الصادق النيهوم… حروف مغطّاة بالثلج

 


الصادق النيهوم… حروف مغطّاة بالثلج

فهد بن سليمان الشقيران


بعض الكتّاب تجد كتبهم أليفة لديك، كلما أخذتها وقلبتها تشعر بقيمةٍ استثنائية تجاهها، على بساطتها أحياناً، أو عدم انتشارها، ربما لأنك دخلت إلى هذه الكتب وخرجت منها بطيف آخر أضيف إلى تفكيرك، أو أسلوبك، أو رؤيتك لما هو حولك، بعضهم يصبغ أسلوبك بالجمال، والبعض الآخر يمدك بطاقة هائلة، لدرجة أنك تعود إلى تقليب كتبه – التي طحنتها قراءةً – مستنيراً مسترشداً باحثاً عن طاقةٍ أخرى يمدك بها من خلال أسلوبه أو أفكاره أو كتاباته.

 

مع الأزمات العربية، والحرب الأهلية الليبية، من الضروري العودة إلى «النور الفكري الليبي»، ولعل جوهرة الفكر والأدب الليبي هو: الصادق النيهوم الذي كان حديقة جامعة للشباب الليبي، الباحث عن الإصلاح الفكري والديني والثقافي. لهذا نرى في الكتاب الاحتفائي الذي صدر عنه تحت اسم «طرق مغطاة بالثلج» الكثير من الوفاء من مجايليه وتلامذته. فهو وإن بعُد عنهم في تنقله بين دول أوروبا إلا أنه لم ينقطع عن مراسلاتهم.

 

جاء كتابه «نوارس الشوق والغربة» ليضم رسائل ببياض الثلج، وبحزنٍ شفيف، فهو الآتي من بنغازي إلى أرصفة أوروبا، يحنّ إلى عبق الجدات، وأحاديث البسطاء في المقاهي، جاءت مراسلاته مع رشاد الهوني وخليفة الفاخري، لتطور من أدب المراسلات العربي، حتى أن صحافياً اتهم النيهوم «بأنه يستخدم الأسلوب الأوروبي» في الكتابة، لكنه وفي لقاءٍ إذاعي نشر في «طرق مغطاة بالثلج» نهره وعاب عليه هذا التخريج الصادر عن عدم استيعاب لخاصية الأسلوب الذاتي للكاتب.

 

انتهج النيهوم صيغة المقالة الفكرية، وبرع فيها وتسيّد المقالة التي تجمع بين الفكرة العميقة والأسلوب الشيق والسخرية المطمورة والمدفونة تحت سطح المقال، لهذا جاء نتاجه في معظمه مقالاتٍ مجموعة مثل «محنة ثقافة مزورة»، «تحية طيبة وبعد»، «كلمات الحق القوية»، «فرسان بلا معركة»، «إسلام ضد الإسلام»، «الإسلام في الأسر»، «الحديث عن المرأة والديانات»، وكتب بعض الأبحاث الأخرى.

 

تتنوع تناولاته الفكرية بين دور الجامع، وإمكان أن يحل الجامع محل البرلمان في الديموقراطية. فهو يعتبر الجامع مؤسسة إدراية لشؤون المسلمين، لكن السياسة التغلبية التي طبعت التاريخ الإسلامي المملوء بالخلافات فرغته من مضمونه الكبير.

 

ولم يتم تجاهل دوره الفكري الريادي كمفكر نهضوي إصلاحي، بل تناوله حتى الباحثون في الفلسفة بمداخلات ثرية تجعل منه مفكراً يطرح أسئلة محفزة على النقاش والجدل، ومن بين من خصص أبحاثاً عنه الكاتب اللبناني علي حرب، وذلك في كتابه «نقد النص»، إذ قام بقراءة نقدية فلسفية لنص الصادق النيهوم، خصوصاً في كتبه التي تتناول الفكر الديني وهي «محنة ثقافة مزورة»، و «إسلام ضد الإسلام»، و «الإسلام في الأسر». علي حرب تحدث عن رشاقة أسلوب النيهوم خلال قراءته النقدية الممتعة، كما أن تلميذه إبراهيم الكوني كتب بحثاً نُشر في مقدمة كتاب «طرق مغطاة بالثلج» عن أسلوبه وفكره وأثره على التنوير والنهضة في الصحافة والمؤسسات الثقافية الليبية.

 

من عجائب الكتب، أن بعض المقالات التي تتحول إلى كتب حين تكون مركزةً وتتمخض عن بحث وجهد أثناء الكتابة تتفوق أحياناً على كتب الأكاديميين والباحثين. نستدل على هذا بآثار مقالات رولان بارت الواضحة على الحركة الأدبية والفلسفية في فرنسا، وهي تترجم إلى اليوم إلى لغاتٍ أخرى. وفي العالم العربي لدينا نماذج قليلة من كتب المقالات الفكرية التي نجح تحويلها إلى كتاب، وهذه جزئية تحتاج إلى دراسة خاصة. لكن النيهوم حين تعد الكتب الفكرية النقدية النهضوية تأتي كتبه على رأس القائمة، هذا مع أن جلها عبارة عن مقالات مجموعة.

 

الصادق النيهوم ولد عام 1937 في بنغازي، وتوفي عام 1994 في جنيف، رحل وهو من أعظم من كتب المقالة الفكرية في الصحف العربية في القرن العشرين.