يونيو 2015

الطائرة الذكية.. وحالة «تنظيم الشر»!

الطائرة الذكية.. وحالة «تنظيم الشر»!

جريدة الشرق الأوسط 4 مايو 2014

فهد بن سليمان الشقيران

ربما كان مرعبا أن ترى تفاصيل حركة الطائرات من دون طيار، في أحد الأفلام الوثائقية. يركب الجندي سيارته، يوصل أبناءه إلى المدرسة، ومن ثم يدخل إلى مكتبه حيث لعبة الأزرار. تتحرك الطائرات من دون طيار بأوامره، وعن يمينه الساندويتش والكولا، وحين ينتهي العمل يغلق الجهاز ويمشي.

 

من الواضح أن آليات الحرب تغيرت، إذ لم تعد مستويات الشجاعة أو المواجهة والمنازلة شرطا، وهذه الآليات والفتوحات العبقرية في الحرب فتحت أسئلة عن قوة الردع الكبرى، والمشكل الأخلاقي. ولا تزال الطائرات هذه موضع نقاش لدى الأميركيين أولا حول مستوى دقتها وفاعليتها. وربط الأخلاق بالحرب ضرب من الجنون، لكنها تحضر فعليا من خلال المواجهة لا الغدر، وضرب العدو من الأمام لا الخلف، وسوى ذلك من الأدبيات المعروفة في الحروب القديمة.

 

بقيت مشكلة الحرب ضمن الأسئلة الكبيرة التي تطرح في النظرية السياسية منذ العصر اليوناني وإلى اليوم، بين بسالة ترمز بها الحرب وقوة تستعرضها، وبين إشكالية أخلاقية، وبحثٍ عن سلامٍ دائمٍ. تضخمت المشكلة لتتفرّع عنها أسئلة أخرى. وإذا كان هيراقليطس في المائة الخامسة قبل الميلاد وصف الحرب بأنها «ربّة الأشياء»، فإن هذه المقولة ستمتدّ فاعلةً لربطها الحرب بتحريك دوائر الحياة. بالحرب تتحرك الحياة وتحرّك مراوحها بقية المجالات، هكذا تحدث هيغل.

 

في جريدة «واشنطن بوست» في مارس (آذار) من العام الماضي تحدث ديفيد إغناتيوس عن مشكلة «أخلاقيات الحرب»، قائلا «لقد نسينا كيف أفسدنا هذه المعايير الأخلاقية خلال العقد الذي تلا خوض أميركا الحرب ضد (القاعدة)، وأصبحت الطائرات من دون طيار السلاح الأكثر تفضيلا. تم تذكيري بهذا الاستناد لقانوننا الأخلاقي من خلال مسؤول الاستخبارات السابق الذي شارك سابقا في العديد من العمليات التي استخدمت فيها القوة القاتلة. يستدعي الرجل المخضرم في وكالة الاستخبارات موعظة من مسؤول بارز في بداية الثمانينات، عندما بدأت الوكالة في تبني غارات مميتة ضد قوات العملاء السوفيات، حيث قال: (لا تقم بأي شيء في الميدان، وأنت تعلم في قرارة نفسك أنه سيهز ضمير الأمة عندما يتكشف)».

 

مايكل بويل، أستاذ العلوم السياسية، أصدر مؤخرا كتابا مهما بعنوان «تكاليف حرب الطائرات من دون طيار ونتائجها»، وفيه يعتبر تلك الطائرات أكثر أخلاقية من الحرب، ذلك أن الخبراء – بحسبه – يؤكدون أنها ليست فعالةً فقط، وإنما مطلوبة أخلاقيا، لأنها تسبب عددا من الخسائر البشرية في المدنيين، أقل من الضربات الجوية أو العمليات البرية في مناطق الصراع، وذلك للدقة النسبية لحرب الطائرات من دون طيار عن الهجمات العشوائية مثل قصف دريسدن أثناء الحرب العالمية الثانية، وخلص هنري كرمبتون، نائب رئيس وكالة الاستخبارات المركزية السابق لشؤون مكافحة الإرهاب، إلى أن تلك الطائرات تعد شكلا متفوقا، بل إنسانيا من أشكال الحرب.

 

من الصعب حسم مثل هذه المسائل من الناحية الأخلاقية، غير أن فاعليتها في مكافحة الإرهاب تعزز من قيمتها الأمنية، وبخاصة إذا كانت عملياتها صائبة بنسبة 80 في المائة، كما تتحدث المؤسسات الأمنية الأميركية.. ففي الحرب تنقطع الشروط، وتهدم الحدود، وحين تواجه وحوشا بربرية على نمط تنظيم القاعدة وفروعه، فلا يمكنك مواجهتها بالوسائل الحربية التقليدية، ذلك أن وسائل الغدر يمكن أن تواجه بوسائل غدرٍ أشد، وهذا ما تؤمّنه الطائرات من دون طيار بذكائها المتجدد والمتطوّر.

 

تعيد أسئلة الطائرات من دون طيار الأخلاقية موضوع مشكلة الحرب من جذوره، غير أن الحرب ستبقى ما بقيت القوة، ذلك أن كل حربٍ هي تنفيسٌ للقوة، هذا فضلا عن وجود «فائض قوة» لدى الولايات المتحدة، التي تضرب من دون هوادة في كل مكان.

 

قلق إغناتيوس هو قلق تاريخي حول الحرب والسياسة والأخلاق، يمكن مقاربته لكن يستحيل حلّه، لتكون «قواعد الاشتباك» حالة من تنظيم الشر.

  

 

آلام القديح.. حين انفجر الدمُ بالدم

آلام القديح.. حين انفجر الدمُ بالدم

جريدة الشرق الأوسط 4 يونيو 2015

فهد بن سليمان الشقيران

يحكي مروان حمادة قصة زواج أخته ناديا بغسان تويني، الدبلوماسي المسيحي المتمرد يقع في غرام الشابة الدرزية التي كانت حينها تتابع دروسها في اليونان يقول: «شعرنا منذ اللحظة الأولى أن علاقة حبّ نشأت بين الاثنين، وتخطّت كل الحواجز الدينيّة، وما كان يجمع بينهما النزعة الثقافيّة وحبّ الثقافة. ولم تمضِ أسابيع إلا وكان غسان قد طلب يد ناديا». وفي حوارٍ مع وليد جنبلاط سئل عن زواج ابنه تيمور بـ«شيعية» فردّ غاضبًا: «لقد تزوّج فتاة لبنانية أحبّها»!

كم تبدو الشعارات الطائفية مدمّرة للأنسجة الاجتماعية وللوشائج الإنسانية، وللأواصر الطبيعية، وللهوية الوطنية، بينما وحين ينتصر الحب ينتهي شعار الطائفة، لقد غرس هذا الخروج عن السياج الطائفي المرهق للأجيال من بعد فرصة الحديث عن الحب من دون أن تقتله الطائفية بكل ما تسببه من جريمة ضد علاقات البشر وتعاملهم الطبيعي فيما بينهم.

ومع الجريمتين الأخيرتين في السعودية، اللتين لم تكونا تستهدفان طائفة بعينها، بل تستهدفان البلاد والناس، وتحاولان ضرب عصب الاستقرار، وأساس التعايش، من الضروري تجاوز الحديث عن مقتل شيعي أو سني، أو عن موقف الشيعة مقابل موقف السنة، أو أن هذا السنّي قام بتعزية الشيعي، إن أردنا التجاوز فلنستخدم الهوية الوطنية الرابطة المتمثّلة بالانتماء إلى «السعودية»، فالذي يقتل سعوديًا فكأنما قتل السعوديين قاطبة، وكل جريمة مسّت شعرة من أحد فهي تمسّ كل جسد البلد، يتداعى الألم على الجميع ويعتصرنا الألم والحزن في وقتٍ مشترك.

إن من أخطر ما يستثمره العنف بكل أشكاله تلك الثغرات المهملة اجتماعيًا، وخاصة مرض «الطائفية»، وآية ذلك أن الخلايا المقبوض عليها طوال السنة الفائتة في السعودية تمحورت أهدافها حول تأجيج الفتنة بين السنة والشيعة. تفجير مسجد القديح في «القطيف» كان حدثًا صادمًا للمجتمع، ومن تابع تصريحات وبيانات وزارة الداخلية يعلم أن هذا التفجير الذي تمّ تنفيذه ليس إلا تجربة ناجحة واحدة للتنظيمات المتطرفة من بين مئات المخططات التي تم إحباطها بقوّة المعلومة الأمنية التي تمتلكها السعودية، وهي أكثر دولة بالمنطقة أحبطت مئات العمليّات قبل تنفيذها.

هناك مشكلات جوهرية تجعل من تجاوز الطائفية أمرًا صعبًا يحتج إلى جهد متضافر، لم تناقش بعد كما يجب مشكلة «المواطَنة» و«الهوية» ومفهوم «الخطاب المتطرف»، وإذا كانت الخطابات الطائفية المعلنة قد أشبعت نقاشًا طوال العقود الثلاثة الماضية، فإن مفهوم «الطائفية المضمرة» هو الأكثر رسوخًا، إذ تتبدى معانيه بين فلتات اللسان، وفي طيّات الكتابة، وفي البياض المهمل بين سواد الحروف.

لو أن مفهوم «المواطَنة» قد تشكّل فعليًا، وترسّخ في الممارسة العفوية لما انطلقت فلتات اللسان التي تجعل الحدث طائفيًا والمصيبة مذهبية، والمتضرر تابعا لطائفة أكثر من تابعيته للوطن، أضرب مثلاً بهذا المرض الطائفي المضمر الذي لا يعيه حتى قائله بتنديدٍ كتبه شاعر مرموق منددًا بحادثة «القديح» إذ قال بما خلاصته: «تأمّلوا جيدًا أن هؤلاء القتلى ينتمون إلى هذه الأرض، ويحملون الهوية التي تحملونها في جيوبكم»! هذه مقولة انتشرت بوصفها تمثّل ذروة التعايش والوحدة، بينما لو شرّحناها لعثرنا على صيغ طائفية كامنة تسكن كل حروف عباراته تلك، من بينها اضطراره للتنبيه بأن هؤلاء من هذه الأرض، وكأنها معلومة جديدة! أو إضافة جوهرية للقارئ، وأردفها بالتذكير ببطاقة الهويّة التي يفترض هو أنها الجامع الوحيد بين المذاهب، هذا فضلاً عن تذكير الآخرين بأن القتلى «من المسلمين»، هذه التأكيدات تحاول أن تستر معاني طائفيّة عميقة هي أكثر خفاءً على قائلها وقارئها، ذلك أن التأسيس للذهنية الطائفية ليس جديدًا، والتجاوز للنزعة هذه يحتاج إلى جهد معرفي كبير.

التأكيد على المواطَنة بوصفها المشترك الضابط والجوهري بين المجتمع السعودي كله يعفينا من التناول الجزئي أو الفرعي لحادثة تبعًا لموقعها أو مذهب ضحاياها أو منطقتهم، وتشكّل هذا المفهوم يحتاج إلى جهد علمي وتعليمي ضخم يستغرق عقودًا من الزمن، وإذا تشكّلت فسنكون كما المجتمعات الأخرى التي لا تتحدث عن لون الضحيّة أو ديانته أو مذهبه، بل ما دام يحمل هذا الانتماء لـ«المواطَنة» بعمقها وجوهرها فهو جزء من مجتمعه يتألمون لألمه ومصابه.

لا يمكن «نسيان» الطائفية واقعيًا ودنيويًا من دون تحقيق مفهوم «المواطنة». وحين نفشل في محو الطائفية من أعمالنا وأفكارنا وعلاقاتنا فإن الأجساد المفخخة ستمارس دومًا تفخيخ دمائها لتفجير دماء الآخرين، إنها اللعبة الإرهابية المرعبة.

ليس صدفة أن تكون جميع كلمات الملك سلمان بن عبد العزيز منذ توليه الحكم مؤكدة على «المواطَنة» المشتركة للكل، وإلحاحه المستمر – النابع من حكمته وإدراك الأخطار على بلاده – بأن كل المناطق على مسافة واحدة. هذه هي رؤية القيادة التي نأمل أن تترجم على المستويين، الفكري، والديني، ذلك أن التجاوز للتفرقة الواعية (لدى بعض الفئات المتطرفة والمأزومة) أو غير الواعية (لدى من يظنّون أنهم ينتجون خطابات التعايش والوحدة) يتطلب جهدًا مؤسسيًا ومعرفيًا تشترك فيه كل المؤسسات السنية والشيعية لضرب التطرف والإرهاب من أي تيارٍ كان، والبدء بترسيخ ثقافة تتجاوز صيغ التاريخ، وآلامه، وأوهامه، وأخطاءه.

لنكن أكثر إنسانية ووطنية، علينا أن نخفف من الأحقاد واللوثات الذاتية، وأن نبدأ بفحص أفكارنا العدوانية، والممارسات العنفية، والطائفية اللفظية هي أساس الطائفية الميدانية العسكرية، إن كل المجتمعات تصاب بامتحانات مفصلية هي «ذروات استثنائية»، وتجاوز لحظات محددة قاتمة هو ما يصنع تحولات التاريخ والفشل في التجاوز يدخلها بالمجهول. كل الأحداث المزلزلة تصنع وعيًا مختلفًا لما كان عليه لتجاوز المسببات، وجريمة القديح تجعلنا أمام اختباراتٍ حول الطائفية والتحريض المرتبط بها من أصحاب الأفكار العنيفة والتوجهات الإرهابية.

لنخفف من مركزيتنا قليلاً، انظروا إلى الآخر، إنه ليس جحيمًا، بل الآخر «وجهٌ آخر هو أنت».

من مؤتمر «الدوادمي».. إلى حزم «القديح»

من مؤتمر «الدوادمي».. إلى حزم «القديح»

جريدة الشرق الأوسط 28 مايو 2015

فهد بن سليمان الشقيران

فجيعة حادثة «القديح» الإجرامية كانت علامةً وسمةً للمعنى الذي وصل إليه الفكر المتطرف الإرهابي، ذلك أن الأدوات التي استخدمها شديدة الخطورة، إذ تتجاوز السلوك الإرهابي المعروف لدى تنظيم القاعدة منذ زمن، استهداف المنشآت المدنية، وبيوت الله، والأماكن الشعبية والدكاكين والطرقات، يعني أن الفكرة المطلوبة تتمثل في تفتيت مفهوم الدولة وتجاوزه. وظيفة أي خطابٍ آيديولوجي متطرف أن يتجاوز ويلتفّ على مؤسسات الدولة، وكل إضعاف لتلك المؤسسات يعني الانتعاش للمنظّمات الإرهابية، ولأن إيران بالمعنى السياسي بعيدة عن الأنظمة الدولية ومراعاتها، ونشأ نظامها الإسلامي الحالي ضمن سياقات الأصولية وأنماطها والاحتجاج والتفسير المتعسّف لفكرة «الدين والدولة» فقد صعّدت من عمل ونفَس ولياقة الجماعات الإرهابية بالعالم، والحديث عن إيواء إيران لأفراد من «القاعدة»، والغموض في الدعم لتنظيم داعش، والوضوح المطلق في دعم حركة الإخوان المسلمين وجماعات إرهاب الأخرى التي تندرج ضمن دعاية «المقاومة» متوفرٌ ومطروح بالدليل والبرهان.

إنها الحيلة الأخيرة لهذه التنظيمات أن تؤسس لإحراجات ميدانية لمؤسسات الدولة.

من الطبيعي أن يكون لأي دولةٍ معانٍ وتعاليم، على النحو الذي نادى به روسو بـ«الدين المدني»، أو بالتعاليم التي اعتبرها توماس هوبز قبله مهمة السلطان في فرضها وضبطها وتنظيمها ضمن مؤسسة الدولة، غير أن الخطورة ليست في المعنى الديني المضبوط والمتوّج بتعميد الدولة والمؤسس ضمن مساراتٍ مؤسسية يصعب اختراقها أو توظيفها ضد الواقع، بل الخطورة في انفلات الخطاب. من هنا يكون الضبط للسيلان الذي يتدفّق في الخطابات الدينية هو الشرط لحماية مؤسسات الدولة من الخطابات المنشقّة أو الملتفّة على ذلك الخطاب المضبوط، وعليه فإن الوفرة الدعوية، أو التخمة الوعظية، أو الطفرة في «الفتيا» في وسائل الإعلام وأنماط التعبير يجب أن تضبط ضمن مفهوم «الدولة» بالمعنى الفلسفي والمؤسسي والمنهجي، وحسنًا تحدّث وزير الإعلام السعودي الدكتور عادل الطريفي لجريدة «المدينة» عن ضرورة إغلاق وضبط وتنظيم القنوات الدينية العربية ضمن مقترح دولة الإمارات، الذي اعتمده وزراء الإعلام العرب في اجتماعهم الأخير، لأن هذه المهمّة هي التي تحمي الأجهزة والمؤسسات من القوارض المختبئة التي تنهش تدريجيًا، ودون كلل أو ملل المؤسسات وهي «عصب الدولة».

لقد كان الخطاب المتطرّف المنشقّ عن الخطاب الديني المضبوط مؤسسيًا مؤرّقًا للسعودية منذ التأسيس، ويذكر المؤرخون كيف كان الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود يحارب فكريًا وعسكريًا الجماعات التي عادتْه بسبب بدئه وتدشينه للدولة السعودية الحديثة. يذكر ذلك بالتفصيل الباحث سليمان الحديثي في كتابٍ مميز خصّصه عن عبد الله أخي الملك المؤسس وعنونه بـ«الأمير عبد الله بن عبد الرحمن آل سعود – سيرة تاريخية وثائقية» وفي فصلٍ خاص عن معركة السبلة التي نشبت في 30 مارس 1929 نقل عن فيلبي مشاركة الملك عبد العزيز وأبنائه وإخوانه فيها لتتبع العصاة وتأديبهم في بعض القرى والهجر، وكان لأخي الملك دوره في إنجاح المعركة وإتمامها وتلقّي المؤسس البيعة مجددًا ممن عدل عن عصيانه وانشقاقه، وقد بلغ خطر هذه الجماعة المهددة لمفهوم الدولة الوليد أن اجتمع الملك مع فريقه المقرّب فيما عرف بـ«مؤتمر الدوادمي» وكان من مقررات ذلك المؤتمر: «معاقبة من أخلّوا بالأمن».

طوال تلك العقود كانت القوارض الإرهابية تجدد دماءها بنفس الأسلوب وإن اختلفت الاستراتيجيات والتسميات والآيديولوجيات.. احتلّ الحرم في أواخر السبعينات الميلادية وتم تفخيخ المصاحف في مكة والمدينة في 2003 وقبل أسبوع يتم تفجير مسجدٍ للمصلّين في صلاة الجمعة ببلدةٍ آمنة مسجدها يحمل اسم الخليفة الإمام علي بن أبي طالب. المعنى لم يعد دينيًا، وفكرة «الإسلام دين ودولة» ليست إلا سياجًا وغطاءً للهدف الدموي الذي يراد له أن يرتكب باسم الإسلام لضرب الدولة ومؤسساتها ومقدّراتها. بعد كل تلك العقود يهبّ الملك السابع للبلاد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز لتجديد حماية الدولة ومؤسساتها، وهو مشوار طويل بدأه والده، مهمّته الأساسية: «حماية المؤسسات، الضرب بيدٍ من حديد على من أخلّ بالأمن، ملاحقة ومحاكمة المحرّضين والمتعاطفين». بين مؤتمر الدوادمي المنعقد في 8 يوليو 1929 وبرقية الملك سلمان قرابة القرن من الزمان، غير أن الإرهاب لم ينسَ الانتقام، والدولة أيضًا لم تهمل الواقع ولم تفرّط في الكيان، ولم تسلّم المجتمع إلى مدافع العنف وقنابل الاستئصال.

ويدلّ على المعنى العميق في إدارة مكافحة الإرهاب والتطرف العبارات التي اختارها الملك بدقّة في برقيته لولي العهد الأمير محمد بن نايف: «إن كل مشارك أو مخطط أو داعم أو متعاون أو متعاطف مع هذه الجريمة البشعة سيكون عرضة للمحاسبة والمحاكمة وسينال عقابه الذي يستحقه ولن تتوقف جهودنا يومًا عن محاربة الفكر الضال ومواجهة الإرهابيين والقضاء على بؤرهم». فالجريمة توافرت فيها عوامل: التحريض (الفكري)، والدعم (اللوجيستي)، والتنفيذ (الميداني)، وعليه فإن الحساب يشمل كل من كان سببًا في هذه «الثمرة» وأصلها بذرة رعيت ثم زرعت وسقيت ومن ثم ترعرعت حتى أثمرت مرًا علقمًا سامًا فجّر المساجد والأشلاء.

يذكر يوسف ياسين في كتابه «يوميات الدبدبة – أول مذكرات يومية في حروب الملك عبد العزيز لتوحيد المملكة» وصفًا دقيقًا لجهد المؤسس في ضبط البلاد من وحي معركة «النبقيّة»: «ومتى انعكست أشعة الشمس عن السيوف رأت عينك منها البرق الخاطف. كان الملك يشير بعصاه إلى كل من يمرّ أمامه مثنيًا، ولكنه كان ذلك اليوم كثير الحزن عظيم الشجن، ولما سمع أصداء الرصاص أخذ يردد حسبنا الله ونعم الوكيل، يقول هذا وهو يستعرض جنده الذين التحقوا بجلالته»، لقد كان تأسيس الدولة مرهقًا، خاطر بناة هذه البلاد بأجسادهم وصحّتهم، وحين وصف المؤرخ العلاّمة محمد العبودي لقاءه بالملك عبد العزيز كتب في مذكراته «سبعون عامًا في الوظيفة الحكومية» قائلاً: «إنني الآن أتمثل ذلك في نفسي، وأنا أمام ابن سعود، بطل الأقاصيص والأساطير، إنني أنظر إليه أكرر النظر وأفحصه فألمح بل أجد واضحًا أثر ذلك كله في نفسه، أجد أثر معارك الحوادث وأحمال السنين قد بدت على كيانه».

من مؤتمر الدوادمي، إلى حزم الملك في برقية «القديح» يستمر مسار التأديب والتنظيف والتحصين للمجتمع من دواخل الإرهاب.

تستمر المسيرة مع الملك سلمان بن عبد العزيز الذي يخوض حربًا قويّة لا هوادة فيها ضد الإرهاب في الداخل والخارج، وتشارك قواته في التحالف الدولي ضد «داعش» في العراق وسوريا، ويقود بنفسه التحالف العربي ضد المتمرّدين في اليمن، وما أشبه جيش سلمان بجيش أبيه ولسان الحال قول بشّار:

كأن مُثار النقع فوق رؤوسهم

وأسيافنا ليلٌ تهاوت كواكبه

وجيش كجنح الليل يرجف بالحصى

وبالشول والخطي حمرٌ ثعالبهْ

 

عظَمة السلام الذي يُحرس بالحرب

عظَمة السلام الذي يُحرس بالحرب

جريدة الشرق الأوسط 14 مايو 2015

فهد بن سليمان الشقيران

تعبّر الحروب التي تضرم نيرانها عن ذُروات التجدد وطفراتٍ في حركة التاريخ، فالحرب هي صنو الحب، لها اشتراطاتها وأنماطها وأحوالها، فالقوّة هي التي تردع، والردع هو الذي يرسم مسارات الاستقرار في البلدان والمجتمعات، بين «إرادة الحرب» و«إرادة السلم» تنازعت البشرية قديمًا، ذلك أن التاريخ علّمهم أن لا سلم من دون حرب. في سياق هذا السعي حاول فرعون مصر رمسيس الثاني إبرام وثيقة سلام دائم تعدّ أقدم وثيقة سلام في التاريخ، وتعود إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، أبرمها مع «حتيثار» ملك «الحثّيين» (وهم من بقايا ثقافة شهيرة فريدة موجودة في آسيا الصغرى، تشكّلت آنذاك شمال سوريا وشمال العراق)، غير أن وثيقة السلم تلك لم تمنع مبررات الحرب وضروراتها بين الجانبين، بينما اعتبرت اليونان الحرب حالةً عادية طبيعية، وفيلسوفهم «هيراقليطس» اعتبر العالم كله تركّب من طبيعة الأضداد، وعليه فإن الحرب لم تُلْغَ الحرب لأنها جزء من هذا الواقع، ومن تركيبة العالم ومن التدافع البشري والأممي.

لقد كان للحرب سحرها وألقها، فهي التعبير عن القوة، وهي «الشكل السياسي» الذي تتجلى به، وفي كتاب «تأملات في تاريخ الرومان – أسباب الظهور والانحطاط» يتحدّث مونتسكيو عن الرومان وفنّ الحرب في فصلٍ خاص، بوصفها أمة تكوّنت لديها خبرة فائقة بفنون القتال، فعندما تكون الحرب حالة عابرة فإنها تكسب الدروس، وتغيب عن الذهن الهفوات ومواطن الضعف، مما جعل الرومان في حالة تأهبٍ دائم نظير صعوبة الموقع الذي يفرض عليها أن تكون في حال تأهبٍ ضد هجماتٍ شرسةٍ كالتي حدثت من فيهروس المقدوني ثم الغال هنيبعل، رأى في تأملاته الكبيرة أنه و«في الخلاصة لم توجد قط أمة استعدت للحرب بمثل احتراس روما، وخاضت غمارها بمثل حزمها وهمّتها». الواقع الصعب الذي حكم الرومان حتّم عليهم الحيوية في النزال، والاستعداد العسكري، والمواجهة الحاسمة في التوقيت المناسب، وهذا ما جعل الحرب جزءًا من تاريخ هذه الأمم التي بقيت.

بالطبع، تلك مجازات التاريخ، واستعاراته، وذلك ظلّ الأمم الغابرة التي لم تمتلك الصرعات الحديثة التي تحكم عالم اليوم، كما لم تشيّد لوائح وقوانين دقيقة تحكم الحرب والسلم، مما يجعل قرارها ضمن صيغٍ قانونية تكتب تحت قبب الجمعيات الأممية والمجالس الأمنية والمحاور الدولية والتحالفات العالمية، من هنا تجيء حال «الحرب العادلة»، وهي تعبير عن خلاصة تجربة البشر مع الحروب والبدء بمشروع تهذيبٍ لها، يمنعها من الانغماس في الحرب البدائية الجائرة. يرجع مفهوم «الحرب العادلة» إلى القرن الخامس حين تساءل القديس أغسطين: «هل يمكن لمسيحي أن يدخل الحرب من دون أن يرتكب خطيئة؟!»، أجاب في ما بعد بأن الحرب لا تكون خطيئةً حين تكون حربًا عادلة، بل تكون ثأرًا مشروعًا من ظلمٍ وقع، وتبلغ ذروة عدالتها حين لا يكون ثمة إمكان لكفّ الظلم إلا بالحرب، كما تتجلى عدالة الحرب مع انعدام الحل، مع كل ذلك تتكوّن الحرب العادلة المباركة التي تحدّ من الظلم.

بموازاة ظهور وصياغة معاني «الحرب العادلة» فعّلت آلية «العقوبات» التي سادت في القرن العشرين، وبحسب ديفيد فيشر في كتابه «الأخلاقيات والحرب – هل يمكن أن تكون الحرب عادلة في القرن الحادي والعشرين؟»، فإن «تقليد الحرب العادلة لا يفترض أن الخيارات الأخرى مفضّلة دائمًا على الحرب. خلال الجزء الأكبر من القرن العشرين، سادت وجهة نظرٍ فضّلت العقوبات دائمًا على الحروب، غير أنها لا تتسبب في ضررٍ من خبرتنا في تطبيقها منذ نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، لأنها تأخذ وقتًا طويلاً حتى تكون فعّالة»، ثم يشير إلى أن العقوبات تستهدف المدنيين الأبرياء ومصالحهم واقتصادهم، بينما الحرب أكثر عدالةً من العقوبات، لأنها إن كانت عادلة فهي تستهدف الظّلَمة والقتَلة والمجرمين المتورطين والمحاربين المنازلين العسكريين ولا تستهدف مصلحة المدنيين الأبرياء كما هو حال العقوبات التي لا تؤدي أي فعالية لدحض خطر الطرف المعادي، فالحروب قد تقود إلى عصور نهضةٍ وازدهار، وبحسب وصف هيغل الذي انشغل بقصة الحرب والتاريخ والسلام فإنه «لا يمكن إنكار دور الحرب في تطوّر الإنسان، لأن مجموعة كبيرة مما تم إنجازه طوال التاريخ إنما جاءت نتيجةً للحرب والنزاع أكثر مما جاءت عن طريق الانسجام والتعاون بين البشر».

ربما كانت الحرب التي يخوضها التحالف العربي من أكثر الحروب عدالةً وأخلاقيةً في تاريخ المنطقة، ذلك أن الحرب أخذت طريقها الطبيعي من الناحية السياسية، إذ انعدم الحوار من الطرف الإرهابي، ووسّعت نقاط الانقلاب والعدوان على مؤسسات الدولة في اليمن، ونهبت الثروات، وتم تحويل الجيش اليمني من مؤسسةٍ لها أدوارها إلى ترسانةٍ داخل ميليشيا من هنا تحوّل التعامل بين السعودية واليمن إلى تعاملٍ بين دولةٍ مدنية قوية ذات سيادة مثل السعودية، مع فلول من المطاردين المتقافزين على الجبال تحرّكهم عصبة الميليشيا وذاكرة الحقد التاريخي الآيديولوجي وأفكار الدم والانتقام ممثلين بالحوثيين ومن معهم من الجموع، كما أن عدالة الحرب تجلّت في قانونيتها، إذ جاءت بناء على طلب رسمي من رئيس اليمن الشرعي إلى دول مجلس التعاون، وتم تأييد الطلب دوليًا وأيدته القوى العالمية، والأهم تأييد مجلس الأمن الذي هو قنطرة التشريع لأي حربٍ عادلةٍ في العالم، وهناك نماذج لحروبٍ أخرى عادلة مثل تدخّل «الناتو» في البوسنة، أو التدخل الدولي لتحرير الكويت، والوقوف مع الأفغان ضد السوفيات وسواهم.

هذه هي نماذج الحروب العادلة التي تقودها الدول ضمن مؤسسات وتشريعات، على عكس ما منيت به المنطقة من حروبٍ عبثية تقوم بها ميليشيات خارج صفة الدولة مهدّدة الدول المجاورة باسم المقاومة أو التحرير. للحرب ضرورتها وشرطها، ونسيان الحرب يعني الترهّل والنهاية. في رواية «حكايات الحرب» للروائي الياباني أكييوكي نوزاكا التي صدرت عام 1967 وتوثّق حكايا هزيمة اليابان في أيام الحرب الأخيرة يقدّم الجنود تقريرهم للقائد الذي يصبّ جامّ غضبه وهو يهتف: «ألاحظ أنكم منذ فترة لا تبحثون بجدّ عن العدو، فكل يومٍ يمرّ دون مهاجمته ربح له، إذ يمكنه الاستعداد للهجوم على الوطن. عليكم ألا تضيعوا فرصةً للقيام بواجبكم».

هذه هي الحرب، جزء من التدافع، تتقدم قيمها تبعًا لتقدم الإنسان.

 

بهجة النفط.. حين تفجّرت الرمال

بهجة النفط.. حين تفجّرت الرمال

جريدة الشرق الأوسط 7 مايو 2015

فهد بن سليمان الشقيران

منذ أوائل الثلاثينات من القرن الماضي والخبرات الجيولوجية تحرث في الأرض شرق السعودية باحثةً عن الزيت الثمين.. محاولات حثيثة ولقاءات عقدها المؤسس الملك عبد العزيز بغية الظفر بالذهب الأسود الذي سيبقي مجتمعه الفتي آمنًا ضمن مستوى الرفاهية المنشود. وفي أواخر عام 1937 يستهدي الجيولوجيان «ستاينكي» و«توم بارقر» من شركة «سوكال» بخطوات دليلهما السعودي خميّس بن رمثان، يحرثان الأراضي السبخة الغامضة وهما يتبعانه، ويستنجدان بطائرة أعيدت وظيفتها لتكون ضمن مجال التنقيب المحموم، والذي كان مشوبًا باليأس حتى لكأن هذه الأرض العنيدة لا تحمل إلا الصخر الصلد، ولا تكشف من جسدها إلا عن سرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً، غير أن برقية طارت كصوت طيرٍ يبشّر بانفلاج الصبح وجهتها سان فرانسيسكو مؤرخة في 4 مارس (آذار) 1938 تعلن أن «بئر الدمام رقم 7 تنتج 1585 برميلاً في اليوم على عمق كيلومتر ونصف الكيلومتر تقريبًا، في الصخور الجيرية المسامية».

تناقل الناس بالسعودية الأخبار لأنهم علموا أن الأرض انصاعت بعد أن ابتلعتهم طويلاً بجفافها وقحطها وجدبها، فلئن بخلت عليهم بالماء، فهي تتشقق الآن عن ينابيع من النفط الأجود، والذي سيغيّر كل صيغ الحياة في البلاد.

في 1 مايو (أيار) 1939 حرّك الملك عبد العزيز بيده مفتاح تدفّق الزيت محتفلاً بالبدء بشحن أول ناقلة زيت في رأس تنورة تحملها ناقلات «سوكال». كانت مرحلةً تاريخية للسعودية، واشترك في الاحتفال البهيج قادة البلاد مع المسؤولين والأعيان، ومع الناس الذين رأوا في هذا الخير ذروة الكرم الإلهي، والعطاء الذي لا منّة فيه لأحد، بقدر ما هو فتح رزقٍ من السماء نزل على عباده الصابرين في هذه الصحراء التي يموت الناس فيها بصمتٍ، إما من فيروسٍ صغير، وإما من حمى عادية، وإما من لدغةٍ سامةٍ لا يتوفّر مصلها. استمرّت قصة النفط اقتصاديًا بعد ذلك، وهو المهم هنا اجتماعيًا، فـ«كاسكوك» التي تحوّلت من بعد إلى «أرامكو»، وغدت لاحقًا شركةً سعودية تملكها كليّات الحكومة السعودية، تحكي قصصًا لا تنتهي من القدرة على الإبداع والتحويل الاجتماعي، والإتقان في المشاريع وبناء المدن، لتتجاوز العمل المحدد بالنفط.

وبعد خمسة وسبعين عامًا من احتفال الملك المؤسس عبد العزيز آنف الذكر، وفي نفس اليوم في 1 مايو 2015 وبناءً على توصيةٍ من ولي ولي العهد وزير الدفاع رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنموية الأمير محمد بن سلمان، تعلن السعودية عن إعادة هيكلة شركة «أرامكو» النفطية وفصلها عن وزارة البترول. وبحسب رئيس شركة «آشمور للاستثمار» جون إسفاكياناكيس، فإن «فصل (أرامكو السعودية) عن وزارة البترول وفصل صندوق الاستثمارات العامة عن وزارة المالية، أمران جيدان، ويعطيان استقلالية أكثر في القرارات، بل ويسرعانها». ولعل استذكار المسافة بين التاريخين، بين النشأة والتطوّر، ومن ثم النضج والاستمرارية والنزوع نحو تحييد المناخ البيروقراطي في العمل الاقتصادي السعودية يختصر الكثير من تاريخ السعودية وملوكها ومجتمعها بين السياسة والمجتمع والاقتصاد.

تتجاوز لحظة تفجر الذهب الأسود على أرض متعبةٍ مرهقة، تبتلع الناس مبكّرًا نظير الأمراض والجوع، دلالتها النفطية، لتكون لحظة ولادةٍ جديدة استثمرت في التأسيس الأوّلي لبنية تحتية قوية، وأغدقت الثروة على المؤسسات لتبدأ خلال فترةٍ وجيزة قصة البناء لهياكل صحية وأمنية واقتصادية لترتبط هذه اللحظة بتحوّل استفاد منه جميع العرب والمسلمين بحكم صيغ الكرم الذي اشتهرت به السعودية، والتي كانت مستقلّة بذاتها قبل النفط، حيث لم تأخذ من عطايا أحدٍ، وبعد النفط، حيث أصبحت اليد التي تعطي ولا تأخذ، ولا يهمّها من أنكر الكرم لؤمًا، وتشكر من ردّ الكرم بسخاءِ نفس. بيد أن من الممكن أن تكون النقلة المفاجئة تلك قد أثّرت على تحديد معاني القيم لفترةٍ من الزمن، فالنقلة أشبه ما تكون بالصدمة التي يمكن أن تؤثر على بعض المفاهيم الاجتماعية عند البعض ممن أعيته صدمة الثروة عن إدراك أمسه، فلم يشكر سلوكًا وقيمةً، وهذا يصح على أي تحوّل في «الظواهر الاجتماعية» لكل بني البشر.

بعد صعود التيارات الأصولية منذ العشرينات من القرن الماضي، ومن ثم بلوغها الذروة مع حركات الكفاح وتغذية شعارات النضال ضد الاستعمار لمفاهيم عديدة كـ«الجهاد السياسي» تكثّفت البحوث التي تتعلق بالتطرف، وكان أن حضر النفط لأول مرة في تحليلات «الأنثربولوجيين العرب» الذين يجمع بينهم كثيرًا إرث خليط من انكسارات القومية، ولوثة الماركسية وشعارات اليسار وكبرياء «الكمون» الموهوم، وأنماط الثورات الشبابية الشعاراتية؛ تفاوتت بمستوياتها غير أنها راحت تبثّ سمومها التحليلية محوّلة الصراع مع «السعودية» إلى شبه إطار منهجي لإدانة المجتمع والنظام معًا، فاستخدمت المفهوم الخداج «الإسلام النفطي» لإلصاق ما سببته جماعة الإخوان المسلمين التي لا علاقة للسعودية بها ولا بنشأتها، ولتحقيق أهداف «مديونية الحقد القومي» المختزن ارتكاسيًا منذ الخمسينات وليكون على الورق وضمن طيّات المفاهيم الفلسفية، ودفنت هذه الصيغ التحليلية الكارثية في الكتب التي تتعلق بمصائر الفكر الإسلامي، أو أنماط العنف، أو نقد الخطاب الديني، كانوا يريدون إدخال حكاية النفط في مجالات بحثهم، وهو ربط بائس؛ إذ كيف للتطرف أن يكون نتيجةً لانتشار «الإسلام النفطي»؟! والعتب على أسماء جيدة وقعت في مثل هذا التناسخ التحليلي السطحي.

بقي النفط السعودي مرتبطًا بالقيم التي أسست عليها البلاد، وللحكم والمسارات التي وضعها الملك المؤسس عبد العزيز، وأهمها دعم السلم العالمي، وقد تعاون ودعم الملك فيصل مبكرًا الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل وشاركه الهمّ والنقاش عبر مراسلاتٍ عديدة تمحورت حول تحجيم الصراعات والحروب بالعالم ومحاربة التسلّح النووي، كان ذلك في عام 1962.

في 20 يناير (كانون الثاني) 1954 قُدّر لبحّارةٍ يوناني اسمه أرسطو سقراط أوناسيس كان أبواه يمتنّيان له أن يكون فيلسوفًا بارعًا، شاءت الظروف أن يبحر متجهًا إلى جدة رغبةً في إبرام عقدٍ مع السعودية للنقل النفطي ضمن شركته «أوناسيس» وقّع حينها مع وزير التجارة السعودي محمد علي رضا عقدًا ثمينًا انتشله من انكساراته التجارية العديدة، وضع بتصرّف السعودية أسطولاً يضم نحو ثلاثين صهريجًا فائق التطور، كان من بين بنود العقد: «هذه الصهاريج سوف تبحر تحت العلم السعودي وتحمل أسماء عربية، سوف تؤسس الشركة مدرسةً ترعاها وعلى نفقتها لتدريس وتعليم الملاحين السعوديين والعرب، وأن تتعهد الشركة بعدم تسليم أي شحنة نفط إلى إسرائيل». وهذا ما يروي تفاصيله المؤرخ الفرنسي جاك بونوا ميشان في كتابه «الملك سعود.. الشرق في زمن التحوّلات». هكذا بقيت السعودية أمينةً لقيمها، من دون ضجيج، حيث عمّ خيرها الأرجاء، وهي تسعى دومًا لأن يكون نفطها واقتصادها المتنوّع درسًا في تنمية الإنسان ودعمه، ونشر الحوار والسلام.

لقد ابتسم إنسان الصحراء للشمس حين تفجّرت الرمال، يمضي بناقته منتعلاً الأرض.. قُلبت الصفحة، فلم يعد نعيق الغراب مشؤومًا بعد اليوم.

 

من العاصفة إلى الأمل.. ضد الانهيارات الجاذبة

من العاصفة إلى الأمل.. ضد الانهيارات الجاذبة

جريدة الشرق الأوسط 23 أبريل 2015

فهد بن سليمان الشقيران

عصفت قوة الحزم بالمشاريع، وحرّكت رياحها كل المراكب، وأخذت الأصوات ترتفع من الهلع، وصوت وجيب الرعب في قلوبهم. أصابت الضربة قشّتهم المتهالكة في بحرٍ متلاطم حرّكته العاصفة، وحين انتهت المعركة بصيغتها الأولى وانطلقت عملية «إعادة الأمل» زاد ارتباكهم، لأنهم لم يعتادوا على قوةٍ تجمع بين الحزم والرحمة، بين إيلام العدو وإثخان جراحه وإعادة الأمل للمجتمع المجلود من ميليشيات سفّاحة. لقد كانت الدروس المستفادة عربيًا من هذه المعركة كبيرة، وأولها الاهتمام بالموضوع الإقليمي لتحصينه من الامتلاء الأجنبي الكارثي.

لقد شكّلت الأحداث المضطربة طوال السنوات الأربع الماضية واقعًا هشًا في العالم العربي على كل المستويات، وأخطرها الفكري والسياسي والاقتصادي، وعليه فإن هذا الانهيار العربي الكامل جعل القوى الإقليمية في المنطقة تتنافس على محاولة ابتلاعه ضمن خطوطها السياسية، والإمساك بالدول من أجل وضعها ضمن الرهانات السياسية والبرامج المحليّة التركية أو الإيرانية. دول الخليج احتاطت إزاء مشروع «أنابيب السلام» التركي الذي اقترح في عام 1987، والذي يهدف إلى نقل ستة ملايين متر مكعب يوميًا من نهري سيحان وجيحان التركيين عبر أنبوبتين إلى دول الخليج العربي وغيرها. فضّلت الدول الخليجية الاعتماد الذاتي على المياه الجوفية وتحلية مياه البحر، رغم أن السعودية أقرضت تركيا إبّان أزمتها الكبرى في الديون الخارجية عام 1979 بشرطٍ واحد يتعلق بالقضية الفلسطينية!

في الخامس والعشرين من مايو (أيار) 2013، ألقى فؤاد كيمن، مدير مركز إسطنبول للسياسات، محاضرةً في مركز الإمارات للدراسات بأبوظبي بعنوان «توجهات تركيا وإيران في الشرق الأوسط.. سياسات ومصالح». في هذه المحاضرة أشار إلى كتابٍ لبولنت أراس، رئيس مركز الأبحاث الاستراتيجية التابع لوزارة الخارجية، بعنوان «تركيا وإيران.. مواجهة تحدي الربيع العربي»، يبشّر فيه بأن الأحداث لدى العرب ستؤسس لنماذج نموّ على طريقة «النمور الآسيوية» عبر حكامٍ جدد سينتقلون باستراتيجيات حكمٍ مختلفة تتجاوز الشمولية إلى الحرية و«الحكم الجيّد»، ثم استخدم عبارة تشرح النظرة المركزية التركية للشرق الأوسط والنظرة المنفصلة، حيث وصف الربيع العربي بأنه «الضربة للوضع القائم في الشرق الأوسط».

من اللافت إشارة الكاتب أراس إلى أن «الوضع في وسطنا يعكس كل الأسباب المحددة وراء تشبث إيران المرن بالوضع القائم المنهار». مثّل الانهيار العربي الكارثي الواضح في شمال أفريقيا وفي اليمن ومصر آنذاك وسوريا مناخًا مغريًا للحقيبة الإيرانية أن تتجه نحو الاستثمار في هذا الانهيار الذي جاء على المقاس المطلوب، وذلك من أجل تعزيز مناطق النفوذ في هذه الدول الفاشلة المنهارة التعيسة، والبدء بتحقيق أهداف الثورة المرسومة أصلاً عبر التصدير من جهة، وعبر محاصرة دول الخليج بأكبر قدر ممكن، مستثمرةً آنذاك نفوذها في أفريقيا والسودان الذي وجّه ضربةً كبرى لإيران حين أعلن عن إغلاق مكاتب إيران في الدولة بعد بدء «عاصفة الحزم».

كل الأوضاع المنهارة كانت ملائمةً لأن تحاصر الدول المعتدلة في المنطقة وبخاصةٍ الأردن ودول الخليج، وذلك لإتمام ولو بعض أهداف الربيع العربي الذي أورث تركةً منهارةً مترهلة، دفعت فيها الجماعات المدعومة من إيران أثمانًا باهظةً، ذلك أنها حاولت تثبيت الوهن والانهيار وحراسة الوضع القائم بغية فتح مساراتٍ سياسية أخرى بشكلٍ مستمر ومستديم. غير أن الذي جاءت به «عاصفة الحزم» كان مدوّيًا وقويًا، لأنها أعادت رسم الخرائط الاستراتيجية وقلبت الطاولة على اللاعبين بالظلام وحرست المشروع العربي من التمدد الإقليمي، كما أحيت النزعة الاستقلالية، ووضعت الأمن القومي للدول العربية والخليجية على رأس الأولويات بعد سنوات من الاضطراب والتثوير نشبت على أثرها سوق بيع العروش، والسمسرة في الدول، ونهب الثروات باسم «الثورات».

أتت «عاصفة الحزم» لتثبيت الاستقرار في المنطقة، ونزع الصورة التي تروّج في الإعلام المعادي. صورة تبث عبر أسئلةٍ تتعلق بقدرات الخليج العسكرية، أو إمكانات استقلال قراره السيادي، أو عن صعوبة التحالف بين دول المجلس بسبب النبرات الخلافية التي تطفو على السطح في بعض الأوقات. كما أنهت «عاصفة الحزم» حالات التآمر بغية المد الطائفي، وهددت نسخ الخطاب الإرهابي، وعوامل الافتراق المجتمعي، وكان التوحّد الأصعب الذي شرقت به حلوق وبلاعيم المتطرفين والمقبوحين هو الدخول المصري في التحالف القوي والمشاركة الفاعلة والنوعية، هذا فضلا عن الدعم الإسلامي والعربي للمعركة العادلة والأخلاقية والتصحيحية. إنه واقع جديد يتشكّل لتثبيت عرى الاستقرار ونزع الخيوط المنسوجة في اليمن جنوبًا وفي الشام شمالاً من أجل حصار «الأعداء» الخليجيين الذين يشكّلون التهديد «الحقيقي» لإيران كما يعبّرون.

أصوات عديدة تزعق من دون كللٍ أو ملل، تخفف عن نفسها عبر الإعلام تجاه هذا الجهد الدولي في تحالف «عاصفة الحزم»، بالطبع ليس من المهم تناولها لأنها من الأطراف المهزومة والمضروبة في اليمن، لكن الأهم التركيز على كون هذه العاصفة هي للدفاع عن استقرار اليمن والدول الخليجية من جهة، وترسيخ «العروبة» وتثبيتها بوجه المشروع الأجنبي الإيراني الوافد من جهة أخرى، وإلا فما الصلة أساسًا بين اليمن وإيران، بين مأرز العرب ومنبعهم وبين مروحة إيران التي تهب دومًا بالسامّ من الرياح.

أهداف الحزم لخّصها ملك الحزم سلمان بهذه الجمل: «ليعد من تمرد على الشرعية لصوت العقل، والكف عن الاستقواء بالقوى الخارجية والعبث بأمن الشعب اليمني العزيز، والتوقف عن الترويج للطائفية وزرع بذور الإرهاب، وسوف تستمر عملية عاصفة الحزم حتى تتحقق هذه الأهداف».

أهداف صعبة وقاسية على الأصوات العابرة في الفضاء العابر، تلك القيادات التي ليست لديها القدرة أو الطاقة أو الاستطاعة على الصمت من صعدة إلى الضاحية. إنها مشاريع العرب للعرب، بعيدًا عن القوى القريبة، تلك المتهافتة بحقائبها مع كل خسفٍ عربي أو انهيار.

 

«عاصفة الحزم» الأخلاقية ونتائج «الإدارة الذكية»!

«عاصفة الحزم» الأخلاقية ونتائج «الإدارة الذكية»!

جريدة الشرق الأوسط 9 أبريل 2015

فهد بن سليمان الشقيران

مع بدء عملية عاصفة الحزم، انتشرت الكثير من المواعظ الأخلاقية التي يصرفها الأعداء، وهم غالبا جموع وفصائل من القتلة والسفاحين، إذ سرعان ما تحدثت المجاميع المعادية في الشام عن «حقن الدماء» لأنها المتضرر الطبيعي من هذه الحرب النظيفة المهمة والضرورية، صدموا بها بسبب التبعية الأخلاقية والسياسية للأنماط الإيرانية والسورية، وبسبب الاشتراك الدموي الفج في الحالة السورية، مع أن الذي يجري بسوريا لا صلة له بمفهوم الحرب كما ذكرت في مقالة سابقة، بل أقرب إلى الجرائم المنظمة؛ ذلك أن الحرب العادلة جزء من مفهوم الدولة، وهي مباحث يعرفها طلبة العلوم السياسية تتعلق بمعنى «أخلاقيات الحرب» وبالضرورة التي يمليها واقع ما من أجل شن الحروب للحفاظ على الدولة وقيمها ومؤسساتها. وللحروب العادلة ملامح كثيرة يصعب حصرها، غير أن أبرز أمثلتها دون تردد هي «عاصفة الحزم»؛ ذلك أنها الحرب الأخلاقية الإنسانية العادلة، إذ تضرب أهدافا معروفة، وتعتمد على قدرات استخباراتية فذة تجعل الخطأ مستحيلا، ولديها القدرة على إغاثة الناس المتضررين، وتعمل على تحقيق أهداف سياسية معينة.

الحرب هي جزء من السلم، والتكوين الإنساني بكل تفاصيله يجعل من الحرب سلاحا مهما، غير أن الحرب بالمعاني الحالية وضمن القوانين والنظم الدولية لم تعد استئصالية ذات بعد دموي كما كان في السابق، ولهذا لم يكن لنظريات «السلام الدائم» التي سعى إليها البعض مثل كانط في كتاباته المشهورة حول «السلام الدائم» ومن بعده برتراند راسل حول مشاريعه في «القضاء على القنبلة الذرية» والدعوة إلى السلام الدولي إلا احتجاجا على الحروب العالمية والأهلية. هناك طموحات نظرية لدى البشر بأن تتوقف الحروب، وآية ذلك أنه «قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى بأعوام قليلة اجتمع رجال دول ودبلوماسيون في مؤتمرات بلاهاي (1899 – 1907) بناء على دعوة من القيصر نيكولاي الثاني لمناقشة موضوع إلغاء الحرب وتأسيس محكمة دولية لتسوية المنازعات من خلال التحكيم، وقد سبق أن لمح إلى هذا التحكيم فرانسيسكو سواريز مفكر الحرب العادلة في القرن السادس عشر، الذي قدم المشورة للأمراء حول مدى توازن ادعاءاتهم ومطالبهم لطرحها على الرجال الصالحين لاتخاذ قرار بشأنها. ويذكر أنه قبل ذلك بوقت طويل تطلع الرسول إسحاق في القرن الثامن قبل الميلاد إلى أن تسود العالم حالة سلام يمكن من خلالها أن يستلقي الحمل بسلام بجوار الأسد». هذا الجهد الذي يذكره ديفيد فيشر في كتابه المهم «الأخلاقيات والحرب» أسس لما يمكن اعتباره تقليل شرر الحرب من خلال معاني المعاهدات ولجان التحكيم كما هو واقع في المنظمة الأممية، غير أنه لا ينهي الحرب، بل يستحيل.

وفي إطار «فلسفة القوة» لدى نيتشه فمن المفارقات أنه وفي كتاب «ضد المسيح» كتب منتقدا البوذية وحال الضعف الذي يعتريها تجاه المعادين، مادحا تبويب القتال في الإسلام بوصفه مجالا لنيل الحق، والاقتصاص من المعادي، والتأديب للمعتدي والمقاتل والغازي. وهكذا فالقوة جزء من مفهوم الدولة حتى وإن وجدت بعض الدول أو النمور في الشرق ليس لديها أي جيوش أو خطط عسكرية معينة فإن هذه ليست أمثلة تحتذى، فالقوة ضرورة لإخافة الأعداء وذلك ضمن النمط الحربي العادل بالخطط المركزة لتكون الخسائر محددة بالمقاتلين والمتمردين لا المدنيين والمسالمين.

الحروب العادلة تلك التي تشنها الدول ضمن إطار القوانين والأنظمة الحديثة المتبعة، وهذا ما جعل «عاصفة الحزم» حربا قانونية نظامية، بل أكثر من ذلك إنها الحرب التي تغذي المنطقة والحلفاء بالقوة، فخوض الحروب دوريا يعبر عن «القوة الفائضة» التي تصيب العدو بالهلع، والقائد العظيم هو الذي ينصر بـ«الرعب مسيرة شهر» كما وصف النبي نفسه، وتعتبر الولايات المتحدة وهي «قوة القوى» أكبر المعبرين تاريخيا عما يعرف بـ«فائض القوة الأقوى» بوصفها أقوى دولة مرت على تاريخ البشرية عدة وعتادا، وعليه فإن الدولة القادرة على خوض حرب عادلة لأغراض محقة ضمن مفاهيم العصر ومعاني الحق لديها القدرة والطاقة أن تحارب من يهددها، يصح هذا على أي دولة بالمنطقة تعترض حدودها، وبخاصة من الميليشيات الأصولية التي تهدد الدول الحديثة في المنطقة حين تتخذ من أراض معينة نقاط ابتزاز أو استفزاز فحينها يكون الرد على تلك الميليشيا حقا محضا لأي دولة كانت بالمنطقة.

السعودية عبر عاصفة الحزم تخوض حربا مشروعة وعظيمة، وبمقاييس العصر والقرن المعيش، وذلك من خلال التقنية الحديثة، وهي حرب محقة، على حد معايير فيشر حيث «الحرب العادلة تلك التي تستند إلى سلطة معينة، وقضية عادلة، وحين تكون الملاذ الأخير»، ولأن المنطقة ليست سهلة على مر التاريخ فهي موضع أطماع وغارات، والانفلات يعني تمدد اللصوص والقتلة وقطاع الطرق، وانتشار المجرمين والجهلة والحمقى في أصقاع الأرض غير المضبوطة أمنيا وعسكريا. والحرب هي نصرة للإنسان في هذه البقعة من التربص الإيراني المخزي والذي لا يجد غضاضة في وصف «الخليج» بأنه العدو وليست «إسرائيل» كما في بعض التسريبات من سجال المفاوضات الأميركية الإيرانية.

عاصفة الحزم تشرح عهد «الإدارة الذكية» وهو المفهوم الذي يسير المؤسسات في عهد الملك سلمان وابنه وزير دفاعه الذكي الأمير محمد، وعلى أساسه تمت بلورة التحالف العسكري، والتحالفات السياسية، وتم كسب بعض الدول التي كان يمكن أن تكون مترددة نظير النفوذ الإيراني في بلدانها لحين من الدهر.

عاصفة الحزم تعبير دقيق عن «الدولة المتكاملة» ممثلة في السعودية، فهي بلد المبادرات بل لم يسبق لدولة في المنطقة أن أثمرت مبادراتها عن مصالحات كالسعودية، سواء في المبادرات للسلام في فاس، أو بيروت، أو مبادرة حل قضية لوكيربي، أو اتفاق الطائف، واتفاق الفلسطينيين بمكة، بل حتى في حرب الخليج جمعت بين القيادتين العراقية والكويتية في جدة قبل قرار الحرب، تلك المبادرات تعبر عن الرغبة الملحة والحقيقية للسعودية بأن تتجنب الحروب ما أمكن، لكن حين تأتي الأمور على طريقة الاستفزاز والابتزاز على النحو الذي مثله الخطر الحوثي الآيديولوجي الأصولي الميليشيوي ضد الحدود السعودية وضد المصالح والأمن القومي حينها تكون الحرب قائمة وضرورية بل ومهمة، فالحرب هي أساس كل شيء، ومن دون الحرب لا يوجد السلم أصلا، وكل حالة «سلم» ليس إلا حالا من «انعدام مؤقت للحرب» كما يعبر هيغل.

هذه هي الحرب العادلة التي تجمع بين الضرب والنيران على رؤوس الأعداء، وبين التخطيط والهدف الدقيق، وبين الغوث الإنساني السريع والتجهيز لمرحلة سياسية مقبلة.

 

لبنان.. كتب.. وفلاسفة.. ودماء!

لبنان.. كتب.. وفلاسفة.. ودماء!

جريدة الشرق الأوسط 26 مارس 2015

فهد بن سليمان الشقيران

ليس سرًا أن لبنان هو المصنع الرئيسي للكتاب، والمنضدة التاريخية للورق، والمحبرة التي لا تنضب لكل الكتّاب المشاغبين والمفكرين الشياطين، على اعتبار أن المبدع عبارة عن «شيطان مثابر» تطرده من الباب ويدخل عليك من الشباك، كما يصفه الكاتب اللبناني علي حرب في كتابه «الماهية والعلاقة». يغرق لبنان يوميا بالجديد من الكتب والمؤلفات والترجمات والمذكرات، وبغض النظر عن تراجع مستويات الشغف بالكتاب والقراءة والولع بملمس الورق، غير أن كينونة الكتاب بقيت حاضرة طوال تاريخ لبنان الحديث. ولأن كل شيء يتحول إلى مضمون سياسي في بلد مثل لبنان، فإن الفكري نفسه قد أُدغم وانساق مع السياسي، ليغدو كل نقاش فكري دائماً تحفّه أشواك السياسة ودهاليزها، حينها تتحالف عناقيد الغضب الفكري مع الديناميت السياسي القاتل.

يأخذ الكتاب صيغة رسالة، وتأخذ النظرية وسيلة إثبات، ويُستدعى الفيلسوف القديم من أجل تحقيق غرضٍ حاضر.

في بدايات عام 2006 اهتم وليد جنبلاط بالمؤرخ إريك هوبزباوم وتحديدا في جزء «عصر التطرفات» من رباعية هوبزباوم التاريخية، تحدث حينها مع الصحافيين أنه باطلاعه على هذا السفر الضخم يحاول إدراك المآزق التاريخية التي حدثت بالعالم، وتحديدا في أوروبا بغية تمييز الواقع العربي واللبناني. يأخذه بالطبع همّ التطرفات لا السياسية والاقتصادية فحسب، بل والدينية، على اعتباره الزعيم لأقلية يخاف عليها من المتطرفين والأصوليين القتلة وبأن الخوف بعد المجازر الأصولية ضد «الإيزيديين» في العراق، من هنا كان الهم القديم لبذل الجهد في فهم الظاهرة الأصولية.

في ذروة الخلاف بين جنبلاط وحزب الله وأثناء إجراء الحوار السياسي في بيروت جلب وليد معه إلى الطاولة نسخة من رواية «سمرقند» لأمين معلوف، وفي حديث مطول مع الصحافي حسام عيتاني تحدث عن وجود «رسالة» من هذا الاصطحاب، فهي رواية تتحدث عن «الحشاشين» والقتلة باسم الدين، بالطبع كان يريد لهذه الرسالة أن يضع حدا للأصولية التي كان يرى جنبلاط أن حزب الله يمثلها آنذاك. وفي نظري أنه لو جلب معه رواية «آلموت» لفلاديمير بارتول لكانت أدق لأنها كتبت عن قلعة «الحشاشين» الكبيرة قبل سبعين سنة وكاتبها فيلسوف وعالم نفس ومؤرخ بنفس الوقت والمعسكرات التي يصفها في الجبال وعلى حصون تلك القلاع شبيهة بعالم الأصولية الحالي، لهذا اشتهرت وبيعت بأعداد كبيرة بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول). كان جنبلاط يهتم بالكتاب بوصفه رسالة سياسية، غير أنه أعلن في مايو (أيار) 2012 أن إهداءه للكتب وقراءتها ليست سياسية بيد أنها معرفية بحتة، مستدلاً بكتاب «دروز بلغراد» لربيع جابر، الذي أهدى منه مئات النسخ لأصدقائه والمقربين.

تحضر الكتب وعوالم النظرية وأسس الفهم والتحديد في اللقاءات والحوارات، وتحضر الرمزية في الإهداء والشرح، جنبلاط مهووس بالتاريخ والحروب العالمية والقراءة في الفاشية والنازية – كما يتحدث وائل أبو فاعور – وفي زياراته مع سمير جعجع أهداه كتابين. وفي حوارٍ تلفزيوني ضم نبيه بري وغسان تويني جلب الأخير معه كتيبات رجل الدين الشيعي المعتدل محمد مهدي شمس الدين وقرأ نصوصا من الكتاب بحضور بري، الذي امتعض ولم يعلق على مفهوم «الدولة» و«المواطنة» التي طرحها شمس الدين بشكل مدني يختلف جذريا مع ممارسات الأحزاب والمجاميع والكتل الشيعية المتطرفة بلبنان.

يتحدث الراحل غسان تويني أنه إبان زياراته لسمير جعجع بالسجن كان الأخير مهتما بالفلسفة الألمانية، وكان حينها يقرأ كتاب كانط «نقد العقل المحض» وتويني أستاذ الفلسفة كان يجد في النقاش مع الحكيم اللبناني جعجع فائدة في شحذ الذهن والبحث في الأفكار والمغاليق، وبخاصة أن نقد كانط ليس سهلا، بل يستغرق وقتا في القراءة والفهم والاستيعاب، فهو «كتاب الكتب» بالنسبة للفلسفة في العصر الحديث. وجعجع من الواضح أن السنوات الإحدى عشرة التي قضاها في السجن كانت غنية بالمطالعة العميقة، وقد أراد انتقال «عدوى الفلسفة» إلى جنبلاط والذي أهداه كتاب هيغل «فلسفة التاريخ».

سياسيون كُثر مروا على لبنان كانوا على قدر كبير من الدهاء العلمي، والفاعلية الفكرية، والانغماس الأدبي والعلمي، نتذكر شارل مالك، وغسان تويني، وكمال جنبلاط المستوعب الدقيق للحضارات الإنسانية، ولمصادر الأفكار والعقائد والمذاهب، نتذكر حوار المذيعة الراحلة مونيك طنّوس معه، وقد كان يتمتع باستحضار معلوماتي قوي عن الفلسفات سواء منها الفلسفات ومذاهب الحكمة الهندية أو الصينية أو الفارسية، ومن ثم يعرج على الفلسفة الإغريقية، ويشرح بملكة «المعلم» الفلسفة الأوروبية بمختلف مراحلها، أخذته بآخر المطاف الصيغة الروحانية التي «تنزل الإنسان» منزلة مطلقية تجعله الحارث في هذا الكون، كما آمن بـ«أزلية الروح» وعن استعصائها على الخضوع للزمانية.

في حوار فكري مهم أجراه الإعلامي السعودي أحمد عدنان مع الدكتور سمير جعجع تحدث فيه عن «مفهوم الدولة» وعن «التشابه بين عصور الظلام في أوروبا وبين الذي يجري حاليا لدى مجتمعات العرب»، معتبرا الأصولية خطرا محضا، ويبدو جعجع خلال سنوات «الربيع العربي» التي مضت مهتما بتاريخ الحركات الإسلامية وقراءة جذور الأصولية والبحث في أدبيات الإخوان المسلمين، وهذا لافت على اعتباره من أقرب الزعماء المسيحيين إلى الشرائح المسلمة، انطلاقا مع قوته الإعلامية ودعواته إلى «علمنة الأحزاب» السياسية في لبنان، وهذا ما أشار إليه بالمعنى النظري في حواره مع عدنان. بقدر ما يغرق لبنان بالكتب بقدر ما يغرق أحيانا بالدموع والدماء!

في الثاني من يونيو (حزيران) 2005، يخرج سمير قصير صباحا من بيته، ما إن ركب سيارته إلا وحولت القنبلة جسده إلى أشلاء، على ما تبقى من حطام السيارة وجدت دماء متقاطرة من جسد الراحل لونت آخر كتاب حمله معه «هكذا تكلم زرادشت» لفيلسوف القوة «نيتشه» كتابه الأهم والأعظم.. هذه هي الصورة هنا، كتب وجمال، وفلاسفة.. ودماء.

 

في رحيل راشد المبارك … أيقونة الحوار والتواصل

في رحيل راشد المبارك … أيقونة الحوار والتواصل

جريدة الشرق الأوسط 19 فبراير 2015

فهد بن سليمان الشقيران

 

بين واحات النخيل وعلى ظلّها على أرض الأحساء الدافئة ولد الراحل الدكتور راشد بن عبد العزيز المبارك عام 1935 كان يعلم أن هذه الواحة الجميلة بجمعِها بين برد الظلّ والأعذاق، ولهب الرمال وعاتيات الرياح هي الرافعة التي ستجعله غيمة تهتزّ على أديمها الأرض فتهتز وتربو علمًا وعملا. عشق العلم والقلم والكتاب، احتفظ بأسئلته الصغيرة التي كبرت مع توجهه لدراسة الكيمياء والفيزياء، مصاحبًا في كل رحلات حياته العلمية مجال «الفلسفة» المحبب إليه، أخذ شهادته الجامعية من كليّة العلوم بجامعة القاهرة في عام 1964. ثم حاز على دبلوم الدراسات العليا في الفيزياء الجزيئية من جامعة مانشستر في خريف عام 1969. وأخذ الدكتوراه في كيمياء الكم من جامعة جنوب ويلز بمدينة كاردف عام 1974، ستكون كل رحلته هذه من المدرسة إلى الدكتوراه ومن ثمّ التدريس في كلية العلوم بجامعة الملك سعود مجرّد قشرة في أرض تجربة المبارك العلميّة والعملية.

من الصعب أن يتخذ قناعة حول موضوعٍ علمي، فالأسئلة الزاحفة مثل الرمال لا تجعله يقف على إجابة مدافعًا عنها، لكن حين تتشكّل له الرؤية يكون مدافعًا لا يلين، يصحّ هذا على معاركه حول شاعريّة المتنبي، وبحوثه حول نزار قباني، وكتاباته في المعرّي، ولديه معاييره في النقد الأدبي وهي معايير مخاتلة وذكية، فهو يقرأ الأدب بأدواتٍ لا تقتصر على التقليدي المطروح، بل يعاند ويستخدم حتى مجالاته العلمية والفلسفية في النظر بالمعنى الشعري، والمغزى الوظيفي للكلمة والعبارة والمقولة.

في صالونه الثقافي «الأحدية» الذي بدأ عام 1981 وحتى رحيله كان محاورًا بارعًا، وقد رأيته وهو يناقش الدكتور حمزة المزيني، وإبراهيم البليهي، وتركي الحمد، وعبد الملك مرتاض، وعبد القدوس أبو صالح، وعبد الله الغذامي، لديه رصيده العلمي وحججه وأساليبه في الإقناع والمحاججة، ولا تذكّرك هذه الأحدية إلا بما تقرأ عن صالون العقاد في مصر، أو مجلس غوته في ألمانيا، أو مجالس الملوك في أوروبا حيث الحوار حول العلم والمعرفة والنظرية والأدب والتاريخ.

وفي أواخر شهر مايو (أيار) 2007 دخل بهدوء ولي العهد الراحل الأمير سلطان بن عبد العزيز إلى صالون راشد المبارك، سلّم على الحاضرين بسرعة وجلس، ومن ثم شارك المثقفين والحاضرين النقاش والحوار، وبثقل تلك الشخصية السياسية الكبيرة تحدّث عن أي مقترحٍ يدور في ذهنٍ أي من الجالسين لدفع مسيرة البلاد نحو أفضل الصيغ التي تؤدي إلى راحة الناس وقضاء مصالحهم وبناء مؤسساتهم. كان صالونه مزارًا لهرم الدولة ولطلبة الجامعات وللأكاديميين والأدباء والمؤرخين، كان مجلس الراحل يشبهه، قليل التكلف سهل الحضور، لا تشعر بحرجٍ أو ملل، كما أن كل ضيفٍ في صالونه هو مهم للمضيف بغض النظر عن فارق السن أو المكانة أو الشهادة الأكاديمية.

ومع تبني الراحل راشد المبارك للمناهج الحديثة، وتأييده للأنظمة المؤسساتية، ومساندته للأنماط الليبرالية، وتوجهه نحو تفسير «العلمانية» بوصفها لا تتعارض مع الدين، غير أنه انفتح على كل التيارات، جمع بين صداقات متضادة في الاتجاه والتعبير. وفي مجلسه يجتمع عبد القدوس أبو صالح وحمزة المزيني، ويستضيف الكل بنفس المستوى من البشاشة والترحيب، ذلك أنه آمن أن الحوار والتواصل هو الأساس لبناء أرضية ثقافية في المجتمع السعودي.

يصف الراحل ندوته بأن هدفها: «إقامة جسور بين حقلين من المعرفة، هما العلوم الكونية، التطبيقية والعلوم الإنسانية، وتزويد المختص في أحد جوانب الحقلين بشيء من المعرفة عن حقل الطرف الآخر تقترح الأحدية برنامجها من خلال المشاركين فيها فتحدد الموضوعات التي يرى المشاركون تناولها ويوكل الحديث في كل موضوع إلى متخصص يعطى فترة كافية ليتمكن من خلالها من إعداده في الندوة لمدة ساعة واحدة ثم يبدأ النقاش، الندوة ليست مقتصرة على فئة بل هي مفتوحة لكل قاصد ووافد».

أرّقته طوال حياته حال «الكراهية» فكتب مؤلفًا خاصًا بعنوان: «فلسفة الكراهية» طبع عام 2001 كان العالم حينها يقف على قدمٍ واحدة جراء الضربات القاسية التي تلقّتها الدول والمجتمعات من ممارسات تنظيم القاعدة. خلاصة رؤيته حول الكراهية يوجزها بقوله: «العنف هو أحد مظاهر الكراهية، وإحدى وسائل التعبير عنها، وهو إحدى نتائج الكراهية وثمرة من ثمارها، فموقعه موقع النتائج من المقدمات، على أن العلاقة بين الاثنين – العنف والكراهية – علاقة يحكمها قانون الجدل فالكراهية تنتج العنف والعنف يورث كراهية أو يزيدها أو يوسع من دائرتها إنه شيء يمثل بمتوازنة الفعل العكسي (كراهية تنتج العنف، وعنف يورث الكراهية)».

حين زار المبارك مصر كان العلمان البارزان آنذاك هما سيد قطب وعبد الله القصيمي، ويشير في حوارٍ مطوّل معه نشر في «عكاظ» في 17 – 7 – 2004: «ذكرُ عبد الله القصيمي وشهرته سبقت وصولي إلى مصر، وكان يأتي أحيانًا إلى دار البعثات، وكان يأتي إلى السفارة السعودية، وقد التقيت به أول مرة في السفارة السعودية، فعرفته وكان بيننا تواصل خلال إقامتي في القاهرة، وكنا نتبادل الزيارات ولم ينقطع الاتصال بيننا إلى أن تركت مصر… كانت له ندوة، وكان أغلب الذين يأتون إلى مصر يغرمون برجلين اثنين متبايني الاتجاهات هما: عبد الله القصيمي وسيد قطب، كانت مجموعة تلتف حول عبد الله القصيمي وتأخذ منه، وتقابلها مجموعة أخرى تلتف حول سيد قطب وتأخذ عنه».

المفارقة أن الراحل زار قطب والقصيمي، ويشير هو إلى عجب رجال الأمن المصري حينها واشتباهه إذ كيف يزور المبارك هذين الرجلين معًا على ما بينهما من فرق جذري بل جوهري، لكنه الفضول حيث أراد تجاوز الحدّية الشعبية في الاطلاع على ما يطرح في المجتمع المصري حينها.

أرّقته هموم مجتمعه المتصلة بالمجال الديني والخطاب الفقهي، وفي كتابه «أوراق ودفاتر لم تقرأ» (ص: 96) يتحدّث بمرارة، معترفًا بأنه يصاب بالدهشة والأسى وهو يرى جهودًا مضنية تصرف عن العمل للمقاصد الكبرى التي تقوم بها الأمم، وتبنى بها المجتمعات، إلى جزئيات من الأمر تتخذ موضوعًا للشقاق والمنازعة، ويكون مما يثير الخصومة مثلا موضع اليدين من الصدر في الصلاة، والثوب أيطول أم يقصر، والمرأة تبدي وجهها أم تخفيه، وسماع نغمٍ هل يحل أم يحرم.

ويستمر في هذا النقد الواضح في كتاباته الأخيرة ومنها مؤلفه: «من قضايا المجتمع السعودي» وفي الصفحات الأولى يتحدّث عن القمع الذي يمارسه من يحتكر الاختصاص بالشريعة تجاه بقية المسلمين الذين يريدون التحدث بشؤونهم، معتبرًا أن من يحمل أعلى الشهادات من كلية الشريعة لا يجوز أن يقال عنه أنه متخصص في الشريعة إلا من باب المجاز ذلك أن موضع دراسته وما أعطي من أجلها شهادته هو بحث في إحدى جزئيات الشريعة الصغيرة جدًا مثل تصرف الفضولي، أو الولاية على القاصر أو المسؤولية الطبية أو ما إلى ذلك.

من أكثر الكتب تعبيرًا عن الراحل المبارك كتابه: «هذا الكون ماذا نعرف عنه» أراد منه نشر المعرفة بالطبيعة، وحاول جهده أن يجعل النظريات المعقّدة بمتناول القارئ العادي، والكتاب أقرب الكتب شبهًا بمؤلفه ذلك أنه توّاق دائمًا حتى رحيله بالاستزادة من الفهم للكون والتفاصيل العلمية التي تطرح حوله، لئلا يكون العربي والمسلم غائبًا عن العلم، وقاصرا عن الفهم. في مداخلاته التي تعقب محاضرة الضيف بأحديته كان كثيرًا ما يتحدث عن علاقة العرب بالعلوم بمرارة، وكانت نبرة صوته تزداد حدة حين يتحدّث عن اهتمام العرب بصناعة الكلام بدلا من صناعة المعرفة والعلم.

خلاصة مرارة الراحل تجاه هذا الخلل يلخّصه بصرامة العالم الذي يريد لمجتمعه أن يستيقظ يكتب في (ص: 22) من الكتاب: «وعلى الرغم مما جاء في القرآن من الدعوة إلى التفكير في جوانب هذا الكون وتأمل أسراره وسننه، فقد وقف الفرد العربي عند (قفا نبك) وقوفًا طال به حتى أصابه بما يشبه الشلل المعجز عن الحركة إلى الآفاق الأخرى من المعرفة، واحتلت (قفا نبك) ومثيلاتها من عقل الفرد العربي ووجدانه مكانة تقرب من القداسة، وصار على كل فردٍ من قبل أن توضع جمهرة أشعار العرب وحتى الوقت الحاضر، أن يروض مداركه وتذوقه لكي يحس ويتبين السمو الوجداني والبياني في مثل: (ترى بعر الآرام في عرصاتها) و(تظلّ العذارى يرتمين بلحمها وشحم) و(تقول وقد مال الغبيط بنا معًا: عقرت بعيري) إنه شيء طبيعي ومنتظر أن يكون محصلة هذه القوى المتجهة إلى نقطة واحدة هو الاهتمام والانصراف إلى صناعة الكلام».

كان الراحل المبارك على غرار الفلاسفة الكبار «حياتهم هي فلسفتهم»، ومع قيمة كل الذي كتبه طوال الثمانين عامًا، غير أن النبل والمروءة والخلق الرفيع والتواصل وقيم الحوار هي أبرز ما تركه للجيل الذي عايش صالونه الأدبي وتابع أفكاره ومقالاته، كان مستقيمًا كالسهم، لا يسبق كرم بيته إلا كرم خلقه، وخلال آلامه وتعبه في السنوات العشر الأخيرة بقي كما هو يتواصل ويحاور ويناقش، تعلّمت منه أجيال كاملة، فهو رجل تقريب لا تفريق، ونمط سلم وحوار، ولم يكن شتّامًا ولا هجوميًا، بل كان يقول كلمته ويمضي.

بين الأحساء والرياض، طوى الأدب والخلق، ولا عجب فهو من أسرة اشتهرت بالعلم والمعرفة.

كان طوال حياته توّاقًا إلى الارتواء من الحب، متعطشًا للسلام، وأبلغ من يصفه شعره:

خَفَقَاتٌ مِنْ جَنَاحٍ عَاشِقٍ

أَيْكَة تَخْضَلُ فِي بَوْحٍ كَنَارْ

قَطَعَ العُمْرَ حَنِينًا ظَامِئًا

لِنَدًى، وَرْدٌ إِلَى ذَوْبِ نَضَارْ

بَاحِثًا فِي عَطَشٍ، فِي لَهْفَة

عَنْ يَنَابِيعَ، وَعَنْ ضَوْءِ نَهَارْ

يَا حَنِينَ الضَّوْءِ أَظْمَأْتَ الظَّمَا

فِي حَشَاشَاتِي، وَأَبْعَدْتَ المَدَارْ.

 

الحروب الأهلية.. وحالات ما قبل المجتمع

الحروب الأهلية.. وحالات ما قبل المجتمع

جريدة الشرق الأوسط 10 مارس 2015

فهد بن سليمان الشقيران

ارتبطت الشعارات التي غصت بها الميادين والساحات بمفاهيم كثيرة جماعها البحث عن صيغ الخلاص، والوصول إلى حلم الديمقراطية، والبحث عن سدرة الحرية ومن ثم الفناء بنعيمها المقيم. غير أن كل محاولات الحرية الحالية وصلت إلى حالة من الحرب الأهلية الدموية وهي الأغلب، أو الحروب الاجتماعية الرمزية بين الفرد والآخر. ربيع الأحلام وصل به المطاف إلى «داعش»، وانتعاش «بوكو حرام»، وانتشار التشدد، وتفكك الدولة، وطرح صيغ التقسيم، وانفجار الأزمات الاقتصادية، والتلوث البيئي، واكتظاظ التراب بالمقابر الجماعية، وارتواء البحر من دماء حارة فصلت رؤوس أصحابها عن أجسادهم للتو.

ليس غريبا انتهاء تلك الأحداث الغاضبة الفوضوية إلى ما نشاهده الآن، بل الأكثر غرابة وجود من يراهن – حتى الآن – على الحراك الثوري بغية الوصول إلى «حتمية الانتصار»، معتبرا هذا الذي يجري مجرد «ديالكتيك» سيوصل الجميع إلى «الحتمية التاريخية» على الطريقة الهيغلية.

إننا بالمنطقة لا نشهد الحروب الأهلية على الطريقة التقليدية، بل تجاوزت الأحداث صيغ «الحرب» لتصل إلى مستوى من الوحشية تستعيد فيها صور قطع الرؤوس، واستئصال الأحشاء، والانتقام الحاقد الجائر. إننا بمعنى ما نظلم معنى «الحرب» حين نسقطه وصفا على الذي يجري. لقد كانت الحروب الأهلية طوال التاريخ مؤرقة للمنظرين والفلاسفة والمفكرين، ذلك أنها ليست حربا مشروعة ضد عدو معين، فللحروب ظروفها ومشروعيتها ضمن نماذج وإمكانات وحالات، بل لها «فنها» كما يعبر مكيافيللي، بيد أن الحالة العربية إنما تغرق بالوحشية المطلقة، عبر كشفها المؤلم عن حروب أهلية اعتباطية فتحت جروح الطائفية، ومزقت إرث الأقلية، وأحيت التطهير القبلي المنظم، وعاد كل إنسان إلى كهفه، ولم يعد ممكنا أن يثق حتى بظله، ذلك أن التفكك المطلق، والشك المستديم، وأصالة الإدانة، وحالات الريبة.. كلها تجعل البيئة المعيشة ليست إلا «غابة ضخمة» تحتوي على جموع وخليط من البشر، وتلك الجموع ليست «مجتمعا» بالمعنى العلمي، بل هي أقرب ما تكون لتجمع ضمن تضاريس، لأن «المجتمع» هو الضاغط عبر تضابطه وتعاضده للانتقال من «الرغبة» إلى «العقل»، ومن أسس الانتقال هذا يأتي البدء بتأسيس صلابة القانون، وبناء المؤسسات، تمهيدا لوضع دساتير، ومن ثم بناء الدولة ونشر «الهيبة».

حين تنشب الحروب الأهلية تعيش الجموع ضمن حالة «ما قبل المجتمع» أو «حالة الطبيعة» بحسب توماس هوبز الذي قام بتحليل الحرب الأهلية الإنجليزية في منتصف القرن السابع عشر عبر كتبه الكثيرة؛ ومنها «البهيموث» المهتم بحقيقة الحرب الأهلية، و«عناصر القانون الطبيعي» الذي كتب على شرر الحرب حينها، وكذلك كتابه «المواطن» الذي كتبه في ذروة الدم، الذي أشار في مقدمته إلى الدمار الذي يحيط ببلده بسبب اندلاع الحرب الأهلية. ومن بين المفاهيم موضع الشرح المتواصل لهوبز «الحالة الطبيعية».. إنها حالة ما قبل المجتمع، وهي التشخيص العلمي لنمط المجتمع الذي تجري فيه الحروب الأهلية الدموية وتغيب فيه الدولة، وتنطلق فيها النزوات والنزعات وتنفجر فيها كل المكبوتات الوحشية وأعراف الغاب، وأنماط النهب، وتصبح الرغبة الشخصية هي المحددة للفعل والاندفاع.

في «اللفياثان» الكتاب الأبرز لتوماس هوبز يشرح ذلك المفهوم في الفصول من 13 إلى 15، وفيه يفصل حالة ما قبل المجتمع: «في الوقت الذي يعيش فيه الناس دون سلطة مشتركة تبقيهم جميعا في الرهبة، يكونون في الحالة التي تسمى حربا، وهي حرب الإنسان على الإنسان، والحرب ليست المعركة فقط أو فعل القتال؛ بل هي فترة من الزمن تكون فيها إرادة التنازع معلومة بما فيه الكفاية.. إن كل ما ينتج عن زمن الحرب، حيث إن كل إنسان عدو لكل إنسان، ينتج أيضا عن الزمن الذي يعيش فيه البشر دون أمان غير ما تؤمنه لهم قوتهم الخاصة». يتحدث هوبز عن أن «الحالة الطبيعية للناس – قبل أن يكونوا مجتمعا – تكوين الحرب الدائمة، بل حرب الكل ضد الكل». إنها، بحسبه، حالة من غياب السلطة التي يذوب فيها مجموع الإرادات من أجل تحقيق «الرهبة» الهادفة إلى تحقيق مبادئ السلم والعدل والقانون، ومن ثم تكون الدولة على أساس مجتمعي ينضبط ضمن أسس السلطان الذي يوحد النمط الديني ويعتبر الخروج عليه «هرطقة» ومن ثم بناء الدولة ذات البناء المؤسسي والأساس «التمثيلي».

يأتي مفهوم الحالة الطبيعية وحالة «ما قبل المجتمع» ضمن التشخيص لفيلسوف رأى الحرب الأهلية من نافذته، ومن ثم اعتبر «المجتمع» بالمفهوم العلمي ليس حاضرا، بل لم يتكون بعد، عندما غابت السلطة، تحول كل إنسان إلى فرد ضد الفرد، وحين تنعدم الثقة وتنتشر الريبة، وتغيب «الملكية الخاصة»، تصبح الأمور مشاعة، ومن ثم تكون كل شروط قيام الحرب الأهلية قائمة ومتحققة.

لدينا نحن العرب – قبل الربيع العربي – كل شروط الحرب الأهلية وإمكاناتها، وكانت الأرض قد اكتظت بالوقود اللازم من أجل انتظار شرارة تشعل كل المكنونات الوحشية، كان كل الحراك عبارة عن إشعال شرارة في غرفة مليئة بالغاز، لأن إمكانات التقهقر، ومحفزات الحرب، وثقافة الموت، وشروط القتل.. كلها متوفرة على الأرض، وهي متاحة مباحة في كل المحاضن والمدارس والمنابر والبيوت.. ما ينقص المنطقة ليس الحرية أو الديمقراطية أو الكرامة الإنسانية، هذه كلها شعارات ليس هناك ما يثبت سعي الناس إليها في تلك التجمعات، الذي ينقص المنطقة شرارة صغيرة لها لتنفجر. ليس هناك «مجتمع» تكون حتى يتمكن من الاندفاع نحو أحلامه، ما تكون مجرد أمشاج من التجمعات القادمة من القرى الصغيرة إلى «القرى الكبيرة» بالعقليات الريفية أو الرعوية نفسها.

كل الحروب الأهلية الممكنة والقائمة توضح أن هناك استعصاء على تشكيل مجتمع يمكنه التقدم نحو الأحلام، لهذا ترتد كل مطالبات الحرية على أهلها، وتشتعل تلقائيا أعنف وأشرس وأبشع الحروب الأهلية في التاريخ.