طه حسين وقصة التحريض الديني*:

طه حسين وقصة التحريض الديني*:
عبد العزيز السويد: مداهمات قام بها رجال دين قبل ثلاثين سنة لمكتبة تنويرية في بريدة كانت تقوم بإعارة كتب طه حسين:
 فهد الشقيران من بريدة: باستمرار يعود اسم “طه حسين” مرةً أخرى إلى الظهور، وذلك من أجل إنصافه للدور التاريخي الذي لعبه من أجل دفع مسيرة التنوير العربي، صحيح أن كتاباته لم تكن فكرية عميقة ومنهجية صارمة على طريقة “المشاريع”، وإنما جاءت مبطّنة في سياق “الأدب” غير أن بعض الباحثين في دراساتهم الجديدة رأوا أن هذا “الدفن”  للأفكار بين سطور الأدب، هو سر تفوّق اسم “طه حسين”. ولعل إنصاف طه حسين جاء مبكّراً من “المغرب” العربي، حيث كتب عبد الله العروي: “إن ثلاثة أرباع النقد الأيديولوجي يظهر عندنا على شكل نقدٍ أدبي، فيتخذ الرواية والقصة والمسرحية كوسيلة لترويج الأفكار السياسية والاجتماعية، ومحمد عبده وسلامة موسى، وطه حسين روّجوا لأفكارهم التجديدية، بواسطة دراستهم للأدب العربي قديمه وحديثه”.
عبد السلام بنعبد العالي –المغربي هو الآخر- يوافق العروي على النص السابق، فهو رأى أن طريقة “طه حسين” في عرض الفكرة كان لها أبلغ الأثر في الترويج للمنهج الديكارتي بشكل أكبر مما روّجت له كتابات فلسفية رصينة. ويمكن أن نعرف قيمة طه حسين بنتائجها، حيث ساهم في إلهام بعض أهم المفكرين العرب ويذكرون هذا في كتاباتهم منهم “حسن حنفي، ومحمد أركون، وعبد الرحمن بدوي، ونصر حامد أبو زيد”.
طه حسين في السعودية:
يلفت المارّ من طريق “محمد بن عبد العزيز” المعروف بشارع “التحلية” في مدينة الرياض  شارع اسمه “شارع طه حسين”، وهو شارع فرعي لطريق رئيسي وحيوي، و شارع “التحلية هو أهم شارع للمقاهي والمطاعم والتنزّه في الرياض وهو موطن تجمّع شبابي، وفيه تحدث الاحتفالات وترتفع أصوات موسيقى السيارات، كأن طه حسين وجد نفسه بجوار شارع لا يعرف إلا الفرح. لكن -ومن جهةٍ أخرى- عُرف اسم “طه حسين” في السعودية عبر المكتبات “التنويرية” المتحررة التي نشطت في بعض المدن، وهي مكتبات كانت تروّج لمبادئ رئيسية حول الحرية والعدالة والتنوير وتعارض البرامج الدينية الأيديولوجية، كما عُرف عبر التصعيد الديني الذي وجّه من قبل “خطباء المنابر” في تلك الفترة الهامة من تاريخ الثقافة في السعودية، وكان التشنيع الديني ضد طه حسين-ربما غير مسبوق- ضد أي شخصية عربية فكرية حتى اليوم.
عبد العزيز السويد شاهد على مرحلة حجب النور:
في زيارتي لمدينة بريدة التقيت الكاتب السعودي عبد العزيز بن علي السويد وهو مثقف سعودي، وشاهد على مرحلة  “المكتبة الثقافية” التي كان لها دور تنويري ريادي قبل ثلاثة عقود، وتحدّث لنا عن تلك المرحلة قائلاً: (اللاعنون رحلوا وبقي طه حسين ذاكرة الأدب ونور في عقل الفكر العربي، نسي الناس أولئك الذين تبرموا من العميد طه حسين، ويتذكر الناس حتى الآن أنوار ذلك الرجل الأعمى الكفيف طه حسين).
عبد العزيز السويد يتذكّر أيام المعهد العلمي في مدينة بريدة -وهو معهد ديني شرعي يتبع جامعة الإمام محمد بن سعود- يقول: (في المعهد وفي المرحلة الثانوية، كنا نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ومن طه حسين عند ذكر اسمه أو سماع لقبه، كما عودنا شيوخنا لقد كنا إذا اضطررنا لكتابة بحث أو موضوع عن الأدب المعاصر آنذاك وجاء اسم طه حسين كعملاق ورائد للأدب والفكر، لابد أن نصحب الاسم بالتعوذ منه).
أما عن موقع طه حسين في “المكتبة الثقافية” فيقول عن تلك المرحلة: (عندما أنشأ  بعض الشباب مكتبة ثقافية في بريدة لتكون مصدراً للثقافة الحديثة، طالت ألسنة بعض المشايخ عبر اتهام  المكتبة أنها تضم كتباً في الإلحاد والزندقة، فطلب القائمون على المكتبة من هؤلاء الناقمين عليها الحضور للمكتبة والتفتيش عن كتب الإلحاد والزندقة، فلما لم يجدوا شيئاً وخابت ظنونهم، قالوا ولكن لديكم كتب لـ طه حسين وهذا يخرب  عقول الناشئة).
(وحينما أتيحت كتب “طه حسين” للاستعارة من تلك المكتبة اعتبر البعض استعارة تلك الكتب من دلائل ضعف الإيمان) وتلك المكتبة التنويرية لم تعد قائمةً الآن بالطبع، وكانت معارضة لتوجهات دينية  كانت تنضج في تلك الفترة خاصةً في المعهد العلمي “الديني” في بريدة الذي كان في تلك الفترة يضم من بين أساتذته محمد سرور زين العابدين.  
(شارع باسم طه حسين في مدينة الرياض)
شيخ سعودي “طه حسين شيطان أدبي”:
 يتعجّب عبد العزيز السويد من ذلك التحريض العلني ضد طه حسين، ويحكي لنا في ذكرياته عن تلك المرحلة ويقول: (مرة قلت لشيخي الكفيف يا شيخ طيب لو كتبت اسم ” طه”  لوحده هل يلزمني التعوذ منه قال شيخي لا “طه” اسم نبي، قلت له: و “حسين” اسم ابن نبي، قال: نعم ولكنك إذا جمعت “طه وحسين” صار اسم “شيطان أدبي”).
 يتذكّر السويد في حديثه مواقف أخرى مع شيوخه في المعهد الديني، يقول:(سألت شيخي مرة بعد أن مُلئت عقولنا الناشئة  بأسماء الفرق الضالة وزعماء هذه الفرق من مثل الجهمية والقدرية والمعتزلة، قلت له يا شيخ: طه حسين يصنّف  تحت أي فرقة من فرق الضلال والبدع؟ هل يكون مع معبد الجهني أو الجهم ابن صفوان أو غيلان الدمشقي؟ قال شيخي: بل يصنف مع فرعون وهامان).
وإذا كان “طه حسين” حظي بعد أن تمّ فرم اسمه على المنابر بشارعٍ فرعي متفرّع عن شارع الموسيقى والمرح الذي هو شارع محمد بن عبد العزيز في الرياض غير أن وضع هذا الشارع لا يعبّر عن حقيقة الموقف الديني من “طه حسين” إذ كان للمنابر دورها في التحذير من اسم “طه حسين” ويتذكّر عبد العزيز السويد أن: (خطب الجمعة صار بعضها  يخصص للتحذير من قراءة كتب عميد  الأدب العربي، حتى ولو كان خطيب الجمعة لم يقرأ حرفاً واحداً من مؤلفات طه حسين).
حصار ديني ضد كتب طه حسين:
لئن كانت أقسام المراقبة الإعلامية في “الجمارك” السعودية بدأت تتسامح بعض الشيء مع الكتب التي تُستخدم للاستعمال الشخصي غير أن عبد العزيز السويد يطرح موقف بعض المراقبين في “الجمارك” من كتب طه حسين، يقول: (في إحدى المرات أحضرتُ مجموعة كتب من إحدى الدول، وعرضْتها على مراقب المطبوعات في الجمارك لفسحها وكانت تضم بالإضافة إلى كتب “طه حسين” مجموعة كتب فلسفية لنيتشة وأسبينوزا وغيرهم، وفسح الموظف لجميع الكتب إلا كتاب:( الوعد الحق) و(الحب الضائع) لـ طه حسين، فقلت له أنها كتب فكرية أدبية وروائية عادية، فقال:لا، إذا كان  المؤلف طه حسين فأنا أريد أن أبرئ ذمتي، قلت له وهل هي  من ضمن قوائم الكتب الممنوعة رسمياً؟ قال: لا، ولكني لن اسمح  بأن تتسبب هذه الكتب لـ طه حسين بتضليل  أحد من الناس). لقد وصل التحريض الديني ضد طه حسين إلى حدّ اعتباره مروّج الضلال.
أثر طه حسين الفكري:
ساهم طه حسين في رسم آثار فكرية مهمة على امتداد الوطن العربي، وربما كان هذا التأثير يأتي بوضوح لدى مفكرين رئيسيين في السعودية، حيث تحوّل طه حسين إلى “ديكارت عربي” عبر نشره منهج الشك. الكاتب عبد العزيز السويد فيتحدّث بحميمية عن أستاذه الفكري والأدبي طه حسين حينما يقول:(هذا الرجل العقلاني الفذ طه حسين علمني أول درس في الحياة كيف أشك بعقلي، وإذا شك الإنسان بعقله سيبحث  ويتعرف على عقول أخرى، مجرد الشك بنتاج العقل يصنع أسئلة، وهذا هو دور عقل الإنسان السوي علمنا طه حسين كيف نفحص أفكارنا ومسلماتنا وعقولنا كيف نشك بما لدينا، حتى نصل بالبحث الدؤوب عن الحقيقة.
يصفه السويد لا بـ”عميد الأدب العربي” وإنما أيضاً بعميد “الشك” العربي.
السويد يختم حديثه عن مرحلة “التحريض الديني” ضد طه حسين بقطعة أدبية: (في كل يوم نتذكر طه حسين حاملاً كومة من الكتب فوق ظهره كومة من اللعنات هناك من قال له: أنت أعمى لكنك شيطان يا طه! لكنه لم يبال كثيراً، كان يتذكر (مرجليوث) و(الأيام) ويبتسم لنا تاركا لنظارته السوداء جدا أن تشرح الموقف، موقف العقل من الذات، موقف الشك من العقل وموقف العقل من البداهات الأولى، في كل  يوم نتذكر  طه حسين،  رحل بعيداً هناك في عصر ضوئي تماماً).
*أصل هذه المادة نشرت في صحيفة “إيلاف” الإليكترونية في 5 نوفمبر 2008.