أوهام الحوار النموذجي

أوهام الحوار النموذجي
فهد بن سليمان الشقيران
جريدة الحياة 21 مايو 2012
(يورغن هابرماس)

يأخذ الحوار دروبه المتوزّعة، ويسير بخطوطٍ غير مستقيمة. قوته في فوضاه، في شتاته. إنه ليس نموذجاً، إنه سير في فضاء السؤال، ورحلة بلا زاد للتنقيب في جيوبٍ مهجورة وسط قرص اللهب. يتعقّل الحوار حيناً، ويأخذ صيغة السرد المستمر في أحايين أخرى. الحوار ليس نموذجاً، وليس منهجاً، إنه بمعنًى ما شكل من أشكال «إرادة التعقل» كما يعبر «هيراقليطس»، وهو في بعض وجوهه «سلوك اتصالي» كما يكتب هابرماس، وفي وجهٍ آخر درب من «دروب التيه» كما يحب أن يصف هيدغر عموم الرحلة السؤالية والتي تسكن الكائن الساكن في «بيت اللغة» كما يعبر هيدغر أيضاً. الحوار فضاء عمومي رحب، به تطلق الآراء والأفكار، وتختلج المشاعر، وكلما توزّعت دروب الحوار وتشتت طرقه، وتشعبّت متاهاته كان ثرياً لافتاً، لأن أي تنميط له يحوّله إلى حصة مدرسية فجة.

وإذا كانت وظيفة الفكر «التجاوز» – كما يشير جيل دلوز – فإن الحوار أحد أدوات التجاوز. والحوار لا يقرّب الرؤيتين، بل ربما كانت إيجابيته في إبعادهما. تبتعد الرؤى لتلتقي ضمن ضوء وضوحها، كما في حوار الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس والكاردينال السابق والبابا الحالي جوزيف راتسينغر؛ تلتقي الرؤى لتزداد بُعداً، وليكون البعد أكثر نضجاً بين رؤيتين يستحيل التقاؤهما، وهذه صيغة خلاّقة من صيغ الحوار. درب الحوار ليست واحدة، وصيغه ليست نموذجية، ووظائفه ليست معلومة. يفاجئنا بشظاياه، بالبُعد أو القرب، يضعنا أمام شرر الأسئلة، أو يلسعنا بسخونة السجال، أو ننعم ببرد متعته. إنه ليس نموذجاً.

ثمة عبارة سمعتها أخيراً ومفادها: «لا تقاطعني»، وهي عبارة وعظية، يحسب لها انطلاقها من أخلاقٍ تتعلق بعدم الخطأ على المُحاوِر أثناء إجراء الحوار، غير أنها – بمضمونها الواضح الداعي إلى عدم مقاطعة المحاور – مجرد فكرة نموذجية عن الحوار العصي على التحديد. المقاطعة جزء من سلوك الحوار المعتاد، حين يكون الحوار بلا نموذجٍ ضيّق تكون المقاطعة ثريّة. صمّ صاحب الدعوة آذاننا منذ سنواتٍ مضت عن ضرورة نمذجة الحوار، وجعله ضمن شروطٍ طويلة عريضة أساسها «اللا مقاطعة»، ولم تكن دعوته هذه إلا فكرة ساذجة عن الحوار المدرسي البسيط الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.

تحويل الحوار إلى ترسانةٍ من الشروط يعني منع هواء حرية السؤال من النفاذ إلى فضاء الحوار. محاربة المقاطعة وجعلها عيباً من عيوب الحوار إنما يعبّر عن الخوف والرعب من الفضاء المطلق الذي يتحرك بداخله الناس في اتصالاتهم الحوارية. المقاطعة هي التي تحيي الأسئلة، وتدفع المتحاورين إلى الاستمتاع أكثر بالحوار وسيره. والمقاطعة ليست سيئة إلا لدى من أرادوا تقزيم الحوار الحر العصيّ على القوالب إلى منظومة مدرسية، يدار فيها الحوار بالعصا. الحوار الفكري ليس جلسة برلمانية أو خصومة في محكمةٍ تستخدم فيها القوة. إنه كينونة وجودية، والتقاء بين كياناتٍ بشرية، تنبض بأسئلتها، بكل مكنوناتها، تفتح رصاصات الشك باتجاه بالونات اليقين.


الحوار أنبل الممارسات التي تجري بين كائنٍ وآخر، وقيمته في عفويته وحيويته، أتذكر الحوارات الطويلة بين «زوربا» وصديقه البوذي في رواية «كازانتزاكس»، تبدأ نهاراً وتنتهي ليلاً، تستأنف وتقطع، يغشاهم النوم، ثم يستكملان الحوار الأبدي، حوار مستمر حول أسئلةٍ كبرى، بين كائنين نقيضين، أحدهما حسّي متعي، والآخر روحي بوذي، وتستمر الحوارات الماتعة التي تتغذى على المقاطعة، وتنجح بها.


علينا أن ننهي حالة تقليم أظافر الحوار، وتحويله إلى فصولٍ مدرسية ساذجة، ولنطلق حواراتنا في الهواء الطلق، ولنقاطع بعضنا البعض، فالحوارات يجب ألا يكون لها أي هدف، واقتناع أي من الطرفين ليس شرطاً، ولا هدفاً، يكفي الحوار أنه مشتغل بكل مفاعيله التحريضية على التجاوز… على التجاوز الأبدي.