الفلسفة ليست من طفرات التاريخ

الفلسفة ليست من طفرات التاريخ
14 مارس 2012
فهد الشقيران
من الطبيعي أن كل منجز حقيقي حضاري أو علمي أو تقني يقوم على تأسيس، وجذور كل تأسيس تشرح شكل الفلسفة، ووتوضح تجليها الحقيقي، لذا لم تكن الفلسفة يوماً ترفاً أو مجرد عمل فكري هامشي، ففي جوف كل بحر نعمةٍ قدمتها المنجزات الحديثة للإنسان مكونات فلسفية متغلغلة في الأعماق كالآلئ الثمينة، وكل التحولات الرئيسية التي مر بها التاريخ البشري بني على فلسفات، حتى على مستوى الخطابة والفن والمسرح والفنون بأشكالها وأصنافها، ولم يكن للفلسفة من أعداء سوى الذين لا يفهمونها أو الذين يخافون منها بدافع بقايا دروشة مبخّرة بروائح الشعوذة، أولئك الذين يخافون من مطارق الأسئلة، ومن الهويّ في فوهات الغموض، ولهذا تزعق باستمرار الأصوات النشاز، التي تحاول تغطية أزماتها النفسية والذاتية ومشكلاتها العلمية وقضاياها العملية، عبر تشويه مصير قارئ الفلسفة، والربط بين الاطلاع الفلسفي وبين الإلحاد والزندقة وهو هجوم لا قيمة له على الإطلاق، خاصةً حينما يأتي ذلك الزعق -ليس من رموز لها قيمتها العلمية والدينية كما هو الحال مع عداء الغزالي أو ابن تيمية- وإنما من “لافظي حروف” تجسّدت فيهم وعبرهم علامات التفاهة.
وفي معرض إيضاح جدوى الفلسفة نكتفي بذكر حجاج أرسطو على من لا يرى قيمة حقيقية للفلسفة حينما كتب:”إما أن التفلسف ضروري فلا بد من التفلسف، وإما أنه غير ضروري فلا بد أيضاً من التفلسف لإثبات عدم ضرورته“.
كما أن الفلسفة ليست مجرد قرار اعتباطي، ولا مجرد ثرثرة ولا تنظير مجاني، وإنما هو نتاج قلق عميق يحدث بين الإنسان ومحيطه يبدأ من الطفولة فتنمو الأسئلة مع نمو العقل وربما تموت كما هو حال عقول أغلبية المجتمعات التي تتغذى على موائد القطعيات الرخيصة التي لا تحتاج إلى طول عناء، إذ الفلسفة حسب مارتن هيدغر:”ليست من قرار المتفلسفة ولا من طفرات التاريخ وإنما هي من فعل الوجود“.
إن الحس الفلسفي يتجلى عبر مظاهر عديدة، تبدو آثاره في طفرات الفرح، ومطارق الألم، ويتجلى ذلك الحس كثيراً في معاني “الإرادة” حينما لا يستطيع الإنسان أن يعود بالزمن إلى الوراء ليعدّل على أخطائه الماضية، لهذا كان الزمن من المفاهيم الرئيسية في الفلسفة حيث دخل الزمن في المعالجات الفلسفية عبر المدى، والتتالي، والأمد، والأبد، وأفكار النهايات، ومفهوم الزمن وجد حتى لدى فيلسوف يوناني مغمور وهو “ديودورو” حيث ربط الممكن بالمستقبل قائلاً: “ليس ثمة ممكن إلا في المستقبل”. إن الرجّة التي تحدث مع مخاضات الأسئلة، يمكن رعايتها بالتفكير لتصبح قلقاً، ورعايتها بالعلم لتتحول إلى أسئلة فلسفية حيوية ربما تثمر عن إجابات تخدم مستقبل التصرفات البشرية، إن تلك الرجّة بكل مخاضاتها هي بداية الوعي بالذات والعالم فهي حسب نيتشه:”أهم حدث في حياة الإنسان فهي اللحظة التي يبدأ فيها بإدراك ذاته وجوهره، ونتائج ذلك الحدث قد تكون جليلة خصبة، وقد تكون مدمرة ومريعة“.
لم ترتبط الفلسفة بمفهوم كما ارتبطت بمفهوم الحياة، إذ الحياة هي محتوى التصرفات البشرية، سيئها وقبيحها، ولم يخطئ من وصف الحياة بـ”المسرح العفوي” الذي يمارس فوقه الناس كافة تشكيلاتهم الذهنية والفكرية والنفسية، فتعبّر الأفعال عن الذوات، فـ”الحي” يعاصر كتلة من الظروف، فيما يختزن “الإرادة” التي تدفعه نحو الفعل، فيجر على ظهره كل حياته، ومحايثة “الإنسان” للحياة تملأ لحظاته الزمنية البعد التاريخي وفي كل “حياة” خيط تاريخي، والتاريخ بوجهٍ ما هو المجال الزمني الذي يتم فيه التوصل إلى مجالات رؤيوية تتخطى الحدود.
كما تحضر الحقيقة والبحث عنها، أو الصواب واستجلاء أثره في كثير من مناشط الإنسان العاقل في حياته، فالإنسان يفتقر إلى تلك اللؤلؤة الضائعة والتي بوجودها تكون قيمته في تحقيقها والحفاظ عليها سواء كانت تلك الجوهرة فلسفة محددة أو قيمة أو مبدأ أو فكرة، وهذا هو مجال الاحتكاك بالزمن، وهذا هو مجال الحضور، “فحقيقة كوننا موجودين تنطوي في صميمها على سرّ معتم غامض، هذا السر يعطي الحياة وزناًَ لانهائياً ففي هذه الحياة يتقرر شيء ما” هكذا يقول كارل ياسبرز، فالمسألة الوجودية مرتبطة بالبحث عن الصواب وافتتاح مجالات البحث عن الحقائق واستلهام تجارب الحياة بكافة أنماطها.
إن خبرة الإخفاق هي أهم خبرة وجودية تدفع نحو النجاح، وكما يقول ياسبرز أيضاً فإن:”حقيقة الإخفاق هي التي تؤسس حقيقة الإنسان”، وكل التجارب التي يقطعها الإنسان في حياته، سواء كانت تخدم الحقيقة والبحث عنها، أو الخرافة والتحلّق حولها، كل تلك التجارب حينما تنصهر في آلة السؤال والبحث والمراجعة والتأمل تتحول إلى “خبرات وجودية” وتجارب فكرية تغني آلة التفكير الإنسانية، وتخصب إنجازات الفرد في حياته، ولعل التجارب التي تطرأ على المرء تؤسس لنظرته للحقيقة والعالم، وهذا ما يجعل من الحالات الفكرية في كثير من أنماطها ذات علاقة معينة بكل مايحيط بها من ظروف، وهذا ليس عيباً إذ لاتوجد أفكار بشرية خارج تأثير الظروف. وفي هذا أنقل من المترجم الدكتور عبد الغفار مكاوي النص الآتي: “إن الجرح الذي يؤلم هو نفسه الجرح الذي يشفي، فالإخفاق الذي يهزّ الإنسان من جذوره يمكن من ناحية أخرى أن يهديه إلى الطريق إلى وجوده ويساعده على أن يكون “هو ذاته” ويكتشف في داخله البعد الباطن الذي كان خافياً عليه” الفلسفة نفسها هي ميدان خصب مليء بالخبرات الكثيرة التي احتكّت بالأشياء وتحولت احتكاكاتهم تلك إلى شرارات معرفية.
إن “التجارب” التي يخوضها الإنسان في وجوده هي التي تمنح ذاته القوة التي يحتاجها في سبيل إكمال غوامض الحياة، والتقوقع على الذات والاستنكاف من خوض المختبرات العلمية والفكرية واستلهام التجارب يمنح الإنسان بعداً لاوجودياً فيحوّل تواجده وحضوره إلى وجود شكلي فيه من الخواء والعطالة مالايطاق، والحياة بطبيعتها متحركة وهي (كالنهر) والنهر لايعبر مرتين ، فالمسألة بالأساس درجة “احتياج” للتغلب على مسائل اللحظة ولولا درجة الاحتياج -التي كان الناس عليها إبان العصور الأولى- لما اكتشف الإنسان أبجديات احتياجاته الحديثة، فكل النعم التي يترفّه الإنسان المعاصر بالتلذذ بها جاءت من العلم وفروع العلم التي تتوالد حتى اليوم وتخلّقت في أرحام الفلسفات.
هناك في (حقول التجارب) تولد العلوم والاكتشافات التي يحتاجها الفرد، وفي حقل التجارب الفردية تولد الذوات وتتعزز القدرات ويتحول معها الإنسان إلى كائن أكثر وعياً بذاته، وفي وسط تلك الخبرات يرقى الإنسان إلى درجة الإبصار والاستبصار فيحرث في جوف الغموض ليكنز ماخفي من الوضوح وليرأب ماتصدّع من ذاته بما اكتشفه بذاته، تلك هي الخبرات الدنيوية التي يجنيها البحّاثة والعلماء والفلاسفة من حياتهم فيمرّون على العلوم يحرثونها بأقلامهم وعقولهم ليخففوا من العتمة والغموض عبر الكشف والإيضاح.