أميركا… ونيران الخندق الأصولي

أميركا… ونيران الخندق الأصولي

فهد سليمان الشقيران

جريدة الحياة ١ أكتوبر ٢٠١٢

 

 

في نيسان (أبريل) من 2007 تحدث هنري كسينجر لشبكة «سي بي اس» عن أن الرئيس الأميركي السابق جورج بوش انكبّ على قراءة كتاب «تاريخ الحرب في الجزائر 1954-1962»؛ والكتاب من تأليف: أليستير هورن، نشر في 1977… كسينجر قال إنه هو من نصح بوش بالكتاب، كان يعوّل على أن قراءة بوش لهذا الكتاب يمكنها أن «تساعده» في فهم العرب، وتحديداً إبان الغرق الأميركي بالشباك الحربية العراقية. اختار تاريخ البلد الأكثر دلالةً وغنىً في أحداثه المؤثّرة في كل من عاصرها.

 المفكران الفرنسيان من أصلٍ جزائري جاك دريدا، ومحمد أركون، ذكرا أن ذاكرة الاستعمار ونيران التطرف والإرهاب في الجزائر كان لهما أكبر الأثر في البحث عن المكوّن الثقافي العربي بغية النجاة بالمجتمع من آلامه. نصيحة رئيسٍ أميركي بقراءة تاريخ الجزائر كان منطلقاً من فهم كسينجر الخاص لـ«الشرق» ورؤيته له لم تكن فردية فحسب وإنما أسهمت في خلق تصورات امتدت، فهو أحيا الرؤى الثنائية الضدية واستخدمها في رسم تصوراته الثقافية التي سيّر سياسته على أساسها.

رؤيته – كسينجر – عن الشرق اتضحت في مقالته «البنية الداخلية والسياسة الخارجية»، وهي المقالة التي خصّها «ادوارد سعيد» بفحص دقيق في كتابه: «الاستشراق»، فهو وتحت فصل: «التعرف على الشرق»، وبعد أن فحص محاضرة آرثر جيمس بلفور التي ألقاها في 1910، ومقالة كرومر المنشورة في مجلة «أدنبرة ريفيو» في 1908، وتطرق الأخير للتقسيم «الصلب» الذي يختزن تمييزاً للثقافة الإنسانية، بعد كل ما مضى دخل في مقالة كسينجر السالفة متحدثاً عنها بإسهاب. جاء إدوارد سعيد بكسينجر في ذلك السياق، كشريك لبلفور في نظرياته، على رغم أن الفاصل الزمني بينهما قارب 60 عاماً – أثناء كتابة سعيد للبحث – إلا أن كسينجر يؤيد بلفور في أهمية «أن يقوم الرجال الذين يتبوؤون مراكز عالية في السلطة بين حين وآخر بدراسةٍ ثقافيةٍ للعالم الذي يريدون التعامل معه»، وقد فعل كسينجر ذلك تقريباً في مقالته تلك، فهو ذكر أن: «الولايات المتحدة يمكنها أن تتعامل مع العالم الصناعي المتطور بصورة أقل إشكالية من تعاملها مع العالم النامي».

                                                                                      

 

ويستمر في إبداء تشخصيه لمشكلة أميركا المستقبلية مع العالم النامي، فهو يسهّل على نفسه المهمة فيقسّم العالم إلى قسمين اثنين «مكتملة التطور – ناقصة التطور»، وهو يجزّء العالم وفق «نظرة ثقافية»، بمعنى أنه مثلاً يرى في – العالم النامي – عالماً لم يعش بعد الثورة «النيوتنية»، فيقول: «لقد احتفظت الثقافات التي لم تتعرض للصدمة الباكرة للتفكير النيوتني بما هو أساساً نظرة قبل نيوتنية، وهي أن العالم الحقيقي هو بصورة كلية تقريباً داخلي بالنسبة للمراقب، إن الواقع التجريبي له دلالة مختلفة جداً عند عدد كبير من الدول الجديدة، عن دلالته عن الغرب، لأن تلك الدول بمعنى من المعاني لم تمرّ أبداً عبر عملية اكتشاف هذا العالم». 

وإذا كان «كرومر» واستناداً على «الفرد لايل» قال إن العربي «يعجز أن يكون دقيقاً»، ليكتب سعيد بآخر الأمر «إن الخطوط – في النهاية – ترسم بالطريقةنفسها التي رسمها بها بلفور وكرومر»، وإذا كان كسينجر قسّم السياسات الخارجية إلى «النبوئي- والسياسي» فهو وفق التقسيم الثاني المتعلق بعلاقة العالم الثالث بالثورة النيوتنية يريد أن يقول كسينجر «إن الأسلوب النبوئي» هو الأسلوب السابق على نيوتن، الذي يربط كسينجر بينه وبين البلدان النامية «فاقدة الدقة»، وتلك الرؤية التي سطرها كسينجر كأساس لنظرياته اللاحقة لم تأتِ من الهواء، وإنما من مصادر عميقة لها جذورها. تتكرر الأخطاء الأميركية في السلوك الذي تتبعه تجاه بعض القضايا العربية والإسلامية، تتضح تلك الكوارث في التعامل الأميركي مع الجماعات الأصولية. أوباما حتى آخر كلمة له يتحدث عن دعمٍ أميركي للثورات العربية، ثم ما إن سقطت الأنظمة حتى بزغ فجر تنظيم القاعدة من جديد، وكان أول الضحايا السفير الأميركي. الحديث الأميركي عن الديموقراطية أو الحريات حديث مشوّق وجميل، غير أن ما تفتقده رؤيتهم «الإدراك الثقافي» للمجتمعات العربية بكل عروقها.

ثمة كتب كثيرة يمكن أن يقترحها كسينجر وغيره على أوباما، كما فعل مع بوش من قبل، غير أن ما تحتاجه الاستراتيجية الأميركية الحالية تجاه الثورات العربية «الوعي بالكارثة الأصولية».