مأساوية التقنية.. بين شايغان وفريدمان

مأساوية التقنية.. بين شايغان وفريدمان

فهد سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 16 فبراير 2016

 

تبني التقنية بوحشيتها الحالية وفراغها الأصيل هياكل للانحطاط والانهيار. الوحشيّة التي استخدمت بها على كل المستويات تضعها باستمرار أمام المساءلة واللوم. يتساءل توماس فريدمان في مقالته قبل أيام: «هل مواقع التواصل الاجتماعي مخرّبة أم بناءة؟ هل اتضح أن مواقع التواصل الاجتماعي نجحت فقط في تحطيم الأشياء لا بنائها؟». أسئلة يطرحها فريدمان، وكأنه يكتشف إشكالاً جديدًا، بينما منذ أن بدأت هذه الثورة التقنية الجارفة وهي فارغة، ملأتها المجتمعات العربية والمسلمة بأصنافٍ من الانهيار الأخلاقي، والتشّوه اللفظي، والصراع الطائفي، والمكابرة القبليّة، وكل ما يعزز من الاستئصال والقتل، ووجدت التنظيمات الإرهابية في التطبيقات ملاذًا آمنًا للتجنيد والحشد، والتكفير وبثّ فيديوهات القتل والاغتيال. لم تكن التقنية إلا التعبير الأمين عن ورطةٍ نظرًا لسحرها، وسهولتها، وإتاحتها، وعدم تطلّبها أي قيمٍ مصاحبةٍ تفرض نفسها على المستخدمين، بل أطلقت مثل ماردٍ اجتاح المدينة على حين غفلة.

 

ربما هي حال من «التغريب اللاواعي» بحسب داريوش شايغان، حيث تفرض على المرء حالة من الاستهلاك والصيرورة لا حول له ولا قوة إزاءها، وإنما يكون سابحًا مثل غيره في موجةٍ لا يعرف مكانها ولا زمانها، على الضفّة الأخرى فإن «التغريب الواعي» يرتبط بقيم «الغربنة» الأساسية المصاحبة لمنتجيها وخالقيها. عبد الوهاب المؤدب في كتابه: «أوهام الإسلام السياسي» فرّق بين نزعتين شغّالتين وحيّتين في قلب صيرورة التغريب بين «الأورَبة» و«الأمركة» إذ: «تقترح الأمركة عليك التقنية من دون أن تفرض عليك أن تغيّر ما بنفسك، فيمكنك البقاء على ما أنت عليه، وتتمتع بكل ما توفره لك التقنية، ربما كان هذا أحد مفعولات تعميم التعددية الثقافية على صعيد كوكب الأرض، ومثل هذه التصرفات تتناسب مع ازدهار الراديكاليين.. في مرحلة الأوربة كان يبدو لنا أنه من الضروري أن نعمد إلى تحويل قيمنا إذا ما أردنا التمتع بكل ما يوفّره لنا القرن.. في تونس في الخمسينات كانت الخصوصية الفرنسية فعّالة لقد كنا متأكدين من أننا أمام عالمية جديدة، في المدرسة كنا نتعلم كل المبادئ النابعة من ثورة 1789».

 

ارتبط التحديث التاريخي بالقيم المنبثقة من المنابع الأساسية حينها، لأجل ذلك حصل تعميم التعليم العلماني على يد أناسٍ تشبّعوا بالقيم الفرنسية والقانون الفرنسي، لغرض تأسيس معنى الدولة ضمن قيمٍ حديثةٍ من دون الفصل بين الحالة التحديثية والقيم المصاحبة التي على المجتمع تحويل قيمه على أساسها، في هذه اللحظة بين الاستقبال اللاواعي للمنتج الغربي السياسي والتقني الأداتي وبين الغربنة الواعية متمثّلةً باستيعاب القيم الحديثة، بالإضافة إلى منتجات الحداثة يكون الفارق الصارخ بين الأوربة والأمركة. إن تفريغ التقنية وفصلها عن قيم منتجيها حوّلها إلى مرآة تشبه مستخدميها من أسامة بن لادن إلى أبي بكر البغدادي والظواهري، وجيوش المستخدمين المغتبطين بجهلهم والمخدوعين بتأثيرهم، والمبذّرين لأوقاتهم على أجهزتهم السارقة لوجودهم الحي، حيث لا قيمة للمكان ولا الزمان.

 

سبّبت التقنية بثورتها العاصفة بمرضٍ تنبأ به هيدغر إنه «وهن الكائن» تكون العدمّية فيها من خلال تحشّد الوجود الحديث وتغطيته الإعلامية كما دنيَوته واستئصاله لإبراز الاستلاب، والانتزاع نحو مجتمع التنظيم الكلّي. بينما «فاتيمو» في إعلانه: «نهاية الحداثة» يكتب بلغة النعي: «إن سماع نداء جوهر التقنية لا يعني الاستسلام من دون تحفظاتٍ على قوانينها وألاعيبها، ولذلك يصرّ هيدغر بحسب ظنّي، على أن جوهر التقنية ليس بتقني، ومن هذا الجوهر يجب أن نحترس»، ثم يشير إلى خطورة ممارسة التقنية لـ«بنية الاصطناع المفروض».

 

من الضروري الاستمرار بهجاء التقنية بوصفها ذروة ورطات التحديث، وكرة النار التي قذفت على خيم المجتمعات الحائرة أصلاً في وجودها، الخائفة من غدها. ورطة التقنية تجاوزت انعدام قدرتها الوظيفية على تحويل القيم في المجتمع الذي تهبط عليه، لتكوّن وتنتج «قيم انحطاط» مكررةً إنتاج ما التاثت به المجتمعات أصلاً من ممارسات العنف الشخصي والرمزي، أو التناحر العرقي والطائفي، أو السباب السوقي. حتى وإن كانت التقنية لا تفكّر، بمعنى أنها حالة أداتية إلا أنها نتاج تاريخ من الطفرات المنجزة حدثيًا، استطاعت تفتيت الحدود، وتقريب المسافات، وتسهيل الاتصال، لكنها لم تفد في تقريب الثقافات وتفتيت الخوف بين المجتمعات، ولم ينجح الاتصال في تأسيس «تواصل» بالمعنى النظري للحوار العمومي كما لدى طارحها هابرماس.

 

يقظة فريدمان المتأخرة حول مواقع التواصل الاجتماعي، تأتي ضمن قلقٍ أكبر، حيث منع آلاف الحسابات في شتّى مواقع التواصل بسبب تبعيتها للتنظيمات الإرهابية، وقبل هذه الظاهرة كانت الظواهر الثوريّة للناشطين فيها من المطالبين بالتغيير الراديكالي للعروش والتمرد البدائي على الجيوش. التقنية ورطة كبرى، فهذه الأدوات الساحرة باتت عبئًا على مستخدميها الضائعين بين الإدمان المرَضي، والتهشّم الوجودي، والغرق حتى الأذن بالعته والجهل، والتيه في دروب أوهام التأثير والقوّة، بينما بالانقطاع عنها ومراقبتها من بعيد يفضح جذرها، إنها مجرّد سرابٍ بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا.