إسلام سراييفو

إسلام” سراييفو
31 مارس 2012
فهد سليمان الشقيران

(مسجد علي باشا-سراييفو-البوسنة)


من أكثر الأسئلة التي تزداد راهنيتها مع مرور الوقت هو سؤال “الإرهاب”، ذلك أن العالم اليوم يعيش مشكلات بعض المسلمين والتي تأسست بفعل التفاسير الدينية التي شكّلت الثقافة، والدين، كما يعبّر مالوري ناي، هو «وجه أساسي من أوجه الثقافة»، وآية ذلك أننا نجد «تأويلاتٍ إسلامية» متعددة وفقاً لتفاسير ينفي أحياناً بعضها بعضاً. كان دوركهايم يفترض أن الأستراليين الأصليين عبارة عن حفريات يجب فحصها تحت الميكروسكوب من أجل شرح تأثر قوانين الطبيعة في السلوك الشخصي. فرؤى الإنسان للأشياء والوجود والدين تنعكس على سلوكه، وكلما كان التفسير متمرّناً على حركة الواقع المعقّدة، استطاع الإنسان ممارسة سلوكه بفردانية لا تمسّ دوائر عيش الآخرين.

لفتت نظري مقالة كتبها إيف شارل زرقا في مجلة «فلسفات معاصرة 2009» عنوانها «الإسلام وعصر الأنوار» تحدث فيها عن الإسلام في ساراييفو. يرسم الكاتب صورةً حيوية للإسلام البوسني، إذ رسمت سراييفو شكلاً متفرداً من أشكال التفسير للأحكام الدينية، يلحّ الكاتب على أن سراييفو: «لا يمكننا تكوين فكرة عنها قبل أن نراها، هذه المدينة المسلمة بغالبيتها مع وجود أقليتين غير متساويتين عددياً واحدة كرواتية والأخرى صربية لكنها لا تشبه في شيء بقية المدن الإسلامية خصوصاً مدن محيطها على البحر المتوسط». هذا فرق أسست له بيئة تتضاغط نحو التكامل البشري الوجودي بعيداً من الصراع على الحق الذي يدمّر بنية الثقافة ويهدد أمن الدولة ويعيق حركة الحياة.

في سراييفو هذه المدينة التي شهدت بعد الحرب حال استقطاب دعوي من منظّمات عدة بعضها متشدد يحاول فرض تفسير واحد تحت ذرائع الدعوة والتصحيح، لتنفر غريزياً بفعل الجوار الأوروبي الضاغط من كثير من التفسيرات الجاثمة على مدنٍ لم تتجرأ بعد على تجاوز مرحلة الغيبوبة، الصورة الأساسية التي لفت النظر إليها في سراييفو هي: «الحرية التي تسيطر عليها، ففي وسط المدينة توجد المؤسسات التجارية، والمقاهي، حيث ينشط الشبّان والشابات، يثرثرون ويتجولون … ولا نلاحظ شيئاً من التشدد الإسلامي الذي يحتوي الأجساد والتعاملات والتصرفات وطرائق ارتداء الملابس فيتحوّل هذا التشدد إلى شرطة عادات».


خذ الخريطة، تصفّح عواصم البلدان الإسلامية، حاول أن تعثر على مدينة تسير إلى الأمام، في ظلّ نمو وتناسل لأفكار لا تثق بالحياة نتفاءل بهذه المدينة، ولا أدري هل أفرط زرقا في تفاؤله حينما بدأ يحلم: «ولنستسلم للحلم، إنها مدينة ذات تقليد إسلامي في وسط أوروبا التي لم تعد كذلك، ألا يجب أن نرى فيها إسلام أوروبا الذي بحثنا عنه سدى في كل مكان، إن ما صنع أوروبا الحديثة هو إرث من عصر الأنوار، هل نحن أمام إسلام عصر الأنوار؟».

(الراحل محمد أركون)

إن الصورة التي شاهدها الكاتب في زيارته إلى سراييفو إيجابية إذا ما قورنت بإسلام «طالبان»، لكنها ليست النموذجية، هناك الفوران الأوروبي يحرس قيم الاختلاف والتبادل الشعبي للثقافات. فكل بيئة تصوغ سلوكها وطريقة تغذيتها ولبسها، فالثقافة ليست طرفاً ثانوياً في مسألة التأويل الديني بل هي القاعدة التي تبنى عليها التصورات. والإسلام في أوروبا يفتقر إلى أصوات مفكّرة بشكل جدي يستمع إليها المسلمون وتفتح آفاقهم على قيم الفرد، وحرية التفكير والتأويل. ولعل محمد أركون من أكثر المتحمسين لهذا الرأي في كتابه الأخير «الأنسنة والإسلام».

طال الحديث خلال العقد المنصرم عن الإسلام والمسلمين، الإشكاليات التي تؤرّق أوروبا والولايات المتحدة صار المسلمون شركاء في تحريكها والتأثير عليها. ساعد على هذا الفوران حال الوفرة الإعلامية الفضائية التي أسست لمرحلة «الحرب السبرانية»، ثم دشّنت مواقع التواصل مثل «فايسبوك» و «تويتر»، أو موقع «يوتيوب» التي ساهمت في تعزيز الضغط الغامض أو التحالفات الإلكترونية ضد أمرٍ ما أو معه.


الكارثة أن بعض المسلمين هم أكثر الناس غفلةً عن الإشكالات التي يعيشونها، لهذا نضطر إلى قراءة مشاكلنا من خلال دراسات الباحثين الغربيين. وإذا التفتنا إلى بعض من يُسمّون بـ «النخب» نجد أنهم «شغّيلة» على التوافه، يتصارعون سياسياً أو فكرياً أو ثقافياً على قشور، بدليل أننا لم نفلح بعد في كتابة دراسة ثقافية علمية عن مشكلة الإرهاب، أو الأصولية، أو التطرف. لقد وقع كثيرون في فخ «الثرثرة الأيديولوجية» عبر الانضواء. هذه هي مشكلة استمرار أزمة فهم وتأويل الإسلام اللذين حوّلا المسلمين في أوروبا وأميركا أدوات احتجاج أو رفض أو قوى تتظاهر بمناسبة أو من دون مناسبة.