الإنسان وتأسيس شهوة الدم

الإنسان وتأسيس شهوة الدم
18 أبريل 2009
فهد الشقيران


ساهمت فلسفة هيجل المثالية الواحدية للنزعة الحربية، حيث مدد تحكّم الفرد الطاغية بغية تثبيت المفهوم مهما كان موقف الشعب، وأعلن أن الحرب حالة قومية، وهو تنظير سأعود إلى تأكيده مستشهداً بموقف كارل بوبر من فلسفة هيغل وبالذات دور هيغل وفلسفته المثالية في تأجيج الحروب آخرها الحرب العالمية الثانية، ويكفي أن نعرف أن شظايا فلسفة هيغل هي المكون الرئيسي للفلسفات الرئيسية التي تحكم العالم اليوم وآخرها قراءة “كوجيف” لهيجل التي عززت أطروحة فوكوياما حول “نهاية التاريخ” وهو شرح ربما لن يستوعبة بعض الأدعياء المتزيدين قرّاء القصاصات الفلسفية السريعة، الذين يئنون من التهميش فيذهبون نحو التخبيط يميناً وشمالاً –على السواء- بحثاً عن مكان، أو بحثاً عن دور، وهذه معضلة نفسية لا مكان لها في سياقاتنا الفلسفية على الإطلاق.
 إن الإنسان إذا كان قد ابتكر الآلات المطقّمة والمجهّزة لغرض القتل والإبادة الجماعية، وفق أشد الطرق وحشية في التاريخ البشري، عبر القنابل الذرية، ثم النووية والعنقودية، فإنه لم يبتكر بعد طريقة لسد أفواه الجياع، أفضل مبتكرات الإنسان جاءت في سنّ الرماح، وحديثاً صناعة “السلاح” لم يبتكر بعد آلية للإغاثة الجماعية، بنفس الحماس والاندفاع والذي ابتكر به أحدث آلات السحق والتقطيع والسلخ، هل من الصدفة أن تكون أشد ابتكارات الإنسان تقانةً ورصانة هي الإبتكارات التي تتسبب بالقتل الجماعي؟ حتى انعكست شهوة القتل على التخصصات العلمية، أصبحت أشد المعلومات الدولية سرية هي تلك المعلومات المرتبطة بالتقنية المتصلة بالقتل والسفك، أما الذين يدخل اختصاصهم في الصحة والتغذية والتوعية، أو أجهزة الاتصال والحواسيب فتأتي قيمتهم بعد التخصصات المرتبطة بتحديث السلاح بمراحل. لماذا استطاع الإنسان بناء أقوى أسلحة التخويف ولم يستطع أو لم يجرب ابتكار أفضل أساليب التغذية والعلاج والطبابة؟
 إنه استفهام بحجم المأساة التي يعيشها الإنسان، في ظل حملة تجويع مطبّقة لم تكن أبداً مؤامرةً من أي كوكبٍ آخر، إنما هي من صنع الإنسان ذاته، ها هو الإنسان يكرّس الانتحار الجماعي حتى في ممارساته اليومية؛ لقد تحوّلت المساحات الخضراء إلى مساحات جرداء، وتحوّلت السماء الزرقاء إلى أفق قاتم جراء تغييرات مناخية تجيء على الأرجح بسبب سوء تعامل الإنسان الوحشي مع الطبيعة وهو السوء الذي تسبّب بمرض “الاحتباس الحراري” وهو أخطر مرض مناخي معاصر، أثمر عن تسمم في الأجواء واختفاء المساحات الخضراء وضمور الينابيع، وتشوّه الوجوه، والهزال الخلْقي الذي صبغ الجيل الجديد خصوصاً في مناطق الجوع من العالم.
بين يدي أغنية انجليزية لطفلٍ صغير تُرجمَتْ بالآتي: “في حلمي، يغني الأطفال، أغنية الحب لكل ولد وبنت، السماء زرقاء، والحقول خضراء، والضحكة هي لغة العالم، وعندما استيقظت كل الذي وجدتُ، عالم مليء بأناس محتاجين، قل لي لماذا، هل علينا أن نكون هكذا، هل هناك شيء فاتني، لأنني لا أستطيع أن أفهم”. كلمات ينطق بها طفل بصوتٍ مؤثر للغاية. فبعد قرون مليئة بالعلم الطبيعي، والرياضيات، والفيزياء والفلسفة، والعلوم الإنسانية، التقنية الحديثة، والكيمياء، لم يجدد الإنسان مسار اهتمامه، لا زالت أولوية “السلاح” هي التي تهيمن على تفكيره وتشغل باله، هي التي ترضّ ماله ووقته وحياته، من أجل إيجاد وتنمية لغة السلاح وأدوات السلاح وتقنيات السلخ والتخلص.
 الطفل في أغنيته الصغيرة تلك والتي أرسلها لي صديق، ورافقتْها صور المجاعات والإنهيارات البشرية الجسدية شرح المأساة بشكل واضح، وختمها بسؤال رئيسي: لماذا؟ لماذا استطاعت البشرية التقدم ولكن في الاتجاه المعاكس، رغم كل التقدم الذي ننعم به على جهة التمتع بأحدث أساليب التقنية والأجهزة والتقدم الألكتروني غير أن المآسي التي عانى منها الإنسان منذ البداية لم تجد بعد الحماس الموازي لحماسة إنتاج وتكرير الأسلحة، لقد جاء الانترنت من أروقة مؤسسات الحرب والدفاع، بينما لم تخلق الدول والمؤسسات حلولاً لأي مشاريع يمكن أن تحد من الثغرات التاريخية في الحياة البشرية، وخاصة منها الجوع والمرض.
لقد خفّت نرجسية الإنسان بفضل العلم الحديث الذي أخبر الإنسان عن مساحات عجزه، عجز اكتشفته ابتكارات علم النفس، والحروف الجينومية، والتقدم التقني، والتلوث المرضي اليومي البشري، اقتصر دور الإنسان في الأعم الأغلب على التترّس بجثث أخيه الإنسان، بغية الظفر بحيزٍ أكبر من الخيرات والأموال والمقتنيات. لهذا جاءت الأديان والفلسفات والأخلاقيات، والمواعظ والحكم بهدف الحدّ من تمدد الطغيان الذي لم يحده أي موعظة ولم يوقفه أي تقنين إلى اليوم، ها هي الحروب الطاحنة تتجدد، وقد أحسن الإنسان صنعاً ليعبّر عن مكنوناته الخاوية حينما افتتح الألفية الجديدة بحروب طاحنةل ليعبر عن أعنف استراتيجية حربية وسياسية إنها استراتيجية “الحرب الاستباقية” التي تمخضت عن فلسفة توماس هوبز، ومن اسمها فقط نعرف حجم الخوف والذعر والتيه والانحطاط والاستهتار الذي شاب قيمة الإنسان لدى الإنسان نفسه.