ذكرى ولادة ديكارت: ضرورة التفكير المنهجي

ذكرى ولادة ديكارت: ضرورة التفكير المنهجي
فهد بن سليمان الشقيران
(رينيه ديكارت)
في مثل هذا الشهر وتحديدا في 31 مارس 1596 ولد رينيه ديكارت، ليبدأ حياةً مليئة بالإنتاج المؤثر، وليساهم في تغيير مجرى التفكير الفلسفي، فهو يعتبر أحد أبرز الفلاسفة الذين يشكلون «نقطة تحول» في تاريخ الفلسفة. ديكارت – وفق الموسوعات الفلسفية – ولد في بلدة لاهي من أعمال مقاطعة تورين من عائلة ثرية، توفيت أمه بعد ولادته بثلاثة عشر شهراً فكفلته جدته وقامت على تربيته إحدى المرضعات. تلقى علومه الأولى في مدرسة (لا فليش) اليسوعية حيث اكتشف الآباء اليسوعيون عبقريته فعاملوه معاملة خاصة كما أن اعتلال صحته ساهم في تركيزهم عليه، وقد رغب في زيارة دول أوروبا عامة ليزيد من تجاربه ومعارفه ولذلك خدم في جيوش أمراء مختلفين حتى استدعته كرستينا ملكة السويد ليكون مستشاراً لها في شؤون الفكر والعلم وعندها وافته المنية.
يعتبر أبرز فلاسفة فرنسا، وأحد الرواد في «الاتجاه العقلي» في أوروبا، اشتهرت فلسفته بأنها فلسفة الأفكار الواضحة المتميزة وربما كان من أبرز خصائصه الفلسفية، أنه ناحت نظريات أكثر من كونه كاتب نصوص، ففلسفته علمية معرفية، نستشف هذا حين كتب قاعدته المشهورة: (يجب ألا أقبل شيئاً قط على أنه حق ما لم يتبين لي بالبداهة العقلية أنه كذلك ويجب ألا أحكم على الأشياء إلا بما يتمثله ذهني في وضوح وتميز ينتفي معهما كل سبيل إلى الشك) وإذا كان فرانسيس بيكون قد استبعد الأسباب الغائية في فلسفته ولم يستبعد الأسباب الصورية، فإن ديكارت قد استبعد الأسباب الغائية والصورية معاً، فهو يكتب: (ينبغي ألا نظن أننا نستطيع أن نفهم الغايات التي توخاها الله في خلقه للعالم) ويقول في مكان آخر من تأملاته: (لما كنت أعلم أن طبيعتي ضعيفة ومحدودة للغاية وأن طبيعة الله واسعة لا متناهية ولا يمكن الإحاطة بها فقد تيسر لي الآن أن أتبين أن في مقدوره صنع أشياء كثيرة لا حصر لها وتتجاوز عقلي، هذا الاعتبار وحده كاف لاقتناعي بأن ما اصطلح عليه بالعلل الغائية لا محل للبحث عنها في الأشياء الفيزيقية أو الطبيعية، إذ يلوح لي أن الخوض في غايات الله ومحاولة الكشف عن أسرارها جرأة عليه سبحانه) وهو عنوان ثراء فلسفي يصف هذا الغنى والتنوع الدكتور -كريم متى – كاتباً: (في فلسفة ديكارت تلتقي تيارات فكرية مختلفة فيها ينصب التيار الفكري الوسيط ولا سيما نظرته في الوجود وفي الروح، ومنها ينبع التيار الفكري الحديث متمثلاً في التفسير الآلي للعالم، فإذا كان ديكارت من ناحية يظهر الولاء لمبادئ الديانة المسيحية وتعاليم الكنيسة وأسرارها فإنه من ناحية أخرى قد خرج في نظراته في العالم الطبيعي وفي الطريقة الصحيحة على مبادئ القرون الوسطى وأخذ بالتفسير الآلي للعالم).
(ديكارت أستاذاً للملكة كريستينا)
رينيه ديكارت أعاد النظر في طرق التفكير عبر رسمه لـ«المنهج» العلمي الذي أقامه على أدوات علمية فهو يرى أن العلم يجب أن يبدأ بقضايا واضحة بينة ومن ثم يتم الدخول للقضايا التي تلزم عنها، فهو انتهج منهجا رياضياً. حتى أسس منهجه العلمي الذي يقوم على (الحدس والاستنتاج ووضع «الشك» قاعدة للحدس، والتحليل، والتركيب، والإحصاء كقواعد للاستنتاج.
وجد ديكارت في «الرياضيات» النموذج الذي يمكن أن يتبع في سبيل التعلم لأنه اعتقد أن المعرفة لا يمكن أن تكون معرفة ما لم تصبح يقينية. ولذا اعتبر ديكارت المعرفة المحتملة عنوان تناقض في الألفاظ ويكتب بخط واضح (المعرفة التي تقبل الشك لا يمكن أن تكون علماً) وهي الرؤية التي سيقتنع بعكسها تماماً الفيلسوف المعاصر كارل بوبر، ووصلت فتنة ديكارت بالرياضيات إلى حد الغزل اقرأه وهو يكتب: (لقد أعجبت أشد الإعجاب بالرياضيات لأن البراهين التي تقدمها يقينية والرياضيات تعتمد على أشياء بينة بذاتها، ولكنني مع ذلك لم أدرك فائدتها الحقيقية ولما كنت موقناً بأنها ذات فائدة في الفنون الميكانيكية فقد دهشت حين وجدت أنه رغم صلابة أساسها وقوته لم يُقم عليها أي بناء ضخم) لذا شيّد فلسفته على أساس ذلك العلم.
أساس المنهج الذي وضعه ديكارت يقوم على «الشك» فهو كتب في مبادئ الفلسفة النص الآتي: (بما أننا كنا أطفالا قبل أن نكون رجالا، وكنا، قبل حصولنا على قدرة الوعي الكاملة، نصيب تارة في أحكامنا على الأشياء و نخطئ تارة أخرى، لأجل ذلك ، كانت الأحكام ، التى كوّناها على هذا النحو من التسرع ، تمنعنا عن إدراك الحقيقة، وتؤثر فينا بحيث لا يحتمل أن نتخلص منها، ما لم نعزم ، ولو مرة واحدة في حياتنا، على الشك في جميع الأشياء التي نجد فيها أقل موضع للشك) رأى ديكارت في الشك بوابة أولى للدخول إلى مفازات البحث، نلمس جوّ الشك الهائل في إصراره حينما كتب (وأمضي قدماً حتى أهتدي إلى شيء يقيني وإذا لم يتيسر لي ذلك علمت علم اليقين على الأقل أنه ليس في العالم شيء يقيني ثابت).
تلك لمحة موجزة عن فيلسوف طبع على الفلسفة مسحة هانئة اهتزّت على إثرها الفلسفة وربت، لفيلسوف صبغ –حتى- الحياة الأوروبية بصبغة حديثة، فرنسا ابتلعت فلسفته وهضمتها إلى درجة جعلت أحد الباحثين –وهو هاشم صالح- يكتب: (حتى تنظيم الشوارع والساحات العامة في فرنسا يحمل سمات المنهجية الديكارتية من حيث الوضوح والدقة) أرادنا ديكارت، أن نعرف عن الفلسفة أنها ليست بعداً واحداً وأنها ليست مدرسة محتكرة إنها مساحة من الفضاء الرحب أن يصبح الفيلسوف صاحب تصوّر منفتح يتطور باستمرار وأن يُعنى أولاً بتطوير ذاته وتغيير تفكيره هو. أن يدخل إلى تخوم العالم عبر اختراق (الذات) ومنه ولد الكوجيتو (أنا أفكر إذن أنا موجود).