زلازل الغضب … وأوهام السياق العالمي

زلازل الغضب … وأوهام السياق العالمي
جريدة الحياة 30 يناير 2012
فهد سليمان الشقيران
مستوى الزلزلة التي طرحته الأحداث العربية الحالية وزّعت التحليلات، بين من يربط الاحتجاجات الحاليّة بالاقتصاد، وآخر بالعولمة، وثالث بالتغييرات الدولية و”الشرق الأوسط الجديد” إلا ما لانهاية. لكن إذا أردنا أن نأخذ الأحداث بصيغها الفكرية، أو أن نحاسبها طبقاً للنماذج المفهومية التي تطرح، فإننا سنضطر للرجوع إلى المفاهيم الفلسفية والمعنى الجوهري للشعارات المطروحة المأخوذة من سياقات فكرية واجتماعية نمت براعمها على أرض الفلسفة الخصبة.
إنها حالة احتجاجية لكنها ليست ضمن سياق الثورات الأوروبية بالمعنيين العملي أو العلمي، لايكفي-كما تشير حنة أرندت- أن ندوّر الشعارات التي استخدمت في ثورةٍ سابقةٍ لتتطابق مع حدثٍ جاء بعدها. الغريب أن السيد يسين في مقالته المعنونة بـ:”ثورات الشباب في السياق العالمي” يربط بين احتجاجات الشباب في العالم العربي وبين “ما بعد الحداثة والعولمة” حيث يقول:” يمكننا أن نقرر أن ثورة 25 يناير على رغم سماتها الفارقة إذا ما قورنت بالحركات الاحتجاجية والمظاهرات الشبابية في الستينيات وما بعدها، تعد في الواقع امتداداً لظاهرة التمرد الشبابي على السلطة بكل أنواعها، وعلى الجمود البيروقراطي، وعلى القهر السياسي، وعلى رؤى العالم التقليدية.إنها في حقيقة الأمر تعبير عن روح “ما بعد الحداثة”، وهي جوهر عملية العولمة التي غيرت أنساق القيم التقليدية، وقلبت موازين المجتمعات المعاصرة”.
(حنة أرندت)
السيد يسين رغم اطلاعه وسعة علمه، غير أنه يستخدم “وهم التطابق” المرفوض في فلسفات مابعد الحداثة أو “فلسفات الاختلاف” للبرهنة على التطابق بين ثورتين، لينطلق من بعدها إلى عزو “الثورات العربية” إلى “روح ما بعد الحداثة” التي لم تبلغ “الذروة” إلا في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، كما في تحليل “أليكس كالينيكوس”. ثم يتحدث عن “روح ما بعد الحداثة” ساحباً المصطلح الفيبري “روح الرأسمالية” ولم يوضّح يسين معنى الروح التي يقصدها في “ما بعد الحداثة” التي قامت أساساً على تفكيك النماذج المغلقة، وتفتيت المفاهيم الواحدية، ومقاومة سلطة المراجع، وإعادة الاعتبار لظلّ العقل في البحث والتحليل والتركيب.
ثم إن فلسفات مابعد الحداثة-والتي تجمعها مشتركات قليلة بطبيعة الحال- ليست ذات بعدٍ ثوري، بل هي أمصال ضد الأيديولوجيات الثورية، فإحالة ثوراتٍ أو احتجاجات واسعةٍ على فلسفاتٍ ليس من ضمن فضائها الحركة لتغيير الواقع أو العالم يعدّ تهوراً معرفياً، بل هو تسرّع تحليلي دافعه العاطفة، أو ربما الخلط الذي يبدو واضحاً في بعض سطور المقالة بين:”العولمة” و “ما بعد الحداثة” كما يخلط البعض بين “الليبرالية الجديدة” و “ما بعد الحداثة“.
ثم إن الصدمات التي سببتْها فلسفات الحداثة البعدية بسبب تشظّيها واستعصائها على القبض والنمذجة والتعريف جعلت من الظواهر السريعة أو المفاجئة، أو السلوكيات الغرائبية ضمن تلك الفلسفات من دون وجود أي مبرر معرفي، كما كانت الوجودية من قبل بصرعاتها التي زحفت وأثّرت على السلوك تسطّح أحياناً بأن يحال عليها أي سلوكٍ شاذ أو أي صرعةٍ جديدة غريبة.
ثإن مقولة يسين المقتبسة من مقالته فيها “تقرير” كما يستخدم عبارة “امتداد” ولم يشر هل هو امتداد سوسيولوجي؟ وبطبيعة الحال هذا ممتنع بدافع الفارق الجغرافي والثقافي، إلى أن يستخدم جملة:”جوهر العولمة” بعد أن وضع لـ”مابعد الحداثة” روحاً هي “الاحتجاج” وهذا ما لم يشرحه أو يوضحه خاصةً وأنه يتعاطى مع مفاهيم علمية!
نموذج مقالة السيد يسين جزء من فضاء تحليلي يعيش الخضّة حتى الآن، بين التخبّط المفهومي في التحليل، وبين زلزال الأحداث … ضاعت الرؤية المتماسكة لتثمر عن تحليلاتٍ تحيل أي فوضى إلى “مابعد الحداثة” على اعتبار وجود التشظّي النقدي، لكنها بالمحصلة الفلسفية أبعد ما تكون عن الأيديولوجيات والنزعات الثورية، وهذا يحتاج إلى كتابات أخرى موسعة.