مايو 2016

خليّة العبدلي.. سفارات تحرس القتَلة

خليّة العبدلي.. سفارات تحرس القتَلة

فهد سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 21 يناير2016

 

مثّل الحكم على «خليّة العبدلي» بالكويت امتدادًا للحزم الخليجي تجاه الإرهابيين، إعدامات في السعودية ضد الإرهابيين، وحكم بالإعدام في الإمارات ضد منتمٍ إلى «داعش»، والحكم الصارم على أعضاء خليّة العبدلي في الكويت. الخليّة هي واحدة من ثمرٍ مُرّ سامّ زرعته إيران في المنطقة وكلّفت به ذراعها الإرهابية، حزب الله، الذي شكّل هذه الخليّة الخطرة الإجرامية منذ أوائل الثمانينات في الكويت وإن لم تحمل نفس الاسم تحديدًا غير أنه استعان بتشكيلاتٍ ثورية تابعة لإيران للقيام بأعمال إرهابية بالاستفادة من بعض الفلسطينيين آنذاك. خليّة العبدلي تعيد تلك الأيام بأسلحةٍ مهولةٍ، وبتخطيط منظّم، ودعمٍ غير محدود.

بالعودة إلى لائحة الاتهام فقد ورد اسم ميليشيا حزب الله فيها أكثر من مائة وخمسين مرة. لائحة كتبت بخمسين ألف كلمة، وبمائتي صفحة، كان حزب الله فيها محوريًا مع مرجعه الحرس الثوري الإيراني، حيث تخابرت الخلية مع حزب الله وتلقت الدعم والتدريب، وتلقت المعلومات والمنافع. حضر حزب الله في اللائحة أيضًا من خلال ترتيبه للعمل المسلّح ضمن الحرس الثوري ومنظّمتها ومع قادة في حزب الله تحت غطاء دبلوماسي، هذا مع تحركات ميدانية، متسترين بالجوازات الدبلوماسية والمقرات والقنصليات الإيرانية، بما فيها القنصلية الثقافية.

حزب الله كان رأس الحربة في التجنيد والتخطيط للجاسوس الإيراني عبد الرضا حيدر دهقاني، الذي اتفق مع الحزب على تجنيد وتدريب مواطنين في معسكرات الحزب على الأسلحة والمفرقعات والمدافع الرشاشة وأعمال مخابراتية وعسكرية. دهقاني هذا جاسوس إيراني الجنسية، يجيد اللهجة الكويتية، تغلغل في الكويت من خلال علاقاتٍ ودعمٍ استثنائيين، وتسترٍ بالعمل الدبلوماسي والمؤسسات التابعة لإيران، وقد حكم عليه غيابيًا بـ«الإعدام»، ويعتبر هو والكويتي حسن عبد الهادي علي حاجية محورَي «خلية العبدلي»، والعقلين المدبرين والمخططين لها.

تتحرّك الخليّة وسط حذر شديد.. أماكن كثيرة تحرّكت عبرها خليّة العبدلي في الداخل والخارج، أسلحة هرّبت من إيران عبر البحر، والتدريب في مقرّات حزب الله بلبنان، والتحرّك في الكويت. واللقاءات السريّة تمركزت في مزرعة العبدلي، وديوانية الرميثية، وحسينية خورشيد. المتّهمون كلهم تلقوا تدريباتهم على أيدي حزب الله في لبنان، حيث تكفّل دهقاني المنضوي بالحزب منذ عام 1996 بترتيب كل أشكال التدريب والعودة بهم مجددًا إلى الكويت، وفي بعض الأحايين تتم الاجتماعات في سفارة إيران بالكويت.

خزّنت الأسلحة تحت الأرض بشاليه في منطقة النويصيب، والصبية والركسة. الأغرب أن لائحة الاتهام الغنيّة بالمعلومات الخطيرة والتي لم تقرأ وتحلل بما يكفي، ذكرت أن حسن عبد الهادي علي حاجية تواصل وتلقى دعمًا ماديًا من الملحق الثقافي في السفارة الإيرانية، وأعضاء هذه الخليّة هم أقارب لمن قاموا بجريمة الحج في بيت الله الحرام عام 1989.

بين الحكم على الخليّة هذه وإعدام الـ47 مدانًا سعوديًا أقل من أربعة أيام، واتضح من خلاله أن الإرهاب الإيراني وتحرّك حزب الله في الخليج يعود بتطوّر أكبر، وإذا كان في أوائل الثمانينات وما تلالها قد فجّر المقاهي، وحاول اغتيال أمير الكويت، واستهدف طائرة «الجابرية»، وأشعل الحرائق وارتكب المجازر، فإنه اليوم يعود بتكتيكٍ قريب من سلوكيات الجماعات الإرهابية الأعنف بالعالم، فحزب الله الكويت وحزب الله الحجاز وحزب الله البحرين كلها تمارس نفس سلوك «داعش»، واختلاف المذاهب والمرجعيات لا يلغي تشابه أشكال الحركة وأساليب القتل، وأنواع الترتيب للعمليات والمخططات، وتنظيم «إدارة التوحش».

منذ الأربعينات وخلايا الثورة الإسلامية في إيران الطامحة إلى الحكم والحالة الاستئصالية تطرح بوصفها جزءًا أساسيًا من أي عملٍ سياسي. نتذكّر منظّمة «فدائيان إسلام» بقيادة سيد مجتبى ميرولحي المعروف بـ«نواب صفوي» ومعه الإخوة وحيدي، وإبراهيم كريم أبادي، وعبد الله كارباشيان، وكان سلاحهم الأساسي هو «الاغتيال»، وكان من بين الأعضاء الصغار في هذا التنظيم روح الله موسوي (الخميني)، والأخير لم يكن حمامة سلام، بل كان راضيًا عن اغتيال «فدائيان إسلام» لأحمد كسراوي في عام 1946 (انظر التفصيل في الصفحات من 145 من كتاب «مصدّق والصراع على السلطة في إيران»، تأليف: هوما كاتوزيان).

مؤسسات الدولة في إيران هي طارئة على كيان الثورة، وبالتالي فإن عمل تلك المؤسسات تديره مراوح الثورة لا قيم المدنيّة والدولة. أوباما وفي خطبته بعد إبرام الاتفاق النووي ذكّر بأن الخلافات مع إيران لا تزال قائمةً بسبب «زعزعتها للاستقرار»، ووزيرا الخارجية السعودي والإماراتي طالبا إيران بتجاوز الثورة وصولاً إلى قيم الدولة ومؤسساتها وقوانينها. باختصار، لا توجد دولة بالمنطقة تمارس العنف وزعزعة الاستقرار وتخرج عن أدبيات الدولة وأسس الصراع والسلم إلا إيران. وأبرز برهانٍ على ذلك الخلايا المتناسلة التي تكتشف دوريًا في دول الخليج، وترجع كلها إلى الحرس الثوري الإيراني وأحزابه ودكاكينه في لبنان وسوريا والعراق.

خليّة العبدلي وإحراق سفارة السعودية والقنصلية، وكل عمليات الإرهاب الأخرى لأحزاب الله في الخليج، عبارة عن صورة أمينة لإيران. إن العمل الإرهابي هو شكل إيران الحقيقي؛ التخطيط للقتل والتدمير والنسف. الخطوة الضرورية القادمة الحذر من تحويل السفارات الإيرانية في الخليج إلى غرف عمليات إرهابية. قبل خليّة العبدلي كان البعض يرى في هذه المقولة مبالغة، غير أن سفارة إيران في الكويت كانت كذلك بنص لائحة الاتهام التي أشرنا إليها. لا مناص من اليقظة الدائمة تجاه هذه الأذرع، فالتهديدات التي تواجهنا كثيرة شرقًا وغربًا، وعلى كل الجبهات…

 

وسوى الروم خلف ظهرك رومُ

فعلى أيّ جانبيك تميلُ

 

إيران.. راعية الإرهاب في أنحاء العالم

 

إيران.. راعية الإرهاب في أنحاء العالم

فهد سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 7 يناير 2016

 

نفّذت السعودية الحكم القضائي بحق سبعة وأربعين إرهابيًا، تورطوا بجرائم قتل وتفخيخ واغتيال، وتخطيطٍ ممنهج ضد المؤسسات ومصافي النفط ورجال الأمن، وضد الرعايا الأجانب في البلاد. ورغم وجود سنةٍ بين المعدمين، وأربعةٍ من الشيعة، فإن الزعق الإعلامي والفحيح الصحافي الغربي والإيراني تركّز على شخصيّة نمر النمر، الذي خلعوا عليه الأوصاف الدينية وهو لم يكن يدّعيها أصلاً، فلم يكن عالم دينٍ كما ادّعت الصحف الغربية، ولم يصل إلى مرتبةٍ «العلّامة» حتى تصفه إيران بـ«آية الله». لكنه اللغط السياسي، والإلحاح الجائر من أجل إغضاب المسلمين وإشعال حقدهم على السعودية دولةً ومجتمعًا. الأحكام صدرت من القضاء الشرعي، وصدّقت ضمن دورة التقاضي المعتادة، وبحضور البعثات الدبلوماسية ووسائل الإعلام، وأهالي المتّهمين، لكن بقيت الضجّة تتصاعد لأسباب سياسيةٍ بحتة. لكن لماذا تدافع إيران عن المجرمين والقتلة، من أعضاء تنظيم القاعدة، ومن مجرمي خلايا «العوّامية» الإرهابية؟!

لأن إيران الراعية الكبرى للإرهاب الدولي، وهي الملاذ الآمن لأعضاء وقيادات تنظيم القاعدة، بدءًا من الناطق باسم «القاعدة»، سليمان أبو غيث، إلى ابن أسامة بن لادن، وصولاً لصالح القرعاوي، مؤسس كتائب عبد الله عزام، هذا فضلاً عن قادةٍ آخرين. لقد كانت إيران ممرًا ومزارًا، وهذا ما تلهج به ألسنة قادة التنظيم الإرهابي، ففي رسالة نشرت في 26 مايو (أيار) 2005، فإن سيف العدل – الذي قطن إيران ونزلها، ومنها أشرف على تفجيرات الحمراء في الرياض في 12 مايو 2003 – في شرحه لعلاقته بالقيادي القاعدي أبو مصعب الزرقاوي، سرد قصّة الهروب من أفغانستان عبر إيران، بما عرف بـ«الانسياح».. يقول سيف العدل: «بدأنا بالتوافد تباعًا إلى إيران، وكان الإخوة في جزيرة العرب والكويت والإمارات من الذين كانوا خارج أفغانستان، سبقونا إلى هناك، وكان بحوزتهم مبالغ جيدة ووفيرة من المال، شكلنا حلقة قيادة مركزية وحلقات فرعية، وبدأنا باستئجار الشقق لإسكان الإخوة وبعض عائلاتهم. قام الإخوة في (الحزب الإسلامي) من جماعة قلب الدين حكمتيار بتقديم المساعدة الجيدة لنا في هذا المجال، فقاموا بتوفير الشقق وبعض المزارع التي يمتلكونها ووضعوها تحت تصرفنا».

في رسالةٍ نشرتها الولايات المتحدة كتبها أيمن الظواهري للزرقاوي في يونيو (حزيران) 2005، ونشرت في 12 أكتوبر (تشرين الأول) 2005، ذكّر فيها أيمن الظواهري الزرقاوي بأن «إيران الشيعية تؤوي لديها قرابة مائة من أعضاء تنظيم القاعدة». إن إيران بمعنى ما، هي الممر والمسار الذي أنقذ تنظيم القاعدة من الحصار الجغرافي، ومن المطاردات الدوليّة والإقليمية، مما جعل أمده يمتدّ، وعمره يطول، وهذه شهادات قياداتٍ في تنظيم القاعدة كتبوها تلقائيًا من دون إملاءٍ أمني، أو تهديدٍ عسكري. وكل هذا يوضّح مستوى رعاية إيران للإرهاب الدولي، وتورّطها المعروف في تفجيرات الخبر في 26 يونيو 1996، والذي طورد منفّذها وقبض عليه في بيروت بعد التفجير بتسعة عشر عامًا وهو يحمل الجواز الإيراني ويعيش بحماية حزب الله.

لدى إيران أكثر من أربعين تنظيمًا إرهابيًا شيعيًا تدعمها في العراق، ولديها ميليشيا حزب الله في إيران، هذا فضلاً عن عشرات التنظيمات الشيعية الأخرى في سوريا واليمن وفي كل أنحاء العالم، وهي تدعم جماعة الإخوان المسلمين، ولديها حماية وغطاء لتنظيم القاعدة، لكن ماذا عن تفاهم إيران مع تنظيم داعش الإرهابي؟ لنقرأ هذه الشهادة من أبو محمد العدناني، المتحدث باسم «داعش» في رسالة هجومية ضد أيمن الظواهري، وفيها قال نصًا: «لقد ظلت الدولة الإسلامية تلتزم نصائح وتوجيهات شيوخ الجهاد ورموزه، ولذلك لم تضرب الدولة الإسلامية الروافض في إيران منذ نشأتها، وتركت الروافض آمنين في إيران، وكبحت جماح جنودها المستشيطين غضبًا، رغم قدرتها آنذاك على تحويل إيران لبرك من الدماء، وكظمت غيظها كل هذه السنين؛ تتحمل التهم بالعمالة لألد أعدائها إيران؛ لعدم استهدافها، تاركة الروافض ينعمون فيها بالأمن والأمان؛ امتثالاً لأمر (القاعدة)؛ للحفاظ على مصالحها، وخطوط إمدادها في إيران».

أما عن دعمها للإخوان المسلمين فيكفي الرجوع إلى الكتابين المهمين، «إيران والإخوان المسلمون» لعباس خامه يار، و«إيران والإخوان.. علاقة ملتبسة» لفريدريك فرد هاليداي، لنقرأ التفاصيل الموثّقة عن هذا التلاقي، إذ تعتبر العلاقة بين الجماعات الراديكالية من جهة، والثورة الإيرانية من جهةٍ أخرى، ميدانًا لتفسير الظواهر التي تجري بالمنطقة. لقد كانت الثورة الإيرانية ملهمةً للإخوان 1979 كنموذج لحركةٍ إسلامية شعبية بزغت لإسقاط نظامٍ علماني موالٍ للغرب، ونجحت أيضًا الثورة، بحسب الإخوان وأحلامهم، في «تأسيس دولة».

علاوةً على الالتقاء الفكري والتعاون والانسجام الموجود بين التيار الثوري الإيراني والحركة الإخوانية، كان للنشاط الإحيائي للسيد جمال الدين الأسد آبادي دوره، الأمر الذي ساهم في إظهار ثوار آخرين، مثل آية الله الكاشاني وآية الله القمي ونواب صفوي، مما يجعلهم أمام تماثل في النشاط على الضفة الأخرى مع حسن البنا وعمر التلمساني، وغيرهما، مما أسهم في ازدياد التقارب وتحديدًا في الأربعينات والخمسينات مما جعل العلاقة بين الحركتين في ذروتها عام 1952، والتي لم تتأثر حتى بمجيء جمال عبد الناصر بعد ما عرف بثورة الضباط الأحرار آنذاك.

أما على المستوى النظري، فإن كلاً من مفهوم الإخوان لسيادة الحاكمية ومبدأ الخميني بسيادة ولاية الفقيه، كلاهما يجذّران إحالة الحكم إلى الآيديولوجيا بدلاً من القيم المدنية والحضارية في إدارة الدول.

بدأت الاتصالات بين الإخوان وقادة الثورة الإيرانية مبكرًا، ففي الثلث الأول من القرن العشرين، أعلن البنا أن الخلاف مع الشيعة ليس جوهريًا كما هو الحال مع البهائيين والقاديانيين، وأسس عام 1948 «جمعية التقارب بين المذاهب الإسلامية».

كل تلك التفاصيل ليست إمكانات واحتمالات، بل وثائق تاريخية، وحقائق ميدانية، بيّنت مستوى الدمار الذي سببه هذا النظام الإيراني المتطرف، وعليه فإن الحديث عن رعايته للإرهاب الدولي والعالمي مجرّد توصيف راهنٍ لأحداثٍ متراكمة، ولن تهدأ المنطقة إلا بلجم هذا المارد الأهوج وترويضه، وهذا هو وجه الاستحالة على نظامٍ إيراني متعجرف.

 

تاريخية العنف.. وشكل الارهاب الحديث

تاريخية العنف.. وشكل الارهاب الحديث
فهد سليمان الشقيران
جريدة الشرق الأوسط 27 ديسمبر 2015

يفرض العنف راهنيته بوصفه الإشكال الأكثر حضورًا في الندوات والتصريحات، وفي المقابلات والتحليلات. إنها الظاهرة الأكثر تعقيدًا في العالم.. فالإرهاب متجدد ويستخدم كل صيغ الإبداع، وكل أدوات الحداثة، وأحدث مستجدات التقنية من أجل الدم، ولأجل تحديث إدارة التوحّش. لقد استخدم كل منتجات العالم الحديث لمحاربة العالم كله. نفذ إلى قلوب أتباعه عبر خطاباتٍ دينية، وأساليب تربوية، ومناهج لها جذرها الغائر في الإرث والتعاليم. وبسببٍ من تغول الإرهاب وراهنية إشكاله، أعلنت السعودية عبر ولي ولي العهد وزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان عن تشكيل التحالف الإسلامي العسكري، ومن اللافت تركيز الأمير على: «الجوانب الإعلامية والفكرية بالتوازي مع الجانب العسكري والأمني».

طوال العقدين الماضيين، نجحت الحملات الأمنية والعسكرية وأخفقت الجهود الإعلامية والفكرية، وآية ذلك أن من بين الكتّاب من يشكك في دور «الآيديولوجيا» في تأجيج العنف، ولا تزال بعض النخب تناقش الموضوع من جوانب كثيرة مع إنكارها المطلق للدور الفكري، وللخطاب الراديكالي، في تغذية الإرهاب وحراسة محفّزاته.

بالطبع للعنف تاريخه المرتبط بتاريخ الإنسان، فهو ظاهرة تاريخية، وبحسب منتسكيو، فإن العنف بوجهه الأعم استخدام غير مشروع وغير قانوني للقوة، وعليه فإننا مجبرون على وضع قانون يكون ضد العنف. وقد ارتبطت بالصراعات السياسية، والثورات، وطفرات التاريخ، واكتشاف المعادن وطفح الأثمان، بالإضافة إلى الارتباط بالتطوّر العلمي، هذا ما نقرأه في كتابٍ مهم لحنة أرندت، أعني به: «في العنف»، التي تسير مع تطوّر الممارسات عبر تاريخ الإنسان وتحوّلات السياسة منذ بدء القرن العشرين الذي تنبّأ لينين بأنه سيكون قرن الحروب والثورات وبالتالي قرن العنف، وتعلّق حنة: «إن أدوات العنف قد تطوّرت تقنيًا إلى درجةٍ لم يعد من الممكن معها القول بأن ثمة غاية سياسية تتناسب مع قدرتها التدميرية، أو تبرر استخدامها حاليًا في الصراعات المسلّحة».

يأتي الإرهاب بوصفه التنويع الأكثر دمويةً على العنف التاريخي المرتبط بالحروب النافعة ربما أو الضرورية، ويتجاوز العنف المندفع بوسيلةٍ إلى غاية، ليصل الإرهاب إلى عبثيّة وعدميّة يكون فيها القتل هو الغاية، وتلك ذروة تناهي العنف إلى طفرات من الممارسات ربما ندر مثيلها عبر التاريخ، وهذا هو وجه الرعب، وذلك وجه الكارثة، وعصب التحدي، ومنها يبدأ شرر السؤال.

الغايات التي تبدو في الخطاب الإرهابي إنما هي غطاء على عدميته، فـ«الخلافة»، و«إقامة دولة المنهاج النبوي»، و«الصمود ضد الغزو الغربي».. وسواها من الشعارات التي تحاول التأسيس لغاياتٍ تبيّض سواد الوسائل ووحشيتها، كلها لا تستطيع إخفاء نمط العدمية، والقلق من الوجود نفسه. صحيح أن الإرهاب بمجمله يريد العودة إلى «الإسلام الحقيقي»، بحسب أوليفه روا في «الإسلام المعولم» الذي يؤكد فيه أن الإسلام المطهّر يصبح في الواقع متلائمًا مع أي سياقٍ اجتماعي، شريطة العيش داخل جماعةٍ متخيّلة، ذلك أن الظاهرة الإرهابية الجديدة هي نتاج وسبب في «خلخلة الهويّة الثقافية للمجتمعات المسلمة».. يستمر متسائلاً وربما مجيبًا عن سؤاله: «إذا كان بإمكان بعض شباب (البور) بالضاحية الالتحاق بطالبان، فذلك ليس بسبب الشخصية الكاريزمية لابن لادن، بل لأنهم يعيشون داخل فضاء مشترك.. إن الذين يستهدفون ليس الثقافة الغربية التي يحتقرونها بقدر ما هو مفهوم الثقافة بحد ذاته». خلخلة الهويّة المؤدية إلى الانتماء لتنظيمٍ إرهابي مشابه ليست بالضرورة نتاج رفض ثقافي بقدر ما هي إنكار أو عدم رغبة في الفهم، طبقًا لمفهوم «الجهل المقدّس» لدى روا نفسه، أو «الجهل المؤسس»؛ المفهوم الذي اقترحه أركون منذ دراساته الأولى في «التطبيقات الإسلامية» في الستينات الميلادية.

خلال الأسبوعين الماضيين قرأتُ عدة كتابات لسعوديين يرون فيها عدم مسؤولية الخطاب الراديكالي المبثوث في المنابر منذ ثلاثين عامًا، وأقلّ ما يمكن أن توصف به تلك التحليلات أنها غير متخصصة وتجهل بشكلٍ مريع أسس الاستدلال لدى المتطرفين، وخلايا الإفتاء لديهم، وليست على اطلاع كافٍ بالكتب المؤسسية التي يتداولونها وقاموا بوضع ملخّصاتٍ لها لتسهيلها على أتباعهم. إن إنكار العامل الفكري والاكتفاء بتحليل الإرهاب اجتماعيًا أو نفسيًا أو اقتصاديًا إنما هو ارتداد عن المهام الكبرى التي اجترحها المفكّرون الأوائل منذ منتصف القرن العشرين باتجاه فهم «آيديولوجيا الكفاح» والظاهرة الإسلامية الشمولية، ونتاج القول الإسلامي القلق من الحضارة الغربية بسبب الإرث التاريخي الحربي، أو تركة الاستعمار، أو محاولات «تغريب التعليم»، وبالتالي الحنين إلى خلافةٍ معيّنة حتى ولو كانت ضعيفة بمستوى خلافة السلطان عبد الحميد.. كل ذلك إرث كبير مؤثر بشكل صاعق على الحركات الدينية وجماعات الكفاح المسلّح المتناسلة والتي بلغت ذروتها من خلال «الأفغان العرب»، وطالبان، وتنظيم القاعدة، و«داعش».

منكرو دور الخطاب التصعيدي المتطرف أو «الصحوي» في تأجيج الإرهاب، يستندون إلى «الجهل» الذي يحيط بتلك الكوادر التي تلتزم بأمر القيادات من دون كثرة اطلاع على الكتب والتراث، لكنهم يتناسون أن الأخطر من التهام الصفحات، واصطحاب الكتب، والإنصات للأشرطة.. دور ذلك الخطاب في تأسيس «المخيال الديني» وهذا هو النتاج الأكثر خطورةً حتى على جهلة «القاعدة» و«داعش»، وهو نتاج خطابٍ وليس نتاج شيءٍ آخر.

ما هو أخطر من الفتوى «مخيال الفتوى»، والأخطر من قراءة المشروع بآلاف الصفحات والمبررات والمسببات، ذلك المخيال الجاهز الذي صنعته تلك التعاليم.. إنه الجهل المؤسس.

للإرهاب جذوره، وكما في قول الأمير محمد بن سلمان، فإن المواجهة الفكرية والإعلامية يجب أن تكون بالتوازي مع المواجهة العسكرية، هذا مع استمرار القوّة في البأس ضد الإرهاب، وبين القوة والحجة يكون الدور التاريخي ضد الدم.. وقبل ثلاثة قرون كتب الفيلسوف الكبير توماس هوبز: «إن المواثيق، في غياب السّيف، ليست أكثر من كلمات».

 

تسويات سياسية ضد «الأحقاد» الارتكاسية

تسويات سياسية ضد «الأحقاد» الارتكاسية

فهد سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 10 ديسمبر 2015

في الحوار الذي يدور بين «دانييل» و«إيلاي» في فيلم «دير ول بي بلود»، وبعد صراع طويل مخضب بالنفط والمال والدم، يتحدث البطل عن «الحقد الذي غذّاه داخل نفسه طوال تلك السنين»، وعن الشر الجامح في عروق دمه والنابض بكل عروق القلب. بالمستوى نفسه يعيدنا إبراهيم الكوني بأكثر من عمل نحو ثنائية «قابيل وهابيل»، باعتبار الحسد هو الجذوة المحركة، التي انتهت بالمأساة بين «قابيل»، و«هابيل» الهائم على وجهه في الصحراء الذي تقبل الله عمله ولم يتقبله من أخيه. وفي حوار أجري مع الوزير سليمان فرنجية متحدثا عن قتلة عائلته في مجزرة «إهدن» لم يخفِ رغبته في الانتقام منهم طوال العقود الماضية، لكنه ينتبه ويقول: «الحقد أسوأ مستشار في العالم»، وهو يدخل على خط الترشيح الرئاسي وأمامه التحدي لتجاوز الثنائيات والدخول في المصالحات.

كل الأحداث العربية الحالية تحتاج إلى صيغ التسويات، وأنماط المصالحات أكثر من أدبيات الحقد وأدوات الانتقام ومرارات الدم وأنياب الاستئصال.

مرت عهود من التسويات التي قادتها السعودية، ومعظم المبادرات العربية التي تمت في نصف القرن الماضي كان للسعودية اليد الكبرى فيها. ولأن «الحقد» ذاكرة ارتكاسية اجترارية ومضغ لدمامات الذاكرة المريضة، فإنها الخصلة الأكثر انتشارًا وخطرًا على العرب والمسلمين.. هي السوء بعينه، تلك الذاكرة السامة، وهي التي يرمز إليها نيتشه بـ«العنكبوت» وتعني «روح الانتقام». وإذا كان النموذج الفاعل (نموذج السيد) يتحدد بملكة النسيان، وبالقدرة على تفعيل ردود الفعل، فإن النموذج الارتكاسي (نموذج العبد) يتحدد بتضخم الذاكرة وبقوة الحقد. هذا ما يفسر العجز عن إبرام تسويات بين الخصوم في الأزمات الراهنة، مثل الأزمة السورية، والفراغ اللبناني، وسواهما من القضايا المدمرة المهولة التي أخذت نشوات الحقد زعاماتها عن التعالي والتغاضي سمة النبلاء والسادة، خاضعين لسمات الارتكاس والارتجاع لإدارة شؤون الواقع وتحديات السياسة.

لقد مرت علينا أيام عصيبة لونتها الدماء خلال السنوات الماضية، أكل فيها الإنسان كبد أخيه، وقطع أصابعه ونزع بلعومه، تحت مرأى ومسمع من البشر قاطبة، باسم مقاومة الإرهابيين الثائرين، أو باسم محاربة الطغيان والرغبة في الحرية والنصر والديمقراطية والعدل.. كلها شعارات دمرت القيم، وهشمت ما تبقى من الإنسان وبراءته وأصالته الوجودية والذاتية. كومة تلك الأحداث وترابطها وانتشار آلامها جعلت الاجتماع بين الخصوم والنقاش بين الأقطاب أشبه بالمستحيل، لأن الذئبية الذاتية تريد أن تستمر بالنهش، من دون خضوع لنقاط وسط، أو تسويات تحفظ ما تبقى من دماء، وما سلم من مؤسسات، وما يمكن الحفاظ عليه من بشر وحجر وشجر.

حين تدار الأيام والملفات والأمم بالأحقاد، فإنها لا تستقبل إلا مزيدًا من الموت، لأن الحقد مثل النار لا يشبع من انتقام، ولا يتوب من الارتجاع الارتكاسي.

هناك تدوير لعدد من الزوايا في المنطقة، فالمبادرة الرئاسية بلبنان، والمحاولة الحثيثة في سوريا لجمع شتات الخصوم، وإبرام تسوية لا خاسر فيها ولا منتصر، كلها فرص ذهبية، غير أن فشلها ليس مستبعدا، بسبب النغمة الثاوية في التصريحات السياسية الممانعة ضد أي تنازل أو تفاهم، والذاكرة محاصرة بسكنى الماضي، ولا تستطيع أن تفكر في المستقبل، بإيقاف نزف الدماء، وردم مستنقعات الإرهاب وعلاج جروح الثورة بقطع الأطراف كلها لمسافات متساوية نحو المبادرات المتاحة، والفرص المعقولة.. هذا التحدي التاريخي يفحص مستوى انهيار القيم الإنسانية لدينا في العمل السياسي، إذ تطغى الصفقات المالية والنبرات الطائفية والعثرات الشخصية الانفعالية على الشجاعة في السبق نحو الحل، هذا الذي حدث في الحروب الأهلية في لبنان، ويجري الآن في سوريا.

تضمن التاريخ العربي صراعات قديمة ورثت الانتقام بوصفه قيمة، وهي خصلة سكنت النثر والشعر، والأمجاد المتغنى بها في الحروب القبلية والطائفية هي مضغ لأحقاد متوارثة، وجذوات لإحياء نار الطائفية، وأهازيج للإغارة القبلية، والمناسبات التي تحياها الطوائف المتعددة تجتر بالتاريخ والمشاعر القصص الموروثة وضحيتها النفوس والقلوب والأجساد التي تدمر بسكنى مفتعلة لتاريخ تعبأ به الأجيال رغما عنها، كأنها خلقت لتعيش وترث أحقاد الأجداد منذ آلاف السنين.

إن صناعة الحاضر والمستقبل، والتفكير في تسويات ومصالحات، بأنماط وأسس تتعالى على التاريخ والحقد، هي التي مكنت الأمم الأخرى من التفاهم والتعاون. أوروبا بعد حربين مجنونتين وبأكثر من مائة مليون قتيل استطاعت بناء أفضل نموذج تفاهم إنساني معاصر، وعلى الرغم من التصويبات والتصحيحات للاتحاد الأوروبي، فإنه نقد للتجاوز والتمتين، لا للإلغاء والتراجع أو الانهيار والتقوقع.

تحتاج الأزمات إلى قادة نبلاء، يزنون الأمور بميزان الذهب.. يعرفون قيمة المصالحات والتسويات، فالأرض ارتوت بالدم، والناس تعبت من هذا الخراب، والإنسان أهم من كل شعارات الحرية، وكل مناخات التقاتل هذه يجب أن تتوقف بأي وسيلة، فليس من حق أحد أن يصنع غابة مليئة بالوحوش وسط بلدان مستقرة، فأزمات الآخرين ليست ملكا لهم وحدهم، لأنها تشكل خطرًا على الجميع.

 

مفهوم «الدولة».. بوجه مشاريع «الموت»

 

مفهوم «الدولة».. بوجه مشاريع «الموت»

فهد سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط26  نوفمبر 2015

لو التفتّ حولك في المنطقة، باحثًا عن عدد الدول المتماسكة، مقابل الدول الهشّة والمريضة ستهولك نسبة الخراب من حولك. دول الخليج على رأس الدول المتماسكة التي حافظت على كيانها وهيكلها ومؤسساتها من الخراب والعطل والشّوَه، على الرغم من كل السموم والتحديات التي طغت على المشهد خلال السنوات المظلمة الماضية، سنوات التيه والدم والظلام. في السعودية منذ بدء التأسيس على يد الملك عبد العزيز كانت لفظة «الدولة» حاضرةً في خطاباته وتصوّره ومشاريعه، لم تكن الدولة تعبّر فقط عن تسمية سياسية، بقدر ما كانت تنوي في عمقها بناء مؤسسات ضامنة لتماسك الدولة مهما مرّت وتعاقبت السنون. إنه مفهوم الدولة الذي ينضج علميًا ونظريًا وفلسفيًا مع تقادم السنين وتعاقبها. برهنت أحداث التاريخ على أن الجماعات التي حاولت زعزعة الاستقرار قوبلت بالسحق التام الضروري، لأنها تهدد كيان الدولة مهما كانت الشعارات التي تستخدمها، منذ معركة «السبلة» وحتى معركة السعودية ضد كل التنظيمات التي جرّمتها وحزمت أمرها ضدها. هذا هو القصد «حماية مفهوم الدولة».

تسود الدولة حين يقتنع المجتمع، أي مجتمع، بأن الأمر لا يتعلق بالوفاق التام، أو الاشتراط الفردي الهزيل، أو التطلّب الطفولي، وإنما – كما يصف ذلك توماس هوبز – حين تتم الوحدة الفعلية للجميع ضمن الشخص الذي وضعت الجموع إرادتها في إرادته، وعند القيام بذلك يصبح الجمهور موحدًا في شخص إنسان واحد نسميه «دولة». لهذا وبفضل تلك السلطة التي يعطيها كل فردٍ للدولة، يمتلك الحاكم قدرة هائلة وقوة مجتمعتين فيه، بحيث يمكنه اعتمادًا على الرعب، الذي يلهم القدرة والقوة، أن يخضع إرادة الجميع بغية تحقيق السلم الداخلي والتعاون في مواجهة الأعداء الخارجيين، هذا هو المفهوم الهوبزي الذي نحتاجه أكثر، ذلك أنه كتب في ظلّ الحرب الأهلية الإنجليزية في القرن السابع عشر، وهو أقرب إلى حال العرب اليوم؛ إذ تسود الذئبية وعقلية الغاب، وتفجير القبور والمطاعم، والاستهتار بمؤسسات الدولة، وهو نصّ أقرب إلى حاجتنا من تفسيرات تاليةٍ أُسست لنظم مجتمع «متجاوز» ومستوعب لدروسٍ قد مضت، يكتب هوبز «إن المؤتمن على هؤلاء الأشخاص يسمى الملك أو الحاكم الأسمى يتمتع بقدرةٍ ذات سيادة». إنها الدولة ذات السيادة ودور الشخص المؤتمن فيها، وبخاصة في سنوات النزاع والصراع، وضمن تحديات المحيط.

حين تتعرض الدولة إلى التهديد يجب عليها استعمال العنف المشروع، وتفعيل القوّة في هذا السياق، ولعلّ الأسبوع الماضي شهد مقارنةً بين الخطاب الحربي لجورج بوش عقب أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، وخطاب فرنسوا هولاند بعد أحداث 13 نوفمبر (تشرين الثاني)، الأمر الذي جعل يورغن هابرماس يعلّق في حوارٍ له مع «لوموند» في 21 نوفمبر الحالي محذّرًا من المساس بالمجتمع المفتوح ومسار التسامح وفضاء الحوار الذي عرفت به فرنسا في ظلّ تصاعد صوت «الجبهة الوطنية» اليميني، هذه مهمّة من أسس شروط الدولة الحديثة.

لا بد من استخدام العنف المشروع ضد الإرهاب المنظّم؛ لأن ذلك من صميم عمل الدولة. بالطبع بعض الذين يعيشون القلق تجاه فهم مستوى «الدولة» بالصيغة القوية هذه يعتبرون أي إجراء حدد ضد تشويه منظّم ضد الواقع والمجتمع ومؤسسات الدولة هو «تسلط» واستعراض للقوة غير مبرر، هذه نبرة تسمع في بعض المقولات الآيديولوجية. نعود بهذه الجزئية بالطبع إلى ماكس فيبر؛ إذ «لا يمكن للدولة أن توجد إلا شريطة خضوع الناس المسيطر عليهم لنفوذ السلطة التي يطالب بها المسيطرون على الدوام.. من البديهي أن هناك في الواقع أسبابًا قوية يحكمها الخوف أو الأمل هي التي تشترط خضوع الرعايا». واحتكار العنف بدأ في الدولة الحديثة منذ أواخر القرن الثامن عشر بحسب إريك فايل، وهو الاحتكار الذي من خلاله نميّز الدولة الحديثة التي هي دولة الحق والقانون، وتسنّ وتعمم القوانين، و«تنظّم استعمال العنف بواسطة القانون».

إن الفكرة الأساسية في تمتين هذا المفهوم العتيد ضمن تجارب الأمم وشروطها وظروفها المعيشة، فالدول تشبه الناس، وتكبر معهم تبعًا لتحدياتٍ تجرفهم أو تهددهم، وليس سرًا أن جميع الدول في العالم الآن، وبخاصة منها تلك النفطية السابحة في الخير والنعمة، والأوروبية المبتهجة بالنور والشمس تحارب وتصارع، ذلك أن الإرهاب والظلام سيستمر في استهداف هذين النموذجين المتماسكين بعد طول محاولاتٍ بدأت منذ أوائل التسعينات الميلادية، ولن يكون هناك تماسك إلا بالاستمرار في صقل مفهوم الدولة وحراسة الحدود، والضرب باللسان والسنان ضد أي مساسٍ محتمل، وترسيخ ثقافة الضربات الاستباقية فكريًا وأمنيًا، مثل الذي فعلته السعودية ضد المتمرّدين في اليمن، وضد الإرهاب في أصقاع الأرض، هي معركة شرسة، قوامها حراسة هذا المعنى العميق للدولة، المعنى الذي نحتاجه، بالسيادة من جهة، والسلطة المشروعة الضابطة من جهةٍ أخرى، وهذا لا يلغي بتاتًا صيغ الإرادة، ومفاهيم الحق، وشخصية الفرد، وأبجدية الحق، غير أن فعالية السيادة تكون لها الأولوية على ترف الإرادة في ظلّ تحدياتٍ تعاش، ودمارٍ في المحيط يرى كل يوم، من دول ماتت وبادت، وأخرى تعيش مرضها المزمن وهشاشتها الضاغطة.

ستغرق مدن بالدم والظلام، وقد تنهض. والمعركة في بدئها، بمزيد من النور تحترق الخفافيش، ولبودلير شاعر «أزهار الشرّ»: «ويغفو العالم في النور الدافئ، كل شيء هناك سيكون نظامًا وجمالاً.. وترفًا وسكينة ومتعة».

 

 

 

عن المهاجرين.. مع الاندماج ضد التمايز!

عن المهاجرين.. مع الاندماج ضد التمايز!

فهد سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط12 نوفمبر 2015

استفزّت أعداد المهاجرين المضطهدين السوريين إلى أوروبا أصوات المعنيين بالمسألة الاجتماعية والفكرية والفلسفية، الموجة المهولة لا يمكنها أن تكون مجرّد طروء اجتماعي عابر ومؤقت، بل ستؤثر على التركيبة والنسيج من خلال الزحف الممنهج الآتي بكل الحمولة الثقافية، والإرث التاريخي، وأحمال الذاكرة المحطّمة، وكل هشيم الموت وهياكل المجازر الماثلة في عيون المهاجر مثل كابوسٍ يطارده في كل حالاته. إن تاريخ الهجرات ارتبط بنشوء سياسات وقوانين، تاريخيًا في الحرب العالمية الأولى شكّل اللاجئون الروس «الذين ليس لهم دولة» وطردتهم الحكومة السوفياتية وجرّدتهم من حق المواطنة تحديًا جدّيًا، إذ لم تكن هناك أي دولة مستعدة لاحتضانهم والاعتراف بـ«حقوق جديدة» لهم، وهذا الأمر واجهته عصبة الأمم 1921 التي زوّدتهم بوسائل للتعريف بهويتهم. في تلك الفترة أصدرت الكثير من الدول قوانين تتسم بالنزعة القومية كانت هي أساس «سياسات الهجرة» طوال السنين اللاحقة.

 

تغذّي الهجرات إمكانات الصراع، وتزرع حالاً من الاستفزاز في المجتمع المهاجَر إليه، ونقرأ – على سبيل المثال – في كتاب «تاريخ الهجرات الدولية» لباولا كورتي، فصلاً مهمًا عن «كراهية الأجانب»، ويستدلّ فيه بأن فترة ما بين الحربين شهدت أميركا هجراتٍ كثيرة، ولم يكن «وعاء الذوبان ونشوء الهوية الأميركية بوصفها مصهرة لمختلف الجنسيات كافيًا لمنع سفك الدماء وملاحقة الأجانب منذ نهاية القرن التاسع عشر، كما أن حملات الكراهية ومعاداة الأجانب كانت سببًا بعمليات إعدام». بمعنى ما فإن الهجرات بحمولتها وثيمتها ورموزها الثقافية تستفز المجتمع، وعليه فإن التحديات للجم إمكانات الصراع أو الكراهية يلزمها إدراك دروس التاريخ من هذه الهجرات وأمثالها في ظل غليانٍ عالمي ونزوع نحو القوميات في أوروبا وتصاعد صدى اليمين وعلو أصوات الانكفاء والانعزال.

 

رسم جمع من العرب نماذج اندماج مهمة في البرازيل وأميركا اللاتينية، والولايات المتحدة وأوروبا، وكذلك المسلمون الأتراك بألمانيا. ومنذ تاريخ هجرات العرب القديم بمراحلها التي تمثّلت في نكبة فلسطين 1948، وهزيمة العرب عام 1967، والحرب الأهلية اللبنانية، والحرب العراقية الإيرانية، والهجرات لأميركا التي كانت من جبل لبنان تحديدًا ومن العناصر المسيحية على وجه الخصوص، والنماذج تصنع نجاحاتٍ معيّنة، غير أن تلك الحقبة لا تشبه هذا الوقت من تاريخ العالم، ذلك أن قيم التنوير، ومساعي الإنسانية، وشغف الدفاع عن المظلومية، كل ذلك لا يحرّك التداول السياسي الحالي، حيث تغلب لغة المصالح، وتطغى العزلة، في ظلّ الأزمات الاقتصادية التي تعصف بالعالم، ومع كثافة التحديات الأمنية، ونشوء التيارات الأصولية المتناسلة، بات الحفاظ على ما تبقّى أكثر واقعية لدى المنطق الدولي من الدفاع عن إرادة التغيير، أو أحلام الحرية وشعارات الإنسان الساحرة والباهرة.

 

الفيلسوفة الأميركية مارثا نوسباوم، صدر كتابها «التعصب الديني الجديد – مخرج من سياسة الخوف»، وفيه تسوق مقارنة بين وضع المهاجرين في أوروبا وأميركا، تقول نوسباوم: «في الولايات المتحدة الأميركية يتم تشجيع الأفراد اجتماعيًا وقانونيًا على العيش وفق تعاليمهم الدينية ما داموا لا يسببون بذلك ضررًا لأحد، بطبيعة الحال يحق للدول وضع قواعد رشيدة ومحايدة للهجرة. ولكن ما يبدو لي سياسة خاطئة تمامًا، هو عمليّة دعوة الناس ثم معاملتهم وكأنهم يشكِّلون خطرًا على المجتمع». وبوقتٍ مبكّر من زحف المهاجرين، تحدّث فيلسوف ألمانيا الأبرز يورغن هابرماس، بأن على ألمانيا وفرنسا أن تصوغا سياسة أوروبية أكثر فعالية وذات منظور مستقبلي إزاء أزمة اللاجئين الحالية، بل لا بد أن ينصب التركيز على هذه السياسة بغية التعاون بشكل أفضل إزاء قضية اللاجئين، لقد قالها بوضوح: «لا بدَّ لنا من أنْ نتوقَّع من كلِّ شخصٍ نستقبله أنْ يلتزم بقوانيننا وأنْ يتعلم لغتنا. ولا بدَّ لنا فيما يخص الجيل الثاني على الأقل أنْ ننتظر منه أن يكون قد رسخ مبادئ ثقافتنا السياسيَّة عمومًا».

 

تعتبر هجرة السوريين من نيران الحرب الأهلية الكارثية من أخطر مراحل الهجرات في التاريخ الحديث. والمهاجرون ليسوا سواسية؛ منهم من هاجر للنجاة بنفسه فعلاً، وبعضهم أراد تجديد خيارات حياته، وفرص وجوده الجغرافي، واستثمار الامتياز الأوروبي والألماني تحديدًا، وهذا التنوّع في المقاصد والتفاوت في الحالات ستمحضه القوانين وستفرزه التتبعات الأمنية، والمداولات القانونية، والترتيبات السياسية، خاصة إن وضعت الحرب أوزارها بتفاهمٍ سياسي ملحّ، لكن من أجل تجنّب كل المخاطر المحدقة على المهاجرين الذوبان وتقرير الانصهار في القوميات التي يلوذون بها، لأن التمايز واختيار تكوين مراكز معزولة داخل قوميّات تعتزّ بهويّتها ولغتها مثل الألمان يضعهم في خانة الشكّ المستديم وربما إشعال نار الاستفزاز القومي للمجتمعات تلك، والظرف لا يسمح إلا بالتأقلم والاندماج، في ظلّ تفريخ المجتمعات والنزاعات تنظيمات فتّاكة قاتلة تتسلل إلى أوروبا والعالم مثل الفيروسات القاتلة والميكروبات المخاتلة. سيختبر العالم شكل هذه الهجرات ومستوى الانضباط ضمن «السياسات».

 

إن مع الحق بالهجرة واجبات، ولظرف المهاجر تحديات، ولنمط عيشه في أوروبا ومجتمعاتها اشتراطات، وأولها وأهمها تخفيف التمايز عن العالم، والتواضع أمام الثقافات المحيطة، والتعاون الأمني في موضوعات الإرهاب، والاهتمام المستمر والتساؤل المستمر عن «القيم» الكبرى التي استطاع «ما تبقى منها» أن يحرس كل هذا الجمع من البشر الخارج من موتٍ محتّم، ومن بلدٍ محطّم، والذاهب إلى أوروبا الحُلم، واللائذ ببردها من حرّ نار بلده، والآوي إليها من كهوف الموت وقطعان الذئاب الشريدة.

 

العلمنة والأسلمة: شبح أتاتورك … في فوز أردوغان

العلمنة والأسلمة: شبح أتاتورك … في فوز أردوغان

فهد سليمان الشقيران

موقع “العربية نت” 2 نوفمبر 2015

من آخر ما قرأ الزعيم اللبناني وليد جنبلاط كتاب صدر حديثاً بعنوان “سقوط العثمانيين-الحرب العظمى في الشرق الأوسط” ليوجين روجان طبع هذا العام.ومن طالع تصريحاته وإطلالاته الإعلامية الأخيرة سيكتشف مستوى تأثره الشديد بالكتاب. ثناء وحنين للعهد العثماني عبّر عنه زعيم طائفةٍ لطالما حوربت على مدى قرونٍ من السلطنة العثمانية التي اضطهدت الأقليات وانتهكت حقوقها واعتدت على مقدراتها. الزعيم يدرك بالطبع تاريخ الاضطهاد للدروز والأيزيدية والمسيحيين ولايخفى عليه ذلك وهو القارئ الدائم للتاريخ. غير أن هذا الامتنان التاريخي للاضطهاد القديم يعبّر عن مستوى اليأس الذي وصلت إليه النخب السياسية. لا يستحق أن يستعاد تاريخ الدولة العثمانية بكل هذا التقدير وهو التاريخ الفقير على كل المستويات والمتسم بالقمع والإرهاب وتصفية الخصوم ومنازلة الأقليات والتهميش المنظّم لمساحاتٍ شاسعةٍ من مواضع حكمها والهيمنة الاقتصادية الفجّة على الشعوب مما جعلها تاريخيا بلاقيمة تذكر، بل إن تاريخ السلطنة العثمانية هو تاريخ انحطاط وانهيار وتهشيم للقيم والأخلاق.

 

مع كل حدثٍ تركي تستعاد حكاية العثمانيين الجدد، أو السلاطين، أو الرغبة بعودة تلك الخلافة التي كانت تضطهد الناس بكل مكان وحتى في الجزيرة العربية وتضرم النار على رؤوسهم. تركيا حالياً هي صنيعة مصطفى كمال أتاتورك وليست امتداداً لعثمان بن أرطغل ولا لسليمان القانوني ولا لجلبة تاريخ عبدالحميد الثاني، وسيقسم الرئيس أردوغان على حماية العلمنة التركية، وسيكون من أوليات واجبه حماية قيم أتاتورك، إنه حزبٌ منظّم ومنفّذ ولئن كان امتداده إسلامياً غير أن لحركته تلك حدودها وأنماطها وضوابطها.

 

فوز حزب العدالة والتنمية هو انتصار للقيم التي بنيت عليها الدولة التركية الحديثة، وانتصار للمجتمع التركي الذي غلّب الجانب المصلحي النفعي البحت على الصيغ الأيديولوجية أو الترميز الشخصي، وليس سراً أن الاقتصاد هو المحرك الأبرز للمجتمعات بممارستها للعملية الديموقراطية، غير أن المرحلة الأردوغانية هذه تشوبها تحدياتٍ كبرى وإن أصرّت تركيا على “الصيغ التوسعية” فإنها ستصاب بالتفسّخ والترهّل.

 

إن الموقع “الجيوستراتيجي” لتركيا كونها ملتقى آسيا وأوروبا وصلة الوصل بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود من خلال مضيقي البسفور والدردنيل جعل منها دولة أوروبية ومتوسطية وشرق أوسطية، وهذا يمكّنها من لعب دورٍ متوازن تجاه الأزمات في المنطقة وإدارة المصالح غير أن الخطر في تحويل الدور المتوازن إلى جهد توسعي في منطقة الشرق الأوسط.

السياسة الخارجية التركية بعد حرب الخليج 1991 وانهيار الاتحاد السوفيتي بدأت تتجه صوب الجنوب والخليج بخاصةٍ وبدت فعالية هذا الاتجاه بالمشاركة في حرب تحرير الكويت، كما أن حزب العدالة والتنمية كسر عزلةً تاريخية كانت عليها تركيا تجاه المنطقة طوال ثمانين عاماً، لكن لن تقبل المجتمعات الخليجية والعربية بهيمنةٍ تركية ليس لها أي مضمونٍ ثقافي خاص، أو بتكرير موروث عثماني متهالك فقير يعادي الحداثة ويجترّ هياكل التاريخ الواهم من سلطنةٍ كانت مريضةً بالأساس.

 

يفوز أردوغان بالانتخابات وقد تحوّل مسار الملف السوري إلى غير الرؤية التركية، كما أن داعش تعيش حالاً من الانتعاش والتمدد الاستثنائي على مقربةٍ منه، هذا فضلاً عن التفاهم الغربي الإيراني الذي سيخفف من حظوظ انطلاق يد تركيا في مناطق الاضطراب، ولن يكون بالمقدور استعادة كامل الثقة مع الدول التي واجهها حزب العدالة والتنمية بآثار سقوط الإخوان المسلمين في مصر، لقد سادت رؤية لدى البعض خلاصتها أن تركيا يمكنها الحدّ من التدخل الإيراني انطلاقاً من الشراكة المذهبية بين دول الخليج وتركيا، واتكاءً على الثقة المبذولة تجاهها، هذا بالإضافة لكون تركيا ليست لديها “الأطماع” بالمعنى العام للكلمة في دول الخليج بالإضافة للموقع الحيوي لتركيا كونها ضمن حلف الناتو وذات حضور اقتصادي مهم، غير أن ذلك الطرح لم يعد قائماً لأن تركيا دخلت طرفاً واصطفّت مع تياراتٍ وأحزاب معادية لدول الخليج وتبخّر ذلك التحليل أو التمني الرغبي الذي تداوله البعض منذ منتصف التسعينات.

 

ثمة ثرثرة كثيرة في المواقع التفاعلية عن فوز أردوغان وتبعاته من متحمسين كثر. إن نجاح العملية الديموقراطية هو شكل الانتصار للدولة التركية الحديثة. أتاتورك أسس تركيا من الجذر وكل ما بني بعدها هو بناء على إرثه ووفاء له وامتداد معه. كذلك بورقيبة في تونس والذي بقي طيفه حتى بعد التغييرات والاضطرابات لهذا استحقّت مؤسساته الحوارية جائزة نوبل.

أردوغان خرّيج ثانوية الأئمة والخطباء سيخطب بالفعل وسيقسم أمام الأمة التركية بأن يحافظ على العلمانية وعلى القيم الأتاتوركية، لكن البعض لن يصدّق كل ذلك، لأنهم حالمون … والحالمون يقدّسون الأمس كما قال محمود درويش.

 

التقنية و”الثورة”.. أوهام المعرفة وشعارات السياسة

 

التقنية و”الثورة”.. أوهام المعرفة وشعارات السياسة

فهد سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 19 أكتوبر 2015

لم يعد التطبيق الإلكتروني على الجهاز الساحر بين يديك محصّنًا من الفحص والتحليل والنقد، ذلك أن المنصّات المتاحة والصفحات المبثوثة والتطبيقات المتناسلة كوّنت آيديولوجيات وضخّت شعارات، وشجّعت على أوهام، وقاومت مؤسسات أمن! لقد كوّنت التقنية ديكتاتوريتها، وصار نقد هذه الآلات واقعًا وضرورةً، مما يذكّرنا بالذي كتب حول صراعات التقنية قبل عقدين من مثل كتاب بيار بورديو «التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول» عام 1996 إذ انتقد «العنف الرمزي» الذي يبثّه التلفاز، وهو انتقاد جوبه تجاهه الفيلسوف بالنقد الجارف، بل وأحيل إلى خلافٍ بينه وبين مؤسسات تلفزيونية. ومن قبل وفي أواخر السبعينات تحدّث ريجيس دوبريه عن «الميديولوجيا» في كتابه «السلطان الفكري في فرنسا» 1979، ومن بعد ذلك جدد المفهوم ومعناه وتوظيفاته النقدية بأطروحته «الكاتب» 1980، ويعني به علم الوسائط وحالات التداول المعلوماتي، فالميديولوجيا ببساطة: «لا تعتني بالمضامين المنقولة، وإنما بالمرتكز المادّي الّذي يحمل تلك المضامين وبطرائق نقلها وكيفيات تأثيرها في العقول والنّفوس».

 

ريجيس دوبريه في عام 2009 سيعود الحديث معه عبر «اللوموند» لقراءة الإعلام والتواصل، وذلك بعد ثلاثين سنة من أول طرحٍ له حول «الميديولوجيا» لدراسة القناعات من خلال اللوح فـ«مع الثورة التقنية الكبرى، فهناك أشير إلى الثورة المعلوماتية، وعلى هذه اللوحة الجبارة تنفى الحدود، وينعدم كل وجودٍ للدولة، ومع (الميديولوجيا) المفهوم نتساءل عن الأفكار المجرّدة كيف تصبح قوةً مادية؟»، ثم يشير بكل اهتمام إلى دور «تقنيات التنقيل التي تضمّنت تغيرات في الاعتقاد، ومن ثم تحوّلات للنظام المجتمعي».

 

تبثّ تلك الوسائط يوميًا ملايين المعلومات في شتى المجالات، في الدين والعلم والطبابة والفكر، ولا ينتهي الحدّ عند المقولات والحكم أو الأساطير والأبيات الشعرية، هذا فضلاً عن الخرافات والأباطيل، ضمن انفصالٍ بين المعلومات وآلية إدارتها وخطّ إنتاجها ووظيفة تحويلها أو فهمها حوّل العقول المتلقية إلى حاويات بكماء لا تستطيع التعامل مع الفوضى المعلوماتية التي تحيط بها، فتكتفي بإعادة التدوير، أو الحفظ، وربما الاكتفاء بالاطلاع مع الإضراب عن الفهم. تجاوزت التقنية صراعات التلفزيون القديمة، أو البدايات الأولى للتعامل مع الإنترنت وشبكته، لتصل إلى التحدّي الأبرز المتعلّق بتأسيس ديكتاتورية تقنية، نلمحها في الاستعمال الإرهابي للتقنيات، والضخّ المتطرف أو السيولة الوعظية التي جرفت التطبيقات ذات الشعبية في أنحاء العالم. فالتقنية بمعنى ما حالة بثّ وإرسال، والرقاقات الحافظة للمعلومات والألواح الساحرة الباهرة بمحاولة تحقيق القناعات وتثبيتها لها امتدادها في تاريخ التهويل للأشياء واعتقاد قيمتها أو حصانتها ضد الانتقاد أو النقض أو المساءلة فضلاً عن التمحيص والإلغاء. التقنية بكل مفاجآتها الكبرى لا تزال تتجاوز الواقع وتتحدى المؤسسات والإمكانات بسبب طريقة الالتقاء بينها وبين المجتمعات بكل أطيافها، وتبدو معضلتها أوضح وأفصح في المجتمعات العربية والإسلامية، حيث ضعف المنظومة التشريعية، وفقر المواد القانونية، والقحط المدقع في تشكيل مفهوم «الحرية» وحدودها وأنماط استثمارها والتمتع بها بوصفها الحق الفردي المكفول نظامًا وقانونًا.

 

تحتوي التقنية على ثغرات ومساحات متاحة تستطيع أن تؤسس عبرها الخلايا الإرهابية، والمجموعات الإجرامية، وكذلك التجمعات السياسية، وبهذه الطريقة استثمرت التقنية سياسيًا طوال السنوات الماضية، وخُدع العالم بهذه الأزرار والألواح وكأنها من خلقت الواقع الجديد، بينما التقنية أسهمت في التحشيد ورسم الأوهام حتى تحوّلت «الحرية» الذهنية المأمولة أو «إسقاط النظام» إلى عبارة شعرية ذات إيقاعٍ مبهج نفسيًا كالأناشيد القومية النضالية، وليس غريبًا أن يعاد تكرار هذه العبارات في مظاهرات بلبنان للاعتراض على «النفايات»، فكل اعتراضٍ لأي موضوع يستعاد ذلك الشعار الفقير ثوريًا والمعتوه واقعيًا.

 

في حوارٍ مع المؤرخ جاك سيميلين حول «مقاومة الديكتاتوريات» اعتبر أنه «بعد الإنترنت تستعاد مجددًا أدوار الصحافة السرية وكذا المذياع لتحقيق الأهداف الانقلابية، كما في الكتلة السوفياتية، حينما استوعب الإعلام سياق المقاومة.. في العصر الحديث مع الإنترنت، الفارق أن الفرد استطاع أن يخلق المعلومة بنفسه». ثم يسترسل في الحديث عن «المقاومة المدنية» و«العصيان المدني». الإشكالية الكبرى التي تعترض النقاش حول التغيير انطلاقًا من وسائل الثورة التقنية جزء منها يحكمه الانبهار من بعض المحللين من كبار السنّ بهذه التقنيات وصراعاتها، وقد قابلتُ أحد المفكّرين العرب الذي طرح كتابًا حول التغيير العربي عبر الوسائط التقنية، وهو بالكاد يستطيع أن يستخدم هاتفه الجوال، لكنه لم يملّ من التغني بـ«الناشط» ممثلاً بوائل غنيم الذي أسقط حسني مبارك، هكذا بتحليلٍ متناهي السهولة أن تحال الأحداث الكبرى إلى عاملٍ واحد منطلقه الجهل بالتقنية والانبهار بها معًا، بينما الواضح وبجلاء أن التقنية أسرة، ويمكن أن تستغل وتستثمر لخلق القلاقل كما تقدم، وفي تدوير المعلومات، لكنها تطرح تحدياتٍ بسببٍ من راهنيتها وجدّتها، وتطرح المخاطر للحد من تسريعها بخلق اعتلالاتٍ مبكّرة في مؤسسات الدول ومقدّراتها.

 

كل التقارير الدولية المتعلّقة بحضور الإرهاب عبر الإنترنت تشير إلى الاستثمار المتنامي من قبل التنظيمات المتطرّفة. إن التقنية هي حال من تطوّر «الوسيط» من الراديو والتلفاز إلى التطبيق السريع، الفرق في نوعية التفكير الاجتماعي بها، وإذا كان مارتن هيدغر يقول إن «العلم لا يفكّر» فإن التقنية «لا تفكّر» أيضًا، فالضخّ المبثوث في أي تطبيق هو بعث لما في الواقع من أدواء، والجرم كل الجرم أن تكون أدواتنا القانونية كسولة نسبةً إلى نشاط التقنية المتصاعد.

 

التقنية ليست نعمة ولا نقمة، إنها الوسيط المتطوّر الأكثر سحرًا، وهو ليس بشيطانٍ ولا ملاك، وإنما يشرح قاع ولون وشكل المجتمع الذي يتحرّك فيه، وينبشه ويخترق سدوده وحدوده، ومن دون وعي اجتماعي بمعناها وبوظيفتها ستبقى ميدانًا للتخريب والعنف، والتيه والدمار، وترسيخ الجهل، وحراسة ما هو قائم بل وتكريره وتلميعه، وهذه هي الكارثة.

 

لو أن “قانون” الطائفية … حسم قبل “الحيدرية”!

لو أن “قانون” الطائفية … حسم قبل “الحيدرية”!

فهد سليمان الشقيران

موقع “العربية نت” 19 أكتوبر 2015

بقيت السعودية ومنذ تأسيسها خارج السياقات المذهبية في تناول الأحداث. الإسماعيلية والشيعة والصوفية والبقية الأخرى من الطوائف والمذاهب والطرق كانت ولا تزال موضع احترامٍ وحمايةٍ من الدولة وقادتها. وآية ذلك أن الإجراءات التي تتخذها الدولة في أي منطقةٍ كانت لم تحرّكها نزعات مذهبية. وحين اندلعت مناوشات بنجران على إثر سوء فهمٍ حصل قديماً صرّح ولي العهد الراحل الأمير نايف بن عبدالعزيز في تصريحٍ نشر في 26 أبريل عام 2000 بأن الأمر ليس مذهبياً بتاتاً بل يتعلّق بالأمن، وأكّد على احترام الطائفة الإسماعيلية وأهلها وثقته بولائها للبلاد معتبراً الإجراءات “أمنية بحتة”. الأمن ضرب حالات تشويش في بريدة أوائل التسعينات بنفس القوة والصرامة التي واجه بها مناوشاتٍ أخرى بالشرقية، والمفسد في الأرض سيلاحق بحزمٍ أياً كان مذهبه. هذا هو منطق الدولة القوي والعادل.

 

بمثل هذا تعامل الملك عبدالعزيز الذي وحّد البلاد ضمن صيغة الوحدة مع الأخذ بمناخ التنوّع، إذ بقيت المناطق وأهلها بمذاهبهم وعلى طرقهم يتعبّدون الله ويطرقون أبوابه كل على ما آمن به … لتكون وحدة الولاء هي الأساس، مع بقاء ضرورة التنوّع الذي يثري ولا يهدد بناء الدولة ولا يقوّض مؤسساتها.

 

لقد عمل الملك عبدالعزيز على ترسيخ هذا المبدأ حين قال:”فإننا لسنا عنصريين ولا من دعاة التفريق والتمييز بين الناس، بسبب أنسابهم وعقائدهم”، وكرر التأكيد عليه في موضع آخر بقوله: “لا يسأل أحد عن مذهبه أو عقيدته. ولكن لا يصح أن يتظاهر أحد بما يخالف إجماع المسلمين، أن يثير الفتنة». وقال من قبل لأمين الريحاني: “هذا الاحساء، عندنا هناك أكثر من ثلاثين ألفًا من أهل الشيعة وهم يعيشون آمنين لا يتعرض لهم أحد. إلا أنا نسألهم ألا يكثروا من المظاهرات في احتفالاتهم». لقد كان الملك عبد العزيز شديد الوعي في التفريق بين موقف السياسي وموقف الفقيه تجاه التنوع الكبير في بلاده، ولما جاءه مرةً بعض المشايخ برسالة في الردّ على الشيعة يريدون السماح بنشرها، أخذها منهم، ثمّ في اليوم الآخر «سلّمهم الرسالة، مليئةً بالحذف والإثبات، بخطه وقلمه، وقال لهم: إنّكم أصحاب دينٍ ولستم أصحاب سياسةٍ”.

 

أما الطائفة الإسماعيلية فقد عاهدهم الإمام سعود بن عبد العزيز في الدولة السعودية الأولى وجدد العهد معهم الإمام فيصل بن تركي في الدولة السعودية الثانية… عهدٌ بضمان أمنهم وأمانهم وعدم التعرض لهم بسوءٍ، وهو العهد الذي جدده معهم مؤسس الدولة السعودية الثالثة والسعودية الملك عبد العزيز.(انظر ملفّ بعنوان: السعودية والطوائف. لعبدالله بن بجاد العتيبي. الشرق الأوسط 4 أكتوبر 2015).

 

هذا الأساس التاريخي والسياسي الراسخ يبيّن مستوى عبقرية القائد، والمعنى الذي تحدّث به يشرح الوعي الكبير للسياسي بموضوع التنوّع، غير أن الفترة تلك لم تشهد موجة الطائفية أو صراعاتها، ولا مد الثورة الإيرانية، ولا غليان الصحوة الإسلامية، والتوصيف الطائفي لم يتداول حينها، ولم تعرف البيوتات أو تصنّف على هذا الأساس. يذكر الدكتور أحمد اللويمي في دراسةٍ له بعنوان: “المجتمع الأحسائي المعاصر-قراءة في طبائعه وأفكاره” (طبع دار مدارك للنشر) أن التمايز في الأحساء والسعودية لم يكن أبداً دينياً، بل كان التنوع يصب في إطار الانتماء القبَلي، يقول:”مرحلة ما قبل الثورة الإسلامية في إيران هي مرحلة المحافظة الخاملة الساكنة، التي يغلب عليها الطابعه الاجتماعي القبلي أكثر من الوجه الديني، ومع دخول المجتمع مرحلة الصحوة الدينية المصحوبة بالثورة الإسلامية وقيام الدولة الدينية في إيران تحولت المحافظة في الأحساء إلى وجهها الديني والقبلي”.

 

أما اليوم وبعد التبدلات، وانتشار فوضى التحريض، والتكفير المذهبي، والاستئصال الطائفي، والتوحش الإرهابي ضد المختلفين والمخالفين فقد آن الأوان لبناء مرحلة تشريعية استثنائية تكون كفيلةً بحراسة “نظرية التعايش” من العبث الطائفي والمدّ التحريضي، وهذا يستلزم عدة أمورٍ منها:

 

أولاً: ملاحقة المحرّضين ضد السعوديين من مذاهب أخرى، ومحاسبتهم وإحالتهم إلى المحاكمة، ذلك أن التحريض ضد أي سعودي هو جرم محض وفيه حثّ على القتل وتربية للرعب واستثمار في العنف، وليشمل هذا الإجراء أولئك الذين يكفّرون الناس بالجملة، ويتمنون الفرصة المواتية للانقضاض على المواطنين السعوديين الأصلاء بهذه الأرض بل وشاركوا في بنائها والإسهام مع قادتها والتعاون على أمنها، من شتى مذاهب الفقه ومدارس العقائد. إنه الإجراء الأساسي إن أردنا إثبات جديتنا لمكافحة مرض الطائفية واستئصاله قبل أن يضربنا أثره مجدداً كما حدث في “القديح” و”الدالوة” و”العنود” و”الحيدرية”.

 

ثانياً: البدء مجدداً بدراسة قانون الوحدة الوطنية، والذي أخفق أعضاء مجلس الشورى باعتماده بسبب تعنّت البعض، والعجب أنه قانون بدهي، يؤسس للمعنى الذي أراده المؤسس. إن كل تصاعد لظاهرةٍ ما يعني ضرورة تطوير ما يتعلق بها من تشريع. والقوانين الموجودة في النظام الأساسي للحكم حول التساوي بين المواطنين مهمة وقوية لكن يبنى عليها تفاصيل وتشريعات تشدّ من التضابط الاجتماعي بنفس مستوى التحدّي الطائفي، فالقوانين مثل الناس عليها أن تكبر معهم ومع مشكلاتهم وتتطور تبعاً لأعراضهم وأمراضهم. لقد كان الفشل الذريع لمجلس الشورى في تمرير هذا القانون صدمة لجميع المثقفين والمفكّرين وأنصار مفهوم الدولة ومؤسساتها والعارفين بأخطار الطائفية وأدوائها، وهذا الفشل يعبر عن جهل المعارضين للنظام وارتكابهم جريرة دافعها الكسل الذاتي والتململ إزاء قانون ملحّ لا يحتمل التأجيل أو الاستغناء، إنها بالفعل كارثة صلعاء أن يعارض مثل هذا القانون المتطوّر المدني المواكب للعصر والمحايث لتحديات المنطقة ومناخات الحروب الطائفية وتصاعد أدوات التحريض والإلغاء. ذلك القانون يكفل لجم التحريض والكراهية من قبل متطرفي الطوائف كلهم، بغية إيقاف الشتم والتنابز الفج والتحريض الأحمق المتداول على المنابر والوسائل الإعلامية المنفلتة.

 

ثالثاً: تغيير الخطابات المتداولة، والبدء بحملة تمشيط رسمية واسعة تسهم في لجم المنابر عن نشر الكراهية، وضبط الوسائل والمنشورات وفحصها، وضرب منابع التحريض النظري، والتغذية الفكرية، والتوجيه الحزبي الأيديولوجي بما يتواءم مع قانون مكافحة الإرهاب ومع الأمر الملكي 44/أ الصادر في فبراير 2014، إنه المدخل الضروري لمعالجة أخطاء الخطاب المتطرّف الذي كرّه المواطن السعودي بأخيه، وحرّض الابن على أبيه، حتى وصلنا إلى المرحلة المأزومة من تاريخنا الفكري والثقافي، لقد أصبنا بالإحراج والذعر حين وجدنا هذه الخطابات وقد فقّست عن جيوش من الإرهابيين الصغار والكبار. خرابٌ ترعرع حين أهملنا المنابع واحتقرنا أصحابها بدعوى أن لا تأثير لهم، أو بذريعة تعبيرهم باسم الدين واختطافهم للمجتمعات باسم الصحوة والإحياء الإسلامي.

 

إنه المنعطف التاريخي …لقد بلغ التحريض الطائفي أوجه، ومواجهته لا تكون إلا بالتشريعات والأنظمة والقوانين، قبل الخطب المنبرية، والوعظ العاطفي. إن القوانين هي التي تضع رؤوس الناس جميعاً تحت مسطرة المحاسبة وأمام حزم القضاء وبوجه قوة الدولة، وهذا الاستدراك حتى وإن جاء متأخراً غير أنه يعالج دماراً خطابياً نشط طوال ثلاثة عقود من دون مصلٍ يعالجه، أو فضاء يناقشه، أو جهد فكري يجهز عليه، كل ما مضى يأخذنا إلى بر الأمان، باتجاه الوحدة الوطنيّة ضمن إطار التنوّع.

 

 

الراديكالية.. وحالات “سكنى التاريخ”

 

الراديكالية.. وحالات “سكنى التاريخ”

فهد سليمان الشقيران

جريدة “الشرق الأوسط” 15 أكتوبر 2015

من الواضح أن استعادة التاريخ، والبحث عن نماذج متطابقة في فتراتٍ متباعدة، يساهمان في تغذية التوجّهات الحادة، وينشّطان من فاعلية التيارات الثورية. ويعتبر الإرهابيون المتطرفون، الذين يحاولون اختطاف الإسلام الصحيح، التاريخ جمعا من النماذج المتكررة، ويبرهنون خطابيًا بأن التاريخ يعيد نفسه، ويستعرض مكره.

 

ومن مفضّلات التيارات الثورية تشبيه الليلة بالبارحة. التاريخ لديه كثافته، ومكره، وضغطه على الحاضر، غير أنه ليس شريكًا حيويًا في خلْقه، أو صناعته، أو ترتيب أدواره. لكن حمَلة التاريخ، ممن يعيشون فيه أكثر من عيشهم في الحاضر والزمان، هم من يعيدون التفسير الحدَثي لما عبَر من حوادث الدول والأمم. تُستعاد الحرب الأفغانية السوفياتية بعد التدخل الروسي في سوريا، ويتم التذكير بالحروب الصليبية مقابل الفتوحات الإسلامية، في محاولة حثيثة لاجترار التاريخ، والاعتماد عليه، لإذكاء نزعات القتال والصراع، وهذا هو التفسير الآيديولوجي للأحداث التاريخية، وبخاصة حين تكون ذات نزعاتٍ حزبية إسلامية تريد تحسين شروطها السياسية، وتعزيز تغلغلها على الأرض، بغية إعادة «الانبعاث» لقوى الرجعية بالعالم.

 

ولأن هذه الأحزاب تعيش في التاريخ وخيامه، فإن تاريخهم لم ينفصل عن فكرهم، لهذا تكوّن لديهم الوقائع أفكارًا، ويعيشون لحظاتٍ مضت باعتبارها جزءًا من حاضرهم ومن أفكارهم، ويأنفون من الدراسات التي تسلّط على السياقات التاريخية للمفاهيم التي يعتبرونها مرجعًا في التحاكم السياسي، أو الفهم النصّي، أو الاستدلال الديني، لأن التاريخ ليس موضع فهمٍ بقدر ما هو موضوع «اتباع»، وعليه فإن التاريخ مؤسس، وجزء من المناخ والسياق، والتسبيب في التعليل، والاعتضاد في التفسير، وهذا ما مكّن الرموز الآيديولوجية الكبرى في النفاذ إلى العقول، إذ حُوّلت القصص والأساطير والشخصيات والعبقريات التي وردت في بطون تلك المدوّنات إلى صيغ تبجيلية، وأنماط ينبغي تمثّلها، والاعتماد عليها، والصدور عنها. تيارات كثيرة استخدمت هذه التوعية التاريخية المدرسية للهيمنة الفكرية، من أبرزها جماعة الإخوان المسلمين بطبيعة الحال، وذلك من خلال استعادة وضخ مفاهيم كثيرة، أبرزها إعادة معنى «الحاكمية»، والضرب ضد الحكومات الحديثة، بغية استعادة الخلافة المفقودة.

 

أخذت هستيريا مقاومة الغرب والثقافة الحديثة بعدًا متصاعدا في الأربعينات من القرن العشرين، فتنامت حالة من «أسلمة» كل المنتجات والصراعات الفكرية، والمفاهيم المعرفية.

 

إن رفع شعار «الخلافة» هو تعبير صارخ عن الأزمة مع الحاضر، والإضراب المستمر عن سير الحياة، ومحاولة يائسة لإيقاف صيرورة الزمان، أما «داعش»، فإنكم تظلمون «داعش»، فهو الوليد الموثّق الثابت لنظريات حسن البنا وسيد قطب، ولئن حاول الإخوان إثبات وسطيتهم من خلال فرط تطرّف «داعش»، فإن «النظرية السياسية الإخوانية» هي بنفس هيكليتها «النظرية السياسية الداعشية» بمفاهيم الخلافة، والقتال، والاغتيال، والحاكمية، وبطلان الدول الحاليّة.

 

نتذكّر مع لورانس رايت في كتابه «البروج المشيّدة» محاولة الإخوان إعادة الانبعاث أوائل الخمسينات: «حين أنشأوا المستشفيات والمدارس وبعض أماكن التصنيع، وكوّنوا جيشًا خاصًا بهم ليحارب إلى جانب الجيوش الأخرى في فلسطين، وكان نشاطهم مناهضًا للمجتمع أكثر من كونه مناهضًا للحكومة، وكان ذلك هو هدف الجماعة من الأساس، فقد رفض مؤسسها حسن البنا اعتبار جماعته مجرد حزب سياسي، فقد كان الهدف منها أن تكون تحديًا لفكرة السياسة بالكامل».

 

حين كان سيد قطب في واشنطن عام 1949 التقاه رجل المخابرات والمستشرق البريطاني ج.هيوراث.دن، مؤلف كتاب: «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة»، وفي فصلٍ منه يرسم حال الواقع لو تسلّم الإخوان السلطة في مصر، يقول: «ستغلق المسارح، ودور السينما، وتمنع معظم الجرائد والمجلات، لن يكون هناك جرائد أوروبية، ستعاني تجارة الكتب نتيجة للرقابة الصارمة… سيكون من المستحيل شراء أي رواياتٍ إنجليزية أو فرنسية، حيث إن أعمالاً كهذه مدانة مسبقًا على أنها أسلحة يستخدمها الغرب لهدم الأخلاق الإسلامية، فهي تعتبر عندهم جزءًا من أسلوب خفي يستخدمه الأجانب لتدمير الإسلام».

 

تدل البيانات لغرض «الجهاد»، والرهانات على التاريخ بغية الانبعاث، وحالات الردح بالدين ضد الآخرين، على أن الضرب ضد المجتمع هدفه الهيمنة عليه، والتغلغل داخل مؤسسات الدول، والنيل منها، وتهشيم بنيانها، والدعاية ضدها، بغية رسم خيالٍ اجتماعي حول هشاشتها وانتهائها. إن الجماعات الراديكالية المعادية لمفهوم الدولة ذات مشاريع متشابهة، والآيديولوجيا التي فاجأت المجتمعات بتفجير المساجد، والاغتيال المنظّم، ومبايعة الخليفة، كلها موجودة في كتبٍ سائبة، وتعاليم تغرق بها المناشط، وتتداول إلى عهد قريب في مؤسساتٍ كثيرة.

 

يروي علي عشماوي المريد السابق لسيد قطب: «في اجتماعات سيد قطب مع بعض الإخوة لترتيب تنظيم (65) كان يبحث معهم شؤون التنظيم (تنظيم 65) وكانت الجلسة ضاغطة، وجاء ميعاد صلاة الجمعة، كانت المفاجأة أن سيد قطب أسقط صلاة الجمعة بسبب سقوط الخلافة، وأنه لا جمعة إلا بخلافة، ولم يؤد صلاة الجمعة».

 

إنها فوضى فكرية استثنائية، تبدو ماثلة أمامنا بشخصياتٍ، وأحزاب ذات أدبيات متماثلة، كلها تشتعل بالخطر والحرائق، وأقبح ما فيها تحويلها حدَث التاريخ الغابر إلى نموذج حاكم لكل صيغ العصر، ولكل زمانيته وصيرورته، محاولين معاندة حركة الدنيا، واحتلال العصر، وطمس معالم الحضارة، ومحاربة الحداثة، لترحيل الناس من جاهلية القرن العشرين إلى خيم التاريخ.