أرواحهم في «زنازين» أجسادهم

أرواحهم في «زنازين» أجسادهم

فهد سليمان الشقيران

جريدة الحياة ٢٣ يوليو ٢٠١٢

 

تفضح المواسم بعض المجتمعات، لتنزف أمراضها، وكل موسمٍ يكشف كارثةً من الكوارث. حتى المواسم الدينية تكشف جانباً من الفوضى الاجتماعية في التعامل مع المناسبات الدينية؛ من الأعياد إلى شهر رمضان إلى الحج. تأخذ المواسم الدينية شكلانيّتها بعيداً عن روحانيّتها. لكل مناسبةٍ دينية نمط تفاعلنا معها. ومن دون الغرق برموزٍ آسرةٍ تضخّها الطقوس لا يمكننا أن نجد المعنى الروحاني. أخذت الشعائر شكلها المادي الشكلي من دون أن تشملها رياح التصوّف بمعانيها الجليلة. يدرك العارفون من الغارقين بغوامض رمزية الطقوس أن ذروة وضوح لذة التعبد حين يصل الإنسان إلى الفناء في الشعيرة حد الغرق بالغموض، حينها يغيّر المعنى الديني من السلوك البشري، ينقله من ضيق المادة إلى سعة الروح، من سجن الجسد إلى أفق الكون، وشساعة الوجود.

الشعائر حين يتعامل معها بروحاينةٍ تحرر الإنسان من “ورشة الدنيا”، تكسر روحه أقفال المادة عارجةً بكل اتجاهٍ نحو فناءٍ غامض. تكتسب لذته من رهبة لحظته. والمجتمعات التي تتعامل مع الشعائر بالطريقة “الشكلية” أو “البراغماتية” عقليتها “سلعية” أو “حسابية” لا ترى في الشعيرة إلا العدد والشكل والقالب والطريقة، وتغفل عن الرموز التي تبثها الشعيرة والأسرار التي تمنحنا إياها سكناها، والتلذذ باللواذ بها والفناء فيها.

الغريب أن كثيرين ممن يمارسون الشعائر الدينية بكثرة لا تغيّر من سلوكهم أو أخلاقهم، بل ولا من معنى وجودهم أصلاً، يختم شعيرته كما بدأ. لم يحسّ بها، أو بطعمها، ولم يجد ذاته فيها. من هناك جاءت الكثير من النصوص لتربط بين التأثر بالشعيرة سلوكياً وأخلاقياً وبين جدواها.

حين يأخذ الإنسان شعائر دينه على أنها مجرد “أوامر تؤدى” لا يستطيع أن يسكن المعنى الروحي لها. لهذا حاز أهل التصوّف قصب السبق بالفناء بالطقوس الدينية والتلذذ بها والانقطاع عن الملهيات ساعة أدائها. انطلقوا في إدراك المعاني من عزلتهم ومن صخب أرواحهم ومن وجيب الحيرة في نفوسهم، حيرة تقود إلى الطمأنينة وتذهب بهم آمنين إلى لحظاتٍ قصوى من لحظات الوجود، تأتي اللحظة كثيفة بمعانيها التي تغسل الروح وتهزم إلحاح الجسد وتقمع تمرده لتجعله ضمن كثافة اللحظة الوجودية التي تمنحها لهم قراءة أعمق لكل شعيرةٍ يؤدونها، قراءةٌ لم تكتب، لأنها ليست صيغة وليست شكلاً، وإنما تجربة هائلة تمر على كل إنسانٍ بصيغة مختلفة. والتجارب مع الشعائر لدى أهل التصوّف لا تتكرر، لكل تجربةٍ بصمتها ومعانتها، وطمأنينتها التي تهزم الحيرة. المسافة بين الحيرة والطمأنينة تتلاشى لحظة أداء الشعيرة، تفنى الروح بغوامض وكوامن، الكثير منها لا يفسّر، وهذه لحظة التطهّر الأعلى للروح حين تمشّط الجسد منظفةً له.

يأتي “رمضان” ليكشف عن ماديةٍ بحتةٍ مغرقةٌ في جمودها يُتعامل بها مع موسمٍ يمكنه أن يكون فرصةً للدخول إلى ذواتنا، محاسبين وكاشفين، متأملين ومفكرين. دخلت الشراهة الاستهلاكية والشكلانية السلوكية لتفقد أحياناً معنى الشهر لدى الكثيرين. تنعكس الفوضى المادية التي تعاش طوال السنة على أي موسمٍ ديني يمكنه أن يكون غاراً للتأمل والمراجعة والفناء بالشعيرة. تغدو الماديات والجوع الاستهلاكي للحاجات معطّلةً لروحانية يحتاجها المجتمع المنهك بصخب اليوميات. لهذا فإن من لم يرسم له مساراً روحياً في أي مناسبةٍ دينية لن تضيف له الشعيرة غير أداء الأمر.

يمكننا عبر روحانيةٍ عالية أن نكون أكثر إنسانيةً وطهرانية، بل وأكثر عقلانيةً في ممارساتنا الدنيوية، وأكثر إبداعاً في مواهبنا العمليّة. هذا إذا استطعنا فعلاً تجاوز التفاهات التي يقتات عليها البعض الذين غرقوا بالمادة عن الروح وأصبحوا مجرد أكياسٍ بشرية تزحف على قشرةٍ الأرض.