التعليم … هل انتهت مرحلة “التطمين”؟!

التعليم … هل انتهت مرحلة “التطمين”؟!

خاص بالمدونة 26 ديسمبر 2013

فهد بن سليمان الشقيران

 

 

 بعد أن أصدر الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز أمره بتعليم البنات في أكتوبر من عام 1959 احتشد ثمانمائة شخص وركبوا السيارات ويمموا وجوههم شطر الرياض للاحتجاج، ولما في هذه الحالة من شغبٍ فقد أرسل إليهم يطلب منهم البقاء في “ديراب” (طرف الرياض) لكنهم خالفوه ودخلوا، فلم يقابلهم، وقيل أنه أرسل لهم معاتباً:”لا تغيب الشمس وفي الرياض منكم أحدا”. رجعوا إلى مدنهم سالمين، وما إن فتحت المدارس حتى تنافسوا على تعليم بناتهم، من بين من حضر محتجّاً على القرار من نالت بناته شهادات عليا في الجامعات*.

كان الفيصل حازماً في جعل التعليم بدهية وضرورة للكل، لأنه أراد تأسيس بنيةٍ تعليمية شاملة لا تقتصر على الرجال دون النساء. لم يكن خوف البعض مبرراً لكنه مع ذلك أعطاهم نفوذهم في مناحي التعليم ورسم السياسات والاستراتيجيات بغية تطمينهم، كما جعل رئاسة تعليم البنات تحت التوجيه من قبل كبار العلماء آنذاك.

منذ بدء التعليم المؤسسي للرجال والنساء والمجال يأخذ منحىً سجالياً، ذلك أنه ليس مجالاً خدمياً، بل التعليم يمسّ كل فرد، ومن هنا تتغذى السجالات. وفي مارس من عام 2002 أصدر الملك فهد قراراً بدمج رئاسة تعليم البنات مع وزارة التربية والتعليم، ألغيت الرئاسة بعد 42 عاماً لتدخل من بعد ضمن وزارةٍ التربية والتعليم متحدةً باستراتيجياتها وخططها وسياساتها، حينها فهم البعض أن هذا القرار موجهاً ضدهم.

مشكلة التعليم أن البعض يريد له أن يبقى ضمن الصراع بين التيارين الأساسيين في السعودية، التيار المحافظ والتيار الليبرالي أو الحداثي أو التنموي.

قبل أيام أصدر الملك عبدالله بن عبدالعزيز أمراً ملكياً بتعيين خالد الفيصل وزيراً للتربية والتعليم، حينها جاءت نفس المشكلة التاريخية، حيث شغب البعض وثار على هذا الاختيار، ومن أول ما تفوّهوا به أن هذه الوزارة ليست للتيارات التنموية أو التحديثية، بل هي للتيار الديني، بينما انتعش التيار الليبرالي وتحدث عن فتح عظيم ينتظر أفكارهم في الوزارة. بنهاية المطاف الوزير الجديد يعلم أن هذه الوزارة ليس لتيارٍ أو لآخر، بل هي مؤسسة وطنية شاملة، تحتضن الجميع، ومن الخطأ امتطاء تعيين الفيصل من أجل توظيفه بين التيارات بجميع أشكالها. كما أن الانشغال في الأمور الهامشية المتعلقة بالتعليم هي التي شغلت الصراعات في الأيام الماضية وكأن الأمير طرفاً ضمن تيار. والواقع أن أي وزير هدفه أن يكوّن نقلةً في الوزارة عبر رسم سياسات مختلفة، وتجديد أهداف الوزارة، وتصحيح الأعطال والأخطاء، وبخاصةٍ أن التعليم لم يظلم في الميزانيات السعودية، وآخر تخصيص لها في الميزانية التي صدرت مؤخراً بلغت 210 مليار ريال.

 

بين تعيين خالد الفيصل وقرار والده بتعليم البنات أكثر من نصف قرن، كانت المرحلة الأولى للتعليم مرحلة تطمينٍ للمجتمع الذي أخافه البعض بحجّة أن هذه العلوم لن تكون محكمةً خاليةً من البدع والمحدثات. أما وقد تجاوزنا هذه المرحلة بات لزاماً أن تكون أهداف التعليم متجددةً عن تلك التي رسمت من قبل. لقد اطلعت على الأهداف العامة للتعليم في السعودية للابتدائي34 عنصراً، والمتوسطة 9 مواد، وفي الثانوية 10 مواد، كل تلك المواد التي تضمنت الأهداف متشابهة، لم تخرج عن سياق التعليم العادي، لا التعلّم الإبداعي، وبخاصةٍ وأن دول العالم تطوّر أهدافها باستمرار تبعاً لتطور التحديات.

يمكن للتعليم أن يتجاوز طغيان مجالٍ على آخر في المقررات، وأن نتسفيد من التجارب التي سبقتنا في موضوع التطوير، لا يمنع أن يتم إدخال الفنون، والآداب العالمية، وتدريس المنطق، وتعليم مقرراتٍ في الفلسفة، وأن تكون هذه ضمن وعي الطالب للاستفادة منها بقية حياته. من دون منطقٍ أو فنٍ أو حدٍ أدنى من الوعي العلمي أو الفلسفي لا يمكن للإنسان مواجهة صعوبات الحياة أو مستجداتها. هذا النقص الواضح في المقررات هيأ لمناخاتٍ من التأزيم الفكري في المجتمع والذي نلمس آثاره منذ ثلاثة عقودٍ من التطرف والتزمت.

هذه اقتراحاتٍ لا تخدم تياراً ضد آخر، ولا يجب أن تكون مطلباً لفردٍ من تيار، بل هي مطالب إنسانية وحاجات ذوقية وروحية وعقلية. حين ينشأ سبعة ملايين طالب من دون أن يكون لديهم أي اطلاعٍ فني، أو تشكيلي، أو فلسفي، أو في تاريخ العلم الطبيعي فإننا نؤسس لتخريج سبعة ملايين “آلة تسجيل” تحفظ وتنطق، ولا تبتكر السؤال، ويحرم عليها مخالفة قول الأستاذ، أو الاستدراك عليه، أو مناقشته وتشريح قوله.

نتمنى من الفيصل الإبن إكمال مشوار الفيصل الأب، من خلال تجديد دماء الوزارة، وتغيير البيئة التي يزرع على أرضها عقل الإنسان، لتكون بيئة صحّية، تورق بها براعم الجيل القادم والذي سيواجه تحدياته الآتية والتي لن تكون سهلةً بسبب تعقد سبل الحياة، وتغير أنماط التعليم، وتجدد العلوم، وانفجار التقنية، وهذا ليس صعباً على دولةٍ قادرة، ولديها كل إمكانيات النجاح والتقدم في حال رزقت فكراً إدارياً محنكاً وذكياً. ومن جميل أقوال فيصل:” إن التعليم والحصول على شهادة، ليس هو كل شيء ، وإنما المهم أن يكون هذا كالمفتاح يمكن لمن يحوز عليه أن يكون عضواً نافعاً”.

 

*لتفصيل جدل التعليم البنات انظر كتاب عبدالله الوشمي، فتنة القول بتعليم البنات في المملكة.