ضرورة إنهاء التوتر مع الفلسفة

ضرورة إنهاء التوتر مع الفلسفة

جريدة الشرق الأوسط20 سبتمبر 2018

فهد سليمان الشقيران

 

تنهض السعودية الجديدة بكل ثقلها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والديني نحو وثبة حضارية وتنموية غير مسبوقة بتاريخها. وآية ذلك أن الزائر لمدن المملكة ومناطقها المتعددة يجد المشاريع التي وعد بها قد بدأ العمل عليها بالفعل. غير أن النهضة المعرفية على غزارة شهدتها السعودية على مستويات التعليم بعددٍ من الجامعات تعتبر من بين الأفضل على مستوى المنطقة. ثمة تعليم متفرد على مستويات العلوم الطبيعية بكلياتٍ جبارة، ولكن على مستويات الفلسفة والعلوم الإنسانية فإننا نواجه مشكلة منذ بدء مرحلة التعليم الحديثة وحتى اليوم. حتى وإن تم تدريس علم الكلام، وبعض النصوص الفلسفية بالكليات الشرعية (لأجل النقص) ومقررات العلوم اللغوية واللسانية ومفاهيم النقد الأدبي الحديثة، فإننا نصل إلى تخوم العلوم الإنسانية ومنتجاتها الحديثة الصاعقة، أو الفلسفة بكل تاريخها المهم ولا نجد إلا الخوف والهلع من هذه التخصصات.

وتأسيس المناهج التعليمية، وبناء المؤسسات الأكاديمية، وكل هيكلية التعليم أتت ضمن ظروفٍ خاصة، فالدولة حينها كانت غضّة، تؤسس نفسها تدريجياً، والمجتمع لتوّه يترقّب العالم بخيفة، ولكن بعد قرنٍ من الزمان يمكننا الطمع بتطوّر استثنائي على كل المستويات ومنها تطوير العلاقة المؤسسية والمجتمعيّة مع الأبواب العلمية المختلفة ومنها الفلسفة. لقد زخر تاريخنا الإسلامي بأجواء فلسفية استثنائية منذ القرون المبكرة، حيث سجالات المتكلمين، والمحاججات المنطقية، والإفادة من الإرث اليوناني، والاطلاع الشجاع على الحضارات المحيطة، أسماء خالدة بتاريخنا الإسلامي مثل الكندي والفارابي وابن عربي والرازي والغزالي وابن سينا وابن رشد وإخوان الصفا والمئات سواهم. طرأت ظروف الانحطاط على العالم الإسلامي فكأنما لسان الكون نادى في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة كما يعبّر ابن خلدون، وسيطرت التيارات الحشوية والنعرات الاصطفائية على الخطاب العقلي والفلسفي فانساق التاريخ وراء الهذر الطويل خارج سياق العلم والعقل، سنوات من «سبات العقل» أو «العقل المستقيل» كما هي فقرة سجال طويل بين الندّين المهمين طرابيشي والجابري.

حاول علماء كبار بأنسنة الثقافة الإسلامية، مثل فعل ابن مسكوية والتوحيدي وفيلسوف آخر مهم هو أبو الحسن العامري (القرن العاشر الميلادي)، ولمنى أبو زيد أطروحات عديدة عنه مثل كتابها «الفلسفة في فكر العامري»، ولكن من حفر في نصّه أكثر الراحل محمد أركون في كتابه المرجع «معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية»، وهو استمرار لأطروحته عن «جيل ابن مسكويه والتوحيدي».. في الكتاب يدرس العامري عبر الفصل الخامس الذي عنونه بـ«اللوغوس المركزي والحقيقة الدينية – من خلال كتاب (الإعلام بمناقب الإسلام) لأبي الحسن العامري»، ونتيجته عنه: «إن العامري لا يمثل في كتابه دفاعاً عنيفاً أو جدالياً بشكلٍ كاملٍ عن الدين الإسلامي، كما أنه لا يمثل تدخلاً عنجهياً أو إمبريالياً للمعرفة الفلسفية. وإنما نكتشف فيه بالأحرى نوعاً من التجميع للمشاكل الأساسية ولمجريات تحقق الثقافة العربية الإسلامية بالصيغة التي خرجت فيها بعد أربعة قرونٍ من الممارسة، إذا ما حللنا هذه المجريات فسوف يكون من الممكن أن نكتشف المشاكل الكبرى التي تلاحق الوعي الإسلامي كالهاجس الملح» (ص222).

هدف أركون من البحث ضرب جبهتين؛ خطأ منع تدريس الفلسفة، والآخر خطأ منع تدريس الأديان في فرنسا، كما في نقده لجون فيري «مؤسس المدرسة العلمانية الحديثة»، فهو يطالب بتدريس «علم الأديان المقارن» باعتباره جزءاً أساسياً من التكوين المنهاجي للطلاب لأجل الوعي بالتاريخ الذي طحنهم ولا يرى بذلك أي إحياء للعصبيات الدينية، ولهذا يغضب من أركون المتعصبون المسلمون، والعلمانيون التقليديون، وهاشم صالح شبّه أستاذه أركون بأنه مثل «رينان عند المسيحيين»، بالطبع التعصّب ينفي القدرة على المعرفة والتعلم.

الفيلسوف العامري يرفض معاندة العلوم الحديثة حين يكتب: «إن العلوم الحكمية، قد طعن عليها قوم من الحشوية، وزعموا أنها مضادة للعلوم الدينية، وأن من مال إليها وعني بدراستها، فقد خسر الدنيا والآخرة، قالوا: وليست هي إلا ألفاظاً هائلة، وألقاباً مزخرفة، زيّنت بمعانٍ ملفّقة، لينخدع بها الجاهل الغرّ، ويولع بها المتظرّف الغمر. وليس الأمر كذلك. بل توجد أصولها وفروعها عقائد موافقة للعقل الصريح، ومؤيّدة بالبرهان الصحيح، حسب ما توجد العلوم الملّية (أي الدينية)، ومعلوم أن الذي حققه البرهان وأوجبه العقل لن يكون بينه وبين ما يوجبه الدين الحقّ مدافعة ولا عناد».

تلك المقولة منذ أحد عشر قرناً من الزمان، ومع ذلك لا نزال نعاند ونقاوم العلوم الحديثة التي تتطوّر مفاهيمها يومياً بالعالم.

بعد رحيله نشر لأركون كتاب يشبه المذكرات عن حياته ودنياه بعنوان «التشكيل البشري»، وفيه قال بمرارة: «أنا شخصياً أشعر وكأنني بشر في صحراء قاحلة من الفكر بمؤلفاتي وأبحاثي، أشعر بأني وحيد».

 

«الدولة المستحيلة» وتحديات الحداثة

«الدولة المستحيلة» وتحديات الحداثة

صحيفة الشرق الأوسط 11 يناير  2018

فهد سليمان الشقيران

 

مع تصاعد المظاهرات في إيران، وضمور المد الداعشي نسبياً، واحتمالات عودة «القاعدة» مجدداً، تعود أسئلة الدولة الدينية المتخيلة وعلاقاتها بالأخلاق والحداثة. لا يمكن نجاة الدولة من الآثار الثيوقراطية بمجرد وجود مؤسسات فاعلة كما يدعي بعض المعتبرين لإيران دولة حديثة بسبب وجود مجالس تحكيم دستورية، وتشخيص مصالح النظام، حتى تنظيم داعش، ومناطق حكم تنظيم القاعدة لديها تنظيماتها ودواوينها، ولكن الرهان على مستوى مدنية الدولة وجذور أسسها القانونية الحديثة، وقدرتها على وضع «سستام» يمكنه البناء بمجموع الأفراد على كل المستويات انطلاقاً من تشارك الواقع والقدرة على تعزيز أسس التعاقد بين الفئات وتحرير الشؤون الدنيوية من الشعارات المتصارع عليها، وعلى رأسها الصراع حول الحقائق، لا يمكن فصل شكل الدولة عن القيم التي تتبانها والآيديولوجيا المستندة إليها، والروح التي تدب في مؤسساتها، من هنا الاختلاف بين الدولة المدنية الممكنة و«الدولة المستحيلة».

ومفهوم «الدولة المستحيلة: الإسلام، والسياسة، وأزمة القيم الحداثية» عنوان أطروحة للأستاذ بجامعة كولومبيا الأكاديمي الفلسطيني الأميركي وائل حلاق، الذي طبع عام 2012. الكتاب أثار الجدل، وذلك لما يمارسه من اختلاف في قراءة شكل الدولة وعلاقاتها بالأخلاق والحداثة والعلمانية، به يحاول تحديد «أثر الغرب»، طارحاً انتقاده لتقديس الأثر الغربي، مستلهماً ومستدلاً بما قرأه لأستاذ يمتنّ له هو طلال أسد الذي ينتقد «العلمانية» تجاوزاً لها وتمرداً عليها ضمن قيم أشمل من تاريخيتها كما في كتابه الشهير «تشكيلات العلمانية». حلاق أعماله منذ التسعينات تتناول «الفقه في الإسلام الكلاسيكي ونشأة الفقه الإسلامي، والسلطة المذهبية، وتاريخ النظرية الفقهية»، ولديه كتاب سيصدر قريباً عن جامعة كولومبيا أيضاً حول «الاستشراق»، فهو من المتمكنين في هذا المجال. و«الدولة المستحيلة» يكتسب راهنيته في ظلّ مقاومة الإسلام السياسي ضد نقاده من العلمانيين والمنضوين ضمن التجربة الغربية حول مفاهيم الحق والدولة والقانون والمؤسسة والفرد، ولهذا جانب لا يستهان به من فصول الكتاب.

يأخذ حلاق في كتابه الموضوع السياسي الإسلامي وشكل الفقه أساساً لفحص إمكانات تحقيق الدولة الإسلامية المستحيلة باعتبارها تحاول البحث عن التأصيل ضمن الممكن التاريخي، فالفقه ليس هو القانون رغم أن الفقه كما يقول: «يتصف بالتعددية القانونية، ليس لأنه يعترف بالأعراف المحلية ويأخذها بالاعتبار ويحملها محمل الجد فحسب، بل أيضاً لأنه يطرح مجموعة من الآراء على أساس منظومة واحدة من الحقائق نفسها» يضيف كاتباً: «إنه إذا كان القانون، بوصفه ممثلاً للإرادة السيادية، في كلِّ مكان، فإن توزيع القوة القانونية لا يتقاطع مع (كل خطة حياة فردية) فحسب بل أيضاً مع كل الوحدات التي تكوِّن الدولة. وإذا كان القانون، معرَّفاً كنظامٍ معياري، متوغلاً في هذه الوحدات بصورة رأسية وأفقية، فمن الصواب استنطاق العلاقة بين هذا النظام المعياري والمؤسسات التي تجسده، ولا سيما تلك التي تتخصص في فض الخصومات وتفعيل مبادئها الخاصة».

حلاق يتجاوز الطرح الفكري الحداثي التقليدي حول الغرب، وهو نقد يبدو مفاجئاً لأول وهلة بين طيّات الكتاب، لكن الباحث محمد حصحاص قدم دراسة مهمة تعالج بعض الالتباس الذي تقدمه نظرية الدولة المستحيلة، فهو يشير إلى أن «حلاق قدم نقداً قاسياً للحداثة الغربية ولمفهوم الدولة الحديثة، مستدلاً في طرحه – إمّا اختلافاً أو اتفاقاً – بكبار فلاسفة الغرب في العصر الحديث، على اختلاف مرجعياتهم ومذاهبهم الفلسفية والدينية، أمثال إيمانويل كانط، وفريدريك هيغل، وفريديريك نيتشه، وماكس فيبر، وكارل شميت، وثيودور أدورنو، وميشال فوكو، وجون رولز، وبيير بورديو، وتشارلز لارمور، وجون كراي، ومايكل وولتزر، وتشارلز تايلر. يلخّص الكاتب نقده للحداثة وتمظهرها في مفهوم الدولة الحديثة».

حلاق لا يعتبر أطروحته تأتي ضمن طرح بديل موازٍ لعلمانية مشروحة جديدة، على غرار الاقتراحات النظرية التي يطرحها بعض المفكرين العرب من علي عبد الرازق إلى جورج طرابيشي، بل يخوض مقاربة أخرى ضمن منهاجٍ مخاتل، ففي حوارٍ أجراه معه الباحث والمترجم المصري كريم محمد من جزأين قال: «إنني أختلف بعمق مع الأطروحة الأساسية لعلي عبد الرازق حول الحوكمة الإسلامية السياسية. ومن ثمّ، ما مِن شيء في كتاب الدولة المُستحيلة يقرّ أفكار عبد الرازق ويصدّق عليها إذا ما قرئ الكتاب بشكل صحيح. وإذ كانت الحكومة والسياسة (بالمعنى العام للمصطلحين) أدوات لتنظيم المجتمع في بنية معقّدة، فقد قدّمَ الإسلام إذن، منذ بدايته، نهجاً متيناً للحوكمة، لكنّه نهجٌ أكثر مرونة وتغيراً مما رأينا في العقدين أو العقود الثلاثة الأخيرة في الغرب (وفي جميع أنحاء العالم مؤخراً). كان عبد الرازق مخطئاً في حجاجه بأنّ الإسلام لم يقدّم نموذجاً للسياسة وللحوكمة». ولهذا توسع آخر يمكن اكتشاف مبرراته في ثنايا الكتاب.

يعتبر حلاق أن مشروعه على مدى العقدين الماضيين كان منصباً على التركيز على عدم فصل الإيتيكي عن أي مجال من مجالات الحياة، وينطلق في نقده للغرب مما عرّفه الفلاسفة ببنية الفكر الغربية للهيمنة، ولكن النقد لا يتجه صوب الانضواء الآيديولوجي مع النظرية الرجعية حول الغرب بل يحذّر: «بأن علينا الكف عن الوهم بأننا يمكننا الوقوف خارج الحداثة في نقدها، فليس هناك مساحة نقدية قائمة في العالم اليوم تقع خارج محيط الحداثة». إنها انتقادات للغرب بأدواته بغية الظفر بمقاربة «التجاوز» المفهوم الأساسي للحداثة البعدية النقدية المنصفة للحضارات الأخرى والكافّة عن تبخيسها، ولكن كل ذلك ينطلق من موجات هي أثر حجر الحداثة الأول الذي حرّك إمكانات النقد واحتمالاته.

في كتابه يقول حلاق: «القانون في الإسلام ظاهرة اجتماعية في الأساس وليست سياسية. فهو مرتبطٌ بالمجتمع وليس بالدولة، بصرف النظر عن تعريف الدولة».

إنها إشكالية كبرى، لن تحلها أطروحة، ولكن ما قدمه المؤلف إسهام مهم في ظل تصاعد الحديث حول المتخيل من «دول الإسلام» الحقة في مجاميع الأصوليات وأذرعها العديدة.

 

تجارب إصلاحية حول العلمنة السياسية

تجارب إصلاحية حول العلمنة السياسية

صحيفة الشرق الأوسط 15 فبراير  2018

فهد سليمان الشقيران

 

تعتبر إشكالية تصور مفهوم للدولة في التراث الإسلامي من أبرز ما انشغل به المفكرون في العصر الحديث؛ إلا أن ذلك القلق لم يصنع نموذجاً بديلاً للمسلمين يمكنهم من الوقوف ممانعين بوجه التطبيقات الناجحة لمفاهيم كبرى ساهمت في تمتين الدولة الحديثة على النحو الذي حدث بالتجارب العلمانية الأوروبية. وإلى اليوم والتيارات الراديكالية الإسلاموية تنطلق في أدبياتها من خلال مفهوم الدولة، سواء بحلم الدولة الإسلامية والتطبيقات التاريخية، أو بخيالات عودة الخلافة بأمميتها… ولا يمكن إغفال قلق المسلمين تجاه الدولة الحديثة تلك التي تكوّنت بعد الثورتين الإنجليزية ثم تلتها الفرنسية بقرنٍ من الزمان، حينها تخلّق مفهوم علمنة الدولة انطلاقاً من إشكالية دينية مسيحية بلا شك لكنه تحوّل إلى نمط حكم مهم جعل الإدارة السياسية أكثر إنسانية وأقدر على تطبيق القانون، وأجدر بضبط التفاوتات بين الناس، وهو مفهوم لم ينبت كالكمأة بل له جذوره وأطواره وتاريخه، كذلك الأمر في فصل السلطات الذي تعتمده الدولة الحديثة اليوم، فهو قديم تم استلهامه من تطبيقات القبائل الجرمانية.

لا بد في مجالٍ كهذا من العودة لمحمد أركون الذي يحلل في كتابه «تحرير الوعي الإسلامي» موضوع الثورة الفرنسية باعتبارها نقطة البدء للأزمنة الحداثية الكبرى عبر صراع البرجوازية والكنيسة، أو بين العلمانيين والأصوليين، متسلحاً بأطروحات إيميل بولا التي يشير إليها باهتمام مثل «الكنيسة ضد البرجوازية» و«التاريخ والعقيدة اللاهوتية» و«الأزمنة الحداثية داخل المسيحية الكاثوليكية». ويحذر أركون من جعل العلمانية مقابل الدين، إذ يقول: «ينبغي العلم بأن حركة الدنيوة أو ما ندعوه بالعلمانية، لا تعني أبداً التصفية الراديكالية للدين كما يتوهم بعضهم وأكثرهم، على العكس فإن الأديان لا تزدهر إلا في ظل العلمانية»؛ إذ لا معنى من تحويل المفهوم إلى نمطٍ تطبيقي خاص بالتجربة الأوروبية بعد الثورات، ولا بكونها حالة «مسيحية» كما يعبر الأستاذ محمد الجابري، بل تطورت. وشغل المفهوم كغيره من المفاهيم التي تظلّ مضيئة تصقلها التجارب ضمن حركة المفهوم في التاريخ، فالتجربة العلمانية في القرن الحادي والعشرين تختلف عنها قبل ثلاثة قرون، وعلمانية كل دولة هي بصمة نظامها الخاص كالفرق بين العلمانيات الثلاث الفرنسية والإنجليزية والألمانية، وهو فرق واضح وساطع. كذلك الأمر بين العلمانية التركية والهندية واليابانية؛ كل دولة تصنع نموذجها العلماني طبقاً لسيرورة المجتمع والدولة والحالة الثقافية والاقتصادية.

من هنا بات لزاماً على المفكرين المسلمين الدخول ضمن نطاق تحليل أوسع للحديث عن إشكالية تصور الدولة والموقف من العلمنة، وأشير إلى كتاب نفيس طبع أوائل الثمانينات لرضوان السيد بعنوان «الأمة والجماعة والسلطة… دراسات في الفكر السياسي العربي والإسلامي». في المبحث الثالث من الكتاب يقرأ مسألة الشرعية في الاجتماع السياسي والبشري ويشير إلى نقطة أساسية، إذ يقول: «إن الشرعية التأسيسية كانت قائمة في الأمة وليس في النظام السياسي، وعمادها ثلاثة أمور؛ وحدة الجماعة، ووحدة الدار، ووحدة السلطة». ثم يطرح بحثاً مهماً حول العقل والدولة في الإسلام، ويخص ابن سينا بمبحث خاص وينقل عنه في «الحكمة العروضية»: «إن السياسة الموجودة في بلادنا هي مركبة من سياسة التغلب مع سياسة القلة، مع الكرامة».

أما عن موقف قيادات المسلمين من مفتين ومفكرين إسلاميين من العلمنة ومفهوم الدولة فقد وجدت نماذجه في كتاب مرجعي مهم، وهو عبارة عن مقتطفات من أبحاث وخطابات وأطروحات حررها تشارلز كورزمان بعنوان «الإسلام الليبرالي» بأكثر من سبعمائة صفحة، وفي المقدمة المطولة أشار إلى إشكالية التسمية؛ ذلك إن العديد من الإسلاميين الذين اقتبس منهم ليسوا كذلك بل يقتربون إلى التشدد والتطرف، ولكنهم يحملون ما يتجاوز ما يعرف بالتقليد الإسلامي، فتحثهم ثوريتهم على تجاوز كلاسيكيات الفقه المذهبي، ومن هنا يحدث اللغط بنسبتهم إلى التنوير أو الليبرالية… وأياً يكن الأمر فإن الكتاب يستحق وقفة خاصة، ولكن يمكن الإشارة لذكاء المواد المختارة وتنوعها بين المفكرين مثل: علي عبد الرازق من مصر، طالقاني من إيران، محمد ناصر من إندونيسيا، صادق جواد سليمان من عُمان، ديماسانجكاي بونداتو من الفلبين، وظفر من باكستان» وغيرهم من الفاعلين الاجتماعيين الأهم من الوحدة الجامعة للمختارات بينهم. وعلاوة على إشكالية مفهوم الدولة واختلاف تصورها ثمة أحاديث حول الديمقراطية والمرأة وحقوق غير المسلمين وحرية الاعتقاد، إشكاليات لامسها معظمهم بحذر ولكن بعضهم أقدم بشكل لافت نحو المساءلة واجتراح الحل، وقيمة الكتاب في وضع الباحث أمام الإشكاليات التي تعيق تقبل الإسلاميين لمعنى العلمنة رغم مرور أكثر من نصف قرن على كتاب القاضي الشرعي في جامعة الأزهر علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم»، معتبراً الإسلام رسالة وليس حكماً، وديناً وليس دولة.

الفرصة الآن متاحة للفهم، وتجاوز النظرة التآمرية للغرب ومفاهيمه، وبخاصة ما يتعلق بمعاني العلمنة وتطبيقاتها، فالموضوع أسهل وأبسط مما خُيّل للبعض؛ إذ الدولة هي نمط من تصور نموذج رشيد صالح يعنى بشؤون المجتمع وإدارة تفاوتاته وضبط صراعاته، ويُروى عن يحيى بن عدي (364هـ) قوله: «الناس مطبوعون على الأخلاق الرديئة، منقادون للشهوات الدنيئة، ولذلك وقع الافتقار إلى الشرائع والسنن والسياسات المحمودة».

  

الجابري و”العقلانية” البديلة لـ”العلمانية”

الجابري و”العقلانية” البديلة لـ”العلمانية”

صحيفة الشرق الأوسط 22 فبراير  2018

فهد سليمان الشقيران

 

 

شكّل استصحاب إرث مفهوم العلمانية في القرون التالية للحروب الأهلية الأوروبية عائقاً أمام فهم البعض لجدوى الاستخدام، وآية ذلك أن إلصاق تاريخ المسيحية بالمفهوم استعمل على المستويين «الآيديولوجي الأصولي» و«الأكاديمي الفكري»، وكل ذلك يعبر عن قراءة مدرسية للمفهوم بعيداً عن التطوّر الذي شهده من خلال تعدد التطبيقات للمفهوم عبر نماذج دول كثيرة بالشرق والغرب. يستظهر البعض جملة: «ما لقيصر لقيصر، وما لله لله» وذلك من أجل وضع العلمنة بإزاء الدين بما يشبه «النقض»، وهذا يعزز من حجج التيارات الرجعية المناوئة للدولة المتجددة الطامحة لاستخدام أنجح المفاهيم وأقدرها على ضبط التفاوت الاجتماعي والصراعات الطائفية والاختلافات العرقية، ولولا العلمانية لكانت المجازر والدماء تملأ هذا العالم.

من بين من وقع في فخ مرادفة «العلمانية» بـ«الدين» مفكر مرموق مثل محمد عابد الجابري، وذلك في كتابه «الدين والدولة وتطبيق الشريعة»، وقد ناقش طرحه هذا جورج طرابيشي في كتابه: «هرطقات»، وقد شنّ طرابيشي هجوماً مبرراً على طرح الجابري الذي يمكن التذكير به؛ فهو يطرح «الديمقراطية» بديلاً عن «العلمانية»، ويشرح رأيه قائلاً: «في رأيي أن من الواجب استبعاد شعار (العلمانية) من قاموس الفكر القومي العربي، وتعويضه بشعاري (الديمقراطية) و(العقلانية)، فهما اللذان يعبران تعبيراً مطابقاً عن حاجات المجتمع العربي… إن مسألة (العلمانية) في العالم العربي مسألة مزيفة، بمعنى أنها تعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات»، ثم يضيف تعبيراً عجيباً عن «العقلانية السياسية»؛ إذ يقول: «الديمقراطية تعني حفظ الحقوق؛ حقوق الأفراد، وحقوق الجماعات، والعقلانية تعني الصدور في الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية، وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج».

ما ذكره الجابري عن وظيفة «العقلانية السياسية» هو ذاته وظيفة «العلمانية»، لكنه يهرب منها لسببين اثنين؛ الأول: إقناع المجتمعات بالعقلانية السياسية (التي تقوم بوظيفة العلمانية نفسها) لتحرير المعنى من الإرث الديني المعادي للقيم التي تنتجها العلمانية، والذهاب إلى مصطلح آخر يطمئن جموع المسلمين بأن العلمانية لا ضرورة لها، وإنما الأولوية للعقلانية، وذلك انطلاقاً من اعتقاد الجابري بأن العلمانية في المجتمعات العربية من نشرها هم «مسيحيو الشام» وبالتالي لا حاجة للمسلمين بمفهوم يروج له المثقفون المسيحيون. السبب الثاني: يلخّصه بقوله: «عبارة (فصل الدين عن الدولة) عبارة غير مستساغة إطلاقاً في مجتمع إسلامي، لأنه لا معنى في الإسلام لإقامة التعارض بين الدين والدولة». وهنا يشترك الجابري مع الاعتراض الراديكالي على مفهوم العلمنة، ويأخذ الفهم السطحي للعلمانية باعتباره القول النهائي. يخشى الجابري من «فصل الدين عن الدولة» لاعتباره مما يخدش المفهوم السياسي الإسلامي وأدوات «تطبيق الشريعة».

لكن الفهم الذي اعتمده الجابري من أجل نقض مفهوم العلمانية في غاية النقص؛ إذ تطوّرت استعمالات المفهوم، وتحرر تدريجياً من الإرث المسيحي الديني، ولم يعد مجرد «فصل» سطحي بين الدين والدولة، بل تشكّلت العلمانية بوجوه جديدة ومتعددة مع نمو وتطوّر النظريات الفلسفية السياسية المتجاوزة لكلاسيكيات العقد الاجتماعي (من روسو إلى كانط) وبالتحديد مع النقلة الكبرى التي ساهم بها جون راولز في أبحاثه عن العدالة المنصفة، التي تعد زلزالاً في مفهوم العقد الاجتماعي وتطويراً لتصوّرات وظيفة الدولة، وتعد من أفصح النظريات الواقعية التي تحاول إيجاد الميزان السياسي (البعد الأخلاقي ليس جوهرياً) لضبط حالات التفاوت وتحديد مفهوم الإنصاف بين الفرد والدولة والآخر، لكن الأستاذ الجابري أخذ العلمانية كما يفهمها الناس ثم نقض ما يفهمه الناس عنها.

إن الحشو الآيديولوجي للمفهوم اجتاح حتى بعض المفكرين، متناسين أن العلمانية مفهوم حي يكبر مثل الناس، ويتطوّر وتتعدد استخداماته وتتنوع تطبيقاته، وأثبتت تجارب كبرى أن علمنة الدولة لم تقضِ على الأسس الثقافية ولم تعادِ الدين؛ بل إن انتعاش الأديان لا يكون إلا من خلال العلمانية، وذلك لأمرين اثنين؛ أولهما: أن العلمانية تؤسس للتضابط بين مجموع الأديان، بحيث يتم إنصاف الديانات وأتباعها ضمن القوانين المتبعة، كما هي الحال في العلمانية الهندية بكل التعددية الدينية واللغوية والعرقية والكثافة السكانية؛ إذ أسهمت العلمانية في حماية المسلمين ولولاها لتم سحق المسلمين على يد المتطرفين الهندوس. الثاني: أن العلمنة ليست آيديولوجيا؛ بل هي فضاء عام، ولا تخلق واقعاً جديداً؛ بل تبوّب الاختلافات بين الجموع وتعمل على تبيئة المجال الديني للفرد بما يجعل التدين أكثر تهذيباً وأشد تأنقاً.

في آخر المطاف؛ إن الجلبة والهستيريا تجاه المفهوم إنما تعكس الجهل بتطوره وتحولاته وعثراته أيضاً، ولكن من دون العلمانية يستحيل تأسيس دولة مدنية، هذه معادلة بسيطة لكل قارئ في تاريخ الشعوب والنظريات السياسية وتجارب الدول والأمم:

 

وليس يصحّ في الأذهان شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

 

صخب المدينة وضجيج التقنية

 

 

 

صخب المدينة وضجيج التقنية

صحيفة الشرق الأوسط 8 مارس 2018

فهد سليمان الشقيران

 

 

 

بين فترة وأخرى أحرص على زيارة أستاذٍ قديم، تدخل مكتبته المتنوعة، الكثير من الكتب ترهلت ومزقتها الأيدي، فهو درس الجامعة متخصصاً في «المكتبات» ويعتبر عدم إعارة الكتاب هدراً واغتيالاً له. والعودة إلى هذا الفضاء البسيط يعيد الإنسان إلى البدايات والأحلام الساذجة وخطط التغيير المضحكة، لهدوء المدينة حيث ينتهي اليوم بالنسبة لذلك الجيل بعد صلاة العشاء، زيف قليل بلا صخب ولا ضجيج، ذلك ما تبقى من المدن الأصلية بتقاليدها الأثيرة.

نموذج نادر أن تُضرب عن كل هذا الطوفان من الكلام والمواعظ والنجومية «السوشلية» والتقافز على الضوء والصراع على الصورة، كل ذلك دمر وشوّه أصالة الإنسان بكينونته ووجوديته فلم يعد قادراً على تشييد شخصيته بل ترى الجموع تتماثل وتتشابه… جموع مطقّمة تعبر فعلياً عن تفاهة هذا العالم.

التقنية مثل معول يهشّم الذات، لقد اجتاحت كل شيء، دمرت الدهشة، واغتالت الشخصية، وسجنت العقل، وفضحت الجهل.

كان الفيلسوف الكبير هيدغر من المبادرين بالحديث عن التقنية في محاضرات شهيرة مدوية، خشي من التقنية على الوجود، واعتبرها «ميتافيزقيا العصر»، وراح يبحث عن أسرارها وأخطارها، وفي محاضرته «التقنية كسؤال» اعتبر «التساؤل هو تقوى الفكر»، ويرى أنه خلف كل عالم التقنية جوهر ليس بإمكان الإنسان لوحده التحكم فيه، بل سيكون الإنسان أسيراً لها ومنقاداً لصرعاتها وأدوائها، هنا يتحدث عن بدايات التقنية بدءاً من أربعينات القرن العشرين، تُختصر بمجرد تقنيات بصرية، وتطور للأسلحة الذرية، والنواة الأولية للأجهزة الحاسوبية. كانت التقنية في بدايتها كما اعتبرها هيدغر، إنه تنبؤ مبدئي لما ستحدثه هذه الأدوات من «آثار على الوجود» على النحو المعيش الآن، وهو طوفان مهول حتى ليشعر من هو خارجها بالغربة والوحشة والجهل، وكلنا وقعنا أسرى لهذا السجن التقني ولكن لماذا لا نهجو هذا السجّان بين الفترة والأخرى؟!.. هذا ما أفعله.

اخترت هيدغر بوصفه نموذجاً فصيحاً للنزق والإضراب عن حادثات التقنية وأطوارها، ولما تحمله شخصيته من غرق فعلي بالوجود وأسراره، ولهذا فإن حياته كلها كانت تعبيراً عن فلسفته، ويوظّف ما بيده ولما يمتد إليه بصره بغية صناعة مفاهيمه، هذا ما يسرده بسخاء تلميذه هانز جورج غادامير عن أستاذه في كتابيْه «طرق هيدغر» و«التلمذة الفلسفية» وهي أشبه بالتاريخ لحياة هيدغر وفلسفته ومفاهيمه ومعاركه.

حدث أن فوجئ غادامير من زي هيدغر؛ اختبر قبل محاضرة فلسفية سترة رياضته المفضلة «التزلج على الجليد» سأله غادامير: هل أنت ذاهب لإلقاء المحاضرة بهذا الزي؟ يقول: «فضحك هيدغر بسرور، فهو كان يعطي ذلك المساء محاضرة عن التزلج وهي محاضرة كانت بمثابة مدخل لفصل دراسي عن التزلج وكانت الطريقة التي استهل بها محاضرته هيدغرية بطريقة خالصة: (يستطيع المرء أن يتعلم التزلج فقط على المنحدرات ومن أجل المنحدرات) كانت هذه العبارة ضربة قاضية سددت لكمة قوية للتوقعات السائدة، ولكنها في الوقت ذاته قدمت مفتتحاً لتوقعاتٍ جديدة» لاحقاً ألف هيدغر كتابه: «دروب الغابة» واشتهر باستخدام توصيفاتٍ مثل: «المنحدر الوعر، الدروب المتعددة»؛ أوصاف استمدها من رياضة التزلج، ولكن ماذا فعل هيدغر لمواجهة كل هذا الضجيج؟!

نعود إلى النص المهم: «وحدها الغابة السوداء تلهمني» كتبه هيدغر، وترجمه حسونة المصباحي مرتيْن في كتابه «متاهات» (2005) وأعاد ترجمته في كتابه الأخير: «قريباً من هيدغر» (2018)، كتبه هيدغر في سبتمبر (أيلول) عام 1933 ببيته الريفي، ضمنه إدانة للمدينة وصخبها وانتصاراً للريف وعوالم الفلاحين، وفي كوخ على ارتفاع 1150 متراً أطلق قنبلته قائلاً: «في ليل الشتاء تنفجر عاصفة ثلجية حول البيت وتأخذ في تغطية ومواراة كل شيء، عندئذٍ يبدأ زمن الفلسفة. في المدن، يمكننا أن نحصل على الشهرة السريعة من خلال الصحف والمجلات، وهذا هو الطريق المؤكدة للسقوط بسرعة في هاوية النسيان. العمل الفلسفي، لا يتم بعيداً كما لو أنه فريد من نوعه إن مكانه يوجد وسط عمل الفلاحين عندما يجرّ المزارع الشاب المزلاج الثقيل، المحمّل بحطب أشجار الزان، على طول المنحدر الوعر والخطر باتجاه ضيعته فإن هذا العمل يكون من الصنف نفسه. أجلس مع الفلاحين على مقعدٍ أمام المدفأة أو حول طاولة، هناك في الركن، وفي أغلب الأحيان لا أتحدث معهم وهم لا يتحدثون أيضاً، فقط ندخن الغليون بصمت، ومن حين إلى حين تسقط منا كلمة لنقول مثلاً إن قطع الخشب في الغابة يقترب من نهايته، وإن السمور في الليلة الماضية داهم قنّ الدجاج وأتلف الكثير منه، وإنه من المحتمل أن تلد البقرة. في السنة الماضية».

موقف وجودي أصيل يتذكره هيدغر: «كنت قد قضيت أسابيع بأكملها لوحدي في البيت صعدتْ تلك العجوز البالغة من العمر 83 عاماً المنحدر الوعر من أجل مقابلتي، وقالت إنها تودّ التحقق من أنني ما زلت موجوداً ومن أن اللصوص لم يأتوا لسرقة بيتي في غفلة مني وقد أمضتْ ليلة موتها في نقاشٍ مع أفراد عائلتها وقبل نصف ساعة من رحيلها إلى العالم الآخر كلفتهم بإبلاغ تحياتها إلى (الأستاذ)، إن ذاكرة كهذه في رأيي أكثر قيمة من أي (روبرتاج) حتى ولو كان جيداً في أي صحيفة مشهورة في العالم حول فلسفتي المزعومة».

تلك تجارب لم تترك الاحتكاك بأصالة الوجود، نستعيدها لنخفف ولنتطهّر من دنس الصخب، وآثار الضجيج، وإلا فإن الانعتاق من هذه الجلبة مستحيلة، ولكن من حق الكائن أن يحتج بين فترة وأخرى ضد كل هذا الزيف، الزيف الفاقع والواضح. إنه هيدغر الناقد الأكبر لـ«الهُم they» و«الفضول» و«الثرثرة التافهة» و«الغوغائية» و«الابتذال»، عالم يحلف هيدغر أن لن ينقذه سوى الله.