التهافت على الزيف… والصراع على «الادعاء»

التهافت على الزيف… والصراع على «الادعاء»

فهد سليمان الشقيران

جريدة الحياة ٣٠ يوليو ٢٠١٢

تضخّ صفائح الشاشات البيضاء عشرات المسلسلات. بين الرصين والتافه مسافةٌ من الجهد والإنتاج والعمل. والرصين يُذكر لندرته، فيما تذهب الأعمال الرخصية الساذجة الأخرى إلى هاوية النسيان. نجحت بعض المسلسلات التاريخية وبقيت في الذاكرة. فيما معظم الأعمال التي تدخل ضمن “الدراما الخليجية” أصبحت مثيرةً للسخرية والاشمئزاز. تحت ذرائع معالجة المجتمعات تأتي الأعمال التي تنسب جوراً إلى الفن، تستعرض فيها الأزياء والأصباغ، وعمليات التجميل، فترسل التشوّه بكل صوره. ليس للفن رسالة مباشرة، كل الرسائل التي تبثّ هي رسائل اعتباطية، الفنّ الحقيقي تحركه حوافز الإبداع وجنون التمرد، أما الفنان الذي يدعي أنه يريد إصلاح المجتمع من خلال أعماله فإنه يتقمّص شخصية الداعية، فيصبح نصف داعية، ونصف فنان.

تلفت النظر هذه الحالة التي تتناسل وتتكاثر، حالة الإنتاج الفني للمسلسلات الخليجية، أطنان من الزيف والمركزية الواهمة. إن الفنون التي يبدع المجتمع في نحتها، تعبر عن الرقيّ وتطور الرؤية، ولا يمكن لمجتمعٍ يفتقر إلى الرؤية الفنية المختلفة أن ينجز واقعاً مختلفاً، فالفنّ من خلال فضائه المفتوح يمكنه أن يصنع واقعاً مفتوحاً حتى من دون أن يضم رسائل فكرية أو إصلاحية. وضع الفيلسوف الألماني هيغل “الفن” ضمن المراتب التي يُتوصل بها إلى إغناء الذات، كما يعتبر “غاية الفن” العمل على إيجاد “تكوينات أخرى” غير أن تلك التكوينات لا تنحت إلا من خلال تطوير الرؤية الذاتية للفن، فالتطور بكل مجالاته مرتبط بمستوى “الرؤية الفنية” حين كانت الإغريق في ذروة زهوّها الفني، كانت في ذروة مجدها الفلسفي، وكذلك الأمر في أوروبا حين كان الفن التشكيلي والموسيقي والسينمائي في ذروة عطائه كان التطور شاملاً لكل مجالات الحياة. إن هذا الثقل التاريخي الذي نعاني منه في العجز عن مغادرة التفاهة الفنية مرده العجز عن تطوير مستوى الرؤية الفنية.

تفتخر المجتمعات بالأعمال الفنية الخالدة التي أنجزتها، في الفنون كافة، وفي الفنون التشكيلية والسينمائية تحديداً، فيما يمعن المنتج الخليجي في تكرير الانحطاط الذي يعاني منه الفنّ الخليجي بعمومه، بحيث تستهلك المساحات الإعلامية والفضائية، وتعاد نفس القصص، وتحنّط نفس الشخصيات لعرض حلقاتٍ بصرية لا يمكن أن تمتّ إلى الفن بصلة، مسافة كبيرة بين الممثل وبين النص، حتى إن الشخصية التي يؤديها لا علاقة له بها، وهو يقرأ من ورقةٍ حفظها ونسي جلّها، إننا أمام ظاهرة “خطابية” لا فنية.

بعض الأعمال أخذت قيمتها من سياقها التاريخي، وإذا كان العمل استمر لسنواتٍ طويلة وسبق في طرحه آنذاك الأعمال التي كانت تضارعه زمنياً فإن هذا لا يعني أن العمل يجب أن يبقى بناءً على سبقه التاريخي. الفن صيغة تجدد، وبالنقد يتم محض العمل الفني، وقراءة العمل الفني أساساً قراءة نقدية. العمل الفني لا يحكم عليه بالصواب والخطأ لأنه ليس فكرة وإنما صيغة؛ الفن لوحة، أو صورة، أو خارطة بصرية سينمائية. كل قراءة لعمل فني مهما كانت إيجابيتها هي قراءة نقدية. الأعمال الفنية التي تطرح من الضروري أن تكون مفتوحة لفضاء النقد، العمل الفني له نمط الألوان. قراءة العمل الفني قراءة ذوقية تعتمد على الخبرات الذاتية والتجارب “المتعيّة” الحيوية. الفنان حين يخاف من نقد أعماله الفنية أو يضجّ بالصخب حينما ينتقد مسلسله الذي يقدمه أو لوحته أو موسيقاه إنما يغلق ويزهق حاسّته الفنية، ويجعل من تجربته التي قدمها تجربةً مكتملة، وتلك ذروة الانتحار والإفلاس.

بالتأكيد ستظل هذه الوجوه الكالحة والزائفة وهذه الأعمال التافهة تحاصر الناس في كل رمضان، وسط تهافت فج على ادعاء حل المشاكل فيما هاهم أولاء يغرقون في مشاكلهم حتى رؤوسهم.