مجتمعات تنتخب «القتلة»!

 

مجتمعات تنتخب”القتلة”!

فهد سليمان الشقيران

جريدة الحياة 5 نوفمبر 2012

بين كل جدران الاستبداد التي ظُنّ أنها هدّمت بديناميت «الثورة» تسكن ليالي الحاضر المحبط وجودياً في عالم العرب، أشباح التوتر التي تتراءى مطلّة في عمق الظلمة وراء جدران استبدادٍ أخرى لم يقدّر للحائرين السائرين في الميادين أن يهدّموها. دُمّرت جدران الاستبداد وبقيت أشباحه، بينما قدّست الحصون التي لم يروها، إذ ران على العيون غشاوةٌ من الوهم جعلتهم يقتلون الخراف، بينما تنهش ظهورهم السباع، هذا التيه والغرق في سديمٍ من الهذيان السياسي وإلفة الفخاخ الأصولية الكارثية، مكّنت المجتمعات من أن تهدم إمكانات السلم، مستحضرةً بدائل الصراع بكل أنواعها، حتى باتت المنطقة تمارس الانقراض الوجودي، فلا معنى لأي شيء تقوم به.

 

حطّمت كل أواصر السلم الاجتماعي، إذ سرعان ما انفجرت دمامل المجتمعات متخرّثةً عن أعتى الأمراض الثقافية والسفالات العرْقية، معيدةً بذلك نماذج الحروب الأهلية التي عاشتْها بعض مناطق العرب، حتى صحّ إمكان وصف حالتنا بأنها «هدنة طويلة لحربٍ أهليةٍ ممكنة». علّمتنا الأحداث أن العرش حين يزول تخرج من النفوس طواغيتها، وما الذي يجري في ليبيا أو مصر أو تونس إلا نماذج طغيانية مرعبة تتجاوز الطاغية الواحد، إلى تعدد الطغاة والسفّاحين، تتجاوز الحال العربية الحاضرة جميع أنماط الاضطراب الذي يحاول بعض الصحافيين استعادته باعتباره الدرس الذي يستلهم منه بعض التفاؤل بأن يعيد التاريخ نفسه، وأبرز أنماط الاضطراب العالمية نموذج فيتنام والتشيلي وجنوب أفريقيا، التي مرّت بأصنافٍ من التيه، وغرقت في محيطاتٍ من الحيرة واليأس.

 

في «السلم الاجتماعي» لا مناص من استعادةِ أطروحة الألماني: «جون بورنمان» المميزة، التي ضمّنها كتابه: «الجناية السياسية والسلم الاجتماعي»، الذي تحدث فيه بمشارط حيوية بالغة الإيلام عن الحال العربية، متسائلاً عن مفهوم «المحاسبة»، ومناقشاً مفاهيم «المسؤولية الفردية»، و«المسؤولية الجماعية»، مستفيداً من دوركهايم في حديثه وتساؤله عن العلاقةِ بين مختلف أنواع المحاسبة عند معالجة الأحداث، وآثارها الخاصة، وفي أنماط التساؤل عن الفروق بين المسؤولية الفردية والمسؤولية الجماعية. فهو يؤكد على أن من الضروري إدراك كون: «المجتمع يجب أن يميز بين المجالين المدني والجنائي، وأيضاً كيف يتم التمييز بين المسؤولية الفردية والمسؤولية الجماعية». في عالمنا، هنا يتداخل الجنائي بالمدني جراء فقدان المعنى الجنائي أصلاً بغياب كل مفاهيم المحاسبة القضائية، ولو على سبيل حماية المجتمعات من الصراعات بالقضاء، من هنا يُحمى الفضاء المدني من المجال الجنائي، لهذا: «فإن استعمال الجزاء القضائي في ألمانيا بعد سنة 1990 وفي بعض دول أوروبا الوسطى، يفسر في جزءٍ منه بسبب تجنب هذه الدول الدخول في دوامة الصراعات» – بحسب بورنمان.

 

لا يفتأ لبنان يفرض نفسه كبلدٍ مكبّل بالتناقضات الكبرى، لهذا كان موضع دراسةٍ ومقارنة في أطروحة بورنمان ضمن تحليله لمفهوم «المحاسبة» العميق في أي نسيج اجتماعي، فهو عنصر أساسي للسلم الاجتماعي، اختار لبنان لأنه يختلف عن أوروبا الوسطى، إذ الإفلات من المحاسبة «أمر طبيعي»، بل عقب الحرب الأهلية: “تم سجن شخصين لا أكثر بعد الإيقاع بما يقارب 100 ألف ضحية… سمح العفو العام بعد الحرب بانتخاب مجرمين في البرلمان اقترفوا جرائمهم وقاموا بتصفياتٍ عرقية وترحيل قسري وارتكاب مذابح! فكيف إذن للدولة أن تعمل كسلطةٍ معنوية لمصلحة المجتمع اللبناني؟”.

 

بقيت الأشباح تسكن الأحياء، ليس في لبنان وحده، بل وفي حالات «اللبننة»، التي تمخّضت وتخلّقت في رحم «الثورات»، لهذا فإن إعادة انتخاب القتلة تجعل المجتمعات العربية تستمرئ «المازوشية» تعذيباً للذّات وقرعاً لها، صار الاستبداد بيد المجتمع مثل صخرة «سيزيف» الذي يرقى بالصخرة ثم تتدحرج ثم يرفعها، وهكذا إلى الأبد… إنه رمز العذاب الأبدي.