ضحايا أكذوبة «تعليم الفنون»


ضحايا أكذوبة «تعليم الفنون»

فهد سليمان الشقيران

جريدة الحياة الإثنين ٤ يونيو ٢٠١٢

منذ أن يلمسّ الطفلُ أول كرّاسٍ، يلوّنه ضمن خياله، يختار ألوانه ليجسّد الصورة التي تؤرّقه في خياله، يبدأ الطفل مع كرّاسته بحُلم تجسيد الخيال، يرى في الخطوط المبعثرة بعضاً مما يتخيّله، يغدو اللون ساحراً له، وحين يهوي على الأرض راسماً ما يريد من دون أستاذٍ أو سلطة، ينصت الطفل إلى موضوعه، إلى عبثيّة اللون، وأبدية الخيال. في البيئة الفنيّة تطوّر هذه الخطوط المتشابكة، التي لا ضابط لها، لتكون مشعّةً تقدح الرؤية الفنيّة، ويسعى لتجسيد خيالاته. تبدو العبقرية بملامحها الفذّة في الطفولة، تكون الاهتمامات التي تمارس تجريبياً من خلال عبث الطفل أساساً لتكوينه المستقبليّ. على الضفّة الأخرى؛ وفي البيئة الجافّة المتصحّرة، تمحق الموهبة وتسحق، وتُطرد الخطوط المتبعثرة خارج نطاق التجسيد، يملى على الطفل ما يجب عليه أن يجسّده رغماً عنه… يُضطهد الخيال.

 يبحث الطفل من خلال ألوانه عن شكل خياله. يحبّر أجزاءً مما يتخيله ولا يفهمه، يسعى إلى وضعه ضمن كرّاسته الأولى، غير أن العودة بالذهن إلى حال الفنّ لدينا نرى التصحّر والجدب، مساحاتٍ من الأراضي الفنيّة الخصبة، قضي عليها بفعل محوها وطمسها، ذلك أن الثقافة الممانعة للفنون اختارت أن تمنع «التجسيد»، تحصر الخيال بنطاقاتٍ ضيقة، كل الصور المشوّشة التي يراها الإنسان في ذهنه ممنوعٌ عليه تجسيدها، أصيب الفنّ بحالٍ من «الصحرنة» والقمع. يسأل غستون باشلار عن قيمة الحياة من دون «خيال» من دون «أحلام يقظة» يختلط فيها الحُلمُ بالماء؟! ونعيد سؤاله بوجه صحرائنا الصفراء المتجهّمة، ما قيمة الإنسان من دون خياله؟ وما قيمة ما يجسّده إن لم يكن نتاج شقاء الخيال ونعيمه.

ولو أعدنا فحص صيغ التناول الفنّي تعليمياً، لألفيناه محصوراً برسم شجرةٍ أو كوخ، فَصلت الحصص الفنية بين الخيال والتجسيد، خضع الفن لحال التلقين التي تملى على الطالب منذ صفوفه الأولى، إذ يبغته المعلم زاعقاً بأعلى صوته: «ز، ر، ع» منذ الحصة الأولى!

هذه المسافة الظالمة التي تؤسسها حصص الفنون في المدارس بين الخيال والأداة، بين الصورة والتجسيد، هي التي أحالت الكثير من العقول إلى صحارٍ مقفرة، لا تكاد ترى على نباتاتها التي تحتضر ورقة خضراء.

هذه هي حصص تعليم الفنّ، لا تتجاوب مع إبداع الإنسان وعمقه. من المستحيل أن تنمو بذرة الفنّ في ظلّ المحو والطمس لكل إمكانات التمرّد في الخيال، والجنون بالتجسيد.

كل حدٍ للفنّ هو تسلّط عليه. لكل فنانٍ شروطه هو على فنّه من خلال تشرّبه لفنون غيره، وتعمقه في قراءتها وفهمها، والاشتراطات التي توضع على الفنّ هي اقتراحات لإضاءة التجربة وإغنائها، وإلا فإن الفنان يبتكر شروطه من خلال تجربته، والشروط ليست أبدية وليست متعديةً لغيره، الفنون ليست شروطاً. الفنّ مساحة بلا حد، محيطٌ بلا شاطئ. تنضج التجربة الفنيّة بإشعال الخيال مصحوباً بالتجربة الذاتية والوجودية، بنصاعة الرؤية، بشقاء الرؤية أحياناً، حين ترى في زوايا الكرّاسة ما يعذّب ذهنك، ويرحل بك نحو «خيال الطفولة». كل عبقريةٍ تحتاج إلى نسبةٍ من الحفاظ على البراءة الأصلية، يمتنّ أينشتاين لـ«قلق الطفولة وأسئلتها» التي لم تقمع كما قمعت لدى مجايليه وأترابه؛ حافظ على تلك الأسئلة الشقيّة ليشيد مشروعه مجسّداً لأسئلة طفولةٍ تتخيّل العالم بدءاً وانتهاءً، وتحاول فكّ اللغز.

لكل عبقريةٍ براءتها الأصلية المحفوظة التي تؤهل الإنسان ليكون بخيالٍ مفتوح، يحمل رؤىً تنطلق ضمن أفقٍ لا تهوي ضمن نفق. كلما رأيتُ هذه الكراسات المحمولة بأيدي الأطفال وهم يهمّون بالدخول إلى المدارس والحصص أفكّر بالطمس الذي تمارسه أدوات التعليم ضد كنوز الخيال البريء… جرائم كثيرة تقوم بها كل من: حصص الفن والبيئة والثقافة ضد «إرادة التجسيد» التي تتغذّى على الخيال.