اللاجئون.. بين أحلام “رمضان” وواقعية “موران”!

 

اللاجئون.. بين أحلام “رمضان” وواقعية “موران”!

فهد سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 17 مارس 2016

 

أحيت معضلة اللاجئين في أوروبا بأخبارها المتسارعة والمتجددة معظم الإشكاليات التي تربط المسلمين بالغرب. أيقظت أحاديث الهويّة والحرّية وموضوعات الدولة، وأشعلت النقاش المتضافر لدى الدوائر الأكاديمية والمجاميع البحثية. هناك فضول للحديث عن تلك النازلة الجديدة المفاجئة، إذ تتجذّر هويّة أخرى داخل الدول الأوروبية الكبرى ضمن سياقٍ إنساني ولكن يعقبه إشكال سياسي كبير. امتعاض من انتشار الأسماء العربيّة بين المواليد، ونقاش مستمر حاد، وآخر ذلك تلك المظاهرة التي شارك فيها نحو ثلاثة آلاف من النازيين الجدد واليمينيين المتطرفين في برلين احتجاجًا على سياسة حكومة المستشارة أنجيلا ميركل المنفتحة على اللاجئين، وكانت الشرطة تتوقع حضور بضع مئات من النازيين الجدد، إلا أنها فوجئت بحضور أكثر من ذلك بكثير… إنها النازلة الكبرى ذات التماسّ الفكري الاجتماعي السياسي، تفرض نفسها على التداول بكل المنصّات والمحافل.

 

يحضر اسم طارق رمضان لدى الإعلام الأوروبي بوصفه وجهة النظر الإسلامية «المعتدلة» لإشكالية اللجوء والاندماج وفهم الإسلام بين الكليّات والجزئيات وحلّ الاعتراضات المطروحة والسجالات التاريخية بين المسلمين والمسيحيين، وقد تحدثتُ عن ذلك في المقالة الماضية، غير أن كتابًا مهمًا صدر الأسبوع الماضي باللغة العربية إذ ترجم الحوار بين طارق رمضان وبين إدغار موران بعنوان: «خطورة الأفكار»، حوار مشوّق بين متكلّم فقيه ومتأمل في الأحكام الشرعية وبين فيلسوف صارم طالما تغنّى بالتصوف وتساءل في طيّات الدين.

 

اللافت أن ترجماتٍ أخرى لكتبٍ حول الإسلام صدرت بالعربية قبل أشهر قليلة مثل كتاب الصحافي الفرنسي آلان غريش «الإسلام، والجمهورية والعالم»، وكتاب أوليفيه روا «الإسلام والعلمانية»، غير أن أكثرهما راهنيّة وحداثة حوار رمضان وموران.

 

في الثلث الأخير من الكتاب يتحدّث طارق رمضان كالعادة ضمن التنويع الكلامي والدلالي، فهو ينكر مصطلح «الاندماج» بالنسبة إلى اللاجئين، مطالبًا بتجاوزه إلى مفهوم «التجذّر» بسبب كون التجذّر أكثر مناسبةً لأن الأجيال الشابّة – بحسب رمضان – أصبحت فرنسيةً تتحدث وتعيش بأنماط فرنسية. ثم يضيف: «إن مطالبة المسلمين للآخرين بأن يحترموا قيمهم وثقافتهم ودينهم وحتى ذاكرتهم يعتبر أمرًا مشروعًا، هذه المطالبة تعتبر حجة دامغة على هذا التجذّر التاريخي. فعندما يقوم الشباب بالصفير عند سماع النشيد الفرنسي الوطني أثناء مباراة كرة قدم ضد المنتخب الجزائري، فهم يقولون بالتأكيد بشكلٍ أرعن لكن بوضوح: إن الجزائر هي أصلنا وتاريخنا وذاكرتنا التي نفتخر بها، أما فرنسا فهي حاضرنا ووصمة عارنا، أما الصفير الذي نقوم به فهو لمناهضة العنصرية»!

 

بين حديث رمضان عن التجذّر ثم موضوع النشيد الفرنسي والعنصرية أسطر قليلة، آخرها نسف أولها، حين يكون هناك غصّة في عمق الهويّة المسلمة تجاه البلد الثاني، المفترض أن تكون هويّته هي البديلة والأكثر تجذّرًا ومديونيةً بوجه الخطابات المماثلة لما يطرحه رمضان بالنزعة الانكفائية، ولو أخذنا أمثلة الجيل الثاني من اللاجئين في فرنسا ممن لهم أصول عربية نرى المنضوين في الهويّة الفرنسية الفاهمين للدولة ومعناها المنخرطين في نظام العلمنة هم الأقدر على شكر بلادهم الأصلية بعقلانيةٍ مع إيمانٍ بالقيم الفرنسية كما تكشف ذلك حوارات مع قائد منتخب فرنسا السابق زين الدين زيدان، بينما طارق رمضان حتى الآن يتحدّث عن إرث تاريخي وإمكان تمييز عنصري، واستباق الاندماج بإحياء الجذر القديم في نفس النصّ الذي يتحدث فيه عن «التجذّر» بوصفه بديلاً عن «الاندماج».

 

يردّ إدغار موران على رمضان بأن «المكوّن القوي جدًا يبقى مرتبطًا في فترةٍ تاريخية غير محددة بشعورٍ عميقٍ بالظلم». الفكرة أن إدامة أنماط الظلم، وسكنى تاريخ الاستعمار، والتأمل الدائم الأبدي بقصص الهويّة بين أبناء الجيل الأول الحالي في أوروبا ممثلاً باللاجئين السوريين سيجعلهم يدخلون في تجارب صعبة وفاشلة على النحو الذي تمثله مآسي الضواحي والكيانات المنعزلة في أصقاع أوروبا. إن تهجير اللاجئين الحاليين تاريخيًا إلى التاريخ يصعّب من مهمة إدماجهم، هذا المعنى الذي يرفضه رمضان بحجّة أنه غير دالٍ على التقدّم الذي مثّله المسلمون في أوروبا، إذ وصلوا إلى حالة «التجذّر» في بلدانهم، ضاربًا المثال بتجربة العرب في فرنسا وخصوصًا الجيلين الثاني والثالث.

 

ثمة ما هو أشمل من الاندماج وهو «التعليم»، فالجحافل اللاجئة آتية من بلدانٍ إسلامية وظيفة التعليم فيها «حراسة ما هو قائم بالذهن» بينما الحاجة الملحّة إدخال النظام التعليمي المعتمد على المساواة وعلم الأديان المقارن والحسّ النقدي وأعمال العقل هي أساس الخضّة التي يحتاج إليها اللاجئ، وهناك تجارب بدأت عبر ثانويات في ألمانيا للاجئين ضمن نمط تعليمٍ متجاوز للمعتاد والمكرّس الذي يحرس «الجهل المؤسس».

 

الحوار بين رمضان وإدغار موران عبارة عن كشف وسياحة بين جزيرتين، وبين عقلين، بين فضاء علمي معرفي مفهومي صارم ممثلاً بموران، وآخر لا يزال يطالب الدول الأوروبية بالاستفادة من «تطبيق الشريعة الإسلامية»، من هنا تأتي أهمية هذا العمل الحيوي والراهن.

 

إنها مأساة ملايين المنكوبين تسير بسرعة الضوء إلى المجهول! وقبل قرنٍ من الزمان كتب شاعر فرنسا الكبير بودلير: «وكيس نقود الفقراء وموطنهم القديم… إنه الرواق المفتوح على الآفاق… المجهولة».