عندما بكى نيتشه

عندما بكى نيتشه
21 مايو 2008
فهد الشقيران
(غلاف الفيلم)
من عادة المستجد في قراءة الفلسفة الوقوع في فخ «تسطيح» نصوص فريدريك نيتشه، لذا قلما يخرج من هذا الفخ سوى من استوعب بُعد التأثير ومدى امتداد ضراوة النار التي أشعلها نيتشه في حقل الفلسفة، فهو من ساهم في رسم المنعطف الفلسفي الحديث، وذلك عبر أكثر من صيغة، فهو اعتمد في كتابته على أسلوب الشذرة القصيرة في الغالب مستفيداً من طريقة التدوين الصينية، فهو أسس لكل مراحل الحوار الفلسفي الحديث. والنص النيتشوي نص ديناميتي كل من وطأه انفجر عليه بطريقة مختلفة، ثمة أكثر من نيتشه، نيتشه بفهم هيدغر، ونيتشه بفهم ياسبرز ونيتشه بفهم فوكو ونيتشه بفهم دلوز، وهذا هو سر عظمة النص النيتشوي الذي يحفر الأفخاح لكل من ظن أن الفلسفة لا بد أن تكون بشكل وبقالب محدد، فهو حرّيف في صياغة الجملة، وفي فيلم (When Nietzsche Wept – عندما بكى نيتشه) المنتج عام 2007 يدخل نيتشه على الدكتور (برور) بعد أن قرأ الأخير كتاباً لنيتشه وقف نيتشه أمامه وصرخ بأذنه (أريد أن أكتب بعشر كلمات ما يكتبه غيري في كتاب كامل).
رأى جيل دلوز في حوار معه أن ثمة علاقة بين «المرض» و «الإبداع» على عكس السذج الذين يقرأون الفلسفة بعقليات طبية، فيعتبرون كتابات نيتشه «هلوسات مريض» هذا مع أنه وفي فترة مرضه التام (1889-1900) لم يؤلف ولم يكتب شيئاً، نيتشه لم يكن مجرد مؤلف كتب يعاني من غموضها طلاب الفلسفة وإنما حافر أرض الفلسفة، ودلوز لم يخطئ حينما كتب عن نيتشه: (إن أمر نيتشه بالنسبة لكانط كأمر ماركس بالنسبة لهيغل، يتعلق بالنسبة لنيتشه بإعادة وضع النقد على قدميه) وفي مكانٍ آخر يكتب: (إنها لفكرة نيتشوية تلك القائلة بأن كانط أخطأ النقد لكن نيتشه لا يثق بأحد غير نفسه لتصور النقد الحقيقي والقيام به) هذا في بداية تكون فلسفة نيتشه التي أراد لها أن تترعرع وتبرز على نحو تام في كتابه الكبير (هكذا تكلم زرادشت) فقد سرد في أجزاء أربعة نظريات مختبئة جعلها كامنة بين نصوصه، لم يكن يسرد كتاباً تعليمياً على طريقة الفلاسفة قبله. لكأنه ينشد أسراره.
تمكّن عبر أسئلته الدامية من تحويل مسار الفلسفة من فلسفة مسكونة بإهدار الحبر في كتابة الأجوبة، إلى فلسفة تعيد التفكير في معنى ومشروعية الأسئلة، ليحوّل سياق القرن العشرين من قرنٍ كلاسيكي يغرق في الفلسفات ذات الطابع اللاهوتي إلى فلسفات يكون مركزها الأساسي هو «الإنسان» المتملك لعناصر القوة والقادر على أن يكون الإنسان الدنيوي البحت، ليساهم من بعد ذلك بكسر حصون الفلسفة المنيعة ليخرج بها من البحث عن المعنى، إلى البحث في معنى المعنى، ومن النقد إلى نقد النقد، ومن التنوير إلى تنوير التنوير، لتصبح فلسفته ليست فلسفة نظرية جامدة، وإنما تغلغلت في شتى مجالات الحياة. رسم خطة «البحث الجينالوجي» لبحث وتقويض الأصول والمراكز، وأصبحت نصوصه فاتحة للهيرمينوطيقا وليحرث الفلاسفة الذين تفرعوا عن فلسفته في أكثر المشاريع الفلسفية تأثيراً في القرن المنصرم كما فعل هيدغر، فوكو، دلوز، دريدا.
(أرماند أسانتي ممثلاً دور نيتشه)
دلوز رأى أن الفيلسوف هو «شاعر المفاهيم» ونيتشه قاد حرفة «شعرنة الفلسفة» وهي الآلية التي أعجب بها مارتن هيدغر في بعض كتاباته، وفي طريقة قراءاته لشعراء عصره، فهيدغر كتب النصوص الشعرية علاوة على «شعْرنة الفلسفة» لتصبح مدججة بالصور والرموز ومحاطة بهالة من الغموض الساحر، غير أن تلك «الشعْرنة» لا تحوّل النص إلى محض خيال. فشعْرنة نيتشه، داهمت كل الفلسفات والفنون، حتى «الكانطية الجديدة» المتمثلة بممثلها الأيرز الفيلسوف الألماني المعاصر (يورغن هابرماس) لم ينج من آثار زلزال نيتشه، ومن فلاسفة الاختلاف عموماً فالفلسفة ليست كيانات منفصلة أو قبائل متناحرة، وإنما وحدات تتعدد. لذا كتب جيل دلوز: (نرى ماركس، والقبسقراطيين، وهيغل ونيتشه، يمسكون بعضهم بأيدي بعض في رقصة دوارة تحتفل بتجاوز الميتافيزياء)
نيتشه لم يفصل التفكير عن حوافز الذات، في الفيلم –آنف الذكر- حينما يعرض طبيبه عليه فرصة علاجه، يسأله نيتشه عن «حافزه الدفين» من مساعدته، وحينما عبّر له عن حافزٍ أخلاقي تقليدي رفض نيتشه ذلك العرض، حتى جاء الطبيب لنيتشه بحافزٍ ذاتي محض. يعرض الفيلم قصة حب عاصفة كان هو طرفها الوحيد مع الفتاة الفنلندية اليهودية (لو سالومة) وكانت «لو» في العشرين من عمرها وأعجب نيتشه بها وبسعة ثقافتها ورصانتها، حتى أنه وصفها بأنها «توأم دماغه» من شدة ولعه بها، وحينما عرض عليها الزواج سمع أن صديقه العزيز الموسيقار ريتشار فاغنر قد أبدى إعجابه بها، حينها هجر ذلك الصديق، وهاجمه وهاجم موسيقاه بشراسة شديدة.
بقي نيتشه يتألم من فراقه لصديق عمره فاغنر، حينها اعتزال الناس، وكتب: (يؤلمني كل الألم ألاّ يكون إنسان واحد قد اكتشفني، أو احتاج إلي، أو أحبني منذ 15 سنة) وكتب في مكان آخر: (هنالك شيء آخر، هو الصمت الرهيب الذي تسمعه حواليك، سبعة حجب تحيط بالوحدة، ولا شيء يخرقها، تذهب إلى البشر، تسلم على أصدقاء فإذا أنت أمام قفرٍ جديد، وما من يلتفت عليك، وفي أحسن الأحوال لا يستوقفك سوى نوع من الثورة عليك) تلك لمحة وشذرة عن فيلسوف –رغم تأثيره- لم يقل عن نفسه سوى (أنا مجرد كاتب).