الابتعاث.. والصيغ الاجتماعية الحديثة

الابتعاث.. والصيغ الاجتماعية الحديثة

جريدة الشرق الأوسط 7 أغسطس 2014

فهد بن سليمان الشقيران

شكل مشروع الملك عبد الله للابتعاث نقلة نوعية، وآية ذلك أن المشروع الذي يستفيد منه ما يزيد على مائة ألف طالب وطالبة يثمر في هذه المرحلة الحرجة التي تعاش على المستويين الاجتماعي والفكري. أتى على المجتمع حين من الدهر كان التعليم فيه مغلقا ضمن مناهج محددة وصفحات يتم تدويرها منذ الابتدائية وحتى المراحل العالية من دون الانتقال إلى مجالات أخرى أو إلى مناهج علمية تساهم في تغيير «نظام التفكير» الذي يعلّب فيه الفرد منذ المهد وإلى اللحد. ثمة إخفاقات – قليلة وطبيعية – لدى قلة من المبتعثين، ورجع بعضهم مضطربا أو خائبا أو حزينا يترقب، أو مرتدا على عقبيه يدافع عن الارتكاس والرؤى الرجعية، بيد أن هذه النسبة ليست هي الطاغية، بل لا تشكل شيئا أمام عشرات الآلاف من المبتعثين الذين عادوا وهم يتبخترون بمعارفهم وبالمناهج التي تعلموها ودرسوها وبصيغ الثقافات التي سبروها وخبروها.

فكرة الترحال للتغذي من العلوم الكبرى والمعارف والمناهج ليست جديدة، بل قديمة قدم الإنسان ورؤيته وبحثه عن معناه ووجوده، وقديما في فترة ما قبل الميلاد رحل أرسطو سنة (367 ق. م) من مدينة «ستاغيرا» إلى «أثينا» ليلتحق بمعهد أفلاطون، وكان الأخير قد جمع حوله مجموعة من الرجال المتفوقين في مختلف المجالات العلمية من طب، وبيولوجيا، ورياضيات، وفلك، ولم يكن يجمع بينهم أي رابط عقائدي سوى رغبتهم في إثراء وتنظيم المعارف الإنسانية، وإقامتها على قواعد نظرية راسخة ثم نشرها في مختلف الاتجاهات، أما العلماء المعاصرون أو الذين مروا خلال القرون الماضية فقد كانوا من الرحالة، يذهبون حيث تنتشر المعرفة. فالرحلة للعلم موجودة حتى في تراثنا الإسلامي، وفي كتب أدب الطلب للعلم لدى رموز العلوم في الإسلام: «من لم يكنْ رُحْلَةً لن يكونَ رُحَلَة».

ثم إن الابتعاث ليس الهدف منه العبّ من المعلومات، أو حفظ القواعد، أو ترديد النصوص، بقدر ما يتجه معناه العميق نحو التغيير للنظام الفكري للفرد، والأنظمة تكتسب ولا تُعلّم. ثمة فتوحات كبيرة بالعلوم الفلسفية والعلمية والطبية والفيزيائية والبيولوجية وفهمها لا يعتمد على الحفظ أو الترديد أو التخصص فحسب، وإنما في المنهاج الذي قاد إلى هذا المستوى من الفتح المعرفي والانتصار العلمي. وفهم البيئة التي أنتجت العلوم والسياق التاريخي الذي أيقظ عباقرتها من مرقدهم إنما يكون في الوعي بالمناهج التي قادت، ففهم الثمرة قد يحصل للإنسان في جامعات دياره، بيد أن الفهم العميق للشجرة التي أنتجت الثمرة لا تأتي من دون الابتعاث والذهاب إلى منابع تلك العلوم ومصادرها، فالتغيير في طرق الوعي بالذات التي تكتسب المعرفة هو هدف الابتعاث أمام الوعي بالمسائل العلمية والتخصصات الدقيقة فيأتي بمنزلة تابع.

ولأن المجتمع السعودي يعتبر شاباً يافعاً فتيّاً متطلعاً نحو العصر والزمن، فقد وُفّق بملكٍ محبّ للعلم والمعرفة، صديق للجامعة والمكتبة، أراد لهذا الجيل أن يرحل إلى العالم خارجاً من الصحاري ومن المعتاد من الوجوه والأفكار، ليعرف العالم ويختار، وليكون على بيّنةٍ من هذا الكوكب الذي نتشارك فيه مع الأمم والأديان والثقافات، ولا غرو فالملك رمز حوار الفكر والأديان، وأيقونة الدعوة إلى التسامح والسلام، وحين يرحل الأبناء والبنات زرافاتٍ ووحداناً باحثين بخطى حثيثةٍ وبشغفٍ وتشوّفٍ للبحث في هذه الدول والبلدان من الصين واليابان وشرق آسيا إلى أوروبا وأميركا وكندا، حينها تقع أعين هذه الأجيال على أمم شاخت وهي تتعلم وتتصدّر الفتوحات المعرفية مما يعزز من التحدي للمراحل القادمة، ومن ثم تعود هذه الجموع نحو جامعاتها وكلياتها ومؤسسات عملها حاملةً «الرؤية» المختلفة المرتبطة بالعلم المستقى من منابعه، ليذودواً عن حياضِ بلدهم، صانعينَ مشاريع خارقة متجاوزة.

وللبمتعثين أقول: إن الرؤية سابقة للمعرفة، ومن دون رؤية تكون المعرفة مثلومةَ ناقصةً مجتزأةً، والمعارف قد تكتسب محلياً لكن الرؤى تحتاج إلى صقلٍ ومعايشةٍ لكل الثقافات والشعوب، ما يُنتظرُ من المبتعث أن يفكك مركزية ذاته وثقافته ومحليته ليصنع سطحاً من التواصل مع الأمم، ليستبدل رؤية الذات برؤية الآخر ضمن الذات، لئلا يجترّ معه آلامه ودوائره المغلقة في أرصفة العالم جيئةً وذهاباً من دون أثرٍ يذكر إلا من صرفٍ لا يستحق ذلك الذاهب إلى منابع العلم.

مشروع الابتعاث سيكون وشماً جميلاً خالداً على جبين هذا الجيل.