الكهوف والحتوف.. من كابل إلى بروكسل

الكهوف والحتوف.. من كابل إلى بروكسل

فهد سليمان الشقيران

جريدة الشرق الأوسط 31 مارس 2016

 

تداولت وسائل الإعلام صور مظاهراتٍ في أوروبا تشجّع اتجاهات اليمين وتياراته، فأوروبا بحالة حرب، والضرب وصل إلى القطارات والمطارات، العمليّات المتتالية والتهديدات المتزامنة في أوروبا قلبت جميع الصيغ، وأعادت تدوير الأوراق، إنها بداية لمرحلة أخرى تتعلق بمواقع الهويّات، وأسس التعايش، وأنماط الاندماج. بلجيكا التي تمثّل طوال تاريخها موقع التمازج العرقي وتنوّع الأصول ضربت بمقتل، وآية ذلك أنها البلد الأكثر إيواء للاجئين من شمال أفريقيا وتركيا، إنصاف دستوري للمسلمين، شعائر تقام، تسهيلات كبرى وضعت بالقانون لجميع المسلمين، غير أنها ارتدّت على قلب أمن الدولة القومي الذي يمثّل علامة التنوّع الأوروبي، ويؤوي مؤسسات أوروبا الكبرى كالاتحاد، وحلف الناتو.

 

منذ منتصف التسعينات والحشود الأصوليّة المنظّمة الهاربة من بلدانها تغرس جذورها في بلجيكا، ما تبقى من جبهة الإنقاذ، والعائدين من مواقع القتال في أفغانستان بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، والمتدرّبين في البوسنة، والمطاردين من بلدانهم واللائذين بقانونٍ رحب. بعد الحرب الأميركية على العراق 2003، أصبح التحوّل الذي يريده تنظيم القاعدة يتجلى بالهيمنة على التنظيمات المقاتلة في المغرب العربي، فاستطاعت «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» أن تعيد نسج الخيوط لإيجاد بذرة الثقة مع تنظيم القاعدة، بعد سوء الفهم الذي شاب علاقة أسامة بن لادن مع «الجماعة الإسلامية المسلحة» إبّان إقامته في الخرطوم، وتحديدًا في منتصف عام 1994، بعد رفض أمير الجماعة جمال زيتوني أن يشارك في الحرب ضد النظام الجزائري. كان زيتوني حينها قد جنّد ثلاثة آلاف مقاتل، وهو ما أخذه بن لادن بالحسبان، بسبب عجزه هو عن حشد ما يقارب العدد لتنظيم القاعدة في ذلك الوقت، بعد انصياع الجماعة لتنظيم القاعدة في صيف عام 1998، أمر بن لادن بتغيير اسمها إلى «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» وبدأ الاندماج بمفاوضات معروفة بين حسان حطاب وأيمن الظواهري.

 

انتعاش تنظيم القاعدة في دول المغرب مرّ عبر التعاون في العراق، وفي الشيشان عبر «الجزائريين الأفغان»، شكّل التقارب المتصاعد أساسًا بني عليه إعلان 2003 ببيان المساندة الذي جمع بموجبه التنظيمات المتعددة تحت اسم «تنظيم القاعدة في المغرب العربي». كل تلك المروحة الأصولية التي دارت منذ منتصف التسعينات، وإلى العام 2009، تغلغلت في أوروبا ونفذت عبر التلاقي الاستراتيجي والجغرافي بين المسلمين المغاربة وبلجيكا، بالإضافة إلى وجود البيئات الحاضنة، والنواة المواتية لوضع خلايا صغيرة تقوم بأعمالٍ نوعية تنطلق من بلجيكا إلى مناطق أخرى من العالم، كما في خليّة «طارق معروفي» التي نفّذت اغتيال أحمد شاه مسعود في التاسع من سبتمبر (أيلول) عام 2001 ضمن خطة محكمة. نفذ الاغتيال بواسطة خريج معهد الصحافة بتونس عبد الستار دحمان، والمصور الصحافي رشيد بورواي.

 

بعد طي خليّة طارق معروفي، بقيت الجذور تتمدد ببطء ورويّة، لم تكن بعدُ بلجيكا موضوع استهداف، بقدر ما استمرّت نقطة انطلاق، التغطية الاستراتيجية والجغرافية يؤمنها نفوذ تنظيم القاعدة الذي هيمن على التنظيمات المنافسة وأذابها في مصهرته، مما جعله ممسكًا بالمنافذ وراعيًا للطلبة المتعاطفين، وللجاليات ممن يرى فيها خلايا نائمة يستطيع استثمارها في لحظات الصفر. بعد الأزمة السورية باتت الصورة أقلّ ضبابية بالنسبة لأجهزة الأمن والاستخبارات، أرقام متضاربة عن أعداد البلجيكيين المنضوين إلى تنظيمات متعددة في سوريا، وبخاصة تنظيمي «داعش» وجبهة النصرة، الاشتراك من جهة، والعودة للمقاتلين من جانبٍ، عاملان ساهما في إعادة الحشد والتجنيد.

 

سير المنفّذين والمتورّطين في الجرائم، سواء في هجمات باريس (13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015)، أو هجمات بروكسل (22 مارس/ آذار 2016) كلها تشي بتوجّه عدمي آخر في المجال الإرهابي، ارتباط بالجريمة والمخدرات والجنس، ووصية تركها أحدهم معلنًا أنه: «لا يعلم ماذا يفعل» بينما موضع القضيّة صلاح عبد السلام، بحسب شهادة زوجة شقيقه، كان سارقًا أدمن الحشيش، وتعاطي الكحول. كذلك الأمر في المتورّطين في هجمات باريس فأحدهم كان يملك حانة. نقطة تحوّل أزّمت من العمل الأمني، وحشدت النقد ضد الاستخبارات البلجيكية، وجعلت من انتصار «داعش» في يوم بلجيكا الأسود، مهددا لبقية دول أوروبا، وربما سلك التهديد طريقه إلى الولايات المتحدة. بالتأكيد كان لتطوّر الحدث السوري، أثره على ترتيب الانتقام الإرهابي من بلجيكا، غير أن السيرة الكبرى لأيام بلجيكا السوداء، في صبيحة يومها الغائم، كانت تتويجًا لعقدين من الترتيب والصفقات بين التنظيمات المسلحة، الممتدة مساحتها من جبال أفغانستان والشيشان، مرورًا بالعراق وانتهاء بالتشكيل القاعدي الأضخم في المغرب، والذي التهم بالتدريج منذ 1995 وإلى 2003 التنظيمات الصغيرة، وجعلها في جبته.

 

القصّة لم تكتمل، ربما هي بداية الحرب كما تحدّث هولاند، قبل ستة عشر عامًا كان ما يجري في كابل يبدأ من بروكسل، والمعادلة الآن أخطر، فالتنظيمات أكثر قوّة وقدرة!

كان أحمد شاه مسعود في ليلته الأخيرة على موعدٍ مع صحافيين يتقنان الفرنسية، وأحدهما يجيد الإيطالية، بجوازاتٍ بلجيكية، لإجراء حوارٍ صحافي، سارا في منطقة فيض آباد، واستقلا طائرة ومنها إلى منطقة ولاية «تخار» ومن ثم إلى بلدة خواجه بهاء الدين، صديقه القديم مسعود خليلي يقرأ عليه كالمعتاد من شعر حافظ شيرازي، عادة قديمة، يفتح الديوان عشوائيًا، والنصّ الذي يُقر يعبّر عن نبوءة تمتم ببطء: ««تمتع بهذه الليلة التي سنمضيها معا لأن الأيام تمضي، والأشهر تجري، والسنين الكاملة تأتي، إلا أنك لن تستعيد أبدا هذه الليلة». بعد تسع ساعات كان دماغ أحمد شاه مسعود قد انتثر على سجّادته، البلجيكي العربي فجّر الكاميرا. هذا جزء من قصّة حربٍ بدأت الآن على أيامٍ من الدم السائل والسواد الكالح.