ديموقراطية الحياة … وديموقراطية الموت

ديموقراطية الحياة … وديموقراطية الموت

فهد سليمان الشقيران 

جريدة الحياة ١٥ أكتوبر ٢٠١٢

(ريتشارد رورتي)

مع كل انتخاباتٍ أميركية أو أوروبية تقدّم تلك الأمم للعالم دروساً عمليّة للقيم الديموقراطية. ثمة مفاهيم شائعة ساذجة عن الديموقراطية، إذ ينظر إليها بوصفها حلّالة المشكلات، والمُجهزة على كل صيغ التخلف والفساد، هذه الرؤية هي التي توهم الشعوب بالإمكانات التي يمكن أن تأتي مع مكينة الديموقراطية، التي تدور مروحتها لتحل كل شيء، من هنا قال «هوبزباوم» المؤرخ الذي رحل عن دنيانا في مطلع الشهر الجاري: «إن أخطر ما في نشر الديموقراطية هو تسريب الوهم إلى الشعوب التي لا تتمتع بالديموقراطية».  

 شعوب عديدة وبعد أن أسقطت أنظمتها ودخلت في «الديموقراطية الأداتية» أصبحت تعيش في سديمٍ من الوهم المطبق، هناك تطبيقات خطرة للديموقراطية بمعناها الشائع، هذه هي الجموع التي تهتف من دون ملل وتخرج إلى الشوارع من دون تعب لو كانت ديموقراطية فعلاً لعرفت معنى فتح الدكان والمؤسسة والشركة، بدلاً من حال «سُكنى الشوارع والميادين». معاني الديموقراطية وتشكيلاتها كثيرة، وهي بالفعل تتكوّن تلقائياً تبعاً للاجتراح الاجتماعي لها، غير أن توفر شروطها العمليّة والبيئية أساس نجاحها… بعد أكثر من عام على سقوط أنظمةٍ عربيةٍ تلت الاحتجاجات الشعبية لم نرَ من الديموقراطية إلا «كوميديا الأوامر» التي لم تمسّ حتى الآن رغيف الإنسان البسيط.  

الفيلسوف الإنكليزي كارل بوبر، ضمن نظرياته الحجاجية في دراسة المجتمع المفتوح والنظريات الشمولية، يحذّر من «الاستخدام الشائع لمفهوم الديموقراطية». 

حال التصويت ليست هي بداية الفعل الديموقراطي، بل يفترض أن تكون ضمن مراحل متقدمةٍ بعد التهيئة لها عبر المؤسسات وترسانة الإمكانات الاجتماعية، يضيف بوبر: «الديموقراطية هي الإطار المؤسساتي الوحيد الذي يخول التطور وكذا التجدد لنسقٍ اجتماعي من دون أن تُبرر ذلك باستمرار مراعاة لأي افتراض أيديولجي كيفما كان، اللهم النظر إلى حرية الفكر والنقد كافتراض قابل للنقاش والتفاوض»… الفعل الحواري والسجالات والمناظرات قبيل الانتخابات محاولة ملحّة للمرشح من أجل أن يقنع الفرد مدنياً.

المرشّح في البيئة الديموقراطية المدنية لا يهدد معارضيه بمصيرهم الأخروي، ولا يقلل من دينهم، ولا يزعم أنه قادم بناءً على رؤيا رآها بالمنام، بل يأتي للترشح وبيده ملف ضمنه برنامجه المدني، خطبه تكون موجهةً للفرد ضمن جماعة، لا للجموع الذين سحقت فردانيتهم وأجهضت، الفرق بين الديموقراطية الأداتية والديموقراطية المدنية أن الثانية نضجت ضمن مجتمعٍ له تاريخه مع معالجاته الثقافية والفكرية، بينما الديموقراطية الأداتية يمكن أن تطبّقها طالبان بكل أريحية وبساطة من دون أن يغيّر ذلك من واقع المجتمع شيئاً.  

 

 

 الانبهار الذي يعتري العربي، وهو يتابع إحدى المناظرات بين المرشّحين الأميركيين، انبهار مشروع، ذلك أنه يوضّح المسافة بين الديموقراطيات التي تصحّح نفسها باستمرار وبين الديموقراطيات الشكليّة التي لا تجرؤ على مجاراة الديموقراطية الأميركية، بدليل أن ديموقراطية تونس أو مصر لا تستطيع حتى الآن ترشيح رجلٍ أسود البشرة!

يكتب الفيلسوف الأميركي رورتي: «لقد استغرقت نحو 100 عام، وحرباً أهلية ضخمة ومكلفة، قبل أن يُعطى الأميركيون السود الحق في عدم استعبادهم، واستغرق الأمر 100 عام أخرى، قبل أن يبدأ التعامل مع الأميركيين السود كمواطنين كاملي العضوية، يتمتعون بالفرص نفسها التي يتمتع بها البيض… إن جيفرسون وكانط سيذهلان من التغييرات التي حدثت في الديموقراطيات الغربية في الـ200 عام الماضية، لأنهما لم يفكرا في التعامل المتساوي بين السود والبيض، أو في حق الاقتراع للنساء كشيء يمكن استنباطه من المبادئ الفلسفية التي أعلنا عنها».

 متطلبات كبيرة لم تستطع الديموقراطية الأداتية، أو «ديموقراطية الصناديق» أن تسهّلها، لم يستخدموا الديموقراطية إلا ضمن ثقافة تكرر نفسها، حتى مشوار الـ200 عام لم يبدأ، إنها الديموقراطية التي ينتخب عبرها الأحياء من يفسدون عليهم حياتهم ودنياهم ويجرّونهم إلى سجون المنع ويحرمونهم من طعم الحرية، إنها – ربما – ديموقراطية الموت.