هل طعن أدونيس ثورة السوريين؟!

هل طعن أدونيس ثورة السوريين؟!

جريدة الشرق الأوسط 4 سبتمبر 2014

فهد بن سليمان الشقيران


 

شكّلت مواقف الشاعر السوري علي أحمد سعيد (أدونيس) من الثورة السورية ميدانا للسجال والنقاش، وهو لا يكلّ ولا يمل من تكرار مواقفه عبر برامج ومقالات ورسائل. آخر ظهورين له كان أحدهما إذاعيا ضمن برنامج «معكم حول الحدث» على «مونت كارلو» مع ليال بشارة في مارس (آذار) 2014، والآخر تلفزيونيا في برنامج «بصراحة» مع زينة يازجي في أغسطس (آب) الماضي على «سكاي نيوز». ردد في الحوارات ما خلاصته: أن الثورات عموما والثورة السورية خصوصا كلها مفرغة من العلمنة وهي مشحونة بالنفس الديني، واعتبر الثورة التي تخرج من الجوامع ليست بثورة، وردد أن العنف الذي شاب هذا النزاع كان سببا في معارضته للحراك، فهو ضد أي تحرك يقوم على الدين، ويتحدى رموز الثورة أن يتحدثوا بكلمة واحدة عن العلمنة وقضايا المرأة وإشكاليات المفاهيم الدينية ذات الامتداد لتسيير الواقع وتحري آليات تدبير الناس في حال سقط النظام.

بالطبع، ليست مهمة الناقد الاحتفال بالحدث؛ بل مهمته أن يتناوله بالنقد والفحص والتشريح. وكل عمليّة نقدية تتطلب مسافةً من البعد عن الرأي الجماهيري السائد، ذلك أن للجمهور سطوته، فهو يشوّش على الدقة النقدية، وأن الناقد والرافض لا جماهير له، ثم إن السجالات الدائرة بين المثقفين حول الاحتجاجات في مجملها صحّية. مع أن بعضها وصل إلى الذروة من التوتر؛ اتهم أدونيس – مثلا – صادق جلال العظم بأنه «أكبر منتفع من النظام السوري»، ولا يفوت أدونيس الفرصة للتأكيد على كونه من المعارضين للنظام السوري منذ منتصف الخمسينات من القرن الماضي وحتى اليوم.

في كتابه «الثابت والمتحوّل» يثبت أدونيس مقالاته الاحتفائية بالثورة الإيرانية 1979. أخذه سحر الجماهير الهادرة. كان حينها يفكّر بأن تنتشر العدوى للعرب، مع أنه انتقد في ذات الكتاب بعض أشكال الممارسات الإيرانية السياسية وهي واضحة في فصلٍ عنونه بـ«الفقيه العسكري». أما موقفه من الثورات العربية فقد كان حاسما منذ البداية، مع أنه احتفى قليلا بالثورة التونسية، ولكن، حين لاحت بوادر وصول الإسلاميين إلى السلطة اعترض على ثورات «تخرج من الجامع» بل وقف ضد أي نظامٍ سياسي يبنى على الدين، ويعتبر العلمانية أحد الشروط الرئيسة لأي بناء سياسي يمكن أن تنتجه الثورة في سوريا أو غيره.

قبله الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو وقع في ذات الفخّ بتأييد الثورة الإيرانية آنذاك، حيث زارها مرتين بوصفه صحافيا؛ الأولى من 16 إلى 24 سبتمبر (أيلول) 1987 والثانية من 9 إلى 15 نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه، وقد استقبل في قم من آية الله شريعتمداري. كانت إيران نافذةً لفوكو للحديث عن الإسلام، ظنّ حينها فوكو أن الذي يطفو على السطح هو الإسلام ذاته، غير عابئ بالفصل بين الإسلام السياسي والإسلام ذاته. كان إعجابه بالثورة الإيرانية إحدى نتائج إعجابه بالخميني، كل هذه الأحداث نراها جليةً في كتاب «فوكو صحافيا – أقوال وكتابات». جُمعت مقالات فوكو عن الثورة الإيرانية وتقاريره، بلغت ذروة إعجاب فوكو بالخميني في مقالةٍ نشرها في «أخبار المساء» الإيرانية، في 26 نوفمبر 1987، وقال فيها: «الخميني في الأخير ليس رجلا سياسيا، فليس هناك حزب للخميني، وليس هناك حكومة للخميني، فالخميني هو نقطة تحديدٍ لإرادة مشتركة، فما الذي يبحث عنه ذلك العناد الذي لا شيء يزحزحه». وعن الثورة الإيرانية كتب في ذات المقالة: «كان السؤال الذي طرح عليّ دون انقطاعٍ عندما غادرتُ إيران هو بالطبع: هل هي الثورة؟ فلم أجب! لكنني وددت القول: إنها ليست ثورة بالمعنى الحرفي للكلمة، إنها طريقة للنهوض والإنقاذ، إنها ثورة رجال عزّل يريدون أن يرفعوا العبء العجيب الذي يجثم على صدر كلٍ منا».

من الغريب أن يكتب فوكو الفيلسوف الأبرز في القرن العشرين هذا الكلام العاطفي عن الثورة الإيرانية، وهو المناوئ لكل أشكال «تديين السياسة».

كان أدونيس يشترك مع فوكو بهذه العاطفة الجيّاشة، وربما أن ندم أدونيس على ذلك الحماس هو الذي جعله أكثر المثقفين خوفا من تأييد هذه الثورات التي جاءت بالإسلاميين. ثم إن أدونيس لم يكن مثقفا جماهيريا، بل كان مشروعه مكتوبا لأشخاصٍ محدودين لا يراهم، كان يبحث عن الشهرة من خلال النفرة منها، ويصل إلى الجماهير من خلال هجرهم. وبعيدا عمن يتّهم أدونيس بالطائفية، غير أن الرأي الذي طرحه أدونيس من «أسلمة الثورات» ينسجم مع مشروعه العلماني الذي شيّده منذ نصف قرن.

سيبقى موقف أدونيس غير مقنع للكثيرين، وسيربطه بعضهم بانتماءاته العلوية، هو يعلم أن الكثيرين شعروا أنه خذلهم وتخلى عنهم في سوريا، لكن حين نأخذ مشروع أدونيس كله منذ ديوان «قالت الأرض» ومرورا بـ«الثابت والمتحول» و«الكتاب» فإن موقفه من الثورة السورية ينسجم مع مشروعه، ذلك أنه من دعاة العلمنة الشاملة في المجتمعات الإسلامية، وضد قيام الدول على الدين، وهو أيضا مع التغيير الثقافي لا السياسي. هذه كلها أدبيات واضحة في مشروعه فمن الناحية العلمية هذا الموقف يأتي في إطار ذلك المشروع. من الصعب الحكم على موقف أدونيس بسهولة وبخاصةٍ أن حرارة الدم السوري تسيل كل يوم غير أنه موقف يستحق أن يكون موضع نقاش لما تضمنه من أدوات نقدية حول العلمنة والسياسة والثقافة والمجتمع.