون أي تغيير يذكر بالبنية الأصولية الدموية، هذا هو المخيف، ثم نتحدث وبجرأة عن «إرهابٍ طارئ» أو «ثقافة دخيلة» هذه هي داعش إنها فرقة من الحشاشين، لكنها على الأرض والسواحل والجبال، إنهم حشاشون جدد لكن.. بلا قلاع.

 

علي حرب: لست من أصحاب المشاريع

علي حرب: لست من أصحاب المشاريع

فهد سليمان الشقيران

صحيفة “الشرق الأوسط” 21 يونيو 2014

 

بينما بيروت تحتدم بصراعاتها، وتنخرط بتناقضاتها، والحرب الأهلية على أشدّها، يثمر القلق الكبير الذي عاشه الكاتب اللبناني علي حرب – عبر مسيرته الفلسفية الممتدة لأكثر من أربعين سنة – عشرين كتابًا بدأها بالقراءات والمداخلات، وصولًا إلى التفسير والتأويل، لتبلغ الذروة من خلال ثلاثيته «نقد الحقيقة» و«نقد النص» و«الممنوع والممتنع»، وهي الكتب التي أنتجها في التسعينات من القرن الماضي، ليدخل بعد ذلك إلى مرحلة التفكيك والتجاوز منشغلًا بنقد الإنسان، عبر مساءلة الشعارات، ونقد تشومسكي، وحديثه عن «النهايات» منخرطًا بجدل الإرهاب والعولمة، فضلًا عن إعلانه «نهاية المثقف الشمولي» ونقده لفوكوياما وهنتنغتون، وانسجامه مع نصوص فوكو (التي قرأ بعضها في ذروة الحرب الأهلية) ومن ثم ليقوم بقراءة عميقة لجيل دلوز وفليكس غيتاري وذلك بكتابه: «الماهية والعلاقة – نحو منطق تحويلي».

 

تشكّل الكتابة عن نتاج علي حرب الفلسفي تحديًا؛ ذلك أنه نتاج متفجّر دائمًا، ويصعب القبض على بدايته أو نهايته، فهو إرثٌ ممتد يتطبّع بلحظته وزمنه، عدّته المفهومية ترتكز على قراءة المفاهيم، وفحص النصوص، ومخاتلة خطاب الحقيقة. انتقل جهده من البحث عن الحقيقة إلى نقد خطابها، ومن فهم النص إلى نقد النص، ومن كمال العقل إلى البحث في اللامعقول بالخطاب العقلي. أولى اهتمامًا واضحًا بالتصوّف وخطاب الحب وسجف الفناء.

 

استطاع أن يبدأ مرحلة أخرى من التناول الفلسفي، متجاوزًا التحذيرات المحافظة التي تعتبر الصراعات الفكرية الأوروبية والتجدد الفلسفي في فرنسا منذ الستينات «مجرد مواد استهلاكية»، كما يقول طه عبد الرحمن، ومُهْملًا جهود سدنة التراث الذين يعتبرون نقد التراث فكرة استشراقية لها خبثها وتنطوي على مخططها.

 

بدأ حرب بنثر عدة مفهومية كبيرة أغنت المجال الفلسفي العربي، ولا غرابة أن تكون كتبه التي لم تكن مترابطة في مجالاتها، أو موحّدة بمضامينها، موضعًا للدراسات الأكاديمية، ذلك أن قيمة ما كتبه علي حرب في شتاته، وفي تبعثره، وفي تشظّيه، وفي تناقضه أحيانًا، إذ التناقض ليس موضوعًا محرجًا، فالنص قد يطردك من الباب، لكنك قد تدخل إليه عبر الشباك. والمساحة لا تكفي للبحث في كل المجالات الجديدة التي اختطّها، فقراءته لجيل دلوز ونقده لكانط وتأثره بهيدغر وفوكو ونيتشه تحتاج إلى كتابٍ كامل، لكن سأوجز بذكر بعض ملامح نتاجه عبر ثلاثة ملامح:

 

1- قراءة تتجاوز المنطوق: لا يخلو أي كتابٍ لعلي حرب من التجديد بوسائل «القراءة»؛ ذلك أن هذا المفهوم لا يتداخل فقط بالنص المكتوب، وإنما حتى في الجملة الرياضية، أو اللوحة الفنية، أو عرض الأزياء. والقراءة لا تفهم ما هو مكتوب، بل تتجاوز المنطوق والمكتوب من قبل الكاتب، وبالنسبة له فإن هذه الآلية قرأ بها فوكو ميشيل ديكارت عبر كشفه للعقل الآخر للنص الديكارتي مبينًا كيف أن خطاب العقل يخفي علاقة العقل باللاعقل، أي يتستّر على لا معقوليته. يضيف: «حتى التوسير الذي ادعى بقراءته لنص رأس المال تخليص فكر ماركس من الشوائب الآيديولوجية التي شابته، إنما تأول ماركس وقرأه قراءة جديدة مبتكرة، فاختلف بذلك عنه وقدّم نسخة جديدة عن الماركسية».

 

مفهوم القراءة هذا هو الذي تناول به حرب نصوص مجايليه مثل نصر حامد أبو زيد، وصادق جلال العظم، ومحمد الجابري، وحسن حنفي. وحتى الشعراء مثل صلاح ستيته ومحمود درويش وسواهم.

 

2- نقد ديكتاتورية العقل: الأستاذ حرب وإن كان كانطيًّا في النقد بما يعنيه النقد من معرفة الممكن واستكشافه واستثماره فإنه ينفي كانطيته بمجال نقده لخطاب العقل، ذلك أن هذا الخطاب منذ ديكارت حتى كانط يحجب علاقته المزدوجة بلا معقوله من جهة، وبذاته من جهة أخرى، إنه بحسب حرب يحجب النصفين والشرطين، أي الفؤاد واللسان. وعن استراتيجية النقد الذي يتخذه يكتب: «الحقيقة والسفسطة، بهذه الطريقة أقرأ بدوري ما أقرأه من النصوص. إنني أتجاوز ما يريد المؤلف قوله، أو طرحه للكشف عما لا يقوله ولا يفكر فيه عندما ينطق ويفكر. هكذا قرأت ابن عربي مستكشفًا بذلك منطقه ولامعقوله، في حين أني انتقدت محمد عابد الجابري على نقده للصوفية بتبيان لاعقلانيته المتوارية وراء نقده العقلاني».

 

بهذه الصيغة يدخل على الخطاب الصوفي، بوصفه مكتنزًا بالدلالات والإشارات والعلامة، والأهم من ذلك «الإمكانات» التي يوفّرها. النص الصوفي غني بالإشارة والعلامة والوميض والرؤية، وربما تجاوز غنى الخطاب المغلق والمشروع المنجز، والحقيقة المطلقة.

 

3- كل تأويل هو إعادة تأوّل: هذه هي رؤيته للتأويل كما يفصّل في كتبه ومنها: «التأويل والحقيقة» و«لعبة المعنى» و«الممنوع والممتنع»؛ ذلك أن التأويل لديه يعني أن الحقيقة لم تقل مرة واحدة، وكل تأويل هو إعادة تأوّل. كما أن التأويل، بحسبه، هو فنّ الفهم كما يذهب إلى ذلك أرباب التأويل من المعاصرين، بالأخص هانز جورج غادامير. التأويل هو إعادة تعريف الأشياء، ومن ضمنها إعادة تعريف الفكر والعقل والحقيقة. استفاد حرب من مناهج التفكيك لدى دريدا، وأركيولوجيا فوكو وكلماته وأشيائه، وتعامل مع الفلسفة على طريقة جيل دلوز بوصفها نثار المفاهيم التي يعقد معها الفيلسوف الصداقات والمساءلات، وربما ساهم بنحتها أو خلقها، لتكون لعبة بين يديه، أو نموذجًا على أوراقه، أو صورة في خياله، أو عدة في درسه.

 

يستحق علي حرب أن يدرس كثيرًا، فهو أشعل الكثير من المعارك والسجالات، وامتنّ أرباب المشاريع له بنقده وفحصه وإحراجه، ومع كل ما يطرحه، غير أن أسلوب تأليفه ليس على طريقة نقاد التراث وأهل الرسالات، والمبشرين بالحقائق، ولطالما ردد كلمته المفضّلة: «لستُ من أصحاب المشاريع».