عرائس في دروب “التيه”

عرائس في دروب “التيه”
جريدة الحياة 11 أغسطس 2010
فهد بن سليمان الشقيران



ظل البحث عن جرثومة الوعي، التي تحط الواعي في كوكبٍ من البحث والتأمل، مثار حديث خلال القرنين الـ «19 و20»، لم ينجُ من أحابيل هذا السؤال الذاتي حتى الفلاسفة المثاليين، كانط نفسه – الفيلسوف المثالي في حياته وفكره – كان في آخر حياته كئيباً، لم يكن مطمئناً لطعناته التي وجهها ضد أسئلة المعرفة المسمومة الفتاكة.
كانت نظريته في المعرفة مهدّئةً لعاصفة أسئلته، فخضعت لتأويلات متعددة، اعتبرتها «الكانطية» الجديدة في ألمانيا نظرية في المعرفة، وأولتها مدرسة «ماربورغ» على أنها مثالية خالصة، بينما اعتبرتها الوضعية المنطقية فلسفة تحليلية وعدّت «كانط» من رواد التحليل، بينما اعتبرها «هيدغر» فلسفة معنية بالبحث في الموجود والوجود، على رغم كل تلك التأويلات فإن فلسفة كانط كانت مجرد سد ستهده الأمواج، إذ برزت أسماء أخرى خطفت منه أسئلته وأطلقتها بلا أجوبة، أطلقتها كالثيران في دروب التيه تضرب في كل زقاق؛ تضرب… وتضرب… بلا منهج.
كانت تلك هي «الرضّة الضرورية» التي احتاجتها الفلسفة منذ عصر الإغريق – بحسب تعبير نيتشه – فكتبت الفلسفة تاريخاً لتاريخها، ووضعت خريطة أخرى: للحقيقة، وللخير، والشر، والإنسان، والسياسة والذات، والفكر، والفن.
ظهرت فلسفات الطمس والمحو، الإبداء والإعادة… إنها الفلسفات التي عناها هيدغر بقوله «فلسفات صناعة السؤال» لا فلسفات صياغة الجواب.
كانت الفلسفة جبلاً أصماً فتتته ديناميت «نيتشه»، كتب قبل أن يعرفه الناس: «أعرف قدري. ذات يوم سيقترن اسمي بذكرى شيء هائل رهيب؛ بأزمة لم يعرف لها مثيل على وجه الأرض، أعمق رجة في الوعي، فأنا لست إنساناً أنا عبوة ديناميت»، استطاعت مطرقته أن تحول المركز الواحد المتصلب إلى هوامش تسير كالقوارض تبحث عن فرائسها. إنها ما عناه جيل «دلوز» حينما نحت طريقاً للفلسفة مساره تحويل الفلسفة من الأهداف الكبرى إلى وسيلة لـ «صناعة المفاهيم»، مستلهماً نيران نيتشه الذي كتب: “إنك لن تعلم شيئاً عن طريق المفاهيم إذا لم تكن قد خلقتها من قبل، بمعنى أنك كنت أنشأتها”يكتب «دلوز» في كتابه الرئيس «ما هي الفلسفة؟» النص الآتي: «ما هي الفلسفة اليوم، وكما كانت في كل أيامها المجيدة والبائسة؟ إنها إبداع المفاهيم. صحيح. ولكن شرط أن يسترد سؤال الماهية سؤال الكيفية، أن يغدو معاً وجهين لحقيقة واحدة، ألا يأتي أحدهما إلا ويسبقه الآخر، يعني أن الفلسفي هو فن المفهوم، كطريق وحيد إلى “بيداغوجيا الكينونة: سُكنى العالم شعرياً”.

(شبنهاور)


أخذت الفلسفة المنقادة إلى التفاسير المجردة تتراجع من الناحية الوظيفية، وبفضل عرائس «فوكو» المفهومية – التي تذهب نحو تخوم الأشياء – لم يعد السجن غرفة تأديب، ولم يعد الجنس وسيلة للإنجاب والعفة، ولم تعد الرقابة مجرد تاريخ طارئ على فئة، بل استطاع أن يؤسس لمنهج فلسفي مختلف هو خارج عن المنهجية القديمة، إنه منهج من دون منهاج، أسس لرؤية تبحث في “علاقات القوى”، هدفها – بحسب مطاع صفدي -: “تحويل المفاهيم من أقانيم مجردة، إلى بؤر قوية؛ فلا يمكن للفلسفة إلا أن تهجر أساليب التجريد، وتذهب إلى الأشياء عينها، لتكشف فيها بؤر القوى التي تحتبسها تحت أديمها”.  بفضل الطرق والدروب المتعددة التي شقتها أحدث آليات الفلسفة، كسرت الكهوف، وألغيت السدود، ارتخت الأسئلة كالأشباح السوداء على المفاهيم القديمة المغبرّة، وعلى رأسها الفن الذي ذوى وتحجّر في جوف الآلة. بقي الجمال جثة في مشرحة “كانط”، وموضوعاً في بوق “هيغل”، ولعنة في يد “شبنهاور”، لكنه – الجمال – غدا عاصفة لإنسان “نيتشه” الأقوى، كان هو الكمال لإنسان نيتشه الأعلى.
السؤال الذي تطرحه الفلسفة اليوم هو الأخطر في تاريخها، إنه سؤال يتعلق بحيويتها الوظيفية، وهذا سبب طرح «موت الفلسفة» الشهير، في خضمّ ذلك الجدل نحن لا زلنا ندعو إلى تدريس الفلسفة.