عشّ مدينةٍ تضجّ بالغربان

عشّ مدينةٍ تضجّ بالغربان

فهد بن سليمان الشقيران

جريدة الحياة 29 أبريل 2013

 

 

 

حين أوجع الفيلسوف الأشهر في القرن العشرين مارتن هيدغر من مجتمعٍ أحال توجهه وكلماته وخطاباته إلى أيقونة مؤيدةٍ للحزب النازي رتّب هيدغر كل ضروريٍ من أغراضه ويمم وجهه شطر “الغابة السوداء” حيث بيته الريفي والسواد الكالح وصمت الجبال.

رسم بيته على منحدرٍ وعر، وفي النهار الصافية يطير صقران وهما يرسمان رقصةً على زرقة السماء حينها يبدأ الفيلسوف بالكتابة كما في نصّه الهائل:”وحدها الغابة السوداء تلهمني”. آل إلى حيث براءة الأصل ولدونة الورق وسماحة الشجر، غادر الصخب الذي صحب اسمه على أروقة الجامعة وعلى مسارح المحاضرات، بات يخاطب الفلاحين ويجهّز مجالسهم وهم يتكوّرون على النار، كان هيدغر معجباً بـ”صمت الفلاحين” حيث تتلقّى منهم أحياناً إجابة لا تتجاوز جسّ كتفك بفمٍ مغلق، إنها لغة الطبيعة حيث اللسان ليس كل شيء، وحيث الصمت حارس الطبيعة.

رأى هيدغر أن:”ذاكرة الفلاّحين تتمتع بوفاء لكن دونما ضعف، العالم المديني مهدد بخطرٍ كبير، خطر أن يصبح فريسةً للبدع القاتلة، وثمة تعجّل مزعج. إن مايريده الفلاّح رقة محتشمة تجاه وجوده الخاص وتجاه ما هو على علاقةٍ به. صديقي القديم في الـ75 من عمره، يقرأ الصحف، بنظراته الجريئة بعينيه الصافيتين، حين أسأله يظلّ محافظاً على فمه مغلقاً ثم يضع برصانةٍ يده الوفيّة على كتفي ويحرّك رأسه بشكلٍ خفي، وهذا يعني الـ(لا) القاطعة”. عاب هيدغر على العالم هجر التفلسف في الأرياف بعد أن أرهقتهم المدن بالزيف، نادى باللجوء إلى الجبال … إلى الأعالي.

في عالم الزيف نرى الوجوه بخدودها الرجراجة وهي تسير زرافاتٍ ووحداناً نحو الصخب، نحو المزيد من الإيذاء للآذان والسكينة. تغدو المدن ورشاً مزحومة. نحنّ إلى وفاء الفلاحين إلى صمتهم إلى أفواههم المغلقة حيث يجلسون أمام النار كالقدّيسين، يجذب الجذع بيده من الصحراء يضع يده فوق عينيه باحثاً عن النجوم، وحين يمرّ بمقبرةٍ يتمتم بهدوء، إن سئل قال حكمةً. بينما الكلام الكثير الذي صمّ آذاننا وأنهك ذاكرتنا ودمّر براءة معرفتنا اليومية لا يزال يرهق الأوّلين والآخرين. ما أندر الأفواه المغلقة في زمن الألسنة المتدلّية!

كانوا يدفنون أعزّ ما يملكون بصمت،دمعة تمسح بطرف شماغ، يبقى الأنين أبداً، ينثرون آلامهم كالبذر على التربة الخصبة وينتظرون، طويت آلامهم مع مسحات أرجلهم بالحقول، حيث الأصوات البريئة تأتي مع الطيور وهي تأخذ حصّتها من الحقل.

بقي هيدغر في بيته الريفي منعزلاً مع كتبه وأوراقه لأسابيع، حينها خشيت جارته البالغة من العمر 83 عاماً عليه، صعدت 7 أمتارٍ من الجبل الوعر لتقرع بابه، أخبرته أنها خشيت عليه وعلى منزله من السرقة. وقبل نصف ساعةً من وفاتها حين حشرجت روحها سألت أبناءها بغتةً:”كيف حال الأستاذ؟ أرسلوا له تحياتي”! حين علم هيدغر بسؤالها الأخير قبل موتها كتب:”إن ذاكرةً كهذه أكثر قيمةً من أي روبرتاج مهما كان جيداً في أي صحيفةً مشهورةٍ عالمياً حول فلسفتي المزعومة”.

يبّست حياة المدن براءة الريف، حيث بكارة الطبيعة. بين أخلاق المدينة الفجّة، وأخلاق الريف وأفكاره المثمرة تخثّرت المدن.

ماذا ترى حين تسير؟ وجوه إعلان، وجمالٍ غزته المشارط، يهرب أهل المدن من وجودهم الحقيقي إلى وجودهم الزائف، ذلك أن وجودنا الزائف تحفّه الراحة، بينما الوجود الحقيقي وعر وصعب حينها تغدو الأسئلة الكبرى متأصلة في وجودنا.  في المدينة تضجّ أصوات الغربان المشؤومة في شتى الوسائل والمنافذ والمسارح والمناشط.

نتوق إلى وفاء الريف، حيث المعنى الأعم! ولَصوت الطبيعة والجبال، والإنصات إلى صوت الصمت، وصدى اللغة، وهدوء الإيماءة، والحديث عن الحجر والشجر والصخر والبقر، لهو أجمل من أي صوتٍ يسحق آذاننا بضجيج الفراغ، وسديمية العدم عبر فوّهات الثرثرة وكاريزما الجهالة.