عن السينما… شهُبٌ في قلب العتمة

عن السينما… شهُبٌ في قلب العتمة
جريدة الحياة 7 مايو 2012
فهد سليمان الشقيران
في السينما يطبق الصمت، ترتخي النظرات متأملةً على الشريط البصري الساحر. بؤبؤ العين يتنقّل بين مشهدٍ وآخر، محمّلاً المخيال ترسانةٍ من الصور الجديدة. توقظ بعض اللقطات مشاهد من آثارنا الذاكرية، إذ سرعان ما تتبدّى لنا في بعض المشاهد ركضات الطفولة، أو يد الجدّة، أو حميمية الأم، وربما راحت بنا الذاكرة نحو مفازاتٍ من الصحراء والتيه، أو الوجع والألم، أو الفاقة والحاجة، أو البؤس والضياع. سحر الشريط بترحاله بأعين المتابعين، بنقله لهم من مرحلةٍ إلى أخرى. ينطلق بنا الفيلم، من حاضرنا ليخيّل لنا المستقبل بكل بعده، وليرجعنا إلى الماضي بكل فضاءاته البعيدة، المليئة – ربما – بالخضرة والفرجة، أو الترحال والأمل.
في الشريط البصري الذي يسيّل النص مشهدياً ليعرضنا على ذواتنا. رسائل الموسيقى المجازية الحالمة الموغلة في قرص عروق أدمغتنا التوّاقة للجمال، يخرق الصوت في آذاننا حارثاً بأرضٍ متراكمةٍ من طبقاتٍ ذاكريةٍ هائلةٍ بحضورها الغائب، وبغيابها الحاضر. تحضر الموسيقى لتغييبنا عن مشهدٍ لحظية راحلةً بنا إلى سفرٍ آخر بادئين برحلتنا اللحظية من استدارةٍ تستمر بجزءٍ من الثانية نتجه من خلال المشهد لنخرج منه. هكذا تفعل موسيقى بعض الأفلام – خذ مثلاً – موسيقى فيلم The Last of the Mohicans المنتج سنة 1992 من بطولة دانيال داي لويس، إذ ترسل الموسيقى شيفراتها من خلال التحالف بين الصوت والصورة.
ثم تأتي رسائل الجسد التي تجسّنا، تتفحّص بتحدياتها الهائلة أعماقنا المكنونة. يغدو الجسد برسائله المجازية لغةً إضافيةً، تغيب هوامش الصورة ليحضر هو. يغدو الكل هامشاً، لكأن الفن في عمقه «فن التجسيد» أو سحر «ترتيب الفوضى»، بدءاً من النوتات المنثورة التي يحوّلها الموسيقار إلى سيمفونية، وليس انتهاءً بالجسد الذي حتى وإن بدا في حالة تبذّله غير أنه يغيّب المراكز، فترتّب رسالة حضور الجسد فوضى كل شيءٍ حاضر في المشهد معه.
وإذا عدنا إلى كتاب «جماليات الفيلم» الذي اشترك بتأليفه كل من «جاك أومون، وآلان برغالا، وميشال ماري، ومارك فيرني» نعثر على الرسائل المجازيّة، وقد أخذت صيغ الكمال في بعض الأفلام «السردية» المدججة بالشيفرات الباثّة لرسالةٍ وجودية، أو معنىً كوني، أو قصة جمالية، أو لغة عشقية. جاء في الكتاب المهم: «تمنح السينما بصفتها وسيلة تسجيل صورة مجازية، تُعرف فيه. كل شيء هو في حدّ ذاته خطاب».
يأخذ المشهد نصوصيّته البصرية من خلال رمزيته، وشهب الرسائل المجازية الفتّاكة، التي لا تفلت من عين المنصت لأي فيلمٍ جدير بأن يكون محط فحص وتحليل وإبداء وإعادة.
حين ترتخي العيون التي رفعتها الأعناق نحو الشاشة الكبيرة، في المكان المظلم تتجه الذات بتفاصيلها نحو رحلةٍ من المعنى. يتحوّل المعنى تبعاً للشرود الذهني بالفيلم، أو التتبع الفكري الحادّ له، أو الاستمتاع البحت بكل مشهد، أو نشدان الرسائل الجسدية أو الشيفرات الوجودية في عمق الفيلم ونصه اللاهب. تأخذ الأفلام أعماقها الفلسفية حين تحرض الذات على خلق شعور تجاه الآفاق التي تعيشها، إشعال سؤالٍ، أو تشغيل فكرة، أو التحفيز على تمرّد، أو الهذيان الذاتي بعد الفيلم، أو سلوك طرق التقليد لبعض رسائله الصغيرة الحادّة كأطراف الدبايس.
تتحوّل العلاقة بالفيلم، بكل الشريط البصري، وبالنصّ الذي سيّلته المكائن التقنية إلى علاقةٍ بين الذات والذات، وليست بين الذات والصورة. تكون كل المعاني المتعثّرة التي لا تدرك من كل الحاضرين، حالة متوقّدة توقظ نيران الأسئلة وتؤجج حرائق كبيرة على ورق القناعات القديمة. رأى «ميرلوبونتي» أن: «الفيلم لا يفكر»، الفيلم ليس كتاباً، إنه أعمق من ذلك، فيه نكتشف آثارنا الذاكرية وقد تجسّدت بمشهدٍ بصري!
تبلغ رسالة الفيلم قوتها – أحياناً – في خيالاتنا الذاهبة بعيداً حين نكون في «ذروة الشرود».